إذ أفرغ من قراءة كتاب ضخم، أو موسوعة كبرى... فإنني أقيم ما يشبه الحفل، أكون صاحبه وحاضره وشاهده الوحيد، وها أنذا أبدأ التدوين، فلا أستطيع أن أخفي انبهاري بموسوعة الجاحظ الشهيرة «الحيوان».
منذ سنوات والنية عندي معقودة لقراءة الجاحظ، أو بمعنى أدق لدخول عالمه، وهذا شأني مع الناثرين العظام في أدبنا العربي، رسمت لنفسي التفرغ التام للإحاطة بما كتبوه، ولا أسمي إقدامي هذا إطلاعا أو قراءة، إنما أعتبره معايشة، أرافق خلالها الكاتب ليلا ونهارا، حتى لتبدأ بيني وبينه الصلة، فأكاد أصغي إلى أنفاسه من خلال السطور، أو استنتاج الوضع الذي كان يجلس عليه عند كتابتها.
هكذا أنفقت سنوات بصحبة محمد أحمد ابن إياس الحنفي المصري، في تاريخه «بدائع الزهور في وقائع الدهور»، وأبوحيان التوحيدي في سائر مؤلفاته، والشيخ الأكبر محيي الدين العربي في فتوحاته، وبديع الزمان الهمذاني، في رسائله ومقاماته، والأمير أسامة بن منقذ في سيرته الذاتية الفريدة، وأشعاره ونثره، والقائمة طويلة لمن أنفقت عمري بصحبتهم، أتعلم منهم، أقتفي آثارهم، وبقدر الإمكان أتصل بهم وأقتدي... من هولاء الجاحظ.
الكتاب منذ نحو ثلاثين عاما قرأت «البخلاء»... وأذكر أنني وقفت بمواجهته معجبا، حائرا، أما الإعجاب فلقراءة الكتاب، وغزارته، وأما الحيرة فكان محورها، هذا العدد الكبير من القصص التي محورها البخلاء، ما جعلني أوقن أن الجاحظ مبدع وليس مجرد جامع أخبار، فليس من المعقول أن يعيش هذا العدد من البخلاء في زمن متقارب، ومكان واحد تقريبا هو البصرة، من هنا فإنني أرى أن «البخلاء» شكل من أشكال الرواية، وليت الأدب العربي الحديث بدأ من حيث انتهى الأدب العربي القديم، وهذا موضوع كبير قد أخوض فيه، لكنه يحتاج إلى استعداد وأهبة وحيز، أما قصدي الآن فذلك العمل الموسوعي البديع المعروف بالحيوان.
عندما أقتني كتابا أدون عليه اسمي، وتاريخ دخوله مكتبتي، واليوم الذي انضم فيه إلى عالمي الحميم.
ما بين اقتنائي للحيوان، وشروعي في قراءته عشرون عاما.
اقتنيته في مايو سنة خمسة وسبعين.
وبدأت معايشته في يناير خمسة وتسعين.
تحقيق عبدالسلام هارون- رحمه الله- كان أحد المحققين العظام لمصادر الأدب العربي القديم، أنفق سنوات عديدة من عمره في تحقيق مؤلفات الجاحظ، منها «البيان والتبيين»، و«الحيوان» الذي نال على تحقيقه جائزة المجمع اللغوي الأولى للتحقيق العلمي سنة 1950.
والحقيقة أنه جدير بأكثر من جائزة، طبع الكتاب بأجزائه الثمانية التي تقع في نحو أربعة آلاف صفحة مطبعة مصطفى البابي الحلبي، إحدى المكتبات العريقة بالقاهرة، والتي يتهددها التوقف للأسف الآن نتيجة لصعوبات جمة، لقد خدمت تلك المكتبات الثقافية العربية خدمة جليلة بتقديم أعمدة النثر العربي، وأهمها بلا شك الجاحظ.
المؤلف
للتعريف بالمؤلفين القدامى، أفضل الاتجاه مباشرة إلى المصادر العتيقة، ومرجعي المفضل، معجم الأدباء لياقوت الحموي، المعروف بإرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، هذا المرجع الفريد الثري، والذي صدرت طبعة حديثة منه أخيراً عن دار المغرب الإسلامي، بتحقيق الدكتور إحسان عباس، وإليها سوف أستند.
