عبد الفتاح كيليطو - منامات المعري

لعل أشهر كتاب للمعري، بالنسبة إلينا اليوم، هو رسالة الغفران؛ أقول بالنسبة إلينا، لأن معاصري أبي العلاء ومن جاء بعدهم إلى بداية هذا القرن لم يعيروه كبير اهتمام، فهم يذكرونه بصفة عابرة ضمن قائمة مؤلفاته، دون أن يتعرضوا لموضوعه أو يتطرقوا إلى جانب من جوانبه. وإجمالا لم تكن رسالة الغفران في نظرهم تتميز عن باقي رسائل المعري، كرسالة الملائكة، أو رسالة الجن ؛ على الأقل لم يحكموا عليها إيجابا ولا سلبا. وحده الذهبي قال إنها “احتوت على مزدكة واستخفاف، وفيها أدب كثير”، دون أن يحدد ما يعني بالمزدكة أو يشرح ما يقصد بالاستخفاف.

إذا كان هذا موقف القدماء من رسالة الغفران، كيف نفسر كونها صارت، منذ مطلع القرن العشرين، كتاب المعري الأكثر رواجا وانتشارا؟ لماذا هذا الاهتمام المفاجئ بكتاب أهمله القدماء أو لم يولوه عناية خاصة؟ الجواب يكمن في كلمة واحدة، في اسم واحد: دانتي. لولا دانتي لما اهتم أحد برسالة الغفران. لقد صارت محط عناية ورعاية منذ أن نظر إليها كرافد من الروافد التي غذت الكوميديا الإلهية. ونذكر هنا على الأخص أسين بلاسيوس الذي عقد مقارنة بين العملين في فصل من كتاب له مشهور، تحدث فيه عن بعض أوجه الشبه بين تمثلي كل من المعري ودانتي للآخرة.

هذه المقارنة، في رأي معظم الباحثين، لا جدوى منها لأن دانتي لم يكن بوسعه الإطلاع على رسالة الغفران التي لم تترجم إلى أية لغة، بل لم تحدث حتى في الأوساط الأدبية العربية نقاشا من شأنه إثارة فضول الإيطاليين أو غيرهم من الأوروبيين. إلا أن عملية التقريب بين العملين كان لها مفعول سحري مباشر، إذ أخرجت الغفران من عزلتها الطويلة ورفعت من ثمنها لدى فئة واسعة من المتأدبين العرب وغير العرب، إلى حد أنه يمكن القول بدون مبالغة إن دانتي أثر في المعري. أجل، كتب دانتي الكوميديا الإلهية ثلاثة قرون بعد الغفران، ومع ذلك فإن تأثيره واضح في نظرتنا لمؤلف المعري وطريقة تناولنا له. إننا نقرأه باحثين في صفحاته ومنقبين في أرجائه عن دانتي! لم يعد بإمكاننا تناوله كما تناوله القدماء، وبالأحرى كما نظر إليه المعري. في رسالة الغفران لا يلتقي ابن القارح بالشعراء العرب فقط، وإنما أيضا بالشاعر الإيطالي. إن دانتي حاضر في كل مشهد منها، والحوار بينه وبين المعري لا يتوقف لحظة. لم نعد قادرين على قراءة الغفران بمعزل عن الكوميديا.

أول ما ينبغي التذكير به أن المعري لم ينشئ كتابه من تلقاء نفسه، وإنما كرد على رسالة توصل بها من ابن القارح تتضمن، إلى جانب مواضيع مختلفة، حديثا عن عدد من الزنادقة والمبتدعين. وحسب عادة القدماء، فإن المعري افتتح رسالته بالإشادة بفضل ابن القارح: “وقد وصلت الرسالة التي بحرها بالحكم مسجور، ومن قرأها مأجور، إذ كانت تأمر بتقبل الشرع، وتعيب من ترك أصلا إلى فرع [...]. وألفيتها مفتتحة بتمجيد، صدر عن بليغ مجيد [...]، وفي تلك السطور كلم كثير، كله عند الباري -تقدس- أثير. فقد غرس لمولاي الشيخ الجليل -إن شاء الله- بذلك الثناء، شجر في الجنة لذيذ اجتناء [...]، وتجري في أصول ذلك الشجر، أنهار تختلج من ماء الحيوان، والكوثر يمدها في كل أوان؛ من شرب منها النغبة فلا موت […]. ويمد إليها المغترف بكؤوس من العسجد، وأباريق خلقت من الزبرجد”.

