يثير التفكير في علاقة الهوية بالزمن مجموعة من الأسئلة من قبيل: هل بالمستطاع تفكُّر تعرُّفِ الذاتِ إلى نفسها (son soi) في الزمن من دون فصله عنها بوصفه موضوعَ تأمُّلها؛ بدون التورّط في ما إذا كان الزمان وعاء يحتويها أيضًا؟ وحتّى إذا كان من الممكن وضع الزمان على مسافة من الذات التي تريد التعرُّف إلى نفسها فيه (الزمان) فإنّ نشاطها هذا يتمّ في الزمان ممّا يجعل من إمكان الفصل بينهما متعذِّرًا.
كما أنّ فعل التعرّف ليس واحدًا، بل متكرِّرًا (تعرّفات) بفعل حاجة الذات لمعرفة نفسها باستمرار حتّى تكُون هي هي؛ وهذا التكرار هو تامٌّ في أزمنة مختلفة؛ ومن ثمّة يُثار سؤال: كيف يكُون الموحَّد المتكرِّر (الذات) هو ذاته في توالي اختلاف الزمان من دون أن يُلغى تأثير هذا الأخير في وحدته؟ ألَا تتشكَّل ـ هنا ـ عويصة قبول الذات اختلاف الزمان من دون قبول تأثيره في وحدتها وتماسكها؟ ألَا يقتضي هذا محو أحد مظاهر الزمان الأساس، ألَا وهو التزمّن (تحوّل الموضوعات من حال إلى حال كأن يصير الطفل شيخًا)؟ لقد قُدِّمت تصوّرات فلسفيّة مُتعدِّدة في ملامسة الأسئلة العوائص أعلاه، ويمْكِن حصر ما يُنظِّمها في ثنائية (المستمِرّ / المنقطِع)؛ أي أخذ المستمِرّ غير المنقطع بعين المراعاة في بناء الهوية، وجعله الضامن لتماسكها وصلابتها. وقد كانت الأنا moi الأرضية الأساس التي يُمحَّص فوقها هذا المستمِرّ. وقد أُعطيت لهذه الأنا محتويات مختلفة وفق اختلاف منطلقات الفلاسفة المعرفيّة. وهذه المحتويات تكاد تتراوح بين الفكر (ديكارت) والوعي (هوسرل) والإرادة (لايبنتز ـ بول ريكور 1) والعمل (بول ريكور 2). ولم يكن التفكير في هذا المستمِر منفصلًا عن مسلَّمة ماثلة في وحدة الأنا، وعن افتراض كون هذه الوحدة تُعَدُّ نقطة مرجعيّة تشتغل في هيئة محور استقطاب يجذب إليه كلّ لحظات الزمان المختلفة التي تمرُّ بها الذات في حياتها.
وربّما كانت إشكالية علاقة الهوية بالزمن متأتية من افتراضين لا بدّ من مراجعتهما: افتراض وحدة الأنا، وافتراض وجود هذه الوحدة مسبقا ـ ومنذ البداية ـ بوجود الذات نفسها في العالم. نحتاج لكي نقدِّم إجابة في هذا الصدد فحص أطروحتين: أطروحة هوسرل، وأطروحة بول ريكور؛ وهما أطروحتان تقاربان المشكلة ذاتها، مع الأخذ بعين المراعاة كون الثانية تعمل على الاستفادة من الأولى. وينبغي قبل فحص الأطروحتين معًا بناء فرضية مغايرة مؤسَّسة على إثارة أسئلة أخرى، توجِّهنا نحو إمكانات بديلة تُعيد النظر في التوجّه الجوهراني ـ الظاهراتي المتعالي (هوسرل)، وفي التوجّه التأويلي الظاهراتي ـ الأنطولوجي الموجَّه بوساطة عقلانية واقعانية (بول ريكور).