في الجزء الخامس منها نقرأ ما نصه:
«عمرو بن بحر بن محبوب أبوعثمان الجاحظ مولى أبي القلمس عمرو بن قلح الكناني، ثم الفقيمي أحد النُسَّاء، قال يموت بن المزرع: الجاحظ خال أمي، وكان جد الجاحظ أسود يقال له فزارة، وكان جمّالا لعمرو بن قلح الكناني، وقال أبوالقاسم البلخي، الجاحظ كناني من أهل البصرة، وكان الجاحظ من الذكاء وسرعة الخاطر والحفظ بحيث شاع ذكره وعلا قدره واستغنى عن الوصف...».
من تلك السطور الأولى في ترجمة الجاحظ ندرك أنه جاء من أعماق الشعب، من بين العامة، تماما مثل التوحيدي، والمتنبي وغيرهما من عباقرة الأدب العربي، ولا يسعني هنا الاشارة مرة أخرى إلى ما سبق أن رصدته في موقف مؤلفي التراجم إلى أنساب أولئك العباقرة، وما يتسم به هذا الموقف من خجل أحيانا، ومن ترفع، سواء عند القدامى أو عند بعض المحدثين، حتى أن باحثا متعمقا مثل الشيخ محمود شاكر ينفي جهدا لإثبات أن والد المتنبي لم يكن سقاء، يذكر ياقوت في معجمه أن الجاحظ شوهد يبيع الخبز والسمك، وعن الجاحظ قوله الذي يحدد به مولده: «أنا أسن من أبي نواس بسنة، ولدت في أول سنة خمسين ومئة، وولد في آخرها».
مات الجاحظ سنة خمس وخمسين ومئتين في خلافة المعتز، وقد جاوز التسعين، سمع من أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري، وأخذ النحو عن الأخفش أبي الحسن وكان صديقه، وأخذ الكلام عن النظام، وتلقف الفصاحة من العرب شفاها بالمربد، وحدثت أن الجاحظ قال: نسيت كنيتي ثلاثة أيام حتى أتيت أهلي فقلت لهم: بم أكنى؟ فقالوا: بأبي عثمان.
هكذا بسبب ما في رأسه من علم نسي اسمه، يقول أحـــد معاصريه واسمه أبوهفاف: لم أر قط ولا سمعت من أحبَّ الكـــتب والعلوم أكثر من الجاحظ فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنا ما كان حتى إنـــه كـــان يشتـــري دكــاكـــين الـــوراقين، ويبيت فيها للنظر.
***
/ تمهيد إلى... الحيوان (2)
جمال الغيطاني
... ويقول إسماعيل بن إسحاق القاضي: ما دخلت عليه إلا رأيته ينظر في كتاب أو يقلب كتبا أو ينفضها.
والحق أن علاقة الجاحظ بالكتب... لم أعرف لها مثيلا في كل ما قرأ من سير للأدباء في الأدب العالمي، وفي شتى العصور، وسوف نرى ذلك عند الإبحار في موسوعة الحيوان، ويشاء القدر أن تكون نهاية الجاحظ بالكتب... إذ تساقطت فوقه فقتلته ودفن تحتها، وهكذا جاءت نهايته متسقة تماما مع حياته، وإخلاصه الشديد للكتب.
* شهرة مؤلفاته
يحصي ياقوت الحموي في معجمه مئة وثمانية وعشرين مصنفا للجاحظ، للأسف.. لم يصلنا معظمها، تُرى. أين ذهبت؟ وهل مازال بعضها يختفي في مكتبات المساجد البعيدة، أو أقبية قصور مهجورة؟ أو مكتبات أوروبا التي تمتلئ بالمخطوطات العربية؟
الزمن وحده سوف يكشف عن هذا، وما وصلنا يؤكد أن الجاحظ لم يكن من أولئك المؤلفين الذين يقومون بجمع النوادر والأخبار، إنما كان مبدعا عظيما، ومفكرا إنسانيا شاملا، كان من المعتزلة، ويبدو انحيازه واضحا لهم في كتبه، ولكن همومه الكونية، وآفاقه الإنسانية كانت فسيحة المدى.
يقول المسعودي في مروج الذهب: «وكتب الجاحظ مع انحرافه المشهور ـ يقصد انتماءه إلى المعتزلة وعداوته للشيعة وكان المسعودي شيعيا ـ تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان، لأنه نظمها أحسن نظم، ورصفها أحسن رصف، وكساها من كلامه أجزل لفظ، وكان إذا تخوف ملل القارئ وسآمة السامع خرج من جد إلى هزل، ومن حكمة بليغة إلى نادرة طريفة.
