الكمالية، Perfectionism اصطلاحًا، هي الرغبة في الوصول إلى الكمال في أي شيء؛ إنها الحاجة إلى أن تكون كاملًا بالفعل في عملك وفي سلوكك وفي حياتك، وكذلك أن تعتقد، أو تبدو، على أنك كذلك. وذلك لأن الكمالية نوعان: نوع إيجابي، جيد التكيف، ينشد الكمال على نحو طبيعي من خلال المثابرة والدأب واحترام الذات في مجالات الدراسة والعمل والعلاقات الاجتماعية والإبداع. ونوع سلبي أو سيءالتكيف يتسم بوجود قدرات متميزة ومهارات لديه في بعض المجالات، لكنه يفتقر أيضًا إلى الدافع والرغبة، ومن ثم فإنه قد يضع أهدافًا مرتفعة أو غير واقعية يريد تحقيقها، لكنه لا يسعى من أجل تحقيقها، وإن سعى فإنه قد يلجأ إلى أساليب ملتوية أو مضادة للمجتمع أو يستغرق في أحلام اليقظة والتهويمات البعيدة.
يكون ذوو الكمالية التكيفية الإيجابية متوجهين نحو النمو والعمل والإنجاز والتفوق، بينما يكون ذوو الكمالية السلبية متوجهين ظاهريًا نحو التفوق، وواقعيًا نحو الفشل، هكذا تمثل النزعة الكمالية لدى النمط الأول جانبًا من جوانب القوة، وتمثل لدى النمط الثاني نوعًا من الضعف الذي قد تصاحبه حالات من الخوف من الفشل، والانخفاض في التقدير للذات، والقلق والوسواس القهري واضطرابات الأكل، والعناد والمكابرة وربما أيضًا بعض الميول العدوانية والانتحارية.
في مجموعة "شوكولاتة نيتشه" لصابر رشدي يواجهنا هذان النوعان من النزعة الكمالية وعلى أنحاء شتى بداية من الاستهلال الذي يُجسِّد أكثر من غيره من نصوص هذه المجموعة هذه النزعة المتواصلة المثابرة نحو تحقيق الذات والتميز، بيد أن الكمالية الغالبة على معظم نصوص وشخصيات هذه المجموعة كانت من النوع السالب أو غير التكيفي والذي قد ينطبق عليه ذلك البيت الشهير للمتنبي:
ولم أر في عيوب الناس شيئًا .. كنقص القادرين على التمام
ونبدأ بإشارات إلى ذلك النوع الإيجابي من هذه النزعة الكمالية.
الرفيق الخيالي
يعتبر "الاستهلال القصصي" أو "القصة-الاستهلال" الموجود في مدخل هذه المجموعة أشبه بالنسق المُضْمَر أو الكنز الخفي الذي توالدت منه عوالم القصص بعد ذلك وعلى أنحاء شتى.
في هذه القصة-الاستهلال هناك ما يمكن أن نسميه "الرفيق الخفي" للكاتب، إنه تلك الشخصية غير المرئية، من جانبنا، لكنها المرئية من جانبه والتي جسَّدها في في شكل إنساني، وأجرى بعض الحوارات معها، وصار يتتبعها وينتظر حضورها. ربما كان هناك أساس واقعي لها من قراءاته ومشاهداته، ومن ثم فإنه اختلقها أو ابتكرها على عينه ثم عاش معها وعاشت هي معه أيضًا، وربما كانت هي أيضًا ذاته الداخلية، الظل الخفي الموجود فيها، رفيقه الخيالي الذي تطورت ذاته المتكلمة بعد ذلك خارجة منه.
في دراستها حول ظاهرة "الرفيق الخيالي" Imaginary Companion عام 1999 وجدت الباحثة الأمريكية مارجوري تايلور أن حوالي ثلثي الأطفال الذين درستهم كان لديهم قبل سن السابعة وربما بعدها ما يشبه الرفيق الخيالي غير المرئي، وقد كانوا يبتكرونه ويسقطون عليه أحلامهم ورغباتهم ونزعاتهم الكمالية وذلك في مواجهة بعض الاضطرابات والمشكلات الاجتماعية التي عانوا منها، وأنهم ربما كانوا يعانون من الوحدة أيضًا، لكن الأكثر أهمية هو ما وجدته هذه الباحثة من أن هؤلاء الأطفال الذين يبتكرون رفيقًا خياليًا لهم –من البشر أو الحيوانات أو الدُّمى واللِّعب- غالبًا ما يكونون أكثر ذكاء وأكثر قدرة على الانتباه والملاحظة، وأيضًا أكثر قدرة على الإبداع بعد ذلك، وأن ذلك يرجع إلى وجود نشاط خيالي كبير واضح لديهم منذ البداية.
هكذا قد ترتبط الكتابة بالأحلام والجمال والصبا والضوء والذاكرة، هكذا قال الكاتب أو السارد في ذلك الاستهلال القصصي الخاص بهذه المجموعة: "كنت أراه في منامي، صبيًا جميلًا، مغمورًا بالضياء، يجلس إلى منضدة ذات طراز عتيق، بيده ريشة ذهبية، يخط بها على الأوراق، ثم يرفع عينيه قليلا، يقرأ بنبرة خفيضة، ثم يعاود الكتابة، منتشيًا، مستغرقًا في لحظات انتباه .. كنت أحاول الوصول إلى ما يجعله سعيدًا .. دائم الابتسام".
هكذا كان ذلك الرفيق الخيالي "يجلس إلى منضدة ذات طراز عتيق" وحيث الكتابة ترتبط هنا بالجلوس إلى مناضد قديمة ترتبط بالماضي، وبالزمن، وبحالة الاستغراق في الكتابة وبالكتابات الجميلة المؤثرة لكبار الكتاب والمبدعين الذين اعتبرهم الكاتب جماعته السيكولوجية والذين يكون لأعمالهم وشخصياتهم فعل السحر على الوجدان والخيال.
هكذا تُصوِّر لنا هذه القصة الاستهلالية أو هذا الاستهلال القصصي بعض أحلام نوم السارد هنا، وكذلك بعض أحلام يقظته، كما تُصوِّر لنا كيف اختلط هذان النوعان من الأحلام معًا وامتزجا كي يشكلا هذه الرغبة الغلَّابة التوَّاقة التي كانت مسيطرة عليه من أجل فهم طبيعة الكتابة وسبر غور جوهر عمل الكاتب؛ ذلك الجوهر الذي يبدو ظاهريًا، وكأنه يرتبط بحالة من الاستمتاع والاستغراق في عالم من السحر والخيال، وحيث الكتابة ترتبط هنا بالتفتح على الحياة، بعراقة الصبا وبالجمال المُتخيَّل، وترتبط أيضًا بالزمن، ذلك الذي مضى كرونولوجيًا لكنه لم يزل باقيًا وجدانيًا وأسطوريًا، وكذلك بالتأمل والتمهل وانتظار ما قد تجود به القريحة أو الوحي، وحيث "صورة الكاتب" هنا هي صورة ذلك الفتى الذهبي الجميل الذي "يجلس هناك، مُمسِكًا بريشته الذهبية" يخط بها على الأوراق، ثم "يرفع عينيه قليلًا، يقرأ بنبرة خفيضة، ثم يعاود الكتابة مُنتشيًا، مُسْتغرِقًا في لحظات انتباه". هنا نوع من الوصف لحالة الكاتب المبدع في صورته الرومانسية، تلك الصورة التي ترتبط بالريشة الذهبية، ثم الكتابة لبضعة سطور، ثم رفع العينين إلى أعلى قليلًا، ثم النجوى أو الحديث مع النفس، أو بنوع من الحوار الداخلي مع ذلك الكاتب الآخر، الموجود هناك في الداخل "بنبرة خفيضة" .. ثم معاودة الكتابة، مرة أخرى، في حالة ما من الانتشاء؛ فقد جاءت دفقات من الوحي وتوالت هدايا وعطايا من السماء، كان لا بد من أن يكون الكاتب مُسْتغرِقًا في لحظات انتباه كي يتلقاها جيدًا، ثم يقوم بتجسيدها في عمله ووفقًا للتصور الرومانتيكي للإبداع.
وكان هناك ثمة دافع مهيمن آخر على السارد/الكاتب وهو يُحدِّثنا ويحكي لنا ما كان يدور في أعماقه؛ لقد كان يحاول أن يعرف أيضًا سر تلك السعادة التي يشعر بها ذلك الرفيق الداخلي المبدع، ما ذلك السحر الذي يهيمن عليه؟ ما تلك البهجة؟ وما ذلك الإلهام؟ كما أنه، ومثلما كان يراقب ذلك الكاتب الداخلي، والذي كان موجودًا في أعماقه، وفي وعيه، ومن خلال قراءاته عن الكُتّاب الآخرين، ومن ملاحظته ومعايشته لهم؛ فإنه قد بدأ يشعر أيضًا بأن ذلك الكاتب الخفي قد بدأ يخرج من داخله، وبدأ يتحرر من مراقبته له، بل إنه قد أصبح يحاصره بدوره، وشرع يتحول من رفيق داخلي إلى صاحب وصديق خارجي "بمرور الوقت، ظل يحاصرني، وأنا أتابعه تحت تأثير المحبة" .. ثم بدأت شخصية السارد أو ذلك الكاتب الذي سيكون؛ تنمو وترتقي وتنضج وتتطور. وتحت تأثير تلك المحبة، ومن خلال ذلك الولع؛ بدأت "الذات المتكلمة" تنمو عبر الأحلام الخاصة بالكتابة، هكذا ضاقت المسافة بين الحلم والواقع، هكذا تحولت المحاكاة الخيالية إلى محاكاة فعلية تقوم على أساس المحبة والرغبة كذلك في التفوق والإنجاز، ثم إلى محاكاة تنافسية أيضًا تباعدت، من خلالها، صورة ذلك الكاتب الذهبي الصبي الرومانتيكي القديم وشحبت، وتزايد معها ذلك الحضور الخاص للكاتب السارد أو للذات المتكلمة في القصص، ثم تحولت الذات التي كانت تقوم قديمًا بالمراقبة والرغبة في المعرفة إلى موضوع للمراقبة أيضًا. هكذا انزاحت صورة ذلك الفتى الغر الداخلي القديم وتم دفعها إلى الخارج، إلى عالم الإدراك والوعي، أصبح هو الذي يقوم بالمراقبة، وأصبح ينظر إلى صاحبه الذي نضج على نار هادئة بفعل مراقبته له، ويتبع خطاه، وقد كان مترددًا في البداية، ثم صار خائفًا عليه أن ينزلق أو يندفع في مآرب سهلة أو يسيرة، وقد كان ينظر إليه ثم "يمضي مُبتعِدًا في أروقة الخفاء" ثم ما لبثت عمليات الابتعاد والخفاء هذه أن تحولت لديه إلى عمليات خاصة من الاقتراب والتجلي والبوح، وقد استمر الأمر على هذه الحال فترة طويلة: "حتى فاجأني ذات ليلة، اقترب مني، وهمس في أذني بكلمة سحرية"، ولماذا كان رفيق الكتابة الذهبي ذلك يأتي دائمًا في أوقات الليل؟ ربما لأن الكتابة، في جوهرها، نشاط ليلي، عمل يرتبط عامة بالهدوء والعزلة والأحلام والتهويمات، وبالتأمل والعكوف على الذات، وبكل ذلك السحر، وذلك الأرق وذلك القلق وتلك المعاناة، وبكل ما يرتبط بالليل من غموض وخصوصية وخفاء.
لقد اقترب منه وهمس في أذنه بكلمة سحرية، لقد قال له: "أكتب" ثم أخبره بعدها عن عوالم أخرى يمكنه أن يجترحها وأن يستكشفها، وعن أشياء كثيرة لم تزل "مُحلِّقة في الفضاء" يمكنه أن يلتقطها، عن أحلام أخرى وصور أخرى، وخبرات أخرى موجودة هنا وهناك.
هكذا كانت الذات المتكلمة في هذه الحكاية تُصْغِي وتسمع ما يقال لها، وكان رفيقها الخيالي في نشوة وغبطة وذهول، ثم ما لبثت تلك الرغبة في أن تحكي مثل رفيقها الداخلي، وأن تتكلم مثله، وأن تصبح ذاتًا متكلمة مستقلة عنه، أن ازدادت وطغت، لقد أصبحت ذاتًا كاتبة، ذاتًا أخرى تريد أن تسرد وتكتب وتتكلم وتقول بعض ما كان يدور في داخلها من حكايات.
لقد قامت الذات المتكلمة في هذه المجموعة الجميلة بالتذكر والسرد لقصص كثيرة تدور حول عوالم الطفولة والصبا، وحول ذلك النزوع الخاص نحو الكمال وحول تلك المصائر البائسة التي لحقت بمعظم الشخصيات، لقد سردت لنا قصصها الخاصة حول تلك المواهب المهدورة والكنوز المُبدَّدة والطاقات المُسْتنزَفة والخراب الذي يلحق بالموارد البشرية الموجودة في مصر، ولأسباب سياسية واجتماعية وتربوية ليست خفية عن العيون والأذهان.
الولع بالكمال
تحكي الذات المتكلمة في قصة "العلاج بالماعز" عن بعض ما ترسب في لاشعورها من معتقدات وأساطير وقداسة للماضي تقاوم النسيان، عن الأسواق التي يتم علاج الأطفال فيها بلبن الماعز. وعن ولع الأمهات، قديمًا وحديثًا، بتخزين الأشياء القديمة، وعن ألعاب الأطفال العنيفة وحيلهم الماكرة للإيقاع بزملائهم حتى لو قاموا بإيذائهم جسديًا (كما في قصة "برطمان زجاجي") وأيضًا عن ذلك الرقص الوحشي العنيف، وطقوس الزار في "المترنحات وذكور البط" وعن طقوس ومراسم إقامة عزاءات الموتى وما يحدث فيها من مفارقات، حيث يختلط الضحك بالبكاء والحزن بتفشي النميمة، بالتصنع والرياء وحيث الكل يتظاهر بأنه حزين، ويقوم بمجرد أداء العزاء كنوع من الفعل التظاهري الذي يحرص من خلاله على أن يقنع الآخرين، قبل أن يقنع نفسه، أنه حزين، هكذا كانت هناك بين النساء البارعات المتقنات المؤديات واحدة هي الأفضل من غيرها في قيادة طقوس المشاركة في العزاء ومن خلال ما يسمى بالعديد في مراسم العزاء خاصة في الأرياف والمناطق الشعبية، تلك التي تكون، وفي لحظة خاصة، قادرة على أن تطلق "صيحة مدوية.. تتبرع بها، بشهامة واقتدار"، وكذلك "إنها امرأة ذكية، تقدر قيمة اللحظة وتعرف أن ما تفعله ضرورة حتمية، لذا فهي تسعى إلى عبورها بنجاح. لقد كانت تحتشد خلسة، تستنشق في الخفاء كميات كبيرة من الهواء، حتى تتمكن من هذه الافتتاحية الرائعة كتعبير عن المواساة". إنها هنا رمز للمهارة والبراعة والإتقان لشيء ما، إنها أشبه بقائد بارع، "بعدها تقوم النساء الأخريات المتواجدات بالرد بعديد مماثل، مكونات جوقة من النائحات، معلنات عن تقديرهن، ومتضامنات بجدية لافتة، يتحول معها السرادق إلى حظيرة أوز هبطت عليها الثعالب".
في قصص هذه المجموعة، كلها تقريبًا، هناك شخص ما، أو أكثر، يتميز بمهارة معينة يتفوق بها على الآخرين، لكنه غالبًا ما يُبدِّدها على أنحاء شتى، فإنه وفي قصة "انتصارات" تبرز شخصية الفتى محسن والي الذي كان يجيد التقاط إصبع السبابة الخاص بالآخرين بفمه ويقبض عليه حتى يمزقه ويدميه، خاصةً أثناء لعب كرة القدم. وهناك كذلك ذلك الرجل الشبح (أو الأبلاسير) الذي يقوم بإرشاد الأطفال والمراهقين إلى أماكن جلوسهم في سينما فلوريدا ويحصل من كل واحد على نصف قرش، وقد كان قادرًا على أن يجد أماكن لكل شخص حتى في الأماكن التي تبدو مملوءة، وذلك بعد أن يُوجِّه إليهم السباب والكلمات النابية. وهناك محمود حنفي وسامي السيد، في قصة "النيل عند وكالة البلح" واللذين طرأت عليهما فكرة ذات يوم فحواها أنهما يريدان القفز من فوق كوبري أبو العلا كنقطة انطلاق لسباق ثنائي يبدأ من هناك إلى الجهة الأخرى من النيل، وقد قاما بهذه المغامرة فعلا وعادا عاريين بعد أن اختفت ملابسهما، بل وأنهما قد صعدا الترام عاريين وحاولا العودة به إلى ديارهما لكن المحصل أنزلهما. كذلك تجسد قصة "الطريق إلى الإستاد" براعة السارد في طفولته وقدرته على مراوغة رجال الأمن في استاد القاهرة كي يشاهد معظم المباريات دون تذكرة دخول بل وأن ينادي على أصدقائه من وراء معلق المباراة في التليفزيون اسمًا اسمًا، إنها براعة البسطاء من البشر ومواهبهم العابرة التي تتألق مُبكِّرًا ثم تنطفئ كالشهب على نحو سريع.
براعة في سرد الحكايات
لا تتوقف عمليات إظهار البراعة أو المهارة والفرح بها والتباهي من خلال الأفعال التي تقوم بها الشخصيات في هذه القصص فقط، بل كذلك من خلال القدرات البارعة على الحكي وسرد الحكايات أيضًا، ففي قصة "هناك شيء يحترق" تواجهنا تلك المرأة العجوز القادرة على سرد حكايات شائعة حول "أخبار الأولين، جذور العائلات، الأصول البعيدة لمعظم الجيران"، إنها تلك المرأة "ذات المعرفة الوافرة متعددة المصادر" القادرة على أن تحلل ما ترويه، مازجة الحبكة ببناء درامي متصاعد، ودائمًا ما تكون هناك خاتمة مُحْكَمة، يصعب انفلاتها من الذاكرة، يجيء كل هذا مضفورًا بذخيرة من الأمثال الشعبية لا يباريها فيها أحد.
وفي قصة "النيل عند وكالة البلح" هناك سمير عبد الرحيم الذي استطاع أن يحفظ القرآن كله مُبكِّرًا، ومحمود حنفي المُولَع بمشاهدة الأفلام الأمريكية والذي كان يستطيع أيضًا "أن يتذكرأسماء نجوم هوليوود في جلسة واحدة، وكذلك جميع الأسماء المُعرَّبة للأفلام التي عُرِضت بالقاهرة. وهو لم يكن يتمتع بذاكرة قوية فقط، بل بقدرة كبيرة على الحكي أيضًا ورواية الأفلام"، وقد كان "يستعيدها بشكل كامل، الفيلم الذي يستغرق عرضه على الشاشة ساعتين إلا خمس دقائق، يقصه علينا في ساعتين إلا خمس دقائق، الوقفات، اللحظات الصامتة، الموسيقى التصويرية، وصف الصورة عندما لا يكون هناك حوار، إنه يملأ تلك الفراغات التي تدور فيها الكاميرا لتسرد شيئًا معينًا، يجعلنا نستوعب تلك الفجوات عند الاستماع".
أما في قصة "مخدرات الطفولة" فهناك تلك البراعة الخاصة بهؤلاء المراهقين على التجول في الدروب الشهيرة، المقاهي المنزوية في القاهرة، وكذلك تلك القدرة الجماعية الخاصة بهؤلاء المراهقين على معرفة المكان بخفاياه وزواياه، وحيث: "كان تفحص المكان أكثر أهمية من الشراء، إنها معاينة حصرية، قرينة الفضول والدخول المبكر إلى تلك العوالم، يخايلنا الزهو أحيانا ونحن نتجول داخل هذا المعقل طلقاء، لا مبالين"، مع التظاهر كذلك بأنهم رجال كبار يعرفون أنواع الحشيش وأسماء التجار وذلك خلال تجوالهم في حي الباطنية الشهير أو غيره من الأحياء.
وهناك أيضًا قصة "حالة الدكتورة نعيمة" صاحبة العيادة الموجودة في شارع رئيسي في منطقة عشوائية والتي تم وصفها بأنها "امرأة خنثى، ذات صوت جهير، وطباع صارمة تسيطر على المريض بنظرة واحدة. كانت تقوم بالكشف الطبي على الجميع، كبارًا وصغارًا، نساء ورجال، تعالج كل الأمراض تقريبًا، رغم تخصصها في الباطنة" وقد برعت في تخصصها وامتدت ببراعتها إلى حقول طبية أخرى على الرغم من تكوينها البائس وعالمها الجسدي والنفسي المنهار الحزين.
وفي قصة "خراط البنات" يحكي السارد عن صديقهم الذي كان مُولعًا بالمراهقات الصغيرات وبارعًا في الإيقاع بهن وفي توقع ما س سيكن عليه في المستقبل. وفي "جاهل في الأوبرا" نجد تلك الرغبة في التفوق والتميز من خلال الذهاب إلى الأوبرا والاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية دون معرفة كافية بمتى ينبغي التصفيق عندما تتوقف الموسيقى ومتى لا ينبغي. "كنت أحدِّق إلى الوجوه التي تخلو من تعقيدات الحياة وعلامات العوز، أحاول أن أبدو جذابًا، أنيقًا، كي لا أكون شيئًا ناتئًا، مُهمَلًا، وذا وجود باهت بينهم".
أما في "شوكولاتة نيتشه" هناك رصد لحالات الخوف والفضول وشخصية ما يقول السارد عنها "كنا نعرفه، مُتملِّقًا ومُراوِغًا، لا تمر عليه الأشياء دون استغلال لها، هذه طبيعته، فالعالم لديه قائم على المنفعة، لكن ملامحه خادعة، توحي بالطيبة، وربما التسول، خاصة عندما يتحدث عن عوزه الدائم، وعدم كفاية الراتب، ونفاذه في الأيام الأولى من الشهر، رغم أنه يقطن في بيت والده، لا يُسدِّد إيجار مسكن أو فواتير الماء والكهرباء...إلخ"؛ وقد كان ذلك الشخص إضافة إلى ذلك أيضًا، حكَّاءً بارعًا وقد: "كان يطاردنا بحكاياته العجيبة، وأساطيره المُذهِلة، مُبالِغا في معظم أقواله، حتى وهو يخلط كلماته بالشكل المُبْتذَل، فخياله الجامح يتغذى على فانتازيات مدهشة، تشعر معها بأنك تملك الوجود، مُتمنيًا في الوقت نفسه أن تكون أحد أبطالها، إنه يتحدث بثقة غريبة، ومعرفة واسعة من عوالم ماورائية، مخترقًا أكوانًا مشحونة بالرهبة والتفرد، تجعلنا نرتعد ونحن ننصت إليه في صمت مهيب، متماهين مع كلماته، حيث يصعب تجاهل المحاولات التي يسعى إليها لرأب الصدع بين الخرافة والحقيقة، على نحو شائق ومضمر في ثنايا عباراته، دون أن يدري أهمية ما يقوم به". ثم أن ذلك الرجل يحكي أيضًا، وكما في ألف ليلة وليلة، وفي نوع من الحكاية داخل الحكاية في هذه القصة، عن زوجته التي تغيرت أحوالها وصارت كثيرة النفور منه، ثم يكتشف بعد ذلك أن لها قرينًا من الجن.
إن عالم الواقع يختلط هنا بعالم الخيال، كما يمتزج عالم الحقيقة بعالم الوهم والأسطورة والحلم، وكما يتداخل عالم الإدراك الحسي المُحدَّد بعالم الخوارق العجائبي والغرائبي، كذلك يحيق بدافعية الكمال نقصان مريع، فالمروي عنه في هذه القصة يطالب أحد الجان بمطالب نفعية يرى أنها قد تُعوِّضه عن فقدانه لزوجته التي أصبحت زوجة سرية له، لكنها في النهاية تحمل من ذلك الجني وتلد طفلاً مُشوَّها يفتقر إلى أي اكتمال.
لصوص مجوِّدون
في قصة "أنامل" هناك نمط آخر من الكمالية والتجويد، وهناك أيضًا أكثر من شخصية لافتة للانتباه؛ بل إن هذه القصة تكاد أن تكون قصة نموذجية حول تلك الأنماط البشرية الموجودة في مجال الجريمة، وحول تلك الخصائص المُميّزة للمجرمين وحول طرائق عملهم أيضًا وكذلك حول تلك القدرات التي تتجه، ولأسباب شتى، إلى مسالك مضادة للمجتمع وموجهة على نحو خاص في طريق الشر. في هذه القصة ثلاثة أنماط من البشر:
أولاً: حسن توتو: "الذي يحمل وجه شيطان غضوب ومُكْفَهِر دائمًا، ويلتمع لديه ناب فضي، مجاور لأسنان قبيحة وسوداء"، وقد كان حسن توتو هذا "يشكل مصدر رعب بالمنطقة، نظرًا إلى تفوقه في التقاط شفرة الحلاقة المخبوءة بسقف فمه، وتمزيق وجه من يجابهه". هنا تركيز أيضًا على الاهتمام بالبراعة وجودة الأداء والنزعة الكمالية، وإن كانت تلك البراعة موظفة من أجل العدوان على الآخرين وتلك الكمالية مُوجَّهة من أجل إلحاق أكبر ضرر ممكن بهم. فقد كان نشالاً بارعًا "مشهود له بالكفاءة"، يمارس عمله في المواصلات الشديدة الازدحام "بأصابع تعرف الطريق جيدًا، يدسها في الجيوب لتعود بصيد ثمين: حافظة نقود، قلم فاخر، قداحة مرتفعة الثمن، أو بإسقاط ساعة يد من معصم أحدهم، فهو نادرًا ما يعود خالي الوفاض، إنه يعرف أسرار ضحاياه، حتى هؤلاء الذين يوزعون الأشياء على أماكن عدة، تجتذبه رائحة النقود، وتقوده إليها ذبذبات القلق، التي تصدر عن صاحبها وترتسم إشاراتها بوضوح على ملامحه".
ثانيًا: أما اللص الآخر فهو عصام نمرود، وقد كان "قوي البنيان، يخلو من الوسامة تمامًا، وهو يصغر حسن بعشرة أعوام تقريبا"، وهو كما وصفه صابر رشدي في القصة: "لا يمكث في أي مهنة طويلاً، رغم مروره على الحرف اليدوية بالورش الصناعية الصغيرة، مشاغب ومتمرد، لا جلد له على العمل، يطرده أصحاب العمل بعد ضربه ضربًا مُبرِّحًا يوازي جرائمه، كان لصًا بالسليقة".
لقد كان "عصام نمرود" يشبه "حسن توتو" من حيث إنه كما لو كان لديه استعداد قوي لتعلم مهنة اللصوصية فقط، فقد فشل في تعلم أية مهنة أخرى، لكنه، كان على العكس من حسن، يفتقر إلى القدرة على التأمل. فهناك متأملون وهناك مندفعون حتى في عالم اللصوص. هكذا كان حسن يتأمل الوضع الخاص لضحاياه، ويفكر متى يهاجمهم ومتى يقوم بفعلته وأين. أمَّا عصام، فمندفع، يشعر سريعًا بالملل، لا يستطيع على أية مهنة صبرًا. وهكذا كانت اللصوصية هي المهنة التي كانت ميوله مُتجِهة إليها بقوة، ولم يكن في حاجة سوى إلى "دورة عملية على يد أحد شيوخ المهنة، تدريب على خفة اليد، وسرعة التصرف في الأزمات الطارئة وخطط الهروب من المخبرين السريين الذين يندسون في الأوتوبيسات لاصطياد هؤلاء اللصوص"، وبسبب طابعه الشخصي المندفع المغامر هذا فقد كان عصام مُتسمًا بالجرأة في عمله "فهو غير هياب ومتهور، يستعين على ذلك بالأقراص المُخدِّرة التي تفقده عنصر الإحساس بالخطر، وتجعل الهجوم عليه غير ذي أثر عند وقوعه في أيدي الشرطة أو ركاب الحافلة".
هكذا اجتمعت سمات التأمل العميق والتمهل والتريث والفحص لمجال العمل لدى حسن توتو، مع الجرأة والتهور والاندفاع لدى عصام نمرود، فشكلا فريقًا للقيام بعمليات مشتركة بينهما؛ هكذا كانا يذهبان معًا، الأستاذ وتلميذه، "يقفزان إلى أوتوبيس، أو ترام مزدحم، ينتقيان الضحية، بعد عدة إيماءات متفق عليها ينهيان المهمة، ثم يهبط كل واحد منهما في محطة مختلفة، يلتقيان بعدها، يتقاسمان الغنائم، ثم يذهبان لاحتساء الخمر الرديئة مكافأة لنجاحهما".
لا تكون المهارات هنا من النوع "إما .. أو"، أي أنها لا تكون موجودة أو غير موجودة، بل إن المهارات هنا لها مستويات، وفي هذه القصة هناك مستويات من المهارات والاتقان والتجويد؛ فعصام النمرود، والذي "استطاع أن يلم بقواعد المهنة وأبجدياتها الضرورية"، لم يستطع أن يصل أبدًا إلى ذلك المستوى الرفيع الخاص بأستاذه وقائده "حسن توتو"، فهو مندفع عجول، بينما أستاذه متأمل متمهل، كأنه فنان يتقن عمله ويستمتع به أيضًا، إن لديه نزعة كمالية مُبدَّدة بينما النزعة الكمالية لدى أستاذه تتسم بالتركيز وبراعة الوصول إلى الهدف.
هكذا تُوحِي هذه القصة أيضًا بذلك التفاوت بين الشخصيتين، وذلك لأنه وعلى الرغم من دقة أصابع "عصام نمرود" فإنها لم تصل أبدًا إلى المستوى الرفيع لأستاذه، كما أنه "كان نافذ الصبر، يمتعض من فكرة التنازل عن حصيلة أي مجهود قام به، يفضل العمل على نحو سريع ومباغت، كما كان بطيء الحركة، شرس الطباع، مُثيرًا للريبة، يحمل سمات قاتل مأجور، وقد كان حضوره يستثير نظرات مشحونة بالعداء، تعسِّر مهمته، وتجعل اصطياده أمرًا بالغ السهولة، ولذلك فإنه كثيرًا ما كان يعود من مهمته مُضرَّجا بالدماء، مطموس الملامح، مُشوَّهًا، بعد وقوعه في أيدي مواطنين مكبوتين أتيحت لهم لحظات نادرة لتفريغ شحنات الغضب"، هكذا ظل يندفع في عمله لا يتمهل أو يتدبر أموره، وهو انعكاس مرضي مكثف لواقع زاخر بمثل تلك الأمراض الفردية والجماعية، سواء بين اللصوص أو بين غيرهم من طوائف هذا المجتمع وشرائحه.
كان عصام نمرود يدرك الفارق الكبير بينه وبين أستاذه، وقد كان يريد التفرد في شيء خارق، له خصوصيته، شيء يميزه، يستطيع التفاخر به على أقرانه، هكذا حاول في أشياء عدة، فإنه و"بعد تدريبات مُرهِقة، استطاع أن يكون أسرع شقي يسحب مطواتين من خصر بنطاله ويفتحهما في الهواء، في جزء من الثانية".
ثم واصل عصام النمرود حياته بعد ذلك، غارقًا في المخدرات والبلطجة، راغبًا في التميز وإن في شيء بغيض، مع إشارات عبر هذه القصة لعالم الإجرام والمجرمين وكيفية تعامل الشرطة مع هذا العالم وسيطرتها المُضْمَرة أو الصريحة عليه.
هكذا يُقدِّم لنا صابر رشدي في هذه القصة المُدهشة عالمًا يزخر بالدماء والتشويه وتقطيع الأوصال والرعب والسرقة والمهارات الخفية الغريبة الموجودة في تلك العوالم الخفية الجلية والتي تحتوي على أنماط وفئات متعددة تسعى كلها نحو التميز في شيء ما، شيء مخيف ومرعب لكنه شيء خاص بها، وقد كان حسن توتو (المتأمل) وعصام نمرود (المُندفِع) يختفيان معًا ثم يعودان، بعد عام أو أقل أو أكثر معًا، على نحو مُفاجِئ وغير متوقع، بعد فترة قضياها معًا في السجون، وقد كان حسن توتو يزداد قسوة وشراسة وغدرًا وخيانة، خاصة عندما يكون غاضبًا، وكان عصام نمرود يزداد انحطاطًا واندفاعًا.
ثالثًا: ثم كان أن انضم إليهما شخص ثالث، نمط ثالث من المجرمين، لا هو بالمتأمل ولا هو بالمندفع، بل كان موجودًا في منزلة بين المنزلتين، كان مُتْسِمًا بالنعومة والمراوغة وكذلك القدرة على الإغواء، وكان هو هشام الجميل، ذلك "الدون جوان المشهور بوسامته الواثقة ووجهه الجميل، وقد كان يعمل في تجارة الشنطة ما بين بيروت والقاهرة، يتاجر في الملابس والإكسسوارات وأحيانًا المخدرات". ثم قام هؤلاء الثلاثة معًا بعد ذلك بالمشاركة في مطاردة الفتيات، "حتى ضجرت منهم معظم الأسر" واستمر عملهم هكذا إلى أن ساقهم سوء عملهم إلى مطاردة ابنة أحد رجال الاتحاد الاشتراكي، وقد كان ذلك الرجل "رمزًا للدولة وممثلا لها في المنطقة". ثم تنتهي هذه القصة بالقبض عليهم وإذلالهم جميعًا بشكل عنيف. أما ماذا عن مستقبلهم وحياتهم اللاحقة؟ فهذا ما لا تقوله لنا القصة، وأن علينا أن ننشِّط خيالنا وذلك فيما يتعلق بالمصائر المتعددة لهذه الشخصيات والتي ربَّما تحولت النزعة الكمالية لدى أحدهم إلى نزعة سوية فنجح في مهنة يرضاها المجتمع، وربما استمر واحد منهم أو اثنان في طريق الشر والضياع والموت في قلب القاهرة وفي أماكن ذات سحر خاص مثل بولاق أبو العلا ووكالة البلح وغيرهما.
خاتمة:
يصعب أن نحيط في هذا المقال بتلك العوالم الخصبة المتنوعة الموجودة في هذه المجموعة والتي نجد فيها، إضافة إلى ما ذكرناه سابقا، ذلك الولع بالجنس، وبمطاردة الفتيات والتحرش بهن وعوالم المخدرات والدعارة والمخنثين والمُتحرِّشين وضاربي الودع والثوريين الأنقياء والمُدَّعين، والذين يدعون القوة البدنية والجنسية وهم في حالة يُرثى لها من الضعف، والمؤمنين بالسحر والجنيات والعفاريت والخرافات، والمعلمين الذين يدركون مواهب الطلاب وقدراتهم ونزعاتهم نحو الكمال ويشجعونهم ولا يحطمون طموحاتهم ويحتفظون بكبريائهم ومهابتهم (قصة وسط البلد) الدقة في التدريس أو حتى يجيب بالنيابة عنهم عندما يدرك واقعهم. إنه عالم يقترب أحيانًا من عالم الأساطير والواقعية السحرية والأحلام لدى بورخيس وماركيز ويدخل أحيانًا أخرى في قلب الواقعية الصادمة الخشنة التي نجدها لدى هنري جيمس أو كنوت هامزن أو غيرهما من كبار الكتاب والمبدعين.
بقلم أ. د. شاكر عبد الحميد
وزير الثقافة الأسبق
يكون ذوو الكمالية التكيفية الإيجابية متوجهين نحو النمو والعمل والإنجاز والتفوق، بينما يكون ذوو الكمالية السلبية متوجهين ظاهريًا نحو التفوق، وواقعيًا نحو الفشل، هكذا تمثل النزعة الكمالية لدى النمط الأول جانبًا من جوانب القوة، وتمثل لدى النمط الثاني نوعًا من الضعف الذي قد تصاحبه حالات من الخوف من الفشل، والانخفاض في التقدير للذات، والقلق والوسواس القهري واضطرابات الأكل، والعناد والمكابرة وربما أيضًا بعض الميول العدوانية والانتحارية.
في مجموعة "شوكولاتة نيتشه" لصابر رشدي يواجهنا هذان النوعان من النزعة الكمالية وعلى أنحاء شتى بداية من الاستهلال الذي يُجسِّد أكثر من غيره من نصوص هذه المجموعة هذه النزعة المتواصلة المثابرة نحو تحقيق الذات والتميز، بيد أن الكمالية الغالبة على معظم نصوص وشخصيات هذه المجموعة كانت من النوع السالب أو غير التكيفي والذي قد ينطبق عليه ذلك البيت الشهير للمتنبي:
ولم أر في عيوب الناس شيئًا .. كنقص القادرين على التمام
ونبدأ بإشارات إلى ذلك النوع الإيجابي من هذه النزعة الكمالية.
الرفيق الخيالي
يعتبر "الاستهلال القصصي" أو "القصة-الاستهلال" الموجود في مدخل هذه المجموعة أشبه بالنسق المُضْمَر أو الكنز الخفي الذي توالدت منه عوالم القصص بعد ذلك وعلى أنحاء شتى.
في هذه القصة-الاستهلال هناك ما يمكن أن نسميه "الرفيق الخفي" للكاتب، إنه تلك الشخصية غير المرئية، من جانبنا، لكنها المرئية من جانبه والتي جسَّدها في في شكل إنساني، وأجرى بعض الحوارات معها، وصار يتتبعها وينتظر حضورها. ربما كان هناك أساس واقعي لها من قراءاته ومشاهداته، ومن ثم فإنه اختلقها أو ابتكرها على عينه ثم عاش معها وعاشت هي معه أيضًا، وربما كانت هي أيضًا ذاته الداخلية، الظل الخفي الموجود فيها، رفيقه الخيالي الذي تطورت ذاته المتكلمة بعد ذلك خارجة منه.
في دراستها حول ظاهرة "الرفيق الخيالي" Imaginary Companion عام 1999 وجدت الباحثة الأمريكية مارجوري تايلور أن حوالي ثلثي الأطفال الذين درستهم كان لديهم قبل سن السابعة وربما بعدها ما يشبه الرفيق الخيالي غير المرئي، وقد كانوا يبتكرونه ويسقطون عليه أحلامهم ورغباتهم ونزعاتهم الكمالية وذلك في مواجهة بعض الاضطرابات والمشكلات الاجتماعية التي عانوا منها، وأنهم ربما كانوا يعانون من الوحدة أيضًا، لكن الأكثر أهمية هو ما وجدته هذه الباحثة من أن هؤلاء الأطفال الذين يبتكرون رفيقًا خياليًا لهم –من البشر أو الحيوانات أو الدُّمى واللِّعب- غالبًا ما يكونون أكثر ذكاء وأكثر قدرة على الانتباه والملاحظة، وأيضًا أكثر قدرة على الإبداع بعد ذلك، وأن ذلك يرجع إلى وجود نشاط خيالي كبير واضح لديهم منذ البداية.
هكذا قد ترتبط الكتابة بالأحلام والجمال والصبا والضوء والذاكرة، هكذا قال الكاتب أو السارد في ذلك الاستهلال القصصي الخاص بهذه المجموعة: "كنت أراه في منامي، صبيًا جميلًا، مغمورًا بالضياء، يجلس إلى منضدة ذات طراز عتيق، بيده ريشة ذهبية، يخط بها على الأوراق، ثم يرفع عينيه قليلا، يقرأ بنبرة خفيضة، ثم يعاود الكتابة، منتشيًا، مستغرقًا في لحظات انتباه .. كنت أحاول الوصول إلى ما يجعله سعيدًا .. دائم الابتسام".
هكذا كان ذلك الرفيق الخيالي "يجلس إلى منضدة ذات طراز عتيق" وحيث الكتابة ترتبط هنا بالجلوس إلى مناضد قديمة ترتبط بالماضي، وبالزمن، وبحالة الاستغراق في الكتابة وبالكتابات الجميلة المؤثرة لكبار الكتاب والمبدعين الذين اعتبرهم الكاتب جماعته السيكولوجية والذين يكون لأعمالهم وشخصياتهم فعل السحر على الوجدان والخيال.
هكذا تُصوِّر لنا هذه القصة الاستهلالية أو هذا الاستهلال القصصي بعض أحلام نوم السارد هنا، وكذلك بعض أحلام يقظته، كما تُصوِّر لنا كيف اختلط هذان النوعان من الأحلام معًا وامتزجا كي يشكلا هذه الرغبة الغلَّابة التوَّاقة التي كانت مسيطرة عليه من أجل فهم طبيعة الكتابة وسبر غور جوهر عمل الكاتب؛ ذلك الجوهر الذي يبدو ظاهريًا، وكأنه يرتبط بحالة من الاستمتاع والاستغراق في عالم من السحر والخيال، وحيث الكتابة ترتبط هنا بالتفتح على الحياة، بعراقة الصبا وبالجمال المُتخيَّل، وترتبط أيضًا بالزمن، ذلك الذي مضى كرونولوجيًا لكنه لم يزل باقيًا وجدانيًا وأسطوريًا، وكذلك بالتأمل والتمهل وانتظار ما قد تجود به القريحة أو الوحي، وحيث "صورة الكاتب" هنا هي صورة ذلك الفتى الذهبي الجميل الذي "يجلس هناك، مُمسِكًا بريشته الذهبية" يخط بها على الأوراق، ثم "يرفع عينيه قليلًا، يقرأ بنبرة خفيضة، ثم يعاود الكتابة مُنتشيًا، مُسْتغرِقًا في لحظات انتباه". هنا نوع من الوصف لحالة الكاتب المبدع في صورته الرومانسية، تلك الصورة التي ترتبط بالريشة الذهبية، ثم الكتابة لبضعة سطور، ثم رفع العينين إلى أعلى قليلًا، ثم النجوى أو الحديث مع النفس، أو بنوع من الحوار الداخلي مع ذلك الكاتب الآخر، الموجود هناك في الداخل "بنبرة خفيضة" .. ثم معاودة الكتابة، مرة أخرى، في حالة ما من الانتشاء؛ فقد جاءت دفقات من الوحي وتوالت هدايا وعطايا من السماء، كان لا بد من أن يكون الكاتب مُسْتغرِقًا في لحظات انتباه كي يتلقاها جيدًا، ثم يقوم بتجسيدها في عمله ووفقًا للتصور الرومانتيكي للإبداع.
وكان هناك ثمة دافع مهيمن آخر على السارد/الكاتب وهو يُحدِّثنا ويحكي لنا ما كان يدور في أعماقه؛ لقد كان يحاول أن يعرف أيضًا سر تلك السعادة التي يشعر بها ذلك الرفيق الداخلي المبدع، ما ذلك السحر الذي يهيمن عليه؟ ما تلك البهجة؟ وما ذلك الإلهام؟ كما أنه، ومثلما كان يراقب ذلك الكاتب الداخلي، والذي كان موجودًا في أعماقه، وفي وعيه، ومن خلال قراءاته عن الكُتّاب الآخرين، ومن ملاحظته ومعايشته لهم؛ فإنه قد بدأ يشعر أيضًا بأن ذلك الكاتب الخفي قد بدأ يخرج من داخله، وبدأ يتحرر من مراقبته له، بل إنه قد أصبح يحاصره بدوره، وشرع يتحول من رفيق داخلي إلى صاحب وصديق خارجي "بمرور الوقت، ظل يحاصرني، وأنا أتابعه تحت تأثير المحبة" .. ثم بدأت شخصية السارد أو ذلك الكاتب الذي سيكون؛ تنمو وترتقي وتنضج وتتطور. وتحت تأثير تلك المحبة، ومن خلال ذلك الولع؛ بدأت "الذات المتكلمة" تنمو عبر الأحلام الخاصة بالكتابة، هكذا ضاقت المسافة بين الحلم والواقع، هكذا تحولت المحاكاة الخيالية إلى محاكاة فعلية تقوم على أساس المحبة والرغبة كذلك في التفوق والإنجاز، ثم إلى محاكاة تنافسية أيضًا تباعدت، من خلالها، صورة ذلك الكاتب الذهبي الصبي الرومانتيكي القديم وشحبت، وتزايد معها ذلك الحضور الخاص للكاتب السارد أو للذات المتكلمة في القصص، ثم تحولت الذات التي كانت تقوم قديمًا بالمراقبة والرغبة في المعرفة إلى موضوع للمراقبة أيضًا. هكذا انزاحت صورة ذلك الفتى الغر الداخلي القديم وتم دفعها إلى الخارج، إلى عالم الإدراك والوعي، أصبح هو الذي يقوم بالمراقبة، وأصبح ينظر إلى صاحبه الذي نضج على نار هادئة بفعل مراقبته له، ويتبع خطاه، وقد كان مترددًا في البداية، ثم صار خائفًا عليه أن ينزلق أو يندفع في مآرب سهلة أو يسيرة، وقد كان ينظر إليه ثم "يمضي مُبتعِدًا في أروقة الخفاء" ثم ما لبثت عمليات الابتعاد والخفاء هذه أن تحولت لديه إلى عمليات خاصة من الاقتراب والتجلي والبوح، وقد استمر الأمر على هذه الحال فترة طويلة: "حتى فاجأني ذات ليلة، اقترب مني، وهمس في أذني بكلمة سحرية"، ولماذا كان رفيق الكتابة الذهبي ذلك يأتي دائمًا في أوقات الليل؟ ربما لأن الكتابة، في جوهرها، نشاط ليلي، عمل يرتبط عامة بالهدوء والعزلة والأحلام والتهويمات، وبالتأمل والعكوف على الذات، وبكل ذلك السحر، وذلك الأرق وذلك القلق وتلك المعاناة، وبكل ما يرتبط بالليل من غموض وخصوصية وخفاء.
لقد اقترب منه وهمس في أذنه بكلمة سحرية، لقد قال له: "أكتب" ثم أخبره بعدها عن عوالم أخرى يمكنه أن يجترحها وأن يستكشفها، وعن أشياء كثيرة لم تزل "مُحلِّقة في الفضاء" يمكنه أن يلتقطها، عن أحلام أخرى وصور أخرى، وخبرات أخرى موجودة هنا وهناك.
هكذا كانت الذات المتكلمة في هذه الحكاية تُصْغِي وتسمع ما يقال لها، وكان رفيقها الخيالي في نشوة وغبطة وذهول، ثم ما لبثت تلك الرغبة في أن تحكي مثل رفيقها الداخلي، وأن تتكلم مثله، وأن تصبح ذاتًا متكلمة مستقلة عنه، أن ازدادت وطغت، لقد أصبحت ذاتًا كاتبة، ذاتًا أخرى تريد أن تسرد وتكتب وتتكلم وتقول بعض ما كان يدور في داخلها من حكايات.
لقد قامت الذات المتكلمة في هذه المجموعة الجميلة بالتذكر والسرد لقصص كثيرة تدور حول عوالم الطفولة والصبا، وحول ذلك النزوع الخاص نحو الكمال وحول تلك المصائر البائسة التي لحقت بمعظم الشخصيات، لقد سردت لنا قصصها الخاصة حول تلك المواهب المهدورة والكنوز المُبدَّدة والطاقات المُسْتنزَفة والخراب الذي يلحق بالموارد البشرية الموجودة في مصر، ولأسباب سياسية واجتماعية وتربوية ليست خفية عن العيون والأذهان.
الولع بالكمال
تحكي الذات المتكلمة في قصة "العلاج بالماعز" عن بعض ما ترسب في لاشعورها من معتقدات وأساطير وقداسة للماضي تقاوم النسيان، عن الأسواق التي يتم علاج الأطفال فيها بلبن الماعز. وعن ولع الأمهات، قديمًا وحديثًا، بتخزين الأشياء القديمة، وعن ألعاب الأطفال العنيفة وحيلهم الماكرة للإيقاع بزملائهم حتى لو قاموا بإيذائهم جسديًا (كما في قصة "برطمان زجاجي") وأيضًا عن ذلك الرقص الوحشي العنيف، وطقوس الزار في "المترنحات وذكور البط" وعن طقوس ومراسم إقامة عزاءات الموتى وما يحدث فيها من مفارقات، حيث يختلط الضحك بالبكاء والحزن بتفشي النميمة، بالتصنع والرياء وحيث الكل يتظاهر بأنه حزين، ويقوم بمجرد أداء العزاء كنوع من الفعل التظاهري الذي يحرص من خلاله على أن يقنع الآخرين، قبل أن يقنع نفسه، أنه حزين، هكذا كانت هناك بين النساء البارعات المتقنات المؤديات واحدة هي الأفضل من غيرها في قيادة طقوس المشاركة في العزاء ومن خلال ما يسمى بالعديد في مراسم العزاء خاصة في الأرياف والمناطق الشعبية، تلك التي تكون، وفي لحظة خاصة، قادرة على أن تطلق "صيحة مدوية.. تتبرع بها، بشهامة واقتدار"، وكذلك "إنها امرأة ذكية، تقدر قيمة اللحظة وتعرف أن ما تفعله ضرورة حتمية، لذا فهي تسعى إلى عبورها بنجاح. لقد كانت تحتشد خلسة، تستنشق في الخفاء كميات كبيرة من الهواء، حتى تتمكن من هذه الافتتاحية الرائعة كتعبير عن المواساة". إنها هنا رمز للمهارة والبراعة والإتقان لشيء ما، إنها أشبه بقائد بارع، "بعدها تقوم النساء الأخريات المتواجدات بالرد بعديد مماثل، مكونات جوقة من النائحات، معلنات عن تقديرهن، ومتضامنات بجدية لافتة، يتحول معها السرادق إلى حظيرة أوز هبطت عليها الثعالب".
في قصص هذه المجموعة، كلها تقريبًا، هناك شخص ما، أو أكثر، يتميز بمهارة معينة يتفوق بها على الآخرين، لكنه غالبًا ما يُبدِّدها على أنحاء شتى، فإنه وفي قصة "انتصارات" تبرز شخصية الفتى محسن والي الذي كان يجيد التقاط إصبع السبابة الخاص بالآخرين بفمه ويقبض عليه حتى يمزقه ويدميه، خاصةً أثناء لعب كرة القدم. وهناك كذلك ذلك الرجل الشبح (أو الأبلاسير) الذي يقوم بإرشاد الأطفال والمراهقين إلى أماكن جلوسهم في سينما فلوريدا ويحصل من كل واحد على نصف قرش، وقد كان قادرًا على أن يجد أماكن لكل شخص حتى في الأماكن التي تبدو مملوءة، وذلك بعد أن يُوجِّه إليهم السباب والكلمات النابية. وهناك محمود حنفي وسامي السيد، في قصة "النيل عند وكالة البلح" واللذين طرأت عليهما فكرة ذات يوم فحواها أنهما يريدان القفز من فوق كوبري أبو العلا كنقطة انطلاق لسباق ثنائي يبدأ من هناك إلى الجهة الأخرى من النيل، وقد قاما بهذه المغامرة فعلا وعادا عاريين بعد أن اختفت ملابسهما، بل وأنهما قد صعدا الترام عاريين وحاولا العودة به إلى ديارهما لكن المحصل أنزلهما. كذلك تجسد قصة "الطريق إلى الإستاد" براعة السارد في طفولته وقدرته على مراوغة رجال الأمن في استاد القاهرة كي يشاهد معظم المباريات دون تذكرة دخول بل وأن ينادي على أصدقائه من وراء معلق المباراة في التليفزيون اسمًا اسمًا، إنها براعة البسطاء من البشر ومواهبهم العابرة التي تتألق مُبكِّرًا ثم تنطفئ كالشهب على نحو سريع.
براعة في سرد الحكايات
لا تتوقف عمليات إظهار البراعة أو المهارة والفرح بها والتباهي من خلال الأفعال التي تقوم بها الشخصيات في هذه القصص فقط، بل كذلك من خلال القدرات البارعة على الحكي وسرد الحكايات أيضًا، ففي قصة "هناك شيء يحترق" تواجهنا تلك المرأة العجوز القادرة على سرد حكايات شائعة حول "أخبار الأولين، جذور العائلات، الأصول البعيدة لمعظم الجيران"، إنها تلك المرأة "ذات المعرفة الوافرة متعددة المصادر" القادرة على أن تحلل ما ترويه، مازجة الحبكة ببناء درامي متصاعد، ودائمًا ما تكون هناك خاتمة مُحْكَمة، يصعب انفلاتها من الذاكرة، يجيء كل هذا مضفورًا بذخيرة من الأمثال الشعبية لا يباريها فيها أحد.
وفي قصة "النيل عند وكالة البلح" هناك سمير عبد الرحيم الذي استطاع أن يحفظ القرآن كله مُبكِّرًا، ومحمود حنفي المُولَع بمشاهدة الأفلام الأمريكية والذي كان يستطيع أيضًا "أن يتذكرأسماء نجوم هوليوود في جلسة واحدة، وكذلك جميع الأسماء المُعرَّبة للأفلام التي عُرِضت بالقاهرة. وهو لم يكن يتمتع بذاكرة قوية فقط، بل بقدرة كبيرة على الحكي أيضًا ورواية الأفلام"، وقد كان "يستعيدها بشكل كامل، الفيلم الذي يستغرق عرضه على الشاشة ساعتين إلا خمس دقائق، يقصه علينا في ساعتين إلا خمس دقائق، الوقفات، اللحظات الصامتة، الموسيقى التصويرية، وصف الصورة عندما لا يكون هناك حوار، إنه يملأ تلك الفراغات التي تدور فيها الكاميرا لتسرد شيئًا معينًا، يجعلنا نستوعب تلك الفجوات عند الاستماع".
أما في قصة "مخدرات الطفولة" فهناك تلك البراعة الخاصة بهؤلاء المراهقين على التجول في الدروب الشهيرة، المقاهي المنزوية في القاهرة، وكذلك تلك القدرة الجماعية الخاصة بهؤلاء المراهقين على معرفة المكان بخفاياه وزواياه، وحيث: "كان تفحص المكان أكثر أهمية من الشراء، إنها معاينة حصرية، قرينة الفضول والدخول المبكر إلى تلك العوالم، يخايلنا الزهو أحيانا ونحن نتجول داخل هذا المعقل طلقاء، لا مبالين"، مع التظاهر كذلك بأنهم رجال كبار يعرفون أنواع الحشيش وأسماء التجار وذلك خلال تجوالهم في حي الباطنية الشهير أو غيره من الأحياء.
وهناك أيضًا قصة "حالة الدكتورة نعيمة" صاحبة العيادة الموجودة في شارع رئيسي في منطقة عشوائية والتي تم وصفها بأنها "امرأة خنثى، ذات صوت جهير، وطباع صارمة تسيطر على المريض بنظرة واحدة. كانت تقوم بالكشف الطبي على الجميع، كبارًا وصغارًا، نساء ورجال، تعالج كل الأمراض تقريبًا، رغم تخصصها في الباطنة" وقد برعت في تخصصها وامتدت ببراعتها إلى حقول طبية أخرى على الرغم من تكوينها البائس وعالمها الجسدي والنفسي المنهار الحزين.
وفي قصة "خراط البنات" يحكي السارد عن صديقهم الذي كان مُولعًا بالمراهقات الصغيرات وبارعًا في الإيