أقرأ في «كتاب البيان والتبيين» للجاحظ، في سياق حديثه عن الأسنان الأمامية وعلاقتها بالبلاغة والفصاحة، الفقرة التالية: «قالوا: ولم يتكلم معاوية على منبر جماعة منذ سقطت ثناياه في الطست».
لم يعد قادراً على النطق السليم فقرر تجنُّب الخطابة والامتناع عن صعود المنبر، حرصاً على هيبته وصوناً لسمعته من الهزل والسخرية ومحاولات التقليد اللئيم، وما أكثرها في كتاب الجاحظ! شق عليه «سقوط مقادم فيه» لأنه علم أنه إن خاطب الجماعة من الناس، فسيثير الضحك لا محالة.
لكن ما جذب انتباهي في هذه الواقعة هو الطست. ما الداعي إلى ذكر هذا الإناء النحاسي الذي يستعمل لغسل اليدين؟ ماذا سيتغير لو لم يذكره الجاحظ؟ لا شيء، وكل شيء. صار الطست، على قلة شأنه وانعدام علاقته ظاهرياً بمسألة الفصاحة، في مقدمة الاهتمام بالنسبة للجميع («قالوا»). ولعل هذا ما يسميه رولان بارط مفعول الواقع (L’EFFET DE RÉEL): جزء صغير، تفصيل تافه، عنصر ثانوي، يرد في السرد ضمن أشياء خطيرة وجليلة فيستحوذ على الاهتمام.
قد يكون مفعول الواقع شيئاً نادراً لا يبرز إلا في غفلة من الكلام، وقد يُقصَد لذاته، ويدسّ في ثنايا الحديث لغرض من الأغراض. فهو فيما نحن بصدده يخلق صورة أو مشهداً يمكن وصفه هكذا: بعد انتهاء غدائه أو عشائه شرع معاوية في غسل يديه وفمه، وإذا بأسنانه الأمامية، ويا للهول، تسقط في الطست، كل هذا على مرأى ومسمع من المقرّبين إليه. وإذا بالطست، ومن طرف خفي، يبدو وكأنه السبب فيما نزل بأول خليفة أموي من خطب. لولاه لما سقطت أسنانه... اغتاظ معاوية إلى أن قال له أحد جلسائه: «والله ما بلغ أحد سنّك إلا أبغض بعضه بعضاً، ففوك أهون علينا من سمعك وبصرك. فطابت نفسه.».
للاهتداء إلى سرّ مفعول الواقع، سأذكر نصاً آخر للجاحظ يغيب فيه هذا المفهوم رغم ذكر ما قد يحيل إليه، فقد جاء في السياق نفسه: «لما شدّ عبد الملك بن مروان أسنانه بالذهب، قال: لولا المنابر والنساء، ما باليت متى سقطت». لم أكن أعرف أنهم كانوا في ذلك الوقت يشدّون أسنانهم بالذهب، ومع ذلك لا أجد في هذا الحديث ما قد يمتّ بصلة لمفعول الواقع. ذهب عبد الملك لا يساوي طست معاوية في شيء، ولا يهمّنا كثيراً جمعه بين المنابر والنساء.
لننظر الآن إلى نص أورده الجاحظ هذه المرة في «كتاب الحيوان»، روى فيه «أن أهل الأحنف بن قيس لقوا من النمل أذى، فأمر الأحنف بكرسي (فوضع عند جحرهن، فجلس عليه، ثم تشَهَّد) فقال: لتنتهن أو لنحرقنّ عليكن، أو لنفعلنّ أو لنفعلن! قال: فذهبن.» التكرار في كلامه، كما جاء في شرح عبد السلام محمد هارون، لتأكيد الوعيد، وقد أعذر من أنذر.
ماذا كان يدور بخلد الجاحظ وهو يورد هذا القصة؟ لا شك أنه يشير بطريقة غير مباشرة إلى تشبه الأحنف ابن قيس بالنبي سليمان. وطبعاً أفاض ضمن السياق نفسه في الحديث عما جرى بوادي النمل، إلا أن العلاقة هنا معكوسة: سليمان فهم قول النملة، بينما فهم النمل قول الأحنف.
سُمِّي بالأحنف «لحنف في رجليه وهو العوج والميل»، ولقد اشتهر بحزمه وعقله، وكانت له مناظرات مع معاوية تناقلها الرواة معجبين ببلاغته وحضور بديهته... الحاصل أن الأحنف كفى أهله شرَّ النمل بعد أن عجزوا عن مقاومته وطرده. إلا أن ما لفت انتباهي ليس مخاطبته النمل، ولا كون النمل سمع تهديده، وأذعن لأمره، وذهب إلى حال سبيله. كما أنني لم ألتفت إلى كونه تعرَّض لكائنات ضعيفة من المستحسن الرأفة بها، مع أنها، كما يلاحظ الجاحظ، «ربما أجلت أمة من الأمم عن بلادهم».
ما أثارني هو الكرسي الذي أمر الأحنف بإحضاره قبل القيام بوعظه. ما الفائدة يا ترى من ذكره؟ ولماذا صار فجأة، كطست معاوية، أهم شيء في الحكاية؟ لا يظننّ القارئ أن الأحنف كان بحاجة إلى الجلوس بسبب عوج رجليه، فقد خاض الحروب أثناء الفتوحات، وأبلى فيها البلاء الحسن. صحيح أن الأمر سيختلف لو خاطب النمل وهو واقف، فالجلوس يدخل على المشهد مسحة من الأبَّهة والفخامة، ويمنح كلامه مزيداً من التأثير.
ربما لم يكن للكرسي ولا للطست ما يبرِّرهما في رواية الجاحظ. كان يمكن حذفهما من غير أن تختل الحكاية. إنهما يشدّان انتباه القارئ لا لكونهما عنصرين فرديين، وإنما لكونهما من مكوِّنات الحدث. مفعولهما ليس مفعولاً سردياً، إنه مفعول الواقع.
لم يعد قادراً على النطق السليم فقرر تجنُّب الخطابة والامتناع عن صعود المنبر، حرصاً على هيبته وصوناً لسمعته من الهزل والسخرية ومحاولات التقليد اللئيم، وما أكثرها في كتاب الجاحظ! شق عليه «سقوط مقادم فيه» لأنه علم أنه إن خاطب الجماعة من الناس، فسيثير الضحك لا محالة.
لكن ما جذب انتباهي في هذه الواقعة هو الطست. ما الداعي إلى ذكر هذا الإناء النحاسي الذي يستعمل لغسل اليدين؟ ماذا سيتغير لو لم يذكره الجاحظ؟ لا شيء، وكل شيء. صار الطست، على قلة شأنه وانعدام علاقته ظاهرياً بمسألة الفصاحة، في مقدمة الاهتمام بالنسبة للجميع («قالوا»). ولعل هذا ما يسميه رولان بارط مفعول الواقع (L’EFFET DE RÉEL): جزء صغير، تفصيل تافه، عنصر ثانوي، يرد في السرد ضمن أشياء خطيرة وجليلة فيستحوذ على الاهتمام.
قد يكون مفعول الواقع شيئاً نادراً لا يبرز إلا في غفلة من الكلام، وقد يُقصَد لذاته، ويدسّ في ثنايا الحديث لغرض من الأغراض. فهو فيما نحن بصدده يخلق صورة أو مشهداً يمكن وصفه هكذا: بعد انتهاء غدائه أو عشائه شرع معاوية في غسل يديه وفمه، وإذا بأسنانه الأمامية، ويا للهول، تسقط في الطست، كل هذا على مرأى ومسمع من المقرّبين إليه. وإذا بالطست، ومن طرف خفي، يبدو وكأنه السبب فيما نزل بأول خليفة أموي من خطب. لولاه لما سقطت أسنانه... اغتاظ معاوية إلى أن قال له أحد جلسائه: «والله ما بلغ أحد سنّك إلا أبغض بعضه بعضاً، ففوك أهون علينا من سمعك وبصرك. فطابت نفسه.».
