أُريد أن أُوضِّح- قبل الشروع في مُقاربة الليالي الصامتة في ألف ليلة وليلة – أنَّ الصمت الذي نتوخّى مُعالجته لا يتّصل بما هو نفسيّ (المسكوت عنه)، أو الغياب بالمفهوم الذي صاغه به جاك دريدا، أو البياض البنيويّ الذي يضطلع مفهوم الثغرة السرديّة بالإشارة إليه، وإنّما بشيء آخر يتعلّق بما هو تكوينيّ – تداوليّ. والمقصود بهذا الاصطلاح الأخير ما يفرضه السياق التداوليّ من أثر في أثناء تكوُّن فعل السرد وتناميه، بما يعنيه هذا من توجيه لعملية تأويل فعل السارد وحضوره في ثنايا عملية التسريد. وينبغي مُقاربة الصمت في الليالي في هذا النطاق، لا غيره. لكن نحتاج إلى إدخال اصطلاح آخر لتعضيد مسألة الفهم في هذا الصدد، وما هذا الاصطلاح سوى المروي فيه؛ فما المقصود به؟
يُعدُّ المروي فيه السياقَ الذي يحدث فيه فعل السرد ويُصاغ، ومن ثمّة فهو يتضمَّن السارد والمسرود له، وزمانَ السرد ومكانَه، وكلَّ الظروف المُؤثِّرة في السرد (ج. جينيت). بيد أنَّنا نحبُّ أن نُضيف إليه نعت «الحيوي» الذي يُشير إلى نقل كلّ التفاصيل الدالّة على الجريان الحيّ لفعل السرد، من توقُّفات، وردودِ أفعال، وتكيُّفاتٍ مع الوضعيات التي يجد السارد نفسه مُقحمًا فيها. ولا يُمْكِن فهم الليالي الصامتة إلّا في نطاق المروي فيه. وربّما كانت «ألف ليلة وليلة» من الحكايات القليلة التي تضمَّنت المُؤشِّرات المُتَّصلة بالمروي فيه؛ فهي تُشير إلى بعض العناصر الدالّة عليه في ثنايا السرد من قبيل التعلَّةِ في الحكي (الحكاية الإطار)، والزمانِ (الليل)، وطرفي التلقّي الداخليّيْن (المسرود لهما: شهريار ودنيا زاد)، وفعل التدوين الذي يجعل الحكايا تنتقل إلى خارج سياق تلقّيها الأصليّ التخييليّ ومكانِه (قصر شهرزاد) إلى تلقٍّ مُستقبليّ غير متناهٍ تُشكِّل الحكايات المُضافة لاحقًا وجوهًا له. وما يُهمُّ من هذا هو أنّ السارد – المُدوِّن أقصى- في الوقت الذي أثبت فيه هذه العناصر- الطابعَ الحيويَّ للمروي فيه؛ إذ تغاضى عنه، إلَّا من إشارات دالّة على السكوت المُؤقَّت المُنتظِم الذي يدلُّ على انقضاء الليل المُؤشِّر على توقّف الحكي في انتظار ليل آخر بغاية استئنافه. ويجعل هذا التغاضي الليالي وكأنّها مُتواصِلة من غير توقّف، وكأنّ شهريار لم يكن مُواجَهًا بمهام تجعله خارج القصر، ومُتفرِّغا لسماع الحكايا فقط، وكأنّ شهرزاد كانت على الدوام جاهزة للمُمارسة فعل السرد؛ فهي لا تمرض، ولا يُصيبها ما يصيب النساء من عوارض الحمل. ويكفي الوقوف عند هذه القضية الأخيرة لفهم كيف عمل السارد – المُدوِّن على محو البعد الحيويّ للمروي فيه؛ فالنصُّ يتضمّن- بعد الفراغ من نقل حكايا شهرزاد- الإشارةَ إلى أنّها أنجبت مرّات ثلاث. لكنّ السارد- الخارجيّ لا يُشير إلى ليالي الإنجاب الثلاث هذه التي تُشكِّل توقّفات في صيرورة فعل السرد المنقول عن شهرزاد؛ فالأكيد أنّها تكُون- في هذه الليالي الصامتة – في فترة ولادة وما يعقبها من نقاهة، ومن غير المنطقيّ أن تكُون جاهزة في هذه الليالي للمُمارسة طقس الحكي. كما ينبغي عدم أغفال- في هذا النطاق- تفرُّغ الخليفة للأفراح التي تُقام في المملكة فرحًا بالمواليد الأمراء. ويُضاف إلى هذا إمكان التحوّل في أولويات الانشغال لدى شهريار؛ إذ سيدخل الأولاد في مجاله، الشيء الذي يطرح مسألة المُفاضلة بين الاستماع إلى الحكايا (بعد أن تكُون شهرزاد قد صارت جاهزة لمُواصلة الحكي) والتمتّع بمُلاعبة الأولاد. ربّما كانت حكاية التاجر والعفريت تُجيب عن هذه المسألة؛ إذ يُفضِّل العفريت الاستماع إلى حكايات التجَّار على الثأر لمقتل ولده. لكن يبقى صمت السارد- المُدوِّن مع ذلك مُطبِقًا حول الحيوي المُميِّز للمروي فيه. ولا يُمْكِن تفسير هذا إلّا بعملية التشذيب التي طالت محكي شهرزاد الذي لم ينقل أبدًا في حالته الأصليّة. وقد كانت الحكايات – بالنسبة إلى السارد- الخارجيّ- أثمنَ في ضمان استمرار ذكر شهريار وسلطته من الأولاد الذين من المفروض فيهم أن يُحافظوا على استمرار السلطة فعلًا ونسبًا. هل يتعلّق الأمر بأزمة انفراط الدولة العباسيّة وتباشير انمحائها النهائيّ؟ سنؤجِّل الإجابة إلى دراسة أشمل. لكن ما يُهمّ- هنا- هو الخداع الذي مارسه السارد- المُدوِّن على فعل التلقّي طيلة قرون، والذي يتمثَّل في خلق انطباع عامّ بكون ما يرويه هو مُتّصل، وأكثر أمانة، بما في هذا استعماله مفهوم الليلة؛ حيث مزج بينها والحكاية، بينما هي في الأصل ليست سوى وحدة زمانيّة لا تعني بالضرورة – في مجموع عددها- الزمانَ الواقعيَّ للمدّة التي قضتها شهرزاد في قصر شهريار حتّى تحقّق العفو النهائيّ؛ فالليلة وحدة زمانيّة يُقاس بمُوجبها فعلُ السرد الذي مارسته شهرزاد بوصفها ساردة داخليّة. لكن تُطرح هنا مُشكلة أخرى تُعضِّد حجم الصمت الذي طال الحكايات والمروي فيه من قبل السارد المُدوِّن إلى جانب الليالي الصامتة.
ويتعلّق الأمر بالتفاوت بين زمان الليلة الواقعيّ وفعل سرد السارد – المُدوِّن؛ فزمان الليلة الواقعيّة يتكوَّن من ساعات عديدة؛ فإذا كنّا لا نعلم متى تبتدئ الليلة بالضبط فنحن نعلم على الأقلّ متى تنتهي؛ إذ يُعَدُّ طلوع الصباح (الفجر) دالا على التوقّف عن الحكي (السكوت). وإذا كان الأمر كذلك فزمان نقل ما مارسته شهرزاد من سرد في الليلة الواحدة من قِبَل السارد – المُدوِّن، لا زمان المحكي، لا يستغرق – إذا ما حُسب- مجموعةَ دقائق لا تتعدّى الساعة في أقصى الحالات.
ويقتضي هذا التفاوت أنّ فعل سرد شهرزاد – بما حفّ به من مروي فيه حيويّ- ليس هو ما نقله السارد – المُدوِّن، إذ تصرّف فيه بوساطة إعمال التلخيص. وينبغي ربط هذا الفعل بسلطة المدوِّن من جهة، وبما هو مركزيّ في التلقّي الحكائيّ السائد في عصره من جهة ثانية. فإقصاء الليالي الصامتة يُنير هذا تصرّف التلخيص في وجهيه المذكورين؛ إذ ينبغي عدم ذكر- بفعل سلطة المُدوِّن- إلّا المُتماسِك الذي يُعوِّض رمزيًّا هشاشة نظام سياسيّ في حالة انهيار، وينبغي أيضًا عدم ذكر- بفعل التلقّي السائد- ما هو حياتيّ – يوميّ (الولادات) لأنّ من شأن تصرّف من هذا القبيل أن يُشوِّش على ذاكرة سرديّة غلب عليها الاستماع الشفهيّ، لا الكتابة. ونستخلص من هذا أنّ الليالي كانت- وهي تتوسّل بالكتابة كي تُخلِّد حكاياتها- تعمل ضدّ القصد الذي يكمن خلفها، والماثل في الإمكان الذي يتوفّر لها، ألَا وهو تقبّل الاستطراد، ومن ثمّة تقبّل نقل اليوميّ.
٭ أكاديمي وأديب مغربي
يُعدُّ المروي فيه السياقَ الذي يحدث فيه فعل السرد ويُصاغ، ومن ثمّة فهو يتضمَّن السارد والمسرود له، وزمانَ السرد ومكانَه، وكلَّ الظروف المُؤثِّرة في السرد (ج. جينيت). بيد أنَّنا نحبُّ أن نُضيف إليه نعت «الحيوي» الذي يُشير إلى نقل كلّ التفاصيل الدالّة على الجريان الحيّ لفعل السرد، من توقُّفات، وردودِ أفعال، وتكيُّفاتٍ مع الوضعيات التي يجد السارد نفسه مُقحمًا فيها. ولا يُمْكِن فهم الليالي الصامتة إلّا في نطاق المروي فيه. وربّما كانت «ألف ليلة وليلة» من الحكايات القليلة التي تضمَّنت المُؤشِّرات المُتَّصلة بالمروي فيه؛ فهي تُشير إلى بعض العناصر الدالّة عليه في ثنايا السرد من قبيل التعلَّةِ في الحكي (الحكاية الإطار)، والزمانِ (الليل)، وطرفي التلقّي الداخليّيْن (المسرود لهما: شهريار ودنيا زاد)، وفعل التدوين الذي يجعل الحكايا تنتقل إلى خارج سياق تلقّيها الأصليّ التخييليّ ومكانِه (قصر شهرزاد) إلى تلقٍّ مُستقبليّ غير متناهٍ تُشكِّل الحكايات المُضافة لاحقًا وجوهًا له. وما يُهمُّ من هذا هو أنّ السارد – المُدوِّن أقصى- في الوقت الذي أثبت فيه هذه العناصر- الطابعَ الحيويَّ للمروي فيه؛ إذ تغاضى عنه، إلَّا من إشارات دالّة على السكوت المُؤقَّت المُنتظِم الذي يدلُّ على انقضاء الليل المُؤشِّر على توقّف الحكي في انتظار ليل آخر بغاية استئنافه. ويجعل هذا التغاضي الليالي وكأنّها مُتواصِلة من غير توقّف، وكأنّ شهريار لم يكن مُواجَهًا بمهام تجعله خارج القصر، ومُتفرِّغا لسماع الحكايا فقط، وكأنّ شهرزاد كانت على الدوام جاهزة للمُمارسة فعل السرد؛ فهي لا تمرض، ولا يُصيبها ما يصيب النساء من عوارض الحمل. ويكفي الوقوف عند هذه القضية الأخيرة لفهم كيف عمل السارد – المُدوِّن على محو البعد الحيويّ للمروي فيه؛ فالنصُّ يتضمّن- بعد الفراغ من نقل حكايا شهرزاد- الإشارةَ إلى أنّها أنجبت مرّات ثلاث. لكنّ السارد- الخارجيّ لا يُشير إلى ليالي الإنجاب الثلاث هذه التي تُشكِّل توقّفات في صيرورة فعل السرد المنقول عن شهرزاد؛ فالأكيد أنّها تكُون- في هذه الليالي الصامتة – في فترة ولادة وما يعقبها من نقاهة، ومن غير المنطقيّ أن تكُون جاهزة في هذه الليالي للمُمارسة طقس الحكي. كما ينبغي عدم أغفال- في هذا النطاق- تفرُّغ الخليفة للأفراح التي تُقام في المملكة فرحًا بالمواليد الأمراء. ويُضاف إلى هذا إمكان التحوّل في أولويات الانشغال لدى شهريار؛ إذ سيدخل الأولاد في مجاله، الشيء الذي يطرح مسألة المُفاضلة بين الاستماع إلى الحكايا (بعد أن تكُون شهرزاد قد صارت جاهزة لمُواصلة الحكي) والتمتّع بمُلاعبة الأولاد. ربّما كانت حكاية التاجر والعفريت تُجيب عن هذه المسألة؛ إذ يُفضِّل العفريت الاستماع إلى حكايات التجَّار على الثأر لمقتل