سأترك مرحليًا ممارسة الشغب على الليالي حتّى أرفع الالتباس الحاصل في السجال حول التخييل التاريخيّ، وحتّى أنبّه إلى ما قد قد ينجم عن تناول غير محترس لهذا المفهوم من مزالق.
وأحبّ أن أُذكِّر بأنّني نشرت مقالات أربع متتابعة في الموضوع في جريدة «القدس العربي»، وهي كالآتي: «أصل التخييل والتمثيل التاريخيّ»، و»الأدب والرواية التاريخيّة»، و»الرواية التاريخيّة والذاكرة الجماعيّة»، و»هل للكتابة التاريخيّة ذاكرة؟». وتقتضي مساجلة الموضوع التساؤل: عمّ المقصود أوّلًا بالتخييل، وما الذي يترتّب على التدقيق في فهمه من نتائج، على مستوى توظيفه في نظرية الأدب؟ ثمّ التساؤل عن انبثاق التخييل التاريخيّ ؟ وفي أيّ زمان صار مطروحًا بحدّة؟ ويرتبط هذا السؤال بالوعييْن: النصّيّ والتاريخيّ. ثمّ لا بدّ من التساؤل عن الفرق بين التخييل التاريخيّ والخيال التاريخيّ؟ وربّما اقتضى هذا الأمر إعادة النظر في اعتماد مفهوم التخييل مقولة تُصنّف بموَجبها النصوص.
ينبغي أن نشدِّد على أنّ تحديد مفهوم التخييل، لا الخيال، ظلّ متّصلًا في النظرية الأدبيّة بالفهم الأرسطي لمفهوم التمثيل، وبربطه بالحبكة، وإن كان هذا الربط غير دقيق، لأنّ التمثيل عند أرسطو يشمل جميع الفنون، بما فيها غير القوليّة (النحت- الموسيقى مثلا).
وعلى العموم يُمْكِن فهم التخييل بوصفه فعلًا يرتبط بالإيجاد والخلق (كما هما مُتضمنّان في أصله اللاتينيّ)؛ لكن لا يظلّ عند حدود عتبتهما؛ لأنّه يتعدّاهما إلى الصناعة الفنّيّة التي تأخذ على عاتقها تمثيل العالم، سواء أتّعلق هذا التمثيل بنقل الموضوعات أم الحالات أم الأفعال. ومن ضمن مُحدِّدات هذه الصناعة تمثيل الموضوع بطرائق مُغايرة لما جرت به العادة، بما في هذا تمثيل الوقائعيّ، وينبغي في هذا النطاق أخذ مسألة اللغة بجدّية تامّة. وإذا ما صار التاريخ مادّة للتخييل، فمعناه خضوعه لمنطق صناعة التمثيل هذه، وإدخال الإيجاد في قلب التاريخ، بما يُفضي إلى تحويره وفق منطق مُعيَّن، انطلاقًا من نظرية العوالم الممكنة في علاقتها بالحقيقة، وجعل اللغة رهانًا أساسًا في هذا السياق. ولا شكّ أنّ فهم التخييل التاريخيّ بهذا المعنى يتعارض بقوّة مع الخيال التاريخيّ الذي يعني إضفاء مسحة غير علميّة على الحدث التاريخيّ، كأسطرته بجعل قوى غير مرئيّة نُساهم في نشوئه، وهذا أمر تطفح به الكتب التاريخيّة، التي كُتبت في القديم قبل ظهور علم التاريخ في القرن التاسع عشر. وإذا ما اعترض على هذا التحديد فينبغي عدم فرض وعي مُفارق غير تاريخيّ على الوعي النصّيّ، ومُؤدّى هذا أنّ الرواية التاريخيّة نشأت داخل وعي تاريخيّ – معرفيّ يرتبط بعصر مُحدَّد (القرن التاسع عشر)، ووعي نصّيّ يعود إلى الكتّاب الذين مارسوا كتابتها، والذين ربطوا إنتاجها بالتعلّم وجعل المادّة التاريخيّة مُحبَّبة لدى النشء والناس، عن طريق تقديمها بطريقة فنّيّة؛ فمن غير المستساغ أن ننزع من هؤلاء الكتاب الذين ابتكروا الرواية التاريخيّة وعيَهم النصّيّ، وننزعهم من لحظتهم التاريخيّة، ونقول لهم كان عليكم أن تسمّوا ما صنعت أياديكم بالتخييل التاريخيّ. سيكُون أمرٌ من هذا القبيل شبيهًا بمن يقول لبديع الزمان الهمذانيّ، كان عليك أن تسمّي المقامة «قصّة قصيرة».
وممّا يُزيد التعامل مع الرواية التاريخيّة التباسًا الفهم غير الدقيق لبنائها؛ ففيها يحدث التجديل بين حبكتيْن: الحبكة الوقائعيّة (لا الواقعيّة)، والحبكة التخييليّة؛ فالثانية تشتغل بوصفها إطارًا للأولى، وهي مكمن التخييل (الصناعة الفنّيّة) والخيال يكُون مادّتها وحسب. والمقصود بهذا خلق نوع من التناغم بين شرط الكلّي (الذي هو مطلب الأدب والتفريد على مستوى التمثيل) والجزئي الذي هو مطلب التاريخ (أرسطو)؛ بحيث تقوم الحبكة التخييليّة بتوفير شرط الكلّي الذي يستوعب الجزئي التاريخيّ، بوصفه حدثًا معروفًا مُدوَّنًا في السجلّات وكتب التاريخ. ما المقصود بالحبكة التخييليّة إذن؟ يراد بها أن كاتب الرواية التاريخيّة يصطنع قصّة خاصّة تكُون شخصياتها عاديّة، ولها اتّصال بالسلطة التاريخيّة في زمانها، وغالبًا ما تكُون هذه القصّة قصّة حبّ، وتُستخدم كي تجعل التاريخ (الحدث الأساس) ينفذ منها إلى مجال الحكي، كما هو الحال بالنسبة إلى رواية «آمبر» لكاتلين ونصور، التي تتناول عهد شارل الثاني؛ فآمبر تُعَدُّ شخصية عاديّة جدًّا. وتَتَبُّعُ حياتها من البادية إلى بلاط الملك هو ما يُعطي للتخييل كُلَّه، ويضمن له الانسجام، أمّا الحدث التاريخيّ، خاصّة استعادة الملكية سلطتَها بعد فقدانها فيخترق حياة الشخصية ليصير حضوره مُبرَّرًا على مستوى التحبيك. لكن ما لا يُمْكِن التلاعب به في هذا التجديل بين الحبكة التخييليّة (حياة آمبر) والحبكة الوقائعيّة (عودة الملكية) هو مصداقية الحدث التاريخيّ، وشرط الحقيقة في صياغته. وإذا ما تعرّض هذا الشرط إلى الانتهاك تنتفي الحبكة الوقائعيّة، ونكُون أمام حبكة تخييليّة تتعارض مع ما هو موجود في المصادر والوثائق. وهذا الانتهاك هو ما يُؤسِّس الحكي التاريخيّ التخييليّ، وهو غير الرواية التاريخيّة.
يُضاف إلى كل ما قيل أعلاه أنّ اللغة حاسمة في الحكي التاريخيّ التخييليّ، الذي يُسكن التاريخَ في لغتنا المعاصرة؛ أي في لغة غير لغته. ومعنى هذا أنّنا نُعطي للشخصية لساننا، ونجعلها تتكلّم وفق مقتضياته الأيديولوجية، خاصّة حين تُكتب الرواية بضمير المُتكلِّم؛ حيث تُسند إلى الشخصية التاريخيّة عواطف ومشاعر متأتّية من جهة الكلمات المُحمَّلة بالنفسي المعاصر؛ هذا فضلًا عن ارتباط الاستعمال اللسانيّ بطرائق حواريّة وجداليّة معاصرة.
لماذا اقترحنا الحكي التاريخيّ التخييليّ بدلًا من التخييل التاريخيّ؟ لأنّ اصطلاح التخييل ليس مقولة إجناسيّة تصنيفيّة، بل هو مفهوم يتّصل بما هو عمليّ (الصناعة الفنّيّة)، ولا يقتصر على هذ الفنّ الحكائيّ أو ذاك، بل يكاد يُغطّي فنونًا غير حكائيّة. وأظنّ أنّ المقولة التصنيفيّة التي هي إجناسيّة عليا مقابل المقولات الوسطى (الأنواع) تتمثّل في الحكي؛ وهي مقولة تجعل من الأنواع الحكائيّة مُميّزة من غيرها. ويكفي الاطّلاع على بعض عناوين الكتب لفهم هذا (يافيس تاديي «الحكي الشعري» مثلًا). وليس المُعوّل عليه استعمال «التخييل التاريخيّ» هنا أو هناك في الأدبيات الغربيّة، وإنمّا المُعوَّل عليه ما هو معرفيّ- منطقيّ في تصريف المفاهيم وتوظيفها. هذا فضلًا عن كون التخييل مُتأتيًا- في الحكي التاريخيّ التخييليّ- من إضفاء الروائية على الحدث التاريخيّ، بما تعنيه من تمثيل روائيّ ارتبط بمعرفي القرن العشرين، ويتمثّل في تكليم القوى المجهولة في التاريخ (ج. بسيير).
٭ أكاديمي وأديب مغربي
وأحبّ أن أُذكِّر بأنّني نشرت مقالات أربع متتابعة في الموضوع في جريدة «القدس العربي»، وهي كالآتي: «أصل التخييل والتمثيل التاريخيّ»، و»الأدب والرواية التاريخيّة»، و»الرواية التاريخيّة والذاكرة الجماعيّة»، و»هل للكتابة التاريخيّة ذاكرة؟». وتقتضي مساجلة الموضوع التساؤل: عمّ المقصود أوّلًا بالتخييل، وما الذي يترتّب على التدقيق في فهمه من نتائج، على مستوى توظيفه في نظرية الأدب؟ ثمّ التساؤل عن انبثاق التخييل التاريخيّ ؟ وفي أيّ زمان صار مطروحًا بحدّة؟ ويرتبط هذا السؤال بالوعييْن: النصّيّ والتاريخيّ. ثمّ لا بدّ من التساؤل عن الفرق بين التخييل التاريخيّ والخيال التاريخيّ؟ وربّما اقتضى هذا الأمر إعادة النظر في اعتماد مفهوم التخييل مقولة تُصنّف بموَجبها النصوص.
ينبغي أن نشدِّد على أنّ تحديد مفهوم التخييل، لا الخيال، ظلّ متّصلًا في النظرية الأدبيّة بالفهم الأرسطي لمفهوم التمثيل، وبربطه بالحبكة، وإن كان هذا الربط غير دقيق، لأنّ التمثيل عند أرسطو يشمل جميع الفنون، بما فيها غير القوليّة (النحت- الموسيقى مثلا).
وعلى العموم يُمْكِن فهم التخييل بوصفه فعلًا يرتبط بالإيجاد والخلق (كما هما مُتضمنّان في أصله اللاتينيّ)؛ لكن لا يظلّ عند حدود عتبتهما؛ لأنّه يتعدّاهما إلى الصناعة الفنّيّة التي تأخذ على عاتقها تمثيل العالم، سواء أتّعلق هذا التمثيل بنقل الموضوعات أم الحالات أم الأفعال. ومن ضمن مُحدِّدات هذه الصناعة تمثيل الموضوع بطرائق مُغايرة لما جرت به العادة، بما في هذا تمثيل الوقائعيّ، وينبغي في هذا النطاق أخذ مسألة اللغة بجدّية تامّة. وإذا ما صار التاريخ مادّة للتخييل، فمعناه خضوعه لمنطق صناعة التمثيل هذه، وإدخال الإيجاد في قلب التاريخ، بما يُفضي إلى تحويره وفق منطق مُعيَّن، انطلاقًا من نظرية العوالم الممكنة في علاقتها بالحقيقة، وجعل اللغة رهانًا أساسًا في هذا السياق. ولا شكّ أنّ فهم التخييل التاريخيّ بهذا المعنى يتعارض بقوّة مع الخيال التاريخيّ الذي يعني إضفاء مسحة غير علميّة على الحدث التاريخيّ، كأسطرته بجعل قوى غير مرئيّة نُساهم في نشوئه، وهذا أمر تطفح به الكتب التاريخيّة، التي كُتبت في القديم قبل ظهور علم التاريخ في القرن التاسع عشر. وإذا ما اعترض على هذا التحديد فينبغي عدم فرض وعي مُفارق غير تاريخيّ على الوعي النصّيّ، ومُؤدّى هذا أنّ الرواية التاريخيّة نشأت داخل وعي تاريخيّ – معرفيّ يرتبط بعصر مُحدَّد (القرن التاسع عشر)، ووعي نصّيّ يعود إلى الكتّاب الذين مارسوا كتابتها، والذين ربطوا إنتاجها بالتعلّم وجعل المادّة التاريخيّة مُحبَّبة لدى النشء والناس، عن طريق تقديمها بطريقة فنّيّة؛ فمن غير المستساغ أن ننزع من هؤلاء الكتاب الذين ابتكروا الرواية التاريخيّة وعيَهم النصّيّ، وننزعهم من لحظتهم التاريخيّة، ونقول لهم كان عليكم أن تسمّوا ما صنعت أياديكم بالتخييل التاريخيّ. سيكُون أمرٌ من هذا القبيل شبيهًا بمن يقول لبديع الزمان الهمذانيّ، كان عليك أن تسمّي المقامة «قصّة قصيرة».
وممّا يُزيد التعامل مع الرواية التاريخيّة التباسًا الفهم غير الدقيق لبنائها؛ ففيها يحدث التجديل بين حبكتيْن: الحبكة الوقائعيّة (لا الواقعيّة)، والحبكة التخييليّة؛ فالثانية تشتغل بوصفها إطارًا للأولى، وهي مكمن التخييل (الصناعة الفنّيّة) والخيال يكُون مادّتها وحسب. والمقصود بهذا خلق نوع من التناغم بين شرط الكلّي (الذي هو مطلب الأدب والتفريد على مستوى التمثيل) والجزئي الذي هو مطلب التاريخ (أرسطو)؛ بحيث تقوم الحبكة التخييليّة بتوفير شرط الكلّي الذي يستوعب الجزئي التاريخيّ، بوصفه حدثًا معروفًا مُدوَّنًا في السجلّات وكتب التاريخ. ما المقصود بالحبكة التخييليّة إذن؟ يراد بها أن كاتب الرواية التاريخيّة يصطنع قصّة خاصّة تكُون شخصياتها عاديّة، ولها اتّصال بالسلطة التاريخيّة في زمانها، وغالبًا ما تكُون هذه القصّة قصّة حبّ، وتُستخدم كي تجعل التاريخ (الحدث الأساس) ينفذ منها إلى مجال الحكي، كما هو الحال بالنسبة إلى رواية «آمبر» لكاتلين ونصور، التي تتناول عهد شارل الثاني؛ فآمبر تُعَدُّ شخصية عاديّة جدًّا. وتَتَبُّعُ حياتها من البادية إلى بلاط الملك هو ما يُعطي للتخييل كُلَّه، ويضمن له الانسجام، أمّا الحدث التاريخيّ، خاصّة استعادة الملكية سلطتَها بعد فقدانها فيخترق حياة الشخصية ليصير حضوره مُبرَّرًا على مستوى التحبيك. لكن ما لا يُمْكِن التلاعب به في هذا التجديل بين الحبكة التخييليّة (حياة آمبر) والحبكة الوقائعيّة (عودة الملكية) هو مصداقية الحدث التاريخيّ، وشرط الحقيقة في صياغته. وإذا ما تعرّض هذا الشرط إلى الانتهاك تنتفي الحبكة الوقائعيّة، ونكُون أمام حبكة تخييليّة تتعارض مع ما هو موجود في المصادر والوثائق. وهذا الانتهاك هو ما يُؤسِّس الحكي التاريخيّ التخييليّ، وهو غير الرواية التاريخيّة.
يُضاف إلى كل ما قيل أعلاه أنّ اللغة حاسمة في الحكي التاريخيّ التخييليّ، الذي يُسكن التاريخَ في لغتنا المعاصرة؛ أي في لغة غير لغته. ومعنى هذا أنّنا نُعطي للشخصية لساننا، ونجعلها تتكلّم وفق مقتضياته الأيديولوجية، خاصّة حين تُكتب الرواية بضمير المُتكلِّم؛ حيث تُسند إلى الشخصية التاريخيّة عواطف ومشاعر متأتّية من جهة الكلمات المُحمَّلة بالنفسي المعاصر؛ هذا فضلًا عن ارتباط الاستعمال اللسانيّ بطرائق حواريّة وجداليّة معاصرة.
لماذا اقترحنا الحكي التاريخيّ التخييليّ بدلًا من التخييل التاريخيّ؟ لأنّ اصطلاح التخييل ليس مقولة إجناسيّة تصنيفيّة، بل هو مفهوم يتّصل بما هو عمليّ (الصناعة الفنّيّة)، ولا يقتصر على هذ الفنّ الحكائيّ أو ذاك، بل يكاد يُغطّي فنونًا غير حكائيّة. وأظنّ أنّ المقولة التصنيفيّة التي هي إجناسيّة عليا مقابل المقولات الوسطى (الأنواع) تتمثّل في الحكي؛ وهي مقولة تجعل من الأنواع الحكائيّة مُميّزة من غيرها. ويكفي الاطّلاع على بعض عناوين الكتب لفهم هذا (يافيس تاديي «الحكي الشعري» مثلًا). وليس المُعوّل عليه استعمال «التخييل التاريخيّ» هنا أو هناك في الأدبيات الغربيّة، وإنمّا المُعوَّل عليه ما هو معرفيّ- منطقيّ في تصريف المفاهيم وتوظيفها. هذا فضلًا عن كون التخييل مُتأتيًا- في الحكي التاريخيّ التخييليّ- من إضفاء الروائية على الحدث التاريخيّ، بما تعنيه من تمثيل روائيّ ارتبط بمعرفي القرن العشرين، ويتمثّل في تكليم القوى المجهولة في التاريخ (ج. بسيير).
٭ أكاديمي وأديب مغربي