الكلام عن القواعد السردية يبدو لأول وهلة غريبا ، لأنه يذكر بمرحلة ثقافية كان الناقد أثناءها يلعب دور الموجه فيعرض للكاتب النماذج التي يجب اتباعها دون مناقشة . عندما يستخلص قدامة بن جعفر مثلا قواعد الشعر فإنه يلزم بها الشعراء .
لا أقصد هذا النوع من التوجيه عندما أستعمل كلمة ’’ قواعد ‘‘ ولا أعتبر القواعد مكتسية صبغة إلزامية من نوع : اكتب حسب مشيئتي وإلا قطعت يدك . أريد أن أشير إلى العلاقة التي تربط القائم بالسرد بالقواعد من جهة ، والعلاقة التي تربط المتلقي للسرد بنفس القواعد من جهة أخرى . مهما قيل عن الأنواع وشرعيتها ومهما قيل عن قواعد الأنواع ، فإن القائم بالسرد ينطلق من تجارب سردية عليه أن يتخذ منها موقفا إما بالإذعان لها أو التمرد عليها ، مع العلم بأنك لن تجد أبدا إذعانا صرفا أو تمردا جذريا . والمتلقي للسرد يقوم بدوره بنفس العمل ولكن بصفة معكوسة إذ ينطلق من النص السردي ثم يقرنه بما يعرف من النماذج السردية . كلا الطرفين يصول ويجول مع قواعد السرد .
***
للعب جديته التي تظهر في كون اللاعب يقبل بالتقيد بقواعد ثابتة تحد من مبادرته وتجعله يتحرك في إطار ضيق . هذه القواعد يشترك في معرفتها اللاعب والمتفرج على حد سواء . ورغم أن كل مباراة تمتاز بتسلسل خاص لا تجده في غيرها ، مما يجعلها فريدة من نوعها ، ويضمن عنصر التشويق والمتابعة المتحمسة ، فإن هذا الشكل الدائم التجدد لا يغير شيئا من القواعد التي تبقى قارة ولا يجوز مناقشتها .
إذا سلمنا بأن السرد ، كالسياسة والصدفة ، لعبة ، فإنه يجب علينا أن نبحث عن القواعد التي يخضع لها . ذلك أن اللاعب والمتفرج يعرفان قواعد اللعب بصورة جلية وصريحة، بينما يكاد القائم بالسرد والقارئ يجهلان قواعد السرد أو لا يعرفانها إلا بصفة ضمنية غامضة لا تتعدى مرحلة الإحساس المبهم . وفرق بين أن تحس بوجود قاعدة وبين أن تعلن عنها بكيفية واضحة .
كانت هناك محاولات عديدة لإبراز قواعد السرد ، من أفلاطون إلى هنري جيمس ، مرورا بالحريري وابن الخشاب وديدرو . ولكن أغلب المتقدمين أدخلوا في حسابهم اعتبارات فلسفية أو دينية أو مدرسية ، تجعلهم يقفون من السرد موقف المناهض أو المدافع ، أو تجعلهم يعتنون بنوع معين ، أو تجعلهم يصبون اهتمامهم عما ينبغي أن يكون عليه السرد . فالتناول العلمي لقواعد السرد لا نلمسه بصفة جذرية إلا منذ أن أصدر فلاديمير بروب دراسته عن الحكاية الفلكلورية ، مع العلم أن بروب هذا لم يكن يتوقع التطورات التي أسفر عنها كتابه . ذلك أنه اقترح نموذجا لا يشمل إلا نوعا واحدا هو الحكاية الفولكلورية . لكن الباحثين الذين جاؤوا بعده تبين لهم أن النموذج المقترح يمكن أن يغطي أنواعا أخرى ، فأخذوا في تحويره وتعميمه بحيث صار موضوع البحث هو السرد بصفة عامة ، وليس هذا النوع السردي أو ذاك ، أي أخذ الاهتمام ينصب على قواعد اللعبة في حد ذاتها . وهذا ما نلاحظه ( إذا ما اقتصرنا على الميدان الفرنسي ) عند غريماس ورولان بارت وتلامذتهما .
لم يكن لهذه الدراسات ، حسب ما أعرف ، صدى كبير في العالم العربي . ولعل السبب يكمن في كون الباحث العربي ، نظرا للمرحلة الثقافية التي يجتازها ، يعنى بالدرجة الأولى بـ ’’ المضمون ‘‘ ، مما يجعل المناقشة تتركز أساسا على العلاقة بين الرواية والمجتمع وعلى الدور الذي يجب أن تلعبه الرواية في المجتمع . إذ ذاك لا مفر من خوض ’’ الحرب الأيديولوجية ‘‘ . ومن تقييم الإنتاج ، مما يجعل من الباحث ناقدا أي حسب المدلول القديم للكلمة ، صيرفيا يميز القطع الجيدة من المزيفة . لا ينبغي أن يفهم من كلامي هذا أنني بصدد الدفاع عن ’’ الشكلانية ‘‘ . لأنني أسعى فقط إلى التنبيه على المستويات المختلفة التي لا بد من مراعاتها أثناء العملية النقدية وإلى العلاقة التي تربط هذه المستويات . وإن الملاحظات التالية ستعنى ، رغم طابعها الشكلاني ، بل بفضل هذا الطابع برصد النقطة التي يفرض المضمون أثناءها نفسه ويصير متحكما في اللعبة السردية .
لنبدأ أولا بقراءة القطعة التالية :
’’ قالت بلغني أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان وسالف الدهر والأوان في مدينة الصين رجل خياط مبسوط الرزق يحب اللهو والطرب وكان يخرج هو وزوجته في بعض الأحيان يتفرجان على غرائب المنتزهات فخرجا يوما من أول النهار ورجعا في آخره إلى منزلهما عند المساء فوجدا في طريقهما رجلا أحدب رؤيته تضحك الغضبان وتزيل الهم والأحزان فعند ذلك تقدم الخياط هو وزوجته يتفرجان عليه ثم أنهما عزما عليه أن يروح معهما إلى بيتهما لينادمهما تلك الليلة فأجابهما إلى ذلك ومشى معهما إلى البيت فخرج الخياط إلى السوق وكان الليل أقبل فاشترى سمكا مقليا وخبزا وليمونا وحلاوة يتحلون بها ثم رجع وحط السمك قدام الأحدب وجلسوا يأكلون فأخذت امرأة الخياط جزلة من سمك كبيرة ولقمتها للأحدب وسدت فمه بكفها وقالت والله ما تأكلها إلا دفعة واحدة في نفس واحدة ولا أمهلك حتى تمضغها وكان فيها شوكة قوية فتصلبت في حلقه لأجل انقضاء أجله فمات . وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح ‘‘
من يقرأ هذه القطعة لن يجادل في كونها لا تشكل حكاية كاملة .ذلك أن تعوده على قراءة الحكايات أو الاستماع إليها قد يكون فيه حاسة تجعله يستطيع أن يقرر بصفة قطعية أهو أمام حكاية أم لا ، حتى وإن كان لا يقدر أن يعطي تعريفا دقيقا للحكاية ، تماما كما أن تعوده على اللغة يجعله قادرا على أن يقرر ، وبدون تردد ، متى يكون بصدد جملة ، حتى وإن كان لا يعلم تعريفا للجملة ، بل حتى وإن كان لم يسمع قط بكلمة ’’ جملة ‘‘ . بفضل هذا الشعور يعرف أن الحكاية أعلاه غير تامة ، كما أنه عندما تسكت شهرزاد عن الكلام المباح ، لا يغيب عنه البتر الذي يسببه هذا السكوت ، بل لعل هذا البتر هو الذي يجعله يلمس مقومات الحكاية . ومن الطريف أن نشير إلى أن الصباح الذي يدرك شهرزاد ويعلق الحكاية له ما يقابله في بعض البلدان حيث توقف التلفزة عرض الشريط في الموضع ’’ الساخن ‘‘ لتحشر إشهارا تجاريا ، ثم بعد ذلك تتابع إذاعة الشريط ...
كتعريف أول نقول إن الحكاية مجموعة من الأحداث ( أو من الأفعال السردية ) تتوق إلى نهاية أي أنها موجهة نحو غاية ( ← ) . هذه الأفعال السردية تنتظم في إطار ’’ سلاسل ‘‘ تكثر أو تقل حسب طول أو قصر الحكاية . كل سلسلة ( séquence ) يشد أفعالها رباط زمني ومنطقي .
فمثلا الذهاب إلى النزهة يتبعه رجوع إلى البيت . الذهاب والرجوع ينتظمان في سلسلة أولى ( النزهة ) . قل نفس الشيء عن لقاء الأحدب والسرور بمنظره ودعوته وإجابته بالقبول . هذه الأفعال تكون سلسلة ثانية ( الدعوة ) . ثم هناك السلسلة الثالثة التي تضم خروج الخياط إلى السوق وشراء السمك ثم رجوعه إلى البيت ( السوق ) . وأخيرا هناك سلسلة رابعة ( الوليمة ) بوسع القارئ أن يلمس مكوناتها .
الرباط الزمني الذي يشد الأفعال السردية لا يشكل صعوبة تذكر ، لكن أم المشاكل نجدها عندما نخوض في البحث عن الرباط المنطقي . هل هناك منطق لتسلسل الأحداث السردية ؟ إن أجبنا بنعم وجب علينا أن نحدد بدقة نوعية هذا المنطق .
إن القائم بالسرد يجد نفسه ، في كل نقطة من الحكاية أمام اختيارات تتجسد في إمكانيات سردية جد كثيرة . ولكي تتابع الحكاية طريقها عليه في كل لحظة أن ينقل إحدى الإمكانيات من القوة إلى الفعل ، وهذا ما يقتضي إهمال الإمكانيات الأخرى . فمثلا بإمكان القائم بالسرد أن يجعل الأحدب لا يقبل دعوة الخياط ، كما أن الشوكة كان يمكن أن يبتلعها الخياط أو زوجته بدل الضيف ، والشوكة كان يمكن أن تمر بسلام عبر حلق الضيف ...
أمام هذه الإمكانيات التي تكاد تكون لا متناهية ، تبدو حرية القائم بالسرد مطلقة إذ باستطاعته أن ينقل أية أمكانية من القوة إلى الفعل . إلا أن من يتأمل قليلا في هذه المسألة يجزم بالعكس ويتبين له المدى الضيق الذي يدور فيه القائم بالسرد . فهذا الأخير لا يتصرف إلا ضمن ثلاثة قيود ( على الأقل ) تشل حركته بحيث تكاد قدرته على الاختيار تنعدم .
القاعدة الأولى تخص ما يمكن أن نسميه تعلق السابق باللاحق .أي أن اختيار إمكانية مرتبط بالإمكانية التالية التي يضعها القائم بالسرد نصب عينيه والتي بمقتضاها يتم اختيار الإمكانية السابقة لها . معنى هذا أن الإمكانية الأخيرة التي يختارها القائم بالسرد والتي تشكل نهاية الحكاية تتحكم في الإمكانية ما قبل الأخيرة وهذه بدورها تتحكم في الإمكانية التي تسبقها مباشرة ، وهكذا إلى أن نصل إلى الإمكانية الأولى أي إلى بداية الحكاية . وبعبارة أخرى فإن النهاية تتحكم في كل ما يسبقها وأن حرية القائم بالسرد لا تتجلى إلا في اختيار النهاية إذ بمجرد هذا الاختيار يفلت الزمام من يده ويصبح أسير هذا الاختيار .
