كنت أمتلك من القدرة أو الثقة في علاقتي بالأستاذ نجيب محفوظ ما يكفي لأنقل له هواجس - أو ما فهمت أنها هواجس - لدى مبدعين كبار شعروا بانجذاب النقاد على مختلف توجهاتهم من اليمين واليسار له، تاركين - إلا قليلًا - كبار الأدباء الآخرين، فضحك ضحكته المجلجلة، وقال لي: "أصل أنا نجيب محظوظ".
وفي حوار أجريته معه قبل حصوله على جائزة نوبل بنحو عامين، اعترف بغياب النقد عن مجايليه، لكنه قال لي بجدية شديدة: "عندما تنظر ستجد أن النقد المكتوب عني أكثر من النقد الذي كتب عنهم مجتمعين، ولكن لاحظ أنه إذا كان هناك نقد لصالحي، فإن هناك أيضًا ما هو ضدي تمامًا، ولا يوجد واحد من هؤلاء تعرض للهجوم مثلي، لقد أخذت النقد من طرفيه، ويدهشني أني لست مسئولًا عن أقلام النقاد، ومثل قناطير الثناء تحملت قناطير الذم".
وبعد ثلاثة أيام من فوزه بنوبل كان نجيب محفوظ في حوار استمر خمس ساعات في دار الهلال، ونُشر بالكامل في عدد خاص من مجلة "المصور"، وكنت ممن شاركوا وأعدوا الحوار للنشر.
كانت أول جملة قالها محفوظ، ردًا على سؤال عن إحساسه عندما وصله خبر فوزه بالجائزة: "شعرت بأنني محظوظ، وأن في فوزي بالجائزة جزءًا من الحظ لا شك فيه؛ لأنه سبقني أدباء تربيت في مدارسهم، وآخر عظيم منهم هو شيخ الكتاب توفيق الحكيم، وعدم فوزه يتطلب إيضاحات كثيرة لا أملكها".
وفي ذلك الحوار ذكر نجيب محفوظ أسماء، يوسف إدريس من مصر، ومن العرب حنا مينا، والطيب صالح وعبد الوهاب البياتي، يرشحهم لنوبل، بينما يهدي جائزته ليحيى حقي.
عندما قال لي إنه "نجيب محظوظ" ربما تبسط معي كعادته، ومن باب التواضع؛ لكنه كان شديد الجدية، عندما وقف يتلقى العزاء في يوسف إدريس خارج أبواب مسجد عمر مكرم بعد صلاة الجنازة في أغسطس عام 1991.
وقفزت في ذهني على الفور فكرة إجراء حوار معه عن يوسف إدريس، خصوصًا أن الأستاذ مكرم قرر إصدار عدد خاص من "المصور" عن الراحل الكبير.
اقتربت منه، وطلبت حوارًا الآن يدور كله حول الراحل الكبير، فقال لي: "عارف شهر زاد.. اسبقني على هناك".
فأخذت سيارتي البيضاء الـ128، وأسرعت إلى فندق شهر زاد في العجوزة، القريب من بيت محفوظ، ووجدته يجلس يحتسي القهوة، لقد سبقني وانتظرني كما حدث وسيحدث في كل لقاءاتنا، لم أسبقه يومًا، دائمًا هو في انتظار ضيفه بكل تواضع.
ومن دون أن أرتب أي أسئلة، طرأ في ذهني بيت شعر أحمد شوقي في رحيل حافظ إبراهيم:
قد كنت أوثر أن تقول رثائي
يا منصف الموتى من الأحياء
وسألته عما إذا كان هذا المعنى بعيدًا عن علاقته بيوسف إدريس؟
وأبدى محفوظ حزنًا عميقًا على فقده، وقال إن الآجال بيد الله، وإن الحياة الثقافية المصرية تخسر فنانًا كبيرًا، وشدد على إيمانه بإبداعه، خصوصًا في القصة القصيرة، وقال لي إنه لم يسمح لنفسه أبدًا يومًا بالغضب من يوسف إدريس.
وانتهى الحوار بتأكيد محفوظ أن موقف إدريس منه عكس ما يعتقد كثيرون، وأنه سمع ما قاله من أنه لا يهاجمني بسبب نوبل؛ ولكنه ينتقد المسئولين عن الجائزة.