وهذه الفرضية واردة على نحو متسرِّع قَلِق في مقال «الهوية والمفكَّر فيه والتجريب والاستزمان»؛ وهي قائمة على مفهوم التجريب، وقد صيغت على النحو الآتي: «إنّ التحقّقات التي هي تراكم في اتّجاه حماية الذات والسعي إلى البقاء، هي تجارب خاصّة مختلفة حسب الأفراد، وهي التي تشكِّل هويتنا، وهي تجارب ماضية مفتوحة في الحاضر على مستقبل ساعٍ إلى مزيد من تأكيدها أو تغييرها. وتظلّ على العموم هذه التجارب من التحقّقات الخاصّة بالفرد في مجموعها مرجعية تعود إليها الذات كي تتعرّف إلى نفسها في تلافي سيِّئها ومحاولة إدامة الجيِّد منها؛ فهي ـ إذن ـ نوع من التجديل بين تجربة تلافي المُميت وإدامة ما يُقوِّي البقاء.» يُعَدُّ مفهوم التجربة أساسًا ـ هنا ـ في تفكُّر الهوية، لكنّه يحتاج إلى صياغة مفهوم أعلى منه يُوضِّح كيف يعمل في إطار علاقته من جهة بالذات وهي تحضر في العالم من خلال الممارسة الحيّة الملموسة، وكيف يعمل من جهة ثانية في إطار علاقته بالذات وهي تتنفَّس كينونتها في حضن المعيش الذي يستدعي حضور الآخر والغير المختلفين. وما هذا المفهوم إلّا التّجارُب (لا التجارِب: جمع تجربة)، وتُفيد البنية الصرفيّة لهذا المفهوم التبادل بما يعنيه من تفاعل ودينامية. ومُفاد مفهوم التَّجارُب أنّه يُحوِّل مفهوم التجربة من كونها منغلِقة على نفسها، ومن تجميدها ـ بوصفها حصيلة فعل مكتملة ـ في زمان معيَّن، إلى كونها منفتحة في الزمان؛ ويتمثَّل أهم مظهر من مظاهر انفتاحها في ما تُمارسه من تأثير في بقية التجارب التي تأتي من بعدها، وفي كونها تتلقّى أيضًا بدروها من هذه التجارب اللاحقة ما يؤثِّر فيها، وما يجعلها مفهومة على نحو جديد؛ والمقصود بهذا أن التجارب الماضية لا تكفّ عن الحضور في الزمان، وعن كونها قابلة لأن تُفهم فهومًا جديدة مختلفة.
لكنّ التجارِب السابقة لا تكتفي ـ في تفاعلها مع التجربة الراهنة ـ بأن تتلقّي منها فهومًا جديدة، بل تعمل بدورها على التأثير في هذه الأخيرة عن طريق مدّها بما يجعلها أيضا مفهومة. ونصطلح على هذا التَّجارُب بين التجارب السابقة والتجربة الراهنة ـ على مستوى تبادل الفهم ـ بالجدال التَّجارُبي. وينقسم هذا الأخير إلى نوعين: تجارُب ذاتي وتجارُب بينذاتي. وينشط الأوّل على مستوى تعرّف الذات إلى نفسها من خلال حركة كينونتها المؤسَّسة على وعيها الخاصّ؛ ولا يتشكّل هذا الأخير إلا بفعل تبادل تجارب الذات المختلفة الحوار في ما بينها؛ ومحتوى هذا التبادل ماثل في الفهم: فهم ما جرى في ضوء ما يجري، والعكس وارد أيضًا. وينشط النوع الثاني (التجارب البينذاتي على مستوى علاقة تعرف الذات إلى نفسها في تبادل تجاربها مع الآخر والغير، كما هي ملموسة ومشاهدة ومصاحبة ومروية. يترتّب على ما صيغ أعلاه مفهوم جديد هو مبدأ القياس التجرباتيّ الذي يتحكَّم في صيرورة التبادل التجاربيّ (التَّجارُب). ويشتغل هذا القياس في اتّجاهين:
أ ـ اتّجاه يُراد منه قياس فهم الذات لتجربتها الراهنة بفهمها تجاربَها الخاصّة السابقة.
ب ـ اتّجاه يُراد منه قياس فهم الذات الخاصّ لتجاربها المتحاورة في ما بينها بتجارب الآخرين. ولا يُراد من هذا الاتّجاه الثاني من القياس التجرباتيّ البحث عن عناصر التلاقي بين التجربة الذاتيّة وتجارب الآخرين؛ وإنّما البحث عمّا يُشكِّل المتفرِّد المختلف؛ أي الوصول من خلال هذا القياس التجرباتيّ إلى إدراك ما يجعل تجربة الذات في الزمان مكتسبة خصوصيتها المميِّزة المختلفة عن خصوصيات الآخرين. لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه ـ هنا ـ ماثل في كيف يؤثِّر التَّجارُب والقياس التجرباتيّ في اتّصال الوعي بالزمان وتشكيله الهوية. وهذا ما سنقاربه في المقال المقبل.
أكاديمي وأديب مغربي
القدس العربي
كما أنّ فعل التعرّف ليس واحدًا، بل متكرِّرًا (تعرّفات) بفعل حاجة الذات لمعرفة نفسها باستمرار حتّى تكُون هي هي؛ وهذا التكرار هو تامٌّ في أزمنة مختلفة؛ ومن ثمّة يُثار سؤال: كيف يكُون الموحَّد المتكرِّر (الذات) هو ذاته في توالي اختلاف الزمان من دون أن يُلغى تأثير هذا الأخير في وحدته؟ ألَا تتشكَّل ـ هنا ـ عويصة قبول الذات اختلاف الزمان من دون قبول تأثيره في وحدتها وتماسكها؟ ألَا يقتضي هذا محو أحد مظاهر الزمان الأساس، ألَا وهو التزمّن (تحوّل الموضوعات من حال إلى حال كأن يصير الطفل شيخًا)؟ لقد قُدِّمت تصوّرات فلسفيّة مُتعدِّدة في ملامسة الأسئلة العوائص أعلاه، ويمْكِن حصر ما يُنظِّمها في ثنائية (المستمِرّ / المنقطِع)؛ أي أخذ المستمِرّ غير المنقطع بعين المراعاة في بناء الهوية، وجعله الضامن لتماسكها وصلابتها. وقد كانت الأنا moi الأرضية الأساس التي يُمحَّص فوقها هذا المستمِرّ. وقد أُعطيت لهذه الأنا محتويات مختلفة وفق اختلاف منطلقات الفلاسفة المعرفيّة. وهذه المحتويات تكاد تتراوح بين الفكر (ديكارت) والوعي (هوسرل) والإرادة (لايبنتز ـ بول ريكور 1) والعمل (بول ريكور 2). ولم يكن التفكير في هذا المستمِر منفصلًا عن مسلَّمة ماثلة في وحدة الأنا، وعن افتراض كون هذه الوحدة تُعَدُّ نقطة مرجعيّة تشتغل في هيئة محور استقطاب يجذب إليه كلّ لحظات الزمان المختلفة التي تمرُّ بها الذات في حياتها.
وربّما كانت إشكالية علاقة الهوية بالزمن متأتية من افتراضين لا بدّ من مراجعتهما: افتراض وحدة الأنا، وافتراض وجود هذه الوحدة مسبقا ـ ومنذ البداية ـ بوجود الذات نفسها في العالم. نحتاج لكي نقدِّم إجابة في هذا الصدد فحص أطروحتين: أطروحة هوسرل، وأطروحة بول ريكور؛ وهما أطروحتان تقاربان المشكلة ذاتها، مع الأخذ بعين المراعاة كون الثانية تعمل على الاستفادة من الأولى. وينبغي قبل فحص الأطروحتين معًا بناء فرضية مغايرة مؤسَّسة على إثارة أسئلة أخرى، توجِّهنا نحو إمكانات بديلة تُعيد النظر في التوجّه الجوهراني ـ الظاهراتي المتعالي (هوسرل)، وفي التوجّه التأويلي الظاهراتي ـ الأنطولوجي الموجَّه بوساطة عقلانية واقعانية (بول ريكور).