للاهتداء إلى سرّ مفعول الواقع، سأذكر نصاً آخر للجاحظ يغيب فيه هذا المفهوم رغم ذكر ما قد يحيل إليه، فقد جاء في السياق نفسه: «لما شدّ عبد الملك بن مروان أسنانه بالذهب، قال: لولا المنابر والنساء، ما باليت متى سقطت». لم أكن أعرف أنهم كانوا في ذلك الوقت يشدّون أسنانهم بالذهب، ومع ذلك لا أجد في هذا الحديث ما قد يمتّ بصلة لمفعول الواقع. ذهب عبد الملك لا يساوي طست معاوية في شيء، ولا يهمّنا كثيراً جمعه بين المنابر والنساء.
لننظر الآن إلى نص أورده الجاحظ هذه المرة في «كتاب الحيوان»، روى فيه «أن أهل الأحنف بن قيس لقوا من النمل أذى، فأمر الأحنف بكرسي (فوضع عند جحرهن، فجلس عليه، ثم تشَهَّد) فقال: لتنتهن أو لنحرقنّ عليكن، أو لنفعلنّ أو لنفعلن! قال: فذهبن.» التكرار في كلامه، كما جاء في شرح عبد السلام محمد هارون، لتأكيد الوعيد، وقد أعذر من أنذر.
ماذا كان يدور بخلد الجاحظ وهو يورد هذا القصة؟ لا شك أنه يشير بطريقة غير مباشرة إلى تشبه الأحنف ابن قيس بالنبي سليمان. وطبعاً أفاض ضمن السياق نفسه في الحديث عما جرى بوادي النمل، إلا أن العلاقة هنا معكوسة: سليمان فهم قول النملة، بينما فهم النمل قول الأحنف.
سُمِّي بالأحنف «لحنف في رجليه وهو العوج والميل»، ولقد اشتهر بحزمه وعقله، وكانت له مناظرات مع معاوية تناقلها الرواة معجبين ببلاغته وحضور بديهته... الحاصل أن الأحنف كفى أهله شرَّ النمل بعد أن عجزوا عن مقاومته وطرده. إلا أن ما لفت انتباهي ليس مخاطبته النمل، ولا كون النمل سمع تهديده، وأذعن لأمره، وذهب إلى حال سبيله. كما أنني لم ألتفت إلى كونه تعرَّض لكائنات ضعيفة من المستحسن الرأفة بها، مع أنها، كما يلاحظ الجاحظ، «ربما أجلت أمة من الأمم عن بلادهم».
ما أثارني هو الكرسي الذي أمر الأحنف بإحضاره قبل القيام بوعظه. ما الفائدة يا ترى من ذكره؟ ولماذا صار فجأة، كطست معاوية، أهم شيء في الحكاية؟ لا يظننّ القارئ أن الأحنف كان بحاجة إلى الجلوس بسبب عوج رجليه، فقد خاض الحروب أثناء الفتوحات، وأبلى فيها البلاء الحسن. صحيح أن الأمر سيختلف لو خاطب النمل وهو واقف، فالجلوس يدخل على المشهد مسحة من الأبَّهة والفخامة، ويمنح كلامه مزيداً من التأثير.
ربما لم يكن للكرسي ولا للطست ما يبرِّرهما في رواية الجاحظ. كان يمكن حذفهما من غير أن تختل الحكاية. إنهما يشدّان انتباه القارئ لا لكونهما عنصرين فرديين، وإنما لكونهما من مكوِّنات الحدث. مفعولهما ليس مفعولاً سردياً، إنه مفعول الواقع.