يقول د. عبدالجبار العبيدي في مقال له منشور على موقع ايلاف تحت عنوان " هل يدرس التاريخ للعبرة والموعظة أم للتجربة والاستذكار"، ويذكر في سياق حديثه عن الموضوع ان دراسة التاريخ يشمل الماضي والحاضر ولربما تكهنات المستقبل، لكن هذا المقياس يختلف باختلاف الزمان والمكان والناس، فالاختيار يجب ان يكون انتقائياً ومحدداً حتى ينطوي على تجربة معينة للحاضر والمستقبل وما يهم امور الناس والاوطان معاً، وحول منهجية قراءة التاريخ او التكهن التاريخي للعبرة والاتعاظ يقول ان منهجية العبرة والاتعاظ لاتصلح الا في حالات معينة وضيقة جداً حين تتشابه الاحداث والفترات الزمنية، وهذه حالات نادرة الحدوث لانها لاتتكرر بكل ظروفها ابداً، ومن هنا فان قراءة التاريخ للعبرة والاتعاظ ضرب من الوهم الذي لامعنى له ابداً، فالمقياس العلمي او المنهجي التاريخي يخضع للتغيير وليس للثبات.
وفي مقال سابق تحت جدلية العود الابدي للتاريخ كنت قد نوهت بان احالة وقائع الان الى الماضي لايمكن ان تأتي بنتائج مطلقة يمكن تعميمها على مراحل التاريخ الحالية او اللاحقة، لأن الثوابت انما تكمن في الحدث وما آل اليه الحدث فهو متوقف على جملة امور اخرى تكاملية في صناعة الحدث، وبذلك لانستغرب الان وفي وقتنا الحاضر ان يتجه الناس الى دئراة التاريخ للتخفي وراء انتكاساتهم في الحاضر، والتوجس من مستقبلهم الاتي، فمن خلال البحث عن اواصر ترافقية وتلازمية مطابقة لوضعهم الحالي يستجدي الناس بالتاريخ ليكرر المقولة التي تكررت منذ وعي الناس مقولة التاريخ يعيد نفسه، ويستميت الناس في الاستشهاد بالتاريخ ليغطوا جزء كبير من نواقصهم الحالية، وابتعادهم عن السبيل المؤدي لتحقيق اهدافهم سواء الانية او المستقبلية وبالتالي فان اعتماد مقولة العبرة والاتعاظ لايأتي هنا بدافع التبرير لما يقومون به من افعال واعمال وتصرفات وسلوكيات، او للاتعاظ والعبرة ولا حتى للتجربة والاستذكار، انما بدوافع اخرى اقوى، كدافع اليأس الوجودي القاتم، والمتمكن من عقل ونفوس الناس بحيث لم يعد بامكانهم التصرف بالموجود الاني وبما بين ايديهم بعيداً عن الانخراط في الماضي وربطه به، حتى يعطوا لانفسهم صفة رسمية باعتبارهم ينهلون من تاريخ الامة التي يلتحفون باسمها في محافلهم الداخلية والخارجية، وبالتالي فانهم يخضعون عقولهم لمنطق دفن بدفن اصحابه، وينأون بانفسهم عن مواجهة التكهنات المستقبلية التي تضع حاضرهم تحت المجهر، وتفضح مكنونات واقعهم المزدرء بالتمام.
الامم والجماعات وحتى الشخصيات المستقلة كما يقول د. العبيدي تنأى بنفسها عن تجارب الاخرين، واكثر ما يزعجها ان تسير في اعقاب الاخرين، وهو بذلك يضع حداً للتكهنات السبقية التي تفرضها وقائع الحاضر عبر اعادتها للماضي، وفي الحقيقة ليست العبرة والاتعاظ الا غاية لمن فقد وجوده الفعلي وسطوته وكينونته ومصداقيته، ليبرر من خلالها الوسائل التي يسعى لاستخدامها في طريق اعادة اثبات وجوده من جديد حتى وان خالف بذلك كل التوقعات، وغالبية الواقع ومضامين التجربة الحاضرة، فالساسة من جهة، ورجال الدين من جهة اخرى، هولاء اكثر الناس من يلجأون للتاريخ تحت شعار العبرة والاتعاظ، وفي الحقيقة هما اكثر الناس فقداناً لمصداقيتهم في الحاضر الذي نعيشه، واكثر من لايتعظون بالتاريخ.