هكذا انطلق وصف الجنة. الكلمة الطيبة التي صدرت عن ابن القارح تمجيدا لله، تولدت منها شجرة طيبة، وهذه الشجرة بدورها أفسحت المجال لظهور الجنة... ولإنشاء رسالة الغفران؛ على الأقل قسمها الأول والأهم (ما يقرب من مائتين وخمسين صفحة)، الذي يصف فيه المعري، إضافة إلى مشهد القيامة، تجوال ابن القارح في الفردوس وزيارته لأصحاب السعير. أما القسم الثاني، أي الرد على ما جاء في رسالة ابن القارح (زهاء مائتي صفحة)، فإنه لا يبدأ إلا عندما يفرغ المعري من وصف الجنة والنار.

بعد هذا التذكير، يتبين لنا أن استحضار الآخرة ووصفها عبارة عن استطراد، ولعله لم يكن في حساب المعري، فلم يأت على الأرجح نتيجة تخطيط مسبق. فكأن المعري أخذ على غرة وفوجئ بفيض الكلام، فانساق مع حركته بنشوة عارمة. بدأ بالحديث عن الشجرة الطيبة فنسي موضوعه، أي الرد على تساؤلات ابن القارح، وانخرط في عرض طويل لمشاهد من العالم الآخر. إن المقدمة التي كان من المنتظر أن تتركز في بضعة أسطر أو بضع صفحات قد تمددت وتضخمت وصارت في غاية الأهمية، بحيث إن القارئ يندهش ويحتار عندما يصل المؤلف إلى القسم الثاني، إلى الموضوع (الأساس!) للرسالة، ألا وهو الرد على ابن القارح. هكذا فإن مركز الرسالة، يعني القسم الثاني، صار بالنسبة لنا ثانويا وهامشيا، بينما القسم الأول، الذي هو مجرد استطراد، صار ذا أهمية بالغة.

في القسم الثاني، يتخلى المعري عن الخطاب التخييلي ليتبنى الخطاب الذي نجده في كتب الملل والنحل، فيعمد إلى الحديث عن المبتدعين الذين خالفوا المألوف بدرجات متفاوتة كابن الراوندي، والمتنبي، وصالح بن عبد القدوس، والحلاج. الارتسام الذي نخرج به من قراءة هذا القسم أنه يختلف كثيرا عن الأول في مضمونه وروحه ومرماه. في القسم الأول نمرح مع ابن القارح في جنة النعيم، ونتسلى معه أيضا بإطلالة على أهل الجحيم؛ أما في القسم الثاني فنهيم في متاهة الاعتقادات التي دعا إليها عدد غفير ممن وسموا بالزندقة، فنشعر بشيء من خيبة الأمل، ونضبط أنفسنا أحيانا متلبسين بالسؤال التالي: لم تجشم المعري مشقة كتابة هذا القسم الذي يبدو مجدبا عقيما؟ لم لم يكتف بالقسم الأول المشوق والممتع؟ أبادر إلى القول إن هذا السؤال مجانب للصواب، إذ لولا القسم الثاني الذي يشكل الموضوع الرئيس للرسالة، لما عن للمعري أن يكتب القسم الأول... وإضافة إلى ذلك فإن هنالك، على عكس ما نعتقد لأول وهلة، علاقة وطيدة ومتينة بين القسمين، علاقة ستتضح عندما سنحدد النوع الذي تنتمي إليه رسالة الغفران.


قد يتجه تفكيرنا في هذا المضمار إلى قصة المعراج، وأيضا إلى كتاب التوهم للمحاسبي. وقد نضيف إلى القائمة نصا ألف بعد المعري، وهو المنام الكبير لأبي سعيد الوهراني، ولا شك أن أبا سعيد هذا اعتمد على رسالة الغفران وبنى عليها حديثه. ولكن هناك طبقة أخرى من النصوص ربما ستقربنا أكثر من رسالة الغفران، وستسمح لنا قبل كل شيء أن نعرف لماذا وسم المعري كتابه بهذا العنوان. وكسابقاتها فإن هذه النصوص مرتبطة بالأسئلة التالية: أي مصير ينتظر الشخص بعد الموت؟ ما هو مآله في الآخرة؟ هل ستكتب له النجاة أم سيصادف الشقاء؟

نجد هذه الأسئلة، بصفة صريحة أو ضمنية، في تراجم الأشخاص كما ترد مثلا في كتب التاريخ القديمة، ومن بينها المنتظم لابن الجوزي، والبداية والنهاية لابن كثير. فالمؤرخ يسرد أحداث كل سنة، ويختم سرده بالحديث عمن توفي فيها من الأكابر. وعندما يتعلق الأمر بصاحب مذهب من المذاهب، يبرز أحيانا سؤال عن مصيره بعد أن فارق الحياة: هل غفر له أم لا؟ هذا السؤال يتم عبر مشهد يكتسي صبغة حلم أو رؤيا: أحد معارف الميت أو من الذين سمعوا به، يراه في المنام ويسأله عما آل إليه أمره. وسنذكر بعض الأمثلة ونعلق عليها بسرعة.

”كان لنا شيخ نقرأ عليه، فمات بعض أصحابه، فرآه في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي. قال: فما حالك مع منكر ونكير؟ قال: لما أجلساني وسألاني ألهمني الله أن قلت: بحق أبي بكر وعمر دعاني. فقال أحدهما للآخر: قد أقسم بعظيمين فدعه. فتركاني وذهبا.“ لا يخفى على القارئ أن هذا المنام يندرج في إطار الخلاف بين أهل السنة والشيعة.

أما المنام التالي، فإنه يحيل على ما يبدو إلى خلاف حول كتابة التاريخ، ونلمح فيه تحفظ الراوي من ابن حيان، صاحب المقتبس: ”ورأيته في النوم بعد وفاته مقبلا إلي، فقمت إليه، وسلم علي وتبسم في سلامه، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، فقلت له: فالتاريخ الذي صنفت ندمت عليه؟ قال: أما والله لقد ندمت عليه، إلا أن الله عز وجل بلطفه عفا عني وغفر لي “.

منام ثالث، صيغ، على ما يبدو، للحض على الاهتمام بالحديث، والحث على روايته: ”[…] ورآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي. قال: بم؟ قال: بشيء قليل من السنة أحييته.“

وهذا رجل آخر سأله بعضهم: ”ما فعل الله بك ؟ فقال: رحمني وغفر لي وأكرمني ورفع منزلتي؛ وجعل يعد ذلك بأصبعه. فقال: بالعلم؟ فقال: بل بالصدق“. ولعل المقصود هنا الصدق في رواية الحديث.

وأخيرا نورد حالة التهامي الشاعر، وكان المعري يعرفه ويعجبه إنشاد قصيدته التي يرثي بها ولده: ”وبعد موته رآه بعض أصحابه في النوم، فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، فقال: بأي الأعمال؟ فقال: بقولي في مرثية ولدي الصغير:
جاورت أعدائي وجاور ربـه شتـان بين جواره وجواري“

وهكذا فإن السيرة لا تنتهي بموت الشخص، وإنما تمتد إلى ما بعد الموت. لا تشكل الوفاة نقطة النهاية في هذا النوع من التراجم، فلا يكتمل السرد إلا عندما يتحدد المصير في العالم الآخر.

السؤال الذي يشكل بؤرة المنام: ”بم غفر لك؟“، هو نفسه الذي يتردد في رسالة الغفران، يلقيه ابن القارح بصيغة أو بأخرى على الشعراء الذين يلتقي بهم في الجنة. فعندما يرى قصر زهير بن أبي سلمى وقصر عبيد بن الأبرص، “يعجب من ذلك ويقول: هذان ماتا في الجاهلية، ولكن رحمة ربنا وسعت كل شيء؛ وسوف ألتمس لقاء هذين الرجلين فأسألهما بم غفر لهما”. وعندما يصادف لبيد بن ربيعة يسأله: “ما بالك في مغفرة ربك؟”؛ وعندما يعثر على الحطيئة (“ببيت في أقصى الجنة”)، يقول له: “بم وصلت إلى الشفاعة؟”