وقد شاعت كتب الجاحظ في حياته واشتهر أمرها، وتسابق الوراقون في نسخها، وكان أمرها مشهورا بين الخاص والعام».
* كتب الحيوان
يقول محمد عبدالسلام هارون محقق «الحيوان»: إن اليونانيين سبقوا العرب في التأليف عن الحيوان، ومن أشهر المؤلفات اليونانية كتاب علم الحيوان لديموقراطيس، وكتاب الحيوان لأرسطوطاليس.. وقد نقله ابن البطريق من اليونانية إلى العربية، غير أن الجاحظ أول من كتب عن الحيوان في الأدب العربي، وإن كانت ثمة محاولات قد سبقته أو عاصرته لكنها محدودة، منها كتاب الإبل لأبي حاتم السجستاني «... ـ 248 هـ» وآخر عن الإبل.. للأصمعي ولأبي عبيدة «209 هجرية» ومن كتب الخيل، كتاب لابن قتيبة «213 ـ 276 هـ» وآخر لابن الأعرابي «150 ـ 231 هـ» وأبي عبيدة، وأبي جعفر محمد بن حبيب البغدادي «توفي 245 هـ» وأبي محلم الشيباني «توفي 245 هـ».
ومن الكتب الخاصة بالغنم ما ألفه الأخفش «215 هـ» والنضر بن شميل، والأصمعي، كما ألف الأصمعي كتابا عن الوحوش، وألف ابن حاتم السجستاني كتابا عن الطير، كما وضع كتابا آخر عن النحل ومثل هذه الكتب وضعت لعدة أهداف، منها الفائدة العلمية، واللغوية فهي بمثابة مؤلفات لغوية بالدرجة الأولى، وللوهلة الأولى يبدو «حيوان» الجاحظ موسوعة علمية ـ أدبية تختص بالحيوان، وترجع مصادره إلى خمسة محاور رئيسة، أولها: القرآن الكريم وأحاديث الرسول، ثانيها: الشعر العربي، خصوصا البدوي منه، فقد تحدث العرب عن الحيوانات في أشعارهم خصوصا الإبل، والخيل، والكلاب، والنعام، والوحوش والطيور.
والمحور الثالث.. الكتب اليونانية القديمة المترجمة، وأهمها، إن لم يكن مفردها «حيوان أرسطو» الذي نقل عنه الجاحظ معلومات شتى، صحح بعضها ورد على الآخر، أو أثبت صحته.
المحور الرابع.. فلسفي، وينتمي معظمه إلى وجهة نظر المعتزلة في الحياة، أما المحور الخامس.. فهو الخبرة الشخصية، ودقة الملاحظة، وكان الجاحظ واسع الخبرة بالحياة.
منتميا إلى الشعب مع أنه كان مقربا من الوزراء والخلفاء، نجده يقول مرة: «وخبّرني من يصيد العصافير» وفي موضع آخر يقول «وشكا إليّ حواء مرة فقال: أفقرني هذا الأسود ومنعني الكسب، وذلك أن امرأتي جهلت فرمت به في ـ جونة ـ فيها أفاعي ثلاث أو أربع فابتلعتهن كلهن وأراني حية منكرة!!.
قيل لأبي العيناء: ليت شعري، أي شيء كان الجاحظ يحسن؟ فقال: ليت شعري أي شيء كان الجاحظ لا يحسن؟
لقد ألف موسوعته الفريدة تلك أثناء مرضه.. يقول الجاحظ:
«وقد صادف هذا الكتاب مني حالات تمنع من بلوغ الإرادة فيه: أول ذلك: العلة الشديدة، والثانية: قلة الأعوان، والثالثة: طول الكتاب، والرابعة: أني لو تكلفت كتابا في طوله وعدد ألفاظه ومعانيه، ثم كان من كتب العرض والجوهر، والطغم والتوليد والمداخلة، والغرائز والنحاس «يعني الطبيعة» لكان أسهل وأقصر أياما وأسرع فراغا، لأني كنت لا أفزع فيه إلى تلقيط الأشعار وتتبع الأمثال، واستخراج الآية من القرآن، والحجج من الرواية مع تفرق هذه الأمور في الكتب...».
هكذا شرح الجاحظ جهده، ومدى ما بذله في كتاب الحيوان الموسوعي، لكن.. مع بدء إبحاري عبر صفحاته... اكتشفت شيئا فشيئا، أن هذا الكتاب الضخم المعنون بالحيوان ليس عن الحيوان.
فعن أي الأمور يدور إذاً؟
منذ سنوات والنية عندي معقودة لقراءة الجاحظ، أو بمعنى أدق لدخول عالمه، وهذا شأني مع الناثرين العظام في أدبنا العربي، رسمت لنفسي التفرغ التام للإحاطة بما كتبوه، ولا أسمي إقدامي هذا إطلاعا أو قراءة، إنما أعتبره معايشة، أرافق خلالها الكاتب ليلا ونهارا، حتى لتبدأ بيني وبينه الصلة، فأكاد أصغي إلى أنفاسه من خلال السطور، أو استنتاج الوضع الذي كان يجلس عليه عند كتابتها.
هكذا أنفقت سنوات بصحبة محمد أحمد ابن إياس الحنفي المصري، في تاريخه «بدائع الزهور في وقائع الدهور»، وأبوحيان التوحيدي في سائر مؤلفاته، والشيخ الأكبر محيي الدين العربي في فتوحاته، وبديع الزمان الهمذاني، في رسائله ومقاماته، والأمير أسامة بن منقذ في سيرته الذاتية الفريدة، وأشعاره ونثره، والقائمة طويلة لمن أنفقت عمري بصحبتهم، أتعلم منهم، أقتفي آثارهم، وبقدر الإمكان أتصل بهم وأقتدي... من هولاء الجاحظ.
الكتاب منذ نحو ثلاثين عاما قرأت «البخلاء»... وأذكر أنني وقفت بمواجهته معجبا، حائرا، أما الإعجاب فلقراءة الكتاب، وغزارته، وأما الحيرة فكان محورها، هذا العدد الكبير من القصص التي محورها البخلاء، ما جعلني أوقن أن الجاحظ مبدع وليس مجرد جامع أخبار، فليس من المعقول أن يعيش هذا العدد من البخلاء في زمن متقارب، ومكان واحد تقريبا هو البصرة، من هنا فإنني أرى أن «البخلاء» شكل من أشكال الرواية، وليت الأدب العربي الحديث بدأ من حيث انتهى الأدب العربي القديم، وهذا موضوع كبير قد أخوض فيه، لكنه يحتاج إلى استعداد وأهبة وحيز، أما قصدي الآن فذلك العمل الموسوعي البديع المعروف بالحيوان.
عندما أقتني كتابا أدون عليه اسمي، وتاريخ دخوله مكتبتي، واليوم الذي انضم فيه إلى عالمي الحميم.
ما بين اقتنائي للحيوان، وشروعي في قراءته عشرون عاما.
اقتنيته في مايو سنة خمسة وسبعين.
وبدأت معايشته في يناير خمسة وتسعين.
تحقيق عبدالسلام هارون- رحمه الله- كان أحد المحققين العظام لمصادر الأدب العربي القديم، أنفق سنوات عديدة من عمره في تحقيق مؤلفات الجاحظ، منها «البيان والتبيين»، و«الحيوان» الذي نال على تحقيقه جائزة المجمع اللغوي الأولى للتحقيق العلمي سنة 1950.
والحقيقة أنه جدير بأكثر من جائزة، طبع الكتاب بأجزائه الثمانية التي تقع في نحو أربعة آلاف صفحة مطبعة مصطفى البابي الحلبي، إحدى المكتبات العريقة بالقاهرة، والتي يتهددها التوقف للأسف الآن نتيجة لصعوبات جمة، لقد خدمت تلك المكتبات الثقافية العربية خدمة جليلة بتقديم أعمدة النثر العربي، وأهمها بلا شك الجاحظ.
المؤلف
للتعريف بالمؤلفين القدامى، أفضل الاتجاه مباشرة إلى المصادر العتيقة، ومرجعي المفضل، معجم الأدباء لياقوت الحموي، المعروف بإرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، هذا المرجع الفريد الثري، والذي صدرت طبعة حديثة منه أخيراً عن دار المغرب الإسلامي، بتحقيق الدكتور إحسان عباس، وإليها سوف أستند.
في الجزء الخامس منها نقرأ ما نصه:
«عمرو بن بحر بن محبوب أبوعثمان الجاحظ مولى أبي القلمس عمرو بن قلح الكناني، ثم الفقيمي أحد النُسَّاء، قال يموت بن المزرع: الجاحظ خال أمي، وكان جد الجاحظ أسود يقال له فزارة، وكان جمّالا لعمرو بن قلح الكناني، وقال أبوالقاسم البلخي، الجاحظ كناني من أهل البصرة، وكان الجاحظ من الذكاء وسرعة الخاطر والحفظ بحيث شاع ذكره وعلا قدره واستغنى عن الوصف...».
من تلك السطور الأولى في ترجمة الجاحظ ندرك أنه جاء من أعماق الشعب، من بين العامة، تماما مثل التوحيدي، والمتنبي وغيرهما من عباقرة الأدب العربي، ولا يسعني هنا الاشارة مرة أخرى إلى ما سبق أن رصدته في موقف مؤلفي التراجم إلى أنساب أولئك العباقرة، وما يتسم به هذا الموقف من خجل أحيانا، ومن ترفع، سواء عند القدامى أو عند بعض المحدثين، حتى أن باحثا متعمقا مثل الشيخ محمود شاكر ينفي جهدا لإثبات أن والد المتنبي لم يكن سقاء، يذكر ياقوت في معجمه أن الجاحظ شوهد يبيع الخبز والسمك، وعن الجاحظ قوله الذي يحدد به مولده: «أنا أسن من أبي نواس بسنة، ولدت في أول سنة خمسين ومئة، وولد في آخرها».
مات الجاحظ سنة خمس وخمسين ومئتين في خلافة المعتز، وقد جاوز التسعين، سمع من أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري، وأخذ النحو عن الأخفش أبي الحسن وكان صديقه، وأخذ الكلام عن النظام، وتلقف الفصاحة من العرب شفاها بالمربد، وحدثت أن الجاحظ قال: نسيت كنيتي ثلاثة أيام حتى أتيت أهلي فقلت لهم: بم أكنى؟ فقالوا: بأبي عثمان.
هكذا بسبب ما في رأسه من علم نسي اسمه، يقول أحـــد معاصريه واسمه أبوهفاف: لم أر قط ولا سمعت من أحبَّ الكـــتب والعلوم أكثر من الجاحظ فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنا ما كان حتى إنـــه كـــان يشتـــري دكــاكـــين الـــوراقين، ويبيت فيها للنظر.
***
/ تمهيد إلى... الحيوان (2)
جمال الغيطاني
... ويقول إسماعيل بن إسحاق القاضي: ما دخلت عليه إلا رأيته ينظر في كتاب أو يقلب كتبا أو ينفضها.
والحق أن علاقة الجاحظ بالكتب... لم أعرف لها مثيلا في كل ما قرأ من سير للأدباء في الأدب العالمي، وفي شتى العصور، وسوف نرى ذلك عند الإبحار في موسوعة الحيوان، ويشاء القدر أن تكون نهاية الجاحظ بالكتب... إذ تساقطت فوقه فقتلته ودفن تحتها، وهكذا جاءت نهايته متسقة تماما مع حياته، وإخلاصه الشديد للكتب.
* شهرة مؤلفاته
يحصي ياقوت الحموي في معجمه مئة وثمانية وعشرين مصنفا للجاحظ، للأسف.. لم يصلنا معظمها، تُرى. أين ذهبت؟ وهل مازال بعضها يختفي في مكتبات المساجد البعيدة، أو أقبية قصور مهجورة؟ أو مكتبات أوروبا التي تمتلئ بالمخطوطات العربية؟
الزمن وحده سوف يكشف عن هذا، وما وصلنا يؤكد أن الجاحظ لم يكن من أولئك المؤلفين الذين يقومون بجمع النوادر والأخبار، إنما كان مبدعا عظيما، ومفكرا إنسانيا شاملا، كان من المعتزلة، ويبدو انحيازه واضحا لهم في كتبه، ولكن همومه الكونية، وآفاقه الإنسانية كانت فسيحة المدى.
يقول المسعودي في مروج الذهب: «وكتب الجاحظ مع انحرافه المشهور ـ يقصد انتماءه إلى المعتزلة وعداوته للشيعة وكان المسعودي شيعيا ـ تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان، لأنه نظمها أحسن نظم، ورصفها أحسن رصف، وكساها من كلامه أجزل لفظ، وكان إذا تخوف ملل القارئ وسآمة السامع خرج من جد إلى هزل، ومن حكمة بليغة إلى نادرة طريفة.
وقد شاعت كتب الجاحظ في حياته واشتهر أمرها، وتسابق الوراقون في نسخها، وكان أمرها مشهورا بين الخاص والعام».
* كتب الحيوان
يقول محمد عبدالسلام هارون محقق «الحيوان»: إن اليونانيين سبقوا العرب في التأليف عن الحيوان، ومن أشهر المؤلفات اليونانية كتاب علم الحيوان لديموقراطيس، وكتاب الحيوان لأرسطوطاليس.. وقد نقله ابن البطريق من اليونانية إلى العربية، غير أن الجاحظ أول من كتب عن الحيوان في الأدب العربي، وإن كانت ثمة محاولات قد سبقته أو عاصرته لكنها محدودة، منها كتاب الإبل لأبي حاتم السجستاني «... ـ 248 هـ» وآخر عن الإبل.. للأصمعي ولأبي عبيدة «209 هجرية» ومن كتب الخيل، كتاب لابن قتيبة «213 ـ 276 هـ» وآخر لابن الأعرابي «150 ـ 231 هـ» وأبي عبيدة، وأبي جعفر محمد بن حبيب البغدادي «توفي 245 هـ» وأبي محلم الشيباني «توفي 245 هـ».
ومن الكتب الخاصة بالغنم ما ألفه الأخفش «215 هـ» والنضر بن شميل، والأصمعي، كما ألف الأصمعي كتابا عن الوحوش، وألف ابن حاتم السجستاني كتابا عن الطير، كما وضع كتابا آخر عن النحل ومثل هذه الكتب وضعت لعدة أهداف، منها الفائدة العلمية، واللغوية فهي بمثابة مؤلفات لغوية بالدرجة الأولى، وللوهلة الأولى يبدو «حيوان» الجاحظ موسوعة علمية ـ أدبية تختص بالحيوان، وترجع مصادره إلى خمسة محاور رئيسة، أولها: القرآن الكريم وأحاديث الرسول، ثانيها: الشعر العربي، خصوصا البدوي منه، فقد تحدث العرب عن الحيوانات في أشعارهم خصوصا الإبل، والخيل، والكلاب، والنعام، والوحوش والطيور.
والمحور الثالث.. الكتب اليونانية القديمة المترجمة، وأهمها، إن لم يكن مفردها «حيوان أرسطو» الذي نقل عنه الجاحظ معلومات شتى، صحح بعضها ورد على الآخر، أو أثبت صحته.
المحور الرابع.. فلسفي، وينتمي معظمه إلى وجهة نظر المعتزلة في الحياة، أما المحور الخامس.. فهو الخبرة الشخصية، ودقة الملاحظة، وكان الجاحظ واسع الخبرة بالحياة.
منتميا إلى الشعب مع أنه كان مقربا من الوزراء والخلفاء، نجده يقول مرة: «وخبّرني من يصيد العصافير» وفي موضع آخر يقول «وشكا إليّ حواء مرة فقال: أفقرني هذا الأسود ومنعني الكسب، وذلك أن امرأتي جهلت فرمت به في ـ جونة ـ فيها أفاعي ثلاث أو أربع فابتلعتهن كلهن وأراني حية منكرة!!.
قيل لأبي العيناء: ليت شعري، أي شيء كان الجاحظ يحسن؟ فقال: ليت شعري أي شيء كان الجاحظ لا يحسن؟
لقد ألف موسوعته الفريدة تلك أثناء مرضه.. يقول الجاحظ:
«وقد صادف هذا الكتاب مني حالات تمنع من بلوغ الإرادة فيه: أول ذلك: العلة الشديدة، والثانية: قلة الأعوان، والثالثة: طول الكتاب، والرابعة: أني لو تكلفت كتابا في طوله وعدد ألفاظه ومعانيه، ثم كان من كتب العرض والجوهر، والطغم والتوليد والمداخلة، والغرائز والنحاس «يعني الطبيعة» لكان أسهل وأقصر أياما وأسرع فراغا، لأني كنت لا أفزع فيه إلى تلقيط الأشعار وتتبع الأمثال، واستخراج الآية من القرآن، والحجج من الرواية مع تفرق هذه الأمور في الكتب...».
هكذا شرح الجاحظ جهده، ومدى ما بذله في كتاب الحيوان الموسوعي، لكن.. مع بدء إبحاري عبر صفحاته... اكتشفت شيئا فشيئا، أن هذا الكتاب الضخم المعنون بالحيوان ليس عن الحيوان.
فعن أي الأمور يدور إذاً؟