فمع عمق الحدث التاريخي في الوجود الانساني، فانه كما سبق وان نوهنا يحمل صفتين تلازميتين وهما المكانية والزمنية، وباعتبار ان تلك الصفتين غير ثابتتين فانها توجب اتباع نهج غير الزامي في تحديد معالم الحاضر وفق نظرية التقارب والقياس بالماضي، لأنه حتى في التاريخ يتجنب اصحاب الرؤية الدينية مثلاً التعرض للحقائق التي من المفترض انها تعطي دروساً واعية لصيرورة العمل السياسي من جهة، ولصيرورة الوعظ الديني من جهة اخرى، فمع ان تلك الاحداث والوقائع واضحة كوضوح الشمس لهم وللناس، الا انهم يتغاضون عنها، ويبرورن فعلتهم بالمس بالمقدسات، ولأن الناس امام الموجبات الدينية بالذات وحتى السياسية كالقطعان تسير حيث تُساق فانها لاتكلف نفسها للسؤال عن الماورائيات التي يتطلبها الحدث نفسه، ليس لكونه حدث نادر يتكرر في تاريخه الحالي، انما لكونه حدث قد يمس بنية عقله وتفكيره وايمانه بالماضي والحاضر وتكهنه بمستقبله الاتي.
لقد علمنا اصحاب الرأي والفهم والساسة ورجال الدين ان التاريخ مدخل اساسي للفهم والادارك عبرد وائر العبرة والاتعاظ والتجربة والاستذكار، و في الوقت نفسه وضعوا حدوداً للبحث في مضامين التاريخ نفسه، باعتباره لديهم محصن من التدخلات الخارجية التي قد تشوه معالمه الحصينة والمحصنة من كل نقع او جرف او تحريف او تصحيف، وفي الواقع التاريخ الذي اقرأه علمني اشياء اخرى تماماً، مثل ان لااتوقف عند حدود معينة، في البحث والتقصي وابداء الرأي، والبيان والتفسير والتأويل، وذلك ما يجعلني بعين هولاء مارداً خارجياً ارتوي من بحر الشراة، حيث كانوا يسمون مناطق سكن اجدادي الكورد بها سابقاً، وبين ان التمس لارائي التبرير والصفح، وبين ان اؤدي دوري في صيرورة حركة التاريخ، لابد من قرار شخصي، اتحمل مسؤوليته، انه الواقع ليس الافتراضي الذي فرضه علينا الساسة ورجالات الدين، انما هو الواقع العياني الذي لم يعد هناك من مفر اما بتقبله بشكله الفوضوي النهائي والرضوخ لمنطقه اللاواعي، او السير قدماً للبحث عن معقولية الحدث التاريخي وفق مدلولاته الحدثية بين الزمنية والمكانية وتطابقها مع الشعارات العامة التي يطلقونها بين الفينة والاخرى لجذب القطيع وتحريضه.
