اتصلت بالأستاذ نجيب محفوظ على هاتف منزله لأخذ رأيه في تحقيق لمجلة "المصور".
كان هذا التحقيق عقب اغتيال الرئيس السادات في حادث المنصة، وكنت قد أمضيت بضعة أشهر متمرنًا في المجلة التي يرأس تحريرها الأستاذ مكرم محمد أحمد، وصممت على أن أعمل في المجال الثقافي، ووافق بعد أن لاحظ إصراري الشديد والقاطع، وألحقني بالعمل في القسم الثقافي تحت رئاسة الأستاذ يوسف القعيد.
حدد لي الأستاذ نجيب محفوظ موعدًا في التاسعة من صباح ذلك اليوم البعيد، أما المكان فهو مقهى ريش.
ولم أذهب في التاسعة بالضبط، أنا كائن ليلي، وكنت أسهر غالبًا إلى حدود الفجر، وأظن أنني وصلت في نحو التاسعة والنصف، وعاتبني الأستاذ نجيب على التأخير، وعلى أنني تركته ينتظر نحو نصف ساعة؛ لكنه سرعان ما تدارك خجلي وأسفي، فتحول إلى الصديق الذي عرفته طوال حياته بعد ذلك، يمنحني ثقته وأبادله الود والاحترام والتقدير.
وطلب لي فنجانًا من القهوة، ولم أكن أطيق احتساءها كثيرًا، وعندما عدت إلى مقر المجلة في الطابق الثاني من دار الهلال، سألني القعيد بسخريته اللاذعة - التي كنا نحبها نحن المتدربين الجدد في المجلة - عمن دفع ثمن قهوتي.
وظل نجيب محفوظ في تحقيقاتي وحواراتي وأخباري الصحفية ومناوشاتي التليفزيونية حتى رحيله عام 2006.. لتطول أيامي معه من زمن التعارف في سنة 1981 إلى 25 عامًا بعد ذلك، وبالتمام والكمال.
لا أذكر تحقيقات بعينها تلك التي أخذت فيها رأي نجيب محفوظ وآخرين، لكنني أذكر منها تحقيقًا عن "الصفوة والحرافيش في الثقافة المصرية" نشرته في مجلة "المصور" في صيف العام 1991، والذي جمعت فيه آراء أربعة وعشرين مثقفًا مصريًا من نجيب محفوظ حتى إبراهيم عيسى الأديب الشاب في ذلك الوقت؛ لأنني عندما اتصلت بالدكتور يوسف إدريس لأخذ رأيه، رفض وعاتبني لأنني في تحقيق سابق وضعت اسم نجيب محفوظ قبل اسمه.
كنت في حيرة من أمري عند صياغة الآراء التي أحصل عليها لتحقيقاتي الصحفية من كبار الكتاب، والحيرة كانت أن أضع رأي مَنْ قبل مَنْ؟!.. عندما يتحدث لي يحيى حقي و نجيب محفوظ ويوسف إدريس ولويس عوض وألفريد فرج وزكي نجيب محمود وفتحي غانم.. أضع مَنْ قبل مَنْ؟!.. وهذه الحيرة عندي تفسر الكثير من العلاقة الملتبسة والمعقدة بين المبدعين الكبار.
فلويس عوض عندما حدثت مشكلة لأحد الكتاب الكبار - والذي كان في حاجة إلى تضامن ثقافي - رفض الكتابة والدفاع؛ لأنه لم يقف معه في أزمة كتاب "مقدمة في فقه اللغة العربية" مثلًا.. أما الدكتور يوسف إدريس فقد كان شديد الحساسية، وحياته على قلق كأن الريح تحته، كما قال المتنبي يومًا، وقد يكون لديه ظنون بانحياز نقدي حاد ل نجيب محفوظ على حسابه، ثم إنه كان مرتابًا من تأييد محفوظ مبادرة السلام المصرية - الإسرائيلية، وهو ما أظهره من شكوى علنية بعدما فاز محفوظ ب جائزة نوبل في الأدب عام 1988، وكان إدريس يرى أنه يستحقها أكثر منه، وغضب بشدة، وكتب أستاذنا الناقد رجاء النقاش، وهو صديق للاثنين، مقال "الغاضب الوحيد" في مجلة "المصور" في عددها الخاص عن فوز محفوظ بنوبل.
ولم يكن إدريس محقًا في ثورته على نجيب محفوظ بسبب جائزة نوبل ، لقد سعد الشعب المصري والعربي كله من أجل حصول كاتبنا الكبير على جائزة نوبل بسبب كفاءته وتفرده وجرأته الإبداعية وتجديده، وهو العلامة الإبداعية الأكثر تميزًا في العالم العربي.
لكن إدريس كان محقًا في شيء واحد فقط؛ عندما قال إن "نوبل" لن تأتي لعربي مرة أخرى قبل ثلاثين عامًا، ومرت بالفعل الثلاثون عامًا وأكثر، و"نوبل" غائبة تمامًا عن الأدب العربي، ومع بداية الألفية الجديدة صدر كتاب في إستكهولم لأحد العاملين في مؤسسة نوبل، كشف فيه مؤلفه عن أن إدريس رفض قبل وفاته عرضًا بالحصول على الجائزة مناصفة مع كاتب إسرائيلي.
وقال لي الأستاذ نجيب محفوظ في أحد الحوارات بعد أحداث سبتمبر 2001، إن الجائزة بعد هذه الأحداث أصبحت صعبة المنال عربيًا.
أما الانحياز النقدي لمحفوظ، فإنه لم يكن شكوى إدريس وحده، ربما كان أيضًا شكوى الأستاذ إحسان عبد القدوس، الذي كتبت عنه مقالًا في عدد "الهلال" لشهر أكتوبر 1984 في إطار باب بعنوان "العمل الأول لكبار الأدباء" فكرة الأستاذ مصطفى نبيل رئيس تحرير المجلة آنذاك؛ وهو الباب الذي كان يتابعه الشاعر والصديق أحمد الشهاوي، وكان يلحّ عليَّ في استكمال الحلقات التي كشفت فيها عن القصة الأولى ليحيى حقي وفتحي غانم وعبدالرحمن الشرقاوي وغيرهم، وإصدارها في كتاب، ولم أستجب له للأسف حتى الآن.
نشرت قصة "الفستان" كأول عمل أدبي للأستاذ إحسان مع مقدمة نقدية، وفاجأني الكاتب الكبير بالاتصال على تليفون دار الهلال ليشكرني، وعندما تأسفت لأنني قد أكون كتبت شيئًا لا يرضيه وله ملاحظات عليه، نفى ذلك تمامًا، وقال إنه لا يعنيه ولا يملي على الكاتب؛ إنما هو ممتن لكل من ينظر في عمله ويهتم به ويقيمه بالإيجاب أو السلب.
وكنت قد كتبت في التقديم للقصة عن موقف النقاد من أدبه ما بين التجاهل أو الإدانة، وهو عدّني محقًا وألمح إلى استحواذ محفوظ على كل الاهتمام، وكان إحسان يشدد في الوقت نفسه على تقديره نجيب محفوظ وأدبه.. وكان كل ذلك قبل نوبل.. وللحديث بقية.
كان هذا التحقيق عقب اغتيال الرئيس السادات في حادث المنصة، وكنت قد أمضيت بضعة أشهر متمرنًا في المجلة التي يرأس تحريرها الأستاذ مكرم محمد أحمد، وصممت على أن أعمل في المجال الثقافي، ووافق بعد أن لاحظ إصراري الشديد والقاطع، وألحقني بالعمل في القسم الثقافي تحت رئاسة الأستاذ يوسف القعيد.
حدد لي الأستاذ نجيب محفوظ موعدًا في التاسعة من صباح ذلك اليوم البعيد، أما المكان فهو مقهى ريش.
ولم أذهب في التاسعة بالضبط، أنا كائن ليلي، وكنت أسهر غالبًا إلى حدود الفجر، وأظن أنني وصلت في نحو التاسعة والنصف، وعاتبني الأستاذ نجيب على التأخير، وعلى أنني تركته ينتظر نحو نصف ساعة؛ لكنه سرعان ما تدارك خجلي وأسفي، فتحول إلى الصديق الذي عرفته طوال حياته بعد ذلك، يمنحني ثقته وأبادله الود والاحترام والتقدير.
وطلب لي فنجانًا من القهوة، ولم أكن أطيق احتساءها كثيرًا، وعندما عدت إلى مقر المجلة في الطابق الثاني من دار الهلال، سألني القعيد بسخريته اللاذعة - التي كنا نحبها نحن المتدربين الجدد في المجلة - عمن دفع ثمن قهوتي.
وظل نجيب محفوظ في تحقيقاتي وحواراتي وأخباري الصحفية ومناوشاتي التليفزيونية حتى رحيله عام 2006.. لتطول أيامي معه من زمن التعارف في سنة 1981 إلى 25 عامًا بعد ذلك، وبالتمام والكمال.
لا أذكر تحقيقات بعينها تلك التي أخذت فيها رأي نجيب محفوظ وآخرين، لكنني أذكر منها تحقيقًا عن "الصفوة والحرافيش في الثقافة المصرية" نشرته في مجلة "المصور" في صيف العام 1991، والذي جمعت فيه آراء أربعة وعشرين مثقفًا مصريًا من نجيب محفوظ حتى إبراهيم عيسى الأديب الشاب في ذلك الوقت؛ لأنني عندما اتصلت بالدكتور يوسف إدريس لأخذ رأيه، رفض وعاتبني لأنني في تحقيق سابق وضعت اسم نجيب محفوظ قبل اسمه.