وهذه الفرضية واردة على نحو متسرِّع قَلِق في مقال «الهوية والمفكَّر فيه والتجريب والاستزمان»؛ وهي قائمة على مفهوم التجريب، وقد صيغت على النحو الآتي: «إنّ التحقّقات التي هي تراكم في اتّجاه حماية الذات والسعي إلى البقاء، هي تجارب خاصّة مختلفة حسب الأفراد، وهي التي تشكِّل هويتنا، وهي تجارب ماضية مفتوحة في الحاضر على مستقبل ساعٍ إلى مزيد من تأكيدها أو تغييرها. وتظلّ على العموم هذه التجارب من التحقّقات الخاصّة بالفرد في مجموعها مرجعية تعود إليها الذات كي تتعرّف إلى نفسها في تلافي سيِّئها ومحاولة إدامة الجيِّد منها؛ فهي ـ إذن ـ نوع من التجديل بين تجربة تلافي المُميت وإدامة ما يُقوِّي البقاء.» يُعَدُّ مفهوم التجربة أساسًا ـ هنا ـ في تفكُّر الهوية، لكنّه يحتاج إلى صياغة مفهوم أعلى منه يُوضِّح كيف يعمل في إطار علاقته من جهة بالذات وهي تحضر في العالم من خلال الممارسة الحيّة الملموسة، وكيف يعمل من جهة ثانية في إطار علاقته بالذات وهي تتنفَّس كينونتها في حضن المعيش الذي يستدعي حضور الآخر والغير المختلفين. وما هذا المفهوم إلّا التّجارُب (لا التجارِب: جمع تجربة)، وتُفيد البنية الصرفيّة لهذا المفهوم التبادل بما يعنيه من تفاعل ودينامية. ومُفاد مفهوم التَّجارُب أنّه يُحوِّل مفهوم التجربة من كونها منغلِقة على نفسها، ومن تجميدها ـ بوصفها حصيلة فعل مكتملة ـ في زمان معيَّن، إلى كونها منفتحة في الزمان؛ ويتمثَّل أهم مظهر من مظاهر انفتاحها في ما تُمارسه من تأثير في بقية التجارب التي تأتي من بعدها، وفي كونها تتلقّى أيضًا بدروها من هذه التجارب اللاحقة ما يؤثِّر فيها، وما يجعلها مفهومة على نحو جديد؛ والمقصود بهذا أن التجارب الماضية لا تكفّ عن الحضور في الزمان، وعن كونها قابلة لأن تُفهم فهومًا جديدة مختلفة.
لكنّ التجارِب السابقة لا تكتفي ـ في تفاعلها مع التجربة الراهنة ـ بأن تتلقّي منها فهومًا جديدة، بل تعمل بدورها على التأثير في هذه الأخيرة عن طريق مدّها بما يجعلها أيضا مفهومة. ونصطلح على هذا التَّجارُب بين التجارب السابقة والتجربة الراهنة ـ على مستوى تبادل الفهم ـ بالجدال التَّجارُبي. وينقسم هذا الأخير إلى نوعين: تجارُب ذاتي وتجارُب بينذاتي. وينشط الأوّل على مستوى تعرّف الذات إلى نفسها من خلال حركة كينونتها المؤسَّسة على وعيها الخاصّ؛ ولا يتشكّل هذا الأخير إلا بفعل تبادل تجارب الذات المختلفة الحوار في ما بينها؛ ومحتوى هذا التبادل ماثل في الفهم: فهم ما جرى في ضوء ما يجري، والعكس وارد أيضًا. وينشط النوع الثاني (التجارب البينذاتي على مستوى علاقة تعرف الذات إلى نفسها في تبادل تجاربها مع الآخر والغير، كما هي ملموسة ومشاهدة ومصاحبة ومروية. يترتّب على ما صيغ أعلاه مفهوم جديد هو مبدأ القياس التجرباتيّ الذي يتحكَّم في صيرورة التبادل التجاربيّ (التَّجارُب). ويشتغل هذا القياس في اتّجاهين:
أ ـ اتّجاه يُراد منه قياس فهم الذات لتجربتها الراهنة بفهمها تجاربَها الخاصّة السابقة.
ب ـ اتّجاه يُراد منه قياس فهم الذات الخاصّ لتجاربها المتحاورة في ما بينها بتجارب الآخرين. ولا يُراد من هذا الاتّجاه الثاني من القياس التجرباتيّ البحث عن عناصر التلاقي بين التجربة الذاتيّة وتجارب الآخرين؛ وإنّما البحث عمّا يُشكِّل المتفرِّد المختلف؛ أي الوصول من خلال هذا القياس التجرباتيّ إلى إدراك ما يجعل تجربة الذات في الزمان مكتسبة خصوصيتها المميِّزة المختلفة عن خصوصيات الآخرين. لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه ـ هنا ـ ماثل في كيف يؤثِّر التَّجارُب والقياس التجرباتيّ في اتّصال الوعي بالزمان وتشكيله الهوية. وهذا ما سنقاربه في المقال المقبل.
أكاديمي وأديب مغربي
القدس العربي