ففي التاريخ هناك ثوابت من حيث اصرار اهل العلم والتشريع والساسة عليها منها على سبيل المثال لا الحصر، مقولة "لافرق بين عربي واعجمي " تلك المقولة الدينية التاريخية التشريعية التي جردت من حيويتها وكينونتها واسقطت بالتحيز لعنصر على حساب اخر في التاريخ، وهذا ما يتباحثه الكثيرين بين مؤيد للمقولة ورافض، في حين انها مقولة لم تأتي من الفراغ التاريخي انما هي تحصيل لوقائع متوالية ضمن الصراع السلطوي الديني منذ بداية التاريخ الاسلامي كمثال على مفهوم التاريخ يعيد نفسه، وان العبرة والاتعاظ هما من ركائز التاريخ، فالسبقية التي فرضتها مقولة " اللافرق" تقتضي بانها تخرق جدران الزمنكانية، وان ليست حصراً وحكراً على زمنية محددة، ولكنها في مهدها وأدت، وتحولت الى نزاع، استخدم الساسة ورجالات الدين كل الوسائل لتحقيق غايتهم في تهميش العناصر الاخرى في التاريخ الاسلامي، لذا نرى بان القياس بمنظور السبقية هنا لاتأتي كونها فرضت من اللاحقين كواقع، انما اتت كمعلم تاريخي وحدث تاريخي، فان كان العبرة والاتعاظ الزامية في فهم التاريخ والعمل بموجباته ومترتباته فانه من نافل القول ان تلك الاحداث يجب الغض عنها، وعدم الخوض فيها، لكونها تمس المقدسات التاريخية لاسيما الدينية، وفي الحقيقة ان اكثر ما يؤرق الانسان الواعي هو تلك المترتبات اللاواعية التي يستنبطها دون ادراك، او وعي حقيقي بماهية الحدث نفسه، واسقاطه عبر سلسلة من التداخلات المرئية الواضحة العنان، ولكن مع ذلك لابد من التأمل والتوقف على مفهوم السبقيات التي نتحدث عنها، فليس كل سبقي مأخوذ به ومتعظ به ولا حتى مستفاد منه كتجربة واستذكار لكون الواقع السياسي بمنظوره الاني الحالي سواء بفوضويته وعشوائيته ولامنطقيته لايمكن ان يكون ناجماً من قراءة وفهم صحيح للتاريخ، لكونه لايمس الانسان في كينونته وعقله فحسب، بل يهدم كل مقدساته العقلية كانت ام الروحية، وحين نرفض مقولة ان الساسة يتعظون بالتاريخ، انما يحاولون ان يجعلون الاحكام السبقية المنتقاة بدقة ومصلحوية من التاريخ كوسيلة لقيادة القطيع نقولها عن قناعة بان الاحداث التاريخية فتحت اوجه للتأويل والتفسير ضمن حركية التاريخ المقدس المتغاضي عنه، وهولاء الساسة ورجالات الدين انما يستقون منها احكامهم السبقية ويستدلون بها حين يقعون في مواقف تصعب على عقولهم المتبلدة تفسير اعمالهم العشوائية والفوضوية المؤدية الى الخراب واراقة الدماء، فمثلاً يورد ابن قتيبة الدينوري في كتابه الامامة والسياسة في الجزء الاول ،الصفحة السادسة والستين دليل تاريخي متأصل في حركية مفهوم السبقية، لكنه مازال مخفياً عن الانظار، وبعيد عن التداول بحجة التغاضي عن مابدر من الصحابة، يقول عمار بن ياسر لعائشة حين رأتها تبكي مقتل عثمان بن عفان، "امس كنت تحرضين عليه واليوم تبكينه، وفي السياق ذاته، نحن امام الحدث السبقي غير الخاضع للتأويل لكونه يمس المقدسات، تقول عائشة لطلحة ، وما لعلي يستولي على رقابنا، لا ادخل المدينة ولعلي فيها سلطان"، لعل الخوض في الامر ينتهك حرمة الحدث نفسه لكونه واضح المعالم، سواء من سياقه التاريخي او التأويلي، فالحكم السبقي على الحاضر والتكهن بالمستقبل جاء وفق مدلول حي ومباشر من التاريخ، فعائشة حكمت على علي بن ابي طالب بالفشل منذ لحظة مقتل عثمان بن عفان، وقررت التمرد على السلطة منذ الوهلة الاولى، فهل كان في فعلها ذاك نتائج محددة، التاريخ يقول لنا بان من نتائج ذلك الفهم والحكم السبقي على الحدث التاريخي "مبايعة علي بن ابي