كنت في حيرة من أمري عند صياغة الآراء التي أحصل عليها لتحقيقاتي الصحفية من كبار الكتاب، والحيرة كانت أن أضع رأي مَنْ قبل مَنْ؟!.. عندما يتحدث لي يحيى حقي و نجيب محفوظ ويوسف إدريس ولويس عوض وألفريد فرج وزكي نجيب محمود وفتحي غانم.. أضع مَنْ قبل مَنْ؟!.. وهذه الحيرة عندي تفسر الكثير من العلاقة الملتبسة والمعقدة بين المبدعين الكبار.
فلويس عوض عندما حدثت مشكلة لأحد الكتاب الكبار - والذي كان في حاجة إلى تضامن ثقافي - رفض الكتابة والدفاع؛ لأنه لم يقف معه في أزمة كتاب "مقدمة في فقه اللغة العربية" مثلًا.. أما الدكتور يوسف إدريس فقد كان شديد الحساسية، وحياته على قلق كأن الريح تحته، كما قال المتنبي يومًا، وقد يكون لديه ظنون بانحياز نقدي حاد ل نجيب محفوظ على حسابه، ثم إنه كان مرتابًا من تأييد محفوظ مبادرة السلام المصرية - الإسرائيلية، وهو ما أظهره من شكوى علنية بعدما فاز محفوظ ب جائزة نوبل في الأدب عام 1988، وكان إدريس يرى أنه يستحقها أكثر منه، وغضب بشدة، وكتب أستاذنا الناقد رجاء النقاش، وهو صديق للاثنين، مقال "الغاضب الوحيد" في مجلة "المصور" في عددها الخاص عن فوز محفوظ بنوبل.
ولم يكن إدريس محقًا في ثورته على نجيب محفوظ بسبب جائزة نوبل ، لقد سعد الشعب المصري والعربي كله من أجل حصول كاتبنا الكبير على جائزة نوبل بسبب كفاءته وتفرده وجرأته الإبداعية وتجديده، وهو العلامة الإبداعية الأكثر تميزًا في العالم العربي.
لكن إدريس كان محقًا في شيء واحد فقط؛ عندما قال إن "نوبل" لن تأتي لعربي مرة أخرى قبل ثلاثين عامًا، ومرت بالفعل الثلاثون عامًا وأكثر، و"نوبل" غائبة تمامًا عن الأدب العربي، ومع بداية الألفية الجديدة صدر كتاب في إستكهولم لأحد العاملين في مؤسسة نوبل، كشف فيه مؤلفه عن أن إدريس رفض قبل وفاته عرضًا بالحصول على الجائزة مناصفة مع كاتب إسرائيلي.
وقال لي الأستاذ نجيب محفوظ في أحد الحوارات بعد أحداث سبتمبر 2001، إن الجائزة بعد هذه الأحداث أصبحت صعبة المنال عربيًا.
أما الانحياز النقدي لمحفوظ، فإنه لم يكن شكوى إدريس وحده، ربما كان أيضًا شكوى الأستاذ إحسان عبد القدوس، الذي كتبت عنه مقالًا في عدد "الهلال" لشهر أكتوبر 1984 في إطار باب بعنوان "العمل الأول لكبار الأدباء" فكرة الأستاذ مصطفى نبيل رئيس تحرير المجلة آنذاك؛ وهو الباب الذي كان يتابعه الشاعر والصديق أحمد الشهاوي، وكان يلحّ عليَّ في استكمال الحلقات التي كشفت فيها عن القصة الأولى ليحيى حقي وفتحي غانم وعبدالرحمن الشرقاوي وغيرهم، وإصدارها في كتاب، ولم أستجب له للأسف حتى الآن.
نشرت قصة "الفستان" كأول عمل أدبي للأستاذ إحسان مع مقدمة نقدية، وفاجأني الكاتب الكبير بالاتصال على تليفون دار الهلال ليشكرني، وعندما تأسفت لأنني قد أكون كتبت شيئًا لا يرضيه وله ملاحظات عليه، نفى ذلك تمامًا، وقال إنه لا يعنيه ولا يملي على الكاتب؛ إنما هو ممتن لكل من ينظر في عمله ويهتم به ويقيمه بالإيجاب أو السلب.
وكنت قد كتبت في التقديم للقصة عن موقف النقاد من أدبه ما بين التجاهل أو الإدانة، وهو عدّني محقًا وألمح إلى استحواذ محفوظ على كل الاهتمام، وكان إحسان يشدد في الوقت نفسه على تقديره نجيب محفوظ وأدبه.. وكان كل ذلك قبل نوبل.. وللحديث بقية.