لضيق المجال لن يتسنى لنا أن نقرأ ، من هذه الزاوية ، حكاية الخياط بكاملها . سنكتفي إذن بالقطعة القصيرة التي أوردناها وسنأخذ في قراءتها ابتداء من النهاية : مات الأحدب لأن شوكة تصلبت في حلقه ، والشوكة تصلبت في حلقه لأنه ابتلعها ولقد ابتلعها لأن زوجة الخياط لقمته ولقمته لأنهم كانوا يأكلون ولقد كانوا يأكلون لأن الخياط اشترى ما يتعشون به ولقد اشترى الخياط ما يتعشون به لأن الأحدب قبل الدعوة ولقد قبل الأحدب الدعوة لأن الخياط استدعاه ولقد استدعاه الخياط لأنه لقيه أثناء عودته من النزهة ولقد عاد الخياط من النزهة لأنه خرج أول النهار ولقد خرج لأنه يخرج عادة للتفرج على غرائب المنتزهات ولقد كان يخرج للتفرج على غرائب المنتزهات لأنه كان يحب اللهو والطرب .
هذا التمرين الذي قمنا به يبين تحكم اللاحق في السابق ويجعلنا نلمس وظيفة كل نقطة في الحكاية . كيف نفهم مثلا هذه العبارة : ’’ وكان الليل قد أقبل ‘‘ ؟
اختيار هذا الوقت بالذات لا ينبغي أن يفسر بما سبق بل بما سيأتي . ذلك أن الخياط وزوجته سيحملان الأحدب الميت إلى بيت طبيب ثم يلوذان بالفرار ، وعندما ينزل الطبيب يمنعه الظلام من رؤية الأحدب . إذ ذلك سيعثر ويسقط على الأحدب ويظن الطبيب أنه قتله .
من كل هذا نستنتج أن الحكاية يمكن أن تقرأ قراءتين . القراءة الأولى ( العادية ) تتم من اليمين إلى اليسار أي من البداية إلى النهاية ( ← ) . القراءة الثانية التي يمكن أن نسميها القراءة ’’ العالمة ‘‘ ، لأنها تجعلنا نلمس البناء السردي عن كثب ، بل تجعلنا نعيد صياغة الحكاية بعد تفكيك مكوناتها ، هذه القراءة تتم من النهاية إلى البداية ، من اليسار إلى اليمين ( → ) .
القراءة العادية تشد بخناق القارئ وتجعله يبتلع الأحداث بدون مضغ ويقفز الصفحات لكي يصل أخيرا إلى النهاية التي يتلهف على معرفتها . إن اللذة التي تمنحها هذه القراءة يؤدى ثمنها غاليا . ذلك أن القارئ ، بجريه وراء الوهم ، يفقد انضباطه وتحكمه في نفسه ويعيش فترة استلاب . إن ما يشده إلى الوهم هو التأرجح المستمر بين عدة إمكانيات . هذا التأرجح الذي لا يسكن إلا عندما تظهر نقطة الختام . وعلى العكس من ذلك فإن القراءة العالمة تحرر القارئ من الوهم ومن المشاركة الوجدانية وترفعه إلى مرتبة تجعله يشارك هذه المرة لا الشخصيات بل القائم بالسرد نفسه . القراءة العادية يسيطر عليها منطق العرضية بحيث أن الذهاب قد يتبعه رجوع أو عدم رجوع . أما القراءة العالمة فإنها تحت حكم منطق الضرورة بحيث أنها تبدأ بالرجوع وإذ ذاك لا مفر من أن يكون هناك ذهاب .
بالإضافة إلى ارتباط السابق باللاحق هناك قاعدة ثانية وهي ارتباط تسلسل الأحداث بنوع الحكاية . إن أنواع الحكاية كثيرة وهناك أنواع تفرض تسلسلا معينا يكون على القائم بالسرد أن يحترمه . فالمرور من نقطة إلى نقطة في الحكاية يتم وفقا لجدول من الأحداث يجب تكراره . وهذا ما نلاحظه في بعض الحكايات الشعبية وكذلك في المقامات . فالمعروف أن منشئي المقامات احترموا بصفة عامة التسلسل الثابت للأفعال السردية كما وضعه الهمذاني . ومن هنا لا بد من الإشارة إلى أن تحقيق الإمكانية النهائية ، الذي قلنا بأنه المجال الوحيد الذي تظهر فيه حرية القائم بالسرد ، يكون بدوره مقيدا بالنوع ، بحيث تنعدم تماما حرية الاختيار . انظر مثلا النهاية المتكررة لروايات رعاة البقر وللروايات البوليسية ...
القاعدة الثالثة التي سنشير إليها تخص العرف والعادة ، أي أن تسلسل الأفعال السردية رهن باعتقادات القارئ حول مجرى الأمور . فالقائم بالسرد ملزم باحترام هذه الاعتقادات إلى حد أنه يمكن أن يقال أن القائم بالسرد الفعلي هو القارئ .( بارط 1970 ، ص 157 ) .
القائم بالسرد يعرف جيدا اعتقادات القارئ ويوجه السرد حسب متطلباتها . إذا حكى مثلا أن ذئبا التقى بحمل ، فإنه لا محالة سيجعل الذئب يفترس الحمل . حريته هنا مقيدة باحتمال يستحيل تخطيه . لنفترض أنه يقوم بعكس الآية ، ماذا سيحدث ؟ هل يتصور أن يفترس الحمل الوديع الذئب الذي هو أقوى منه ، هذا بالإضافة إلى أن الحمل لا يأكل اللحم ؟ من الممكن حدوث هذا الشيء العجيب في الحكاية الساخرة وإذ ذاك سيتقبله القارئ بالابتسامة . أما إذا كانت لهجة القائم بالسرد جادة فإن القارئ سيبحث عن تأويل لهذا الخبر الفريد من نوعه ، وإذا تبين له أن النص لا يسمح بهذا التأويل فإنه سيزج الخبر في إطار الحكاية ’’ المخيبة للظن ‘‘ . وهذا النوع الأخير موجود أو يمكن اختراعه .
نستخلص من هذه الملاحظة أن لكل نوع عرفا خاصا به ( تودوروف 1971 ، ص 94 ) ، وإن كان العرف ’’ النوعي ‘‘ بناقض العرف الذي يخضع له القارئ في حياته اليومية وفي اعتقاداته . الحكايات على ألسنة الحيوانات والحكايات التي يشترك فيها الإنس والجن والحكايات التي تحدث فيها الخوارق ، كل هذه الأنواع لها عرفها المستقل الغريب ، ورغم ذلك يتقبلها القارئ بصدر رحب لأنه يدخل في اللعبة النوعية ويضع معتقداته بين قوسين .
إن مسألة الاحتمال والعرف هي الميدان الفسيح الذي تكمن فيه الأيديولوجيا التي قد يشترك فيها – إلى حد ما – القائم بالسرد ومخاطبه أي القارئ ( الذي يعاصره ) . فتسلسل الأحداث يجب أن يدرس من هذه الزاوية ، بحيث نلمس كيف توجه الاعتقادات ( المعلن عنها والمستترة ) الانتقال من فعل سردي إلى الفعل الذي يليه ، وذلك يتطلب منا أن نعتني بدقة ’’ بالنسق الثقافي ‘‘ ( بارط 1970 ، ص 153 – 154 ) وأن نبين كيف يشد إليه الحكاية ويتحكم في أحداثها . يظهر هذا جليا في القطعة التالية :
’’ قال الحرث بن همام : طحا بي مرح الشباب وهوى الاكتساب إلى أن جبت ما بين فرغانة وغانة أخوض الغمار لأجني الثمار وأقتحم الأخطار لكي أدرك الأوطار . وكنت لقفت من أفواه العلماء وثقفت من وصايا الحكماء أنه يلزم الأديب الأريب إذا دخل البلد الغريب أن يستميل قاضيه ويستخلص مراضيه ليشتد ظهره عند الخصام ويأمن في الغربة جور الحكام فاتخذت هذا الأدب إماما وجعلته لمصالحي زماما فما دخلت مدينة ولا ولجت عرينة إلا وامتزجت بحاكمها امتزاج الماء بالراح وتقويت بعنايته تقوي الأجساد بالأرواح . فبينما أنا عند حاكم الاسكندرية ..... ‘‘ .
ما يلفت النظر في هذه القطعة هو التعليل المتعلق بالسلوك بحيث أن تفسيرا مطنبا يصحب الفعل السردي . هذا التفسير ( أو هذا التعليق ) يندرج ، نظرا لصبغته التعميمية ، في إطار المثل ( أقتحم الأخطار لكي أدرك الأوطار ) ويمتاز بأسبقية في الزمن إذ ينبع من ’’ العلماء ‘‘ و’’ الحكماء ‘‘ ، يعني من الماضي . الدعوة إلى تكرار النماذج السالفة تبرر هنا نوع الارتباطات الاجتماعية التي ينبغي أن يعتني بها ’’ الأديب الأريب ‘‘ .
هناك عدة حكايات لا تولي أهمية لمثل هذا التعليق المطنب . لكن عدم وجوده بصفة صريحة لا يمنعه من العمل بصفة ضمنية ، ولاكتشافه يكفي فقط أن ننتبه إلى الإمكانيات السردية التي يطرحها القائم بالسرد وإلى الإمكانيات التي يحتفظ بها ويحققها . في هذا الطرح والاحتفاظ يكمن تعليق غير مباشر يفتح آفاقا واسعة أمام النقد الأيديولوجي .
القيود الثلاثة التي أشرنا إليها بسرعة ( ارتباط السابق باللاحق ، نوع الحكاية ، أفق الاحتمال والعرف ) تشكل قواعد اللعبة السردية . ورب قائل يقول : ما أكثر الحكايات التي لا تلتزم بهذه القواعد ، خصوصا في السنوات الخيرة ، مع التجارب الجديدة في الحقل السردي . لكن عدم احترام القواعد لا يمحو القواعد ، بل لعل خرق القاعدة هو الذي يضع الأصبع عليها ويبرزها بكل جلاء . ذلك أن القاعدة تصير ، لتعود القارئ عليها ، وكأنها من طبيعة الأشياء .إلا أنها عندما تخرق تسترعي الانتباه ولا تعود بديهية وتعلن عن نسبيتها أي ارتباطها بنوع معين أو حقبة معينة أو حقل ثقافي . هذا الوعي بالنسبية قد يؤدي ، لا نقول إلى اندثار القاعدة المألوفة ، بل إلى ظهور قاعدة جديدة تتحكم في نوع سردي جديد .
وفي هذا الإطار نشير إلى ان ظهور ما يسمى بالرواية الجديدة قد واكب ظهور الدراسات البنيوية . ليس للصدفة ، في نظري ، أي دور في هذا الميلاد المزدوج . إن الخرق السافر للقواعد السردية التي كان الغرب متعارفا عليها يظهر بكل وضوح في أساطير بعض المجموعات ’’ البدائية ‘‘ . هذه الأساطير الهند – أمريكية التي حللها كلود ليفي ستراوس . هذه الأساطير تبدو ’’ بلا رأس ولا ذنب ‘‘ أي مخالفة للنمط المألوف ، تماما كما كانت تبدو الرواية الجديدة في الخمسينيات للقارئ الغربي . هذه ظاهرة ينبغي للمؤرخ أن يهتم بها .
إذا تركنا جانبا مسألة الأساطير ، فإننا نلاحظ أن البنيويين اهتموا في بادئ أمرهم على الخصوص ببعض الأنواع السردية التي تعمل فيها القواعد بصفة آلية كالقصص المصورة والقصة الشعبية والرواية البوليسية ، أي الأنواع الاستهلاكية التي تحترم القواعد المألوفة بطريقة عمياء . هذا في الوقت الذي كانت الرواية الجديدة تبرز بدورها هذه القواعد . ولكن بصفة سلبية ، أي بالتشويش عليها وخرقها ، وليس من الضروري أن نقول إن أحدى الظاهرتين أثرت في الأخرى .
الأدب والغرابة ، دراسات بنيوية في الأدب العربي ، صص 29 - 31
نفس المصدر ، ص ص 33 - 35
لا أقصد هذا النوع من التوجيه عندما أستعمل كلمة ’’ قواعد ‘‘ ولا أعتبر القواعد مكتسية صبغة إلزامية من نوع : اكتب حسب مشيئتي وإلا قطعت يدك . أريد أن أشير إلى العلاقة التي تربط القائم بالسرد بالقواعد من جهة ، والعلاقة التي تربط المتلقي للسرد بنفس القواعد من جهة أخرى . مهما قيل عن الأنواع وشرعيتها ومهما قيل عن قواعد الأنواع ، فإن القائم بالسرد ينطلق من تجارب سردية عليه أن يتخذ منها موقفا إما بالإذعان لها أو التمرد عليها ، مع العلم بأنك لن تجد أبدا إذعانا صرفا أو تمردا جذريا . والمتلقي للسرد يقوم بدوره بنفس العمل ولكن بصفة معكوسة إذ ينطلق من النص السردي ثم يقرنه بما يعرف من النماذج السردية . كلا الطرفين يصول ويجول مع قواعد السرد .
***
للعب جديته التي تظهر في كون اللاعب يقبل بالتقيد بقواعد ثابتة تحد من مبادرته وتجعله يتحرك في إطار ضيق . هذه القواعد يشترك في معرفتها اللاعب والمتفرج على حد سواء . ورغم أن كل مباراة تمتاز بتسلسل خاص لا تجده في غيرها ، مما يجعلها فريدة من نوعها ، ويضمن عنصر التشويق والمتابعة المتحمسة ، فإن هذا الشكل الدائم التجدد لا يغير شيئا من القواعد التي تبقى قارة ولا يجوز مناقشتها .
إذا سلمنا بأن السرد ، كالسياسة والصدفة ، لعبة ، فإنه يجب علينا أن نبحث عن القواعد التي يخضع لها . ذلك أن اللاعب والمتفرج يعرفان قواعد اللعب بصورة جلية وصريحة، بينما يكاد القائم بالسرد والقارئ يجهلان قواعد السرد أو لا يعرفانها إلا بصفة ضمنية غامضة لا تتعدى مرحلة الإحساس المبهم . وفرق بين أن تحس بوجود قاعدة وبين أن تعلن عنها بكيفية واضحة .
كانت هناك محاولات عديدة لإبراز قواعد السرد ، من أفلاطون إلى هنري جيمس ، مرورا بالحريري وابن الخشاب وديدرو . ولكن أغلب المتقدمين أدخلوا في حسابهم اعتبارات فلسفية أو دينية أو مدرسية ، تجعلهم يقفون من السرد موقف المناهض أو المدافع ، أو تجعلهم يعتنون بنوع معين ، أو تجعلهم يصبون اهتمامهم عما ينبغي أن يكون عليه السرد . فالتناول العلمي لقواعد السرد لا نلمسه بصفة جذرية إلا منذ أن أصدر فلاديمير بروب دراسته عن الحكاية الفلكلورية ، مع العلم أن بروب هذا لم يكن يتوقع التطورات التي أسفر عنها كتابه . ذلك أنه اقترح نموذجا لا يشمل إلا نوعا واحدا هو الحكاية الفولكلورية . لكن الباحثين الذين جاؤوا بعده تبين لهم أن النموذج المقترح يمكن أن يغطي أنواعا أخرى ، فأخذوا في تحويره وتعميمه بحيث صار موضوع البحث هو السرد بصفة عامة ، وليس هذا النوع السردي أو ذاك ، أي أخذ الاهتمام ينصب على قواعد اللعبة في حد ذاتها . وهذا ما نلاحظه ( إذا ما اقتصرنا على الميدان الفرنسي ) عند غريماس ورولان بارت وتلامذتهما .
لم يكن لهذه الدراسات ، حسب ما أعرف ، صدى كبير في العالم العربي . ولعل السبب يكمن في كون الباحث العربي ، نظرا للمرحلة الثقافية التي يجتازها ، يعنى بالدرجة الأولى بـ ’’ المضمون ‘‘ ، مما يجعل المناقشة تتركز أساسا على العلاقة بين الرواية والمجتمع وعلى الدور الذي يجب أن تلعبه الرواية في المجتمع . إذ ذاك لا مفر من خوض ’’ الحرب الأيديولوجية ‘‘ . ومن تقييم الإنتاج ، مما يجعل من الباحث ناقدا أي حسب المدلول القديم للكلمة ، صيرفيا يميز القطع الجيدة من المزيفة . لا ينبغي أن يفهم من كلامي هذا أنني بصدد الدفاع عن ’’ الشكلانية ‘‘ . لأنني أسعى فقط إلى التنبيه على المستويات المختلفة التي لا بد من مراعاتها أثناء العملية النقدية وإلى العلاقة التي تربط هذه المستويات . وإن الملاحظات التالية ستعنى ، رغم طابعها الشكلاني ، بل بفضل هذا الطابع برصد النقطة التي يفرض المضمون أثناءها نفسه ويصير متحكما في اللعبة السردية .
لنبدأ أولا بقراءة القطعة التالية :
’’ قالت بلغني أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان وسالف الدهر والأوان في مدينة الصين رجل خياط مبسوط الرزق يحب اللهو والطرب وكان يخرج هو وزوجته في بعض الأحيان يتفرجان على غرائب المنتزهات فخرجا يوما من أول النهار ورجعا في آخره إلى منزلهما عند المساء فوجدا في طريقهما رجلا أحدب رؤيته تضحك الغضبان وتزيل الهم والأحزان فعند ذلك تقدم الخياط هو وزوجته يتفرجان عليه ثم أنهما عزما عليه أن يروح معهما إلى بيتهما لينادمهما تلك الليلة فأجابهما إلى ذلك ومشى معهما إلى البيت فخرج الخياط إلى السوق وكان الليل أقبل فاشترى سمكا مقليا وخبزا وليمونا وحلاوة يتحلون بها ثم رجع وحط السمك قدام الأحدب وجلسوا يأكلون فأخذت امرأة الخياط جزلة من سمك كبيرة ولقمتها للأحدب وسدت فمه بكفها وقالت والله ما تأكلها إلا دفعة واحدة في نفس واحدة ولا أمهلك حتى تمضغها وكان فيها شوكة قوية فتصلبت في حلقه لأجل انقضاء أجله فمات . وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح ‘‘
من يقرأ هذه القطعة لن يجادل في كونها لا تشكل حكاية كاملة .ذلك أن تعوده على قراءة الحكايات أو الاستماع إليها قد يكون فيه حاسة تجعله يستطيع أن يقرر بصفة قطعية أهو أمام حكاية أم لا ، حتى وإن كان لا يقدر أن يعطي تعريفا دقيقا للحكاية ، تماما كما أن تعوده على اللغة يجعله قادرا على أن يقرر ، وبدون تردد ، متى يكون بصدد جملة ، حتى وإن كان لا يعلم تعريفا للجملة ، بل حتى وإن كان لم يسمع قط بكلمة ’’ جملة ‘‘ . بفضل هذا الشعور يعرف أن الحكاية أعلاه غير تامة ، كما أنه عندما تسكت شهرزاد عن الكلام المباح ، لا يغيب عنه البتر الذي يسببه هذا السكوت ، بل لعل هذا البتر هو الذي يجعله يلمس مقومات الحكاية . ومن الطريف أن نشير إلى أن الصباح الذي يدرك شهرزاد ويعلق الحكاية له ما يقابله في بعض البلدان حيث توقف التلفزة عرض الشريط في الموضع ’’ الساخن ‘‘ لتحشر إشهارا تجاريا ، ثم بعد ذلك تتابع إذاعة الشريط ...
كتعريف أول نقول إن الحكاية مجموعة من الأحداث ( أو من الأفعال السردية ) تتوق إلى نهاية أي أنها موجهة نحو غاية ( ← ) . هذه الأفعال السردية تنتظم في إطار ’’ سلاسل ‘‘ تكثر أو تقل حسب طول أو قصر الحكاية . كل سلسلة ( séquence ) يشد أفعالها رباط زمني ومنطقي .
فمثلا الذهاب إلى النزهة يتبعه رجوع إلى البيت . الذهاب والرجوع ينتظمان في سلسلة أولى ( النزهة ) . قل نفس الشيء عن لقاء الأحدب والسرور بمنظره ودعوته وإجابته بالقبول . هذه الأفعال تكون سلسلة ثانية ( الدعوة ) . ثم هناك السلسلة الثالثة التي تضم خروج الخياط إلى السوق وشراء السمك ثم رجوعه إلى البيت ( السوق ) . وأخيرا هناك سلسلة رابعة ( الوليمة ) بوسع القارئ أن يلمس مكوناتها .
الرباط الزمني الذي يشد الأفعال السردية لا يشكل صعوبة تذكر ، لكن أم المشاكل نجدها عندما نخوض في البحث عن الرباط المنطقي . هل هناك منطق لتسلسل الأحداث السردية ؟ إن أجبنا بنعم وجب علينا أن نحدد بدقة نوعية هذا المنطق .
إن القائم بالسرد يجد نفسه ، في كل نقطة من الحكاية أمام اختيارات تتجسد في إمكانيات سردية جد كثيرة . ولكي تتابع الحكاية طريقها عليه في كل لحظة أن ينقل إحدى الإمكانيات من القوة إلى الفعل ، وهذا ما يقتضي إهمال الإمكانيات الأخرى . فمثلا بإمكان القائم بالسرد أن يجعل الأحدب لا يقبل دعوة الخياط ، كما أن الشوكة كان يمكن أن يبتلعها الخياط أو زوجته بدل الضيف ، والشوكة كان يمكن أن تمر بسلام عبر حلق الضيف ...
أمام هذه الإمكانيات التي تكاد تكون لا متناهية ، تبدو حرية القائم بالسرد مطلقة إذ باستطاعته أن ينقل أية أمكانية من القوة إلى الفعل . إلا أن من يتأمل قليلا في هذه المسألة يجزم بالعكس ويتبين له المدى الضيق الذي يدور فيه القائم بالسرد . فهذا الأخير لا يتصرف إلا ضمن ثلاثة قيود ( على الأقل ) تشل حركته بحيث تكاد قدرته على الاختيار تنعدم .
القاعدة الأولى تخص ما يمكن أن نسميه تعلق السابق باللاحق .أي أن اختيار إمكانية مرتبط بالإمكانية التالية التي يضعها القائم بالسرد نصب عينيه والتي بمقتضاها يتم اختيار الإمكانية السابقة لها . معنى هذا أن الإمكانية الأخيرة التي يختارها القائم بالسرد والتي تشكل نهاية الحكاية تتحكم في الإمكانية ما قبل الأخيرة وهذه بدورها تتحكم في الإمكانية التي تسبقها مباشرة ، وهكذا إلى أن نصل إلى الإمكانية الأولى أي إلى بداية الحكاية . وبعبارة أخرى فإن النهاية تتحكم في كل ما يسبقها وأن حرية القائم بالسرد لا تتجلى إلا في اختيار النهاية إذ بمجرد هذا الاختيار يفلت الزمام من يده ويصبح أسير هذا الاختيار .
لضيق المجال لن يتسنى لنا أن نقرأ ، من هذه الزاوية ، حكاية الخياط بكاملها . سنكتفي إذن بالقطعة القصيرة التي أوردناها وسنأخذ في قراءتها ابتداء من النهاية : مات الأحدب لأن شوكة تصلبت في حلقه ، والشوكة تصلبت في حلقه لأنه ابتلعها ولقد ابتلعها لأن زوجة الخياط لقمته ولقمته لأنهم كانوا يأكلون ولقد كانوا يأكلون لأن الخياط اشترى ما يتعشون به ولقد اشترى الخياط ما يتعشون به لأن الأحدب قبل الدعوة ولقد قبل الأحدب الدعوة لأن الخياط استدعاه ولقد استدعاه الخياط لأنه لقيه أثناء عودته من النزهة ولقد عاد الخياط من النزهة لأنه خرج أول النهار ولقد خرج لأنه يخرج عادة للتفرج على غرائب المنتزهات ولقد كان يخرج للتفرج على غرائب المنتزهات لأنه كان يحب اللهو والطرب .
هذا التمرين الذي قمنا به يبين تحكم اللاحق في السابق ويجعلنا نلمس وظيفة كل نقطة في الحكاية . كيف نفهم مثلا هذه العبارة : ’’ وكان الليل قد أقبل ‘‘ ؟
اختيار هذا الوقت بالذات لا ينبغي أن يفسر بما سبق بل بما سيأتي . ذلك أن الخياط وزوجته سيحملان الأحدب الميت إلى بيت طبيب ثم يلوذان بالفرار ، وعندما ينزل الطبيب يمنعه الظلام من رؤية الأحدب . إذ ذلك سيعثر ويسقط على الأحدب ويظن الطبيب أنه قتله .
من كل هذا نستنتج أن الحكاية يمكن أن تقرأ قراءتين . القراءة الأولى ( العادية ) تتم من اليمين إلى اليسار أي من البداية إلى النهاية ( ← ) . القراءة الثانية التي يمكن أن نسميها القراءة ’’ العالمة ‘‘ ، لأنها تجعلنا نلمس البناء السردي عن كثب ، بل تجعلنا نعيد صياغة الحكاية بعد تفكيك مكوناتها ، هذه القراءة تتم من النهاية إلى البداية ، من اليسار إلى اليمين ( → ) .
القراءة العادية تشد بخناق القارئ وتجعله يبتلع الأحداث بدون مضغ ويقفز الصفحات لكي يصل أخيرا إلى النهاية التي يتلهف على معرفتها . إن اللذة التي تمنحها هذه القراءة يؤدى ثمنها غاليا . ذلك أن القارئ ، بجريه وراء الوهم ، يفقد انضباطه وتحكمه في نفسه ويعيش فترة استلاب . إن ما يشده إلى الوهم هو التأرجح المستمر بين عدة إمكانيات . هذا التأرجح الذي لا يسكن إلا عندما تظهر نقطة الختام . وعلى العكس من ذلك فإن القراءة العالمة تحرر القارئ من الوهم ومن المشاركة الوجدانية وترفعه إلى مرتبة تجعله يشارك هذه المرة لا الشخصيات بل القائم بالسرد نفسه . القراءة العادية يسيطر عليها منطق العرضية بحيث أن الذهاب قد يتبعه رجوع أو عدم رجوع . أما القراءة العالمة فإنها تحت حكم منطق الضرورة بحيث أنها تبدأ بالرجوع وإذ ذاك لا مفر من أن يكون هناك ذهاب .
بالإضافة إلى ارتباط السابق باللاحق هناك قاعدة ثانية وهي ارتباط تسلسل الأحداث بنوع الحكاية . إن أنواع الحكاية كثيرة وهناك أنواع تفرض تسلسلا معينا يكون على القائم بالسرد أن يحترمه . فالمرور من نقطة إلى نقطة في الحكاية يتم وفقا لجدول من الأحداث يجب تكراره . وهذا ما نلاحظه في بعض الحكايات الشعبية وكذلك في المقامات . فالمعروف أن منشئي المقامات احترموا بصفة عامة التسلسل الثابت للأفعال السردية كما وضعه الهمذاني . ومن هنا لا بد من الإشارة إلى أن تحقيق الإمكانية النهائية ، الذي قلنا بأنه المجال الوحيد الذي تظهر فيه حرية القائم بالسرد ، يكون بدوره مقيدا بالنوع ، بحيث تنعدم تماما حرية الاختيار . انظر مثلا النهاية المتكررة لروايات رعاة البقر وللروايات البوليسية ...
القاعدة الثالثة التي سنشير إليها تخص العرف والعادة ، أي أن تسلسل الأفعال السردية رهن باعتقادات القارئ حول مجرى الأمور . فالقائم بالسرد ملزم باحترام هذه الاعتقادات إلى حد أنه يمكن أن يقال أن القائم بالسرد الفعلي هو القارئ .( بارط 1970 ، ص 157 ) .
القائم بالسرد يعرف جيدا اعتقادات القارئ ويوجه السرد حسب متطلباتها . إذا حكى مثلا أن ذئبا التقى بحمل ، فإنه لا محالة سيجعل الذئب يفترس الحمل . حريته هنا مقيدة باحتمال يستحيل تخطيه . لنفترض أنه يقوم بعكس الآية ، ماذا سيحدث ؟ هل يتصور أن يفترس الحمل الوديع الذئب الذي هو أقوى منه ، هذا بالإضافة إلى أن الحمل لا يأكل اللحم ؟ من الممكن حدوث هذا الشيء العجيب في الحكاية الساخرة وإذ ذاك سيتقبله القارئ بالابتسامة . أما إذا كانت لهجة القائم بالسرد جادة فإن القارئ سيبحث عن تأويل لهذا الخبر الفريد من نوعه ، وإذا تبين له أن النص لا يسمح بهذا التأويل فإنه سيزج الخبر في إطار الحكاية ’’ المخيبة للظن ‘‘ . وهذا النوع الأخير موجود أو يمكن اختراعه .
نستخلص من هذه الملاحظة أن لكل نوع عرفا خاصا به ( تودوروف 1971 ، ص 94 ) ، وإن كان العرف ’’ النوعي ‘‘ بناقض العرف الذي يخضع له القارئ في حياته اليومية وفي اعتقاداته . الحكايات على ألسنة الحيوانات والحكايات التي يشترك فيها الإنس والجن والحكايات التي تحدث فيها الخوارق ، كل هذه الأنواع لها عرفها المستقل الغريب ، ورغم ذلك يتقبلها القارئ بصدر رحب لأنه يدخل في اللعبة النوعية ويضع معتقداته بين قوسين .
إن مسألة الاحتمال والعرف هي الميدان الفسيح الذي تكمن فيه الأيديولوجيا التي قد يشترك فيها – إلى حد ما – القائم بالسرد ومخاطبه أي القارئ ( الذي يعاصره ) . فتسلسل الأحداث يجب أن يدرس من هذه الزاوية ، بحيث نلمس كيف توجه الاعتقادات ( المعلن عنها والمستترة ) الانتقال من فعل سردي إلى الفعل الذي يليه ، وذلك يتطلب منا أن نعتني بدقة ’’ بالنسق الثقافي ‘‘ ( بارط 1970 ، ص 153 – 154 ) وأن نبين كيف يشد إليه الحكاية ويتحكم في أحداثها . يظهر هذا جليا في القطعة التالية :
’’ قال الحرث بن همام : طحا بي مرح الشباب وهوى الاكتساب إلى أن جبت ما بين فرغانة وغانة أخوض الغمار لأجني الثمار وأقتحم الأخطار لكي أدرك الأوطار . وكنت لقفت من أفواه العلماء وثقفت من وصايا الحكماء أنه يلزم الأديب الأريب إذا دخل البلد الغريب أن يستميل قاضيه ويستخلص مراضيه ليشتد ظهره عند الخصام ويأمن في الغربة جور الحكام فاتخذت هذا الأدب إماما وجعلته لمصالحي زماما فما دخلت مدينة ولا ولجت عرينة إلا وامتزجت بحاكمها امتزاج الماء بالراح وتقويت بعنايته تقوي الأجساد بالأرواح . فبينما أنا عند حاكم الاسكندرية ..... ‘‘ .
ما يلفت النظر في هذه القطعة هو التعليل المتعلق بالسلوك بحيث أن تفسيرا مطنبا يصحب الفعل السردي . هذا التفسير ( أو هذا التعليق ) يندرج ، نظرا لصبغته التعميمية ، في إطار المثل ( أقتحم الأخطار لكي أدرك الأوطار ) ويمتاز بأسبقية في الزمن إذ ينبع من ’’ العلماء ‘‘ و’’ الحكماء ‘‘ ، يعني من الماضي . الدعوة إلى تكرار النماذج السالفة تبرر هنا نوع الارتباطات الاجتماعية التي ينبغي أن يعتني بها ’’ الأديب الأريب ‘‘ .
هناك عدة حكايات لا تولي أهمية لمثل هذا التعليق المطنب . لكن عدم وجوده بصفة صريحة لا يمنعه من العمل بصفة ضمنية ، ولاكتشافه يكفي فقط أن ننتبه إلى الإمكانيات السردية التي يطرحها القائم بالسرد وإلى الإمكانيات التي يحتفظ بها ويحققها . في هذا الطرح والاحتفاظ يكمن تعليق غير مباشر يفتح آفاقا واسعة أمام النقد الأيديولوجي .
القيود الثلاثة التي أشرنا إليها بسرعة ( ارتباط السابق باللاحق ، نوع الحكاية ، أفق الاحتمال والعرف ) تشكل قواعد اللعبة السردية . ورب قائل يقول : ما أكثر الحكايات التي لا تلتزم بهذه القواعد ، خصوصا في السنوات الخيرة ، مع التجارب الجديدة في الحقل السردي . لكن عدم احترام القواعد لا يمحو القواعد ، بل لعل خرق القاعدة هو الذي يضع الأصبع عليها ويبرزها بكل جلاء . ذلك أن القاعدة تصير ، لتعود القارئ عليها ، وكأنها من طبيعة الأشياء .إلا أنها عندما تخرق تسترعي الانتباه ولا تعود بديهية وتعلن عن نسبيتها أي ارتباطها بنوع معين أو حقبة معينة أو حقل ثقافي . هذا الوعي بالنسبية قد يؤدي ، لا نقول إلى اندثار القاعدة المألوفة ، بل إلى ظهور قاعدة جديدة تتحكم في نوع سردي جديد .
وفي هذا الإطار نشير إلى ان ظهور ما يسمى بالرواية الجديدة قد واكب ظهور الدراسات البنيوية . ليس للصدفة ، في نظري ، أي دور في هذا الميلاد المزدوج . إن الخرق السافر للقواعد السردية التي كان الغرب متعارفا عليها يظهر بكل وضوح في أساطير بعض المجموعات ’’ البدائية ‘‘ . هذه الأساطير الهند – أمريكية التي حللها كلود ليفي ستراوس . هذه الأساطير تبدو ’’ بلا رأس ولا ذنب ‘‘ أي مخالفة للنمط المألوف ، تماما كما كانت تبدو الرواية الجديدة في الخمسينيات للقارئ الغربي . هذه ظاهرة ينبغي للمؤرخ أن يهتم بها .
إذا تركنا جانبا مسألة الأساطير ، فإننا نلاحظ أن البنيويين اهتموا في بادئ أمرهم على الخصوص ببعض الأنواع السردية التي تعمل فيها القواعد بصفة آلية كالقصص المصورة والقصة الشعبية والرواية البوليسية ، أي الأنواع الاستهلاكية التي تحترم القواعد المألوفة بطريقة عمياء . هذا في الوقت الذي كانت الرواية الجديدة تبرز بدورها هذه القواعد . ولكن بصفة سلبية ، أي بالتشويش عليها وخرقها ، وليس من الضروري أن نقول إن أحدى الظاهرتين أثرت في الأخرى .
الأدب والغرابة ، دراسات بنيوية في الأدب العربي ، صص 29 - 31
نفس المصدر ، ص ص 33 - 35