(إلى منى أنيس)
نشرت صحف الأيام السالفة صورتَيْ عالمٍ لغوي وشاعر كلاسيكي في ساعات ما قبل الرحيل عن عالمنا، وكانا قبل هذه الساعات يرفدان الأحياءَ بصحيح القول ونافع الشعر. كانت المغادرة المحتّمة خطأ نحوياً لا يمكن تفاديه، وبيتاً من الشعر لا يُقرأ إلا بالتأسي على قوةٍ انفرط خيالُها وكلّت قدماها عن السفر والتجوال.
العالِم اللغوي مصطفى جواد بالبيجاما المخططة، عاطلاً من وظيفته (مؤدب الملك فيصل الثاني) وبحوثه عن أصل الأقوال الصحيحة؛ والشاعر أحمد الصافي النجفي، العائد من لبنان، على سرير في مستشفى، كفيفاً، هزيلاً من دون كوفيته البيضاء وعقاله الرفيع؛ فكأن الموت عاقبهما على طول الأمل وفسحة الزهو والاختيال بسهوم الفكر ورقدة الاحتضار، حين لا مشاحة من مواجهة المرآة التي نصبها أمام عيونهما، كبركة ماء صافية في قصر مهجور، تتماوج على سطحها أبعدُ الصور وتخدع ناظريهما أجملُ اللحظات.
يوم كانت محطة الإذاعة تبث في وقت ثابت من اليوم برنامج (قُل ولا تقُل)، كان سائق سيارة الأجرة - الذي التحق بالعالِم والشاعر وراء الحجب- يزوّد قاموسَه الشفاهي بما يذيعه راديو السيارة عن أصل الكلمتين (شنو) و(ليش)، ويصحح مسارَه اليومي في شوارع تحترم مهنة (الدريول) المحرَّفة عن أصلها الإنجليزي (درايفر) كما يصحح العلاقة بين الصاحب المستعمر والوطني المتظاهر ضد سلطة الأحلاف والاتفاقيات المهينة. أما الشاعر الذي عاد الى بغداد من اقامة اختيارية في لبنان فيحاول اقناع سائق سيارة الأجرة- بينما صوت أم كلثوم يصدح برباعيات الخيام- بأنّ سليمة مراد كانت ستغني الرباعيات التي ترجمها بقلمه عن الفارسية بطورٍ ثان مغاير للحن السنباطي للكلمات التي ترجمها أحمد رامي عن الانجليزية، لو أتيحت لها الفرصة. ولن يميز السائقُ المسحور هذا الفرق الدقيق بين اللحنين حتى يصحو على قول مصطفى جواد - في لحظة أعقبت الأغنية- مصححاً الفرق بين تعبيرين مجازيين ورد ذكرهما في رباعيات الخيام، ألا هما "ضيق الصدر" و"طيف الخيال" إذ بين"ضاقَ" و"طافَ" فرق كالفرق بين "الثرى" و"الثريا" و"السفينة" و"الفُلك" وهلمّ جرّا..وما أدراك ما هلمّ!
يمرّ الزمان "مرَّ السحاب" وتتقلب الأسحار انقلابَ الكؤوس في"كفّ القدر" فلا صوتٌ يأتي من "وراء الغيب" يُنبئ بمَن يحيا ومن يموت، بمَن يحكم ومن يُطرد من الحكم، من يقول ومن لا يقول، وحيث تتراءى الصورتان في مرآة الاحتضار لمئات المؤرقين على أسرّتهم الخالية من عزف الوتر ورنين الكأس، ويظهر الملاك الجميل -كما يبين في تصويرات فارسية- حاملاً ورقة مهلهلة، مؤملاً اليائسين من أخلاف النجفي وجواد بالزعم القدريّ، مبتسماً بفم أنثوي:
"لا توحِشِ النَفْسَ بخوف الظُنون
واغْنَمْ من الحاضر أمْنَ اليقين
فقد تَساوى في الثَرى راحلٌ غداً
وماضٍ من أُلوفِ السِنين".
هيهات ثبات هذا الزعم؛ فالصورتان تقتحمان المرآةَ القدرية بمئة مُحتضَر ومحتضَر، والمخاوف تكثر باختلاف السنين والظنون، وتوالي الحكم والحاكمين!
نشرت صحف الأيام السالفة صورتَيْ عالمٍ لغوي وشاعر كلاسيكي في ساعات ما قبل الرحيل عن عالمنا، وكانا قبل هذه الساعات يرفدان الأحياءَ بصحيح القول ونافع الشعر. كانت المغادرة المحتّمة خطأ نحوياً لا يمكن تفاديه، وبيتاً من الشعر لا يُقرأ إلا بالتأسي على قوةٍ انفرط خيالُها وكلّت قدماها عن السفر والتجوال.
العالِم اللغوي مصطفى جواد بالبيجاما المخططة، عاطلاً من وظيفته (مؤدب الملك فيصل الثاني) وبحوثه عن أصل الأقوال الصحيحة؛ والشاعر أحمد الصافي النجفي، العائد من لبنان، على سرير في مستشفى، كفيفاً، هزيلاً من دون كوفيته البيضاء وعقاله الرفيع؛ فكأن الموت عاقبهما على طول الأمل وفسحة الزهو والاختيال بسهوم الفكر ورقدة الاحتضار، حين لا مشاحة من مواجهة المرآة التي نصبها أمام عيونهما، كبركة ماء صافية في قصر مهجور، تتماوج على سطحها أبعدُ الصور وتخدع ناظريهما أجملُ اللحظات.
يوم كانت محطة الإذاعة تبث في وقت ثابت من اليوم برنامج (قُل ولا تقُل)، كان سائق سيارة الأجرة - الذي التحق بالعالِم والشاعر وراء الحجب- يزوّد قاموسَه الشفاهي بما يذيعه راديو السيارة عن أصل الكلمتين (شنو) و(ليش)، ويصحح مسارَه اليومي في شوارع تحترم مهنة (الدريول) المحرَّفة عن أصلها الإنجليزي (درايفر) كما يصحح العلاقة بين الصاحب المستعمر والوطني المتظاهر ضد سلطة الأحلاف والاتفاقيات المهينة. أما الشاعر الذي عاد الى بغداد من اقامة اختيارية في لبنان فيحاول اقناع سائق سيارة الأجرة- بينما صوت أم كلثوم يصدح برباعيات الخيام- بأنّ سليمة مراد كانت ستغني الرباعيات التي ترجمها بقلمه عن الفارسية بطورٍ ثان مغاير للحن السنباطي للكلمات التي ترجمها أحمد رامي عن الانجليزية، لو أتيحت لها الفرصة. ولن يميز السائقُ المسحور هذا الفرق الدقيق بين اللحنين حتى يصحو على قول مصطفى جواد - في لحظة أعقبت الأغنية- مصححاً الفرق بين تعبيرين مجازيين ورد ذكرهما في رباعيات الخيام، ألا هما "ضيق الصدر" و"طيف الخيال" إذ بين"ضاقَ" و"طافَ" فرق كالفرق بين "الثرى" و"الثريا" و"السفينة" و"الفُلك" وهلمّ جرّا..وما أدراك ما هلمّ!
يمرّ الزمان "مرَّ السحاب" وتتقلب الأسحار انقلابَ الكؤوس في"كفّ القدر" فلا صوتٌ يأتي من "وراء الغيب" يُنبئ بمَن يحيا ومن يموت، بمَن يحكم ومن يُطرد من الحكم، من يقول ومن لا يقول، وحيث تتراءى الصورتان في مرآة الاحتضار لمئات المؤرقين على أسرّتهم الخالية من عزف الوتر ورنين الكأس، ويظهر الملاك الجميل -كما يبين في تصويرات فارسية- حاملاً ورقة مهلهلة، مؤملاً اليائسين من أخلاف النجفي وجواد بالزعم القدريّ، مبتسماً بفم أنثوي:
"لا توحِشِ النَفْسَ بخوف الظُنون
واغْنَمْ من الحاضر أمْنَ اليقين
فقد تَساوى في الثَرى راحلٌ غداً
وماضٍ من أُلوفِ السِنين".
هيهات ثبات هذا الزعم؛ فالصورتان تقتحمان المرآةَ القدرية بمئة مُحتضَر ومحتضَر، والمخاوف تكثر باختلاف السنين والظنون، وتوالي الحكم والحاكمين!