طالب" معركة الجمل ومقتل الالاف من الناس، اذا الرؤية السبقية لاتأتي من فراغ فالساسة الان، ورجال الدين الان، وكما كانوا في الامس، يستمدون لغاياتهم الروح من التاريخ ويوظفونه بحسب رؤيتهم للقطيع، وذلك ما يفرض ان الاتعاظ والعبرة من التاريخ غير ثابت على نحو محدد، انما هو اداة يستخدمها اصحاب الطموح السياسي والديني لتحقيق غاياتهم وغايات الاجندات التي يمثلونها، والا فان الحكم على اية تجربة من خلال الاستناد على ان التاريخ الدموي سيعيد نفسه قبل اعطاء الفرصة للتجربة الجديدة بالعمل وفق آلياتها التي تريد ان تثبت نفسها من خلالها، يكاد ان يكون تصحيفاً وخرقاً للمنطق العقلي والتاريخي معاً، ومن هنا لايمكن الاستناد على وقائع التاريخ بزمنيتها القديمة ومكانيتها القديمة وبيئتها المختلفة وعقليات اهلها المختلفة، واسقاطها على الحاضر الاني والتكهن بالمستقبل، لان تلك العقليات انما كانت تفكر بحدود زمنيتها ومكانيتها، لذلك لايجوز ان نعيد حكم عائشة مثلاً على السلطة لانها كانت ام المؤمنين وهي لم تحكم من منطق الحسد او الكره والبغض، انما لمصلحة المسلمين انذاك، ونأتي في عصر اخر ومكان اخر، نعيد رسم معالم السلطة وفق تقاليد ذلك الزمن، وحتى نعيد مفهوم المعارضة وفق تقاليد تلك الحقبة، فالامر ليس سيان والتاريخ هنا لايعيد نفسه الا قسراً فالعقول هي التي تكرر الحدث وفق معطيات لاتخدم الحاضر والمستقبل، ولذلك تسبق الاحكام الافعال والقرارات، وتؤدي في النهاية الى المزيد من الفوضى والخراب، وعلى ذلك الاساس فاننا نقول بأن التاريخ ذا طابع حركي مستمر لايتوقف عند معلم واحد، وسبب واحد، انما يتعداها ويعانق الافق حيث اللانهاية، ولايمكن لمن يحمل فكر ما قبل نصف قرن ان يقيس كل الاحداث على ما كان يتعامل معه اثناء تلك الحقبة، فالمتغيرات التاريخية تستوجب التعامل مع الحاضر والتكهن بالمستقبل والاعداد والتخطيط للاتي وليس اعادة فرض الماضي.
وفي مقال سابق تحت جدلية العود الابدي للتاريخ كنت قد نوهت بان احالة وقائع الان الى الماضي لايمكن ان تأتي بنتائج مطلقة يمكن تعميمها على مراحل التاريخ الحالية او اللاحقة، لأن الثوابت انما تكمن في الحدث وما آل اليه الحدث فهو متوقف على جملة امور اخرى تكاملية في صناعة الحدث، وبذلك لانستغرب الان وفي وقتنا الحاضر ان يتجه الناس الى دئراة التاريخ للتخفي وراء انتكاساتهم في الحاضر، والتوجس من مستقبلهم الاتي، فمن خلال البحث عن اواصر ترافقية وتلازمية مطابقة لوضعهم الحالي يستجدي الناس بالتاريخ ليكرر المقولة التي تكررت منذ وعي الناس مقولة التاريخ يعيد نفسه، ويستميت الناس في الاستشهاد بالتاريخ ليغطوا جزء كبير من نواقصهم الحالية، وابتعادهم عن السبيل المؤدي لتحقيق اهدافهم سواء الانية او المستقبلية وبالتالي فان اعتماد مقولة العبرة والاتعاظ لايأتي هنا بدافع التبرير لما يقومون به من افعال واعمال وتصرفات وسلوكيات، او للاتعاظ والعبرة ولا حتى للتجربة والاستذكار، انما بدوافع اخرى اقوى، كدافع اليأس الوجودي القاتم، والمتمكن من عقل ونفوس الناس بحيث لم يعد بامكانهم التصرف بالموجود الاني وبما بين ايديهم بعيداً عن الانخراط في الماضي وربطه به، حتى يعطوا لانفسهم صفة رسمية باعتبارهم ينهلون من تاريخ الامة التي يلتحفون باسمها في محافلهم الداخلية والخارجية، وبالتالي فانهم يخضعون عقولهم لمنطق دفن بدفن اصحابه، وينأون بانفسهم عن مواجهة التكهنات المستقبلية التي تضع حاضرهم تحت المجهر، وتفضح مكنونات واقعهم المزدرء بالتمام.
الامم والجماعات وحتى الشخصيات المستقلة كما يقول د. العبيدي تنأى بنفسها عن تجارب الاخرين، واكثر ما يزعجها ان تسير في اعقاب الاخرين، وهو بذلك يضع حداً للتكهنات السبقية التي تفرضها وقائع الحاضر عبر اعادتها للماضي، وفي الحقيقة ليست العبرة والاتعاظ الا غاية لمن فقد وجوده الفعلي وسطوته وكينونته ومصداقيته، ليبرر من خلالها الوسائل التي يسعى لاستخدامها في طريق اعادة اثبات وجوده من جديد حتى وان خالف بذلك كل التوقعات، وغالبية الواقع ومضامين التجربة الحاضرة، فالساسة من جهة، ورجال الدين من جهة اخرى، هولاء اكثر الناس من يلجأون للتاريخ تحت شعار العبرة والاتعاظ، وفي الحقيقة هما اكثر الناس فقداناً لمصداقيتهم في الحاضر الذي نعيشه، واكثر من لايتعظون بالتاريخ.
فمع عمق الحدث التاريخي في الوجود الانساني، فانه كما سبق وان نوهنا يحمل صفتين تلازميتين وهما المكانية والزمنية، وباعتبار ان تلك الصفتين غير ثابتتين فانها توجب اتباع نهج غير الزامي في تحديد معالم الحاضر وفق نظرية التقارب والقياس بالماضي، لأنه حتى في التاريخ يتجنب اصحاب الرؤية الدينية مثلاً التعرض للحقائق التي من المفترض انها تعطي دروساً واعية لصيرورة العمل السياسي من جهة، ولصيرورة الوعظ الديني من جهة اخرى، فمع ان تلك الاحداث والوقائع واضحة كوضوح الشمس لهم وللناس، الا انهم يتغاضون عنها، ويبرورن فعلتهم بالمس بالمقدسات، ولأن الناس امام الموجبات الدينية بالذات وحتى السياسية كالقطعان تسير حيث تُساق فانها لاتكلف نفسها للسؤال عن الماورائيات التي يتطلبها الحدث نفسه، ليس لكونه حدث نادر يتكرر في تاريخه الحالي، انما لكونه حدث قد يمس بنية عقله وتفكيره وايمانه بالماضي والحاضر وتكهنه بمستقبله الاتي.
لقد علمنا اصحاب الرأي والفهم والساسة ورجال الدين ان التاريخ مدخل اساسي للفهم والادارك عبرد وائر العبرة والاتعاظ والتجربة والاستذكار، و في الوقت نفسه وضعوا حدوداً للبحث في مضامين التاريخ نفسه، باعتباره لديهم محصن من التدخلات الخارجية التي قد تشوه معالمه الحصينة والمحصنة من كل نقع او جرف او تحريف او تصحيف، وفي الواقع التاريخ الذي اقرأه علمني اشياء اخرى تماماً، مثل ان لااتوقف عند حدود معينة، في البحث والتقصي وابداء الرأي، والبيان والتفسير والتأويل، وذلك ما يجعلني بعين هولاء مارداً خارجياً ارتوي من بحر الشراة، حيث كانوا يسمون مناطق سكن اجدادي الكورد بها سابقاً، وبين ان التمس لارائي التبرير والصفح، وبين ان اؤدي دوري في صيرورة حركة التاريخ، لابد من قرار شخصي، اتحمل مسؤوليته، انه الواقع ليس الافتراضي الذي فرضه علينا الساسة ورجالات الدين، انما هو الواقع العياني الذي لم يعد هناك من مفر اما بتقبله بشكله الفوضوي النهائي والرضوخ لمنطقه اللاواعي، او السير قدماً للبحث عن معقولية الحدث التاريخي وفق مدلولاته الحدثية بين الزمنية والمكانية وتطابقها مع الشعارات العامة التي يطلقونها بين الفينة والاخرى لجذب القطيع وتحريضه.
ففي التاريخ هناك ثوابت من حيث اصرار اهل العلم والتشريع والساسة عليها منها على سبيل المثال لا الحصر، مقولة "لافرق بين عربي واعجمي " تلك المقولة الدينية التاريخية التشريعية التي جردت من حيويتها وكينونتها واسقطت بالتحيز لعنصر على حساب اخر في التاريخ، وهذا ما يتباحثه الكثيرين بين مؤيد للمقولة ورافض، في حين انها مقولة لم تأتي من الفراغ التاريخي انما هي تحصيل لوقائع متوالية ضمن الصراع السلطوي الديني منذ بداية التاريخ الاسلامي كمثال على مفهوم التاريخ يعيد نفسه، وان العبرة والاتعاظ هما من ركائز التاريخ، فالسبقية التي فرضتها مقولة " اللافرق" تقتضي بانها تخرق جدران الزمنكانية، وان ليست حصراً وحكراً على زمنية محددة، ولكنها في مهدها وأدت، وتحولت الى نزاع، استخدم الساسة ورجالات الدين كل الوسائل لتحقيق غايتهم في تهميش العناصر الاخرى في التاريخ الاسلامي، لذا نرى بان القياس بمنظور السبقية هنا لاتأتي كونها فرضت من اللاحقين كواقع، انما اتت كمعلم تاريخي وحدث تاريخي، فان كان العبرة والاتعاظ الزامية في فهم التاريخ والعمل بموجباته ومترتباته فانه من نافل القول ان تلك الاحداث يجب الغض عنها، وعدم الخوض فيها، لكونها تمس المقدسات التاريخية لاسيما الدينية، وفي الحقيقة ان اكثر ما يؤرق الانسان الواعي هو تلك المترتبات اللاواعية التي يستنبطها دون ادراك، او وعي حقيقي بماهية الحدث نفسه، واسقاطه عبر سلسلة من التداخلات المرئية الواضحة العنان، ولكن مع ذلك لابد من التأمل والتوقف على مفهوم السبقيات التي نتحدث عنها، فليس كل سبقي مأخوذ به ومتعظ به ولا حتى مستفاد منه كتجربة واستذكار لكون الواقع السياسي بمنظوره الاني الحالي سواء بفوضويته وعشوائيته ولامنطقيته لايمكن ان يكون ناجماً من قراءة وفهم صحيح للتاريخ، لكونه لايمس الانسان في كينونته وعقله فحسب، بل يهدم كل مقدساته العقلية كانت ام الروحية، وحين نرفض مقولة ان الساسة يتعظون بالتاريخ، انما يحاولون ان يجعلون الاحكام السبقية المنتقاة بدقة ومصلحوية من التاريخ كوسيلة لقيادة القطيع نقولها عن قناعة بان الاحداث التاريخية فتحت اوجه للتأويل والتفسير ضمن حركية التاريخ المقدس المتغاضي عنه، وهولاء الساسة ورجالات الدين انما يستقون منها احكامهم السبقية ويستدلون بها حين يقعون في مواقف تصعب على عقولهم المتبلدة تفسير اعمالهم العشوائية والفوضوية المؤدية الى الخراب واراقة الدماء، فمثلاً يورد ابن قتيبة الدينوري في كتابه الامامة والسياسة في الجزء الاول ،الصفحة السادسة والستين دليل تاريخي متأصل في حركية مفهوم السبقية، لكنه مازال مخفياً عن الانظار، وبعيد عن التداول بحجة التغاضي عن مابدر من الصحابة، يقول عمار بن ياسر