دار الحوار بأسئلة غير معدة سلفًا، وأذكر أنني عندما كنت أذهب في مهمة حوار مع الأستاذ نجيب كنت أصعد قبل اللقاء إلى أرشيف دار الهلال الذي كان واحدًا - أو نقول - أهم أرشيف صحفي في مصر وفي العالم العربي، وربما لم أشعر بذلك في حينه؛ لأنه كان متاحًا وفي المتناول، وكيف يفكر أو يخشى من العطش من يجلس على نهر.
كنت أصعد ليقول لي الزملاء في المعلومات والأرشيف ماذا تريد من ملفاتنا عن نجيب محفوظ بالذات، أنت آخر شخص يمكن أن يفعل ذلك؛ لكنني من واقع احترامي للأستاذ ولنفسي ومهنتي أراجع حتى لا أكرر سؤالًا، وكي أصوب معلومة وأراجع موقفًا، وأتأكد من تبديد أي شكوك، وأقوم بمراجعته خلال الحوار معه. خصوصًا أنني كنت أحب أن أسمع من نجيب محفوظ وليس عن نجيب محفوظ.
قبل جائزة نوبل كنت أتعمد كثيرًا في أحاديث مسجلة أو غير مسجلة أن أطرح على الأستاذ أسئلة عن موقفه من عبدالناصر وثورة يوليو ومعاهدة السلام؛ لدرجة أنه قال لي مرة على سلم كازينو قصر النيل، وشعرت بنبرات صوته الحزينة: لماذا تتعمد استفزازي يا عزيزي؟
وأذكر أنه ظل يناديني بـ"عزيزي" إلى أوقات طويلة قادمة.. وقررت عدم إزعاجه أكثر من ذلك.. هو الذي كان يخصني - كما خص غيري بالتأكيد - ببعض التقدير لشخصي المتواضع.
كانت ترد السيدة حرمه على التليفون وهو بالبيت، وتعيد تكرار اسمي فيسمع الاسم ويتناول السماعة ولا يرفض لي أي سؤال أو استفسار أو أخذ رأي أو حتى حوارًا كاملًا أو إعانة زميل حائر في تدبير لقاء معه، خصوصًا بعد نوبل.
لقد اشتكى لي في أحد الحوارات، لا أعرف إن كنت نشرتها أم لا، بأنه يشعر بالضجر بعد أن بات موظفًا لدى نوبل.
وفي حوار أجريته معه قبل حصوله على جائزة نوبل بنحو عامين، اعترف بغياب النقد عن مجايليه، لكنه قال لي بجدية شديدة: "عندما تنظر ستجد أن النقد المكتوب عني أكثر من النقد الذي كتب عنهم مجتمعين، ولكن لاحظ أنه إذا كان هناك نقد لصالحي، فإن هناك أيضًا ما هو ضدي تمامًا، ولا يوجد واحد من هؤلاء تعرض للهجوم مثلي، لقد أخذت النقد من طرفيه، ويدهشني أني لست مسئولًا عن أقلام النقاد، ومثل قناطير الثناء تحملت قناطير الذم".
وبعد ثلاثة أيام من فوزه بنوبل كان نجيب محفوظ في حوار استمر خمس ساعات في دار الهلال، ونُشر بالكامل في عدد خاص من مجلة "المصور"، وكنت ممن شاركوا وأعدوا الحوار للنشر.
كانت أول جملة قالها محفوظ، ردًا على سؤال عن إحساسه عندما وصله خبر فوزه بالجائزة: "شعرت بأنني محظوظ، وأن في فوزي بالجائزة جزءًا من الحظ لا شك فيه؛ لأنه سبقني أدباء تربيت في مدارسهم، وآخر عظيم منهم هو شيخ الكتاب توفيق الحكيم، وعدم فوزه يتطلب إيضاحات كثيرة لا أملكها".
وفي ذلك الحوار ذكر نجيب محفوظ أسماء، يوسف إدريس من مصر، ومن العرب حنا مينا، والطيب صالح وعبد الوهاب البياتي، يرشحهم لنوبل، بينما يهدي جائزته ليحيى حقي.
عندما قال لي إنه "نجيب محظوظ" ربما تبسط معي كعادته، ومن باب التواضع؛ لكنه كان شديد الجدية، عندما وقف يتلقى العزاء في يوسف إدريس خارج أبواب مسجد عمر مكرم بعد صلاة الجنازة في أغسطس عام 1991.
وقفزت في ذهني على الفور فكرة إجراء حوار معه عن يوسف إدريس، خصوصًا أن الأستاذ مكرم قرر إصدار عدد خاص من "المصور" عن الراحل الكبير.
اقتربت منه، وطلبت حوارًا الآن يدور كله حول الراحل الكبير، فقال لي: "عارف شهر زاد.. اسبقني على هناك".
فأخذت سيارتي البيضاء الـ128، وأسرعت إلى فندق شهر زاد في العجوزة، القريب من بيت محفوظ، ووجدته يجلس يحتسي القهوة، لقد سبقني وانتظرني كما حدث وسيحدث في كل لقاءاتنا، لم أسبقه يومًا، دائمًا هو في انتظار ضيفه بكل تواضع.
ومن دون أن أرتب أي أسئلة، طرأ في ذهني بيت شعر أحمد شوقي في رحيل حافظ إبراهيم:
قد كنت أوثر أن تقول رثائي
يا منصف الموتى من الأحياء
وسألته عما إذا كان هذا المعنى بعيدًا عن علاقته بيوسف إدريس؟
وأبدى محفوظ حزنًا عميقًا على فقده، وقال إن الآجال بيد الله، وإن الحياة الثقافية المصرية تخسر فنانًا كبيرًا، وشدد على إيمانه بإبداعه، خصوصًا في القصة القصيرة، وقال لي إنه لم يسمح لنفسه أبدًا يومًا بالغضب من يوسف إدريس.
وانتهى الحوار بتأكيد محفوظ أن موقف إدريس منه عكس ما يعتقد كثيرون، وأنه سمع ما قاله من أنه لا يهاجمني بسبب نوبل؛ ولكنه ينتقد المسئولين عن الجائزة.
دار الحوار بأسئلة غير معدة سلفًا، وأذكر أنني عندما كنت أذهب في مهمة حوار مع الأستاذ نجيب كنت أصعد قبل اللقاء إلى أرشيف دار الهلال الذي كان واحدًا - أو نقول - أهم أرشيف صحفي في مصر وفي العالم العربي، وربما لم أشعر بذلك في حينه؛ لأنه كان متاحًا وفي المتناول، وكيف يفكر أو يخشى من العطش من يجلس على نهر.
كنت أصعد ليقول لي الزملاء في المعلومات والأرشيف ماذا تريد من ملفاتنا عن نجيب محفوظ بالذات، أنت آخر شخص يمكن أن يفعل ذلك؛ لكنني من واقع احترامي للأستاذ ولنفسي ومهنتي أراجع حتى لا أكرر سؤالًا، وكي أصوب معلومة وأراجع موقفًا، وأتأكد من تبديد أي شكوك، وأقوم بمراجعته خلال الحوار معه. خصوصًا أنني كنت أحب أن أسمع من نجيب محفوظ وليس عن نجيب محفوظ.
قبل جائزة نوبل كنت أتعمد كثيرًا في أحاديث مسجلة أو غير مسجلة أن أطرح على الأستاذ أسئلة عن موقفه من عبدالناصر وثورة يوليو ومعاهدة السلام؛ لدرجة أنه قال لي مرة على سلم كازينو قصر النيل، وشعرت بنبرات صوته الحزينة: لماذا تتعمد استفزازي يا عزيزي؟
وأذكر أنه ظل يناديني بـ"عزيزي" إلى أوقات طويلة قادمة.. وقررت عدم إزعاجه أكثر من ذلك.. هو الذي كان يخصني - كما خص غيري بالتأكيد - ببعض التقدير لشخصي المتواضع.
كانت ترد السيدة حرمه على التليفون وهو بالبيت، وتعيد تكرار اسمي فيسمع الاسم ويتناول السماعة ولا يرفض لي أي سؤال أو استفسار أو أخذ رأي أو حتى حوارًا كاملًا أو إعانة زميل حائر في تدبير لقاء معه، خصوصًا بعد نوبل.
لقد اشتكى لي في أحد الحوارات، لا أعرف إن كنت نشرتها أم لا، بأنه يشعر بالضجر بعد أن بات موظفًا لدى نوبل.