ولده. لكن يبقى صمت السارد- المُدوِّن مع ذلك مُطبِقًا حول الحيوي المُميِّز للمروي فيه. ولا يُمْكِن تفسير هذا إلّا بعملية التشذيب التي طالت محكي شهرزاد الذي لم ينقل أبدًا في حالته الأصليّة. وقد كانت الحكايات – بالنسبة إلى السارد- الخارجيّ- أثمنَ في ضمان استمرار ذكر شهريار وسلطته من الأولاد الذين من المفروض فيهم أن يُحافظوا على استمرار السلطة فعلًا ونسبًا. هل يتعلّق الأمر بأزمة انفراط الدولة العباسيّة وتباشير انمحائها النهائيّ؟ سنؤجِّل الإجابة إلى دراسة أشمل. لكن ما يُهمّ- هنا- هو الخداع الذي مارسه السارد- المُدوِّن على فعل التلقّي طيلة قرون، والذي يتمثَّل في خلق انطباع عامّ بكون ما يرويه هو مُتّصل، وأكثر أمانة، بما في هذا استعماله مفهوم الليلة؛ حيث مزج بينها والحكاية، بينما هي في الأصل ليست سوى وحدة زمانيّة لا تعني بالضرورة – في مجموع عددها- الزمانَ الواقعيَّ للمدّة التي قضتها شهرزاد في قصر شهريار حتّى تحقّق العفو النهائيّ؛ فالليلة وحدة زمانيّة يُقاس بمُوجبها فعلُ السرد الذي مارسته شهرزاد بوصفها ساردة داخليّة. لكن تُطرح هنا مُشكلة أخرى تُعضِّد حجم الصمت الذي طال الحكايات والمروي فيه من قبل السارد المُدوِّن إلى جانب الليالي الصامتة.
ويتعلّق الأمر بالتفاوت بين زمان الليلة الواقعيّ وفعل سرد السارد – المُدوِّن؛ فزمان الليلة الواقعيّة يتكوَّن من ساعات عديدة؛ فإذا كنّا لا نعلم متى تبتدئ الليلة بالضبط فنحن نعلم على الأقلّ متى تنتهي؛ إذ يُعَدُّ طلوع الصباح (الفجر) دالا على التوقّف عن الحكي (السكوت). وإذا كان الأمر كذلك فزمان نقل ما مارسته شهرزاد من سرد في الليلة الواحدة من قِبَل السارد – المُدوِّن، لا زمان المحكي، لا يستغرق – إذا ما حُسب- مجموعةَ دقائق لا تتعدّى الساعة في أقصى الحالات.
ويقتضي هذا التفاوت أنّ فعل سرد شهرزاد – بما حفّ به من مروي فيه حيويّ- ليس هو ما نقله السارد – المُدوِّن، إذ تصرّف فيه بوساطة إعمال التلخيص. وينبغي ربط هذا الفعل بسلطة المدوِّن من جهة، وبما هو مركزيّ في التلقّي الحكائيّ السائد في عصره من جهة ثانية. فإقصاء الليالي الصامتة يُنير هذا تصرّف التلخيص في وجهيه المذكورين؛ إذ ينبغي عدم ذكر- بفعل سلطة المُدوِّن- إلّا المُتماسِك الذي يُعوِّض رمزيًّا هشاشة نظام سياسيّ في حالة انهيار، وينبغي أيضًا عدم ذكر- بفعل التلقّي السائد- ما هو حياتيّ – يوميّ (الولادات) لأنّ من شأن تصرّف من هذا القبيل أن يُشوِّش على ذاكرة سرديّة غلب عليها الاستماع الشفهيّ، لا الكتابة. ونستخلص من هذا أنّ الليالي كانت- وهي تتوسّل بالكتابة كي تُخلِّد حكاياتها- تعمل ضدّ القصد الذي يكمن خلفها، والماثل في الإمكان الذي يتوفّر لها، ألَا وهو تقبّل الاستطراد، ومن ثمّة تقبّل نقل اليوميّ.
٭ أكاديمي وأديب مغربي