لعائشة حين رأتها تبكي مقتل عثمان بن عفان، "امس كنت تحرضين عليه واليوم تبكينه، وفي السياق ذاته، نحن امام الحدث السبقي غير الخاضع للتأويل لكونه يمس المقدسات، تقول عائشة لطلحة ، وما لعلي يستولي على رقابنا، لا ادخل المدينة ولعلي فيها سلطان"، لعل الخوض في الامر ينتهك حرمة الحدث نفسه لكونه واضح المعالم، سواء من سياقه التاريخي او التأويلي، فالحكم السبقي على الحاضر والتكهن بالمستقبل جاء وفق مدلول حي ومباشر من التاريخ، فعائشة حكمت على علي بن ابي طالب بالفشل منذ لحظة مقتل عثمان بن عفان، وقررت التمرد على السلطة منذ الوهلة الاولى، فهل كان في فعلها ذاك نتائج محددة، التاريخ يقول لنا بان من نتائج ذلك الفهم والحكم السبقي على الحدث التاريخي "مبايعة علي بن ابي طالب" معركة الجمل ومقتل الالاف من الناس، اذا الرؤية السبقية لاتأتي من فراغ فالساسة الان، ورجال الدين الان، وكما كانوا في الامس، يستمدون لغاياتهم الروح من التاريخ ويوظفونه بحسب رؤيتهم للقطيع، وذلك ما يفرض ان الاتعاظ والعبرة من التاريخ غير ثابت على نحو محدد، انما هو اداة يستخدمها اصحاب الطموح السياسي والديني لتحقيق غاياتهم وغايات الاجندات التي يمثلونها، والا فان الحكم على اية تجربة من خلال الاستناد على ان التاريخ الدموي سيعيد نفسه قبل اعطاء الفرصة للتجربة الجديدة بالعمل وفق آلياتها التي تريد ان تثبت نفسها من خلالها، يكاد ان يكون تصحيفاً وخرقاً للمنطق العقلي والتاريخي معاً، ومن هنا لايمكن الاستناد على وقائع التاريخ بزمنيتها القديمة ومكانيتها القديمة وبيئتها المختلفة وعقليات اهلها المختلفة، واسقاطها على الحاضر الاني والتكهن بالمستقبل، لان تلك العقليات انما كانت تفكر بحدود زمنيتها ومكانيتها، لذلك لايجوز ان نعيد حكم عائشة مثلاً على السلطة لانها كانت ام المؤمنين وهي لم تحكم من منطق الحسد او الكره والبغض، انما لمصلحة المسلمين انذاك، ونأتي في عصر اخر ومكان اخر، نعيد رسم معالم السلطة وفق تقاليد ذلك الزمن، وحتى نعيد مفهوم المعارضة وفق تقاليد تلك الحقبة، فالامر ليس سيان والتاريخ هنا لايعيد نفسه الا قسراً فالعقول هي التي تكرر الحدث وفق معطيات لاتخدم الحاضر والمستقبل، ولذلك تسبق الاحكام الافعال والقرارات، وتؤدي في النهاية الى المزيد من الفوضى والخراب، وعلى ذلك الاساس فاننا نقول بأن التاريخ ذا طابع حركي مستمر لايتوقف عند معلم واحد، وسبب واحد، انما يتعداها ويعانق الافق حيث اللانهاية، ولايمكن لمن يحمل فكر ما قبل نصف قرن ان يقيس كل الاحداث على ما كان يتعامل معه اثناء تلك الحقبة، فالمتغيرات التاريخية تستوجب التعامل مع الحاضر والتكهن بالمستقبل والاعداد والتخطيط للاتي وليس اعادة فرض الماضي.