إذا كان أشخاص ألف ليلة وليلة ينقذون حياتهم برواية حكاية من الحكايات، فإن أشخاص الغفران، ومعظمهم شعراء، ينالون المغفرة بفضل بيت من الشعر، أو أبيات قلائل أنشؤوها تعظيما للدين أو حثا على عمل الخير. إن الجودة الفنية للأبيات لا تكفي لفسح مجال الفردوس، لا بد أن يكون مضمونها منسجما مع تعاليم الدين. وينبغي أن لا ننسى أننا بصدد نص أدبي يندرج في نوع قوامه المصير الأخروي، وإلا فإن النقاد القدماء لم يكونوا في معظمهم يعيرون كبير انتباه لعقيدة الشاعر، فكان اهتمامهم ينصب بالدرجة الأولى على مهارته في النظم وبراعته في الصناعة الشعرية. والحال أن فردوس المعري لا يلجه إلا الشعراء المشهود لهم بالجودة والتفوق؛ ليس في رحابه مكان لشاعر رديء أو ضعيف، بل إن جحيم المعري لا يقطنه إلا فحول الشعر كامرئ القيس، والشنفرى، وبشار بن برد. الشخص الوحيد الذي يراه ابن القارح في الجحيم والذي لا ينتمي إلى فئة الشعراء هو إبليس؛ ولكنه ليس بغريب عن الشعر في رسالة الغفران حيث يبدو أبا الشعراء وملهمهم. ألم يقل أحد الملائكة لابن القارح إن الشعر ”قرآن إبليس“؟

لا يندهش ابن القارح عندما يرى في النار شعراء عاشوا قبل نزول الوحي، أو شاعرا (بشار) اشتهر في الإسلام بآراء خاصة. لكنه يتحير عندما يلتقي في الجنة بشعراء كان يتوقع أن تكون النار مأواهم. الحطيئة مثلا، الذي آذى الناس بخبث هجائه، وصل إلى الشفاعة بسبب صدقه في قوله:

أبت شفتاي اليوم إلا تكلما بهجر، فما أدري لمن أنا قائله

أرى لي وجها شوه الله خلقه فقبح من وجه، وقبح حامله

أما عبيد بن الأبرص، فيقول لابن القارح: “لعلك تريد أن تسألني بم غفر لي؟ فيقول: أجل، وإن في ذلك لعجبا! أألفيت حكما للمغفرة موجبا، ولم يكن عن الرحمة محجبا؟ فيقول عبيد: أخبرك أني دخلت الهاوية، وكنت قلت في أيام الحياة:
من يسـأل الناس يحرموه وسـائـل الله لا يخيـب

وسار هذا البيت في آفاق البلاد، فلم يزل ينشد ويخف عني العذاب حتى أطلقت من القيود والأصفاد؛ ثم كرر إلى أن شملتني الرحمة ببركة ذلك البيت، وإن ربنا لغفور رحيم”.

إن الخلاص يتم ببيت واحد، كما حدث للتهامي الشاعر الذي أشرنا إليه آنفا. كل الشعراء الوارد ذكرهم في الغفران مدينون بشهرتهم لقصيدة أو أبيات معدودة؛ من خلال مقاطع ترددها كل الألسن، تتقرر جودتهم وتتحدد صورتهم، فيتم بمقتضاها وحسب الحالات توزيعهم في الفردوس أو الجحيم. بهذا المعنى فإن الشاعر ليس سجين ديوانه أو مجموع شعره بقدر ما هو سجين قطعة أو شظية منه تسمه إلى الأبد. إن الآخرة كما صورها المعري مأهولة فقط بأشخاص جازفوا بالقول وتحملوا تبعاته؛ ولهذا ليس للبكم مقام في الغفران، فكأن من ينطوي على نفسه ويلوذ بالصمت لا يستحق أن يبعث، وليس جديرا حتى بنيران جهنم...

الشعراء الذين تحدث عنهم المعري في القسم الأول كلهم من القدماء، أي أنهم عاشوا في الجاهلية أو في صدر الإسلام. ولقد أقصى المحدثين من عالمه الأخروي لأنهم لا يستشهد بشعرهم؛ فكما هو معروف، لا يعتمد اللغويون والنحاة إلا على القدماء ويشيحون بوجههم عن المحدثين الذين ابتعدوا عن المنبع ودخلت الهجنة على ألسنتهم. وبما أن المعري يثير في رسالته قضايا لغوية مختلفة، فإنه اقتصر على الأوائل؛ لم يذكر من بين المولدين إلا بشار بن برد، الذي كان يعتبر آخر القدماء وأول المحدثين.

إذا كان القسم الأول خاصا بالقدماء، فإن القسم الثاني في معظمه من نصيب المحدثين. وقد تعرض المعري فيه للحديث عن شعراء ومتصوفة ومتكلمين تميزوا بآراء غريبة أو حسبوا من الزناديق. لماذا تخلى في هذا القسم عن السرد، عن المشاهد التخييلية؟ لماذا لم يصور ابن القارح في العالم الآخر وهو يلتقي بأصحاب البدع ويسألهم عن مصيرهم؟ لو فعل ذلك لكان هناك، من منظورنا الحالي، تماسك قوي وارتباط متين بين قسمي الرسالة، ولما حصلت تلك الفجوة العميقة بينهما.

لكن المعري لم يقم بذلك، ولعل السبب أنه لم يكن يرغب في الحكم على مآل معاصريه وعلى المحدثين بصفة عامة. لقد سمح لنفسه بالخوض في مصير القدماء، ولكنه توقف عندما وصل إلى المحدثين. وإلا ففي أي فضاء سيحشرهم؟ وهو نفسه يبرر موقفه، حين يحدد ضمنيا المبدأ الذي يعتمد عليه، فيقول:” وسرائر الناس مغيبة، وإنما يعلم بها علام الغيوب“.

بل إنه راجع ما صدر عنه من أحكام في القسم الأول من الغفران، فأعلن بدون مواربة عن تحفظه منها. ولقد جاء تحفظه بمناسبة حديثه عن بشار الذي زج به في الجحيم، كما رأينا، ولكنه في القسم الثاني احتاط وتراجع، فقال عنه:” ولا أحكم عليه بأنه من أهل النار“.

من هذا المنطلق، لا ينتظر منه أن يرى أحدا من المتقدمين في المنام ليسأله عما فعل الله به. وفضلا عن ذلك، لم يفته في اللزوم أن يسخر من المنامات:
تحاسدت العيون على منـام عرفن كذابه وأردن حسنه

فصبرا إن سمعت لسان سوء من ابن مودة وتوق لسنه

ولئن امتنع هو عن الحكم على الأشخاص الذين تحدث عنهم، فلم يحدد مصيرهم بعد الموت، فإنه لم يسلم من قوم حددوا مآله وهو حي يرزق. وفي هذا الصدد يروى عن أبي نصر المنازي الشاعر ما يلي:” اجتمعت بأبي العلاء المعري بمعرة النعمان، وقلت له: ما هذا الذي يروى عنك ويحكى؟ فقال: حسدني قوم، فكذبوا علي، وأساءوا إلي. فقلت: على ما ذا حسدوك وقد تركت لهم الدنيا والآخرة؟ فقال: والآخرة أيها الشيخ! قلت: إي والله.“

ولم يفلت طبعا من أصحاب المنامات بعد أن فارق الحياة؛ وهكذا نقرأ عند ابن الجوزي، نقلا عن أحد الرواة:” ولما مات المعري رأى بعض الناس في منامه كأن أفعيين على عاتقي رجل ضرير قد تدليا إلى صدره، ثم رفعا رأسيهما، فهما ينهشان من لحمه وهو يستغيث. فقال: من هذا؟ فقيل: المعري الملحد!“

كما نقرأ عند القفطي مناما لعله أكثر تعقيدا من السابق. وإذا كان ابن الجوزي يروي عن غيره، فإن القفطي يروي ما رأى بنفسه :” كنت في سن الصبا […] أقدح في اعتقاد أبي العلاء، لما أراه من ظواهر شعره، وما ينشد له في محافل الطلب. فرأيت ليلة في النوم، كأنني قد حصلت في مسجد كبير، في شرقيه صفة كبيرة، وفي الصفة سل الحصر مفروش من غير نسج، وعليه رجل مكفوف سمين متوسط البياض، ورأسه مائل إلى جهة كتفه الأيسر، وهو مستقبل القبلة في جلسته، وإلى جانبه طفل، وكأنني فهمت أنه قائده، وكأنني واقف أسفل الصفة، ومعي ناس قليل، ونحن ننظر إليه، وهو يتكلم بكلام لم أفهم منه شيئا. ثم قال في أثناء كلامه مخاطبا لي: ما الذي يحملك على الوقيعة في ديني؟ وما يدريك، لعل الله غفر لي؟ فخجلت من قوله، وسألت عنه من إلى جانبي، فقال لي أحدهم: هذا أبو العلاء المعري. فابتسمت متعجبا للرؤيا، واستغفرت الله لي وله، ولم أعد إلى الكلام في حقه إلا بخير.“

يعكس هذا المنام ولا شك ” محافل الطلب“ التي كان ينشد فيها شعر المعري. والملاحظ أن أبا العلاء جالس على صفة حصيرها غير منسوج، وفي هذا تلميح إلى تقشفه وزهده؛ كما أن وجود طفل إلى جانبه يومئ إلى عماه وأنه بحاجة إلى قائد. أما القفطي ومن معه، فهم واقفون ينظرون إلى المعري الذي يستقبل القبلة في جلسته –وهي وضعية لها دلالتها– ويتكلم بكلام غير مفهوم. ولعل في هذا إشارة إلى كون القفطي كان ينخدع ب” ظواهر شعره“ ولا ينفذ إلى أغواره، فكان يسيء تفسيره ويقدح فيه. ثم فجأة يصير الكلام مفهوما، وإذا بالقفطي محل سؤال وهدف توبيخ يترتب عنه شعور بالخجل، ولا سيما أنه الوحيد الذي يجهل هوية المعري، فيستنجد حينئذ بالجماعة للتعرف عليه.

كل هذا واضح بين، ولكن الذي يستعصي على الفهم هو ابتسامة القفطي. لماذا ابتسم؟ وهل ابتسامته جزء من المنام، أم تالية له؟ n



مراجع

- الذهبي، تاريخ الإسلام، ضمن تعريف القدماء بأبي العلاء، بإشراف طه حسين، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1986، ص،189.
- ينبغي وضع هذا في سياق الشعور بالدين، والرغبة في الإعلاء من شأن الذات. إن الإطلاع على الأدب الأوروبي جعل العرب، ابتداء من القرن التاسع عشر، مقارنين بالفعل أو بالقوة.
- رسالة الغفران، تحقيق بنت الشاطئ، القاهرة، دار المعارف، الطبعة السادسة، 1977، ص، 139-142.
- ابن كثير، البداية والنهاية، بيروت-الرياض، 1966، ج 12، ص11.
- ابن خلكان، وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس، بيروت، دار صادر، 1977، ج.2، ص219.
- ابن كثير، البداية والنهاية، ج.12، ص 24.
- نفسه، ج.12، ص.95.
- ابن العديم، الإنصاف والتحري، ضمن تعريف القدماء، ص. 564.
- ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج.3، ص.381.
- رسالة الغفران، ص182.
- نفسه، ص215.
- نفسه، ص307.
- في إحدى رسائله يقول المعري لبعض الشعراء : “وأحسبك إن استطعت، فما تحضر القيامة إلا بأبيات حسان، تتقرب بها إلى خزنة الجنان” (إتحاف الفضلاء برسائل أبي العلاء، تحقيق محمد عبد الحكيم القاضي، القاهرة، دار الحديث، 1989، ص446).
- رسالة الغفران، ص252.
- نفسه، ص307.
- نفسه، ص185-186.
- نفسه، ص432.
- نفسه، ص432.
- لزوم ما لا يلزم، بيروت، دار الكتب العلمية، 1983، ج2، ص368.
- القفطي، إنباه الرواة على أنباه النحاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة-بيروت، 1986، ج1، ص115-116.
- ابن الجوزي، المنتظم، بيروت، 1357-1359، ج8، ص188.
- القفطي، إنباه الرواة، ج1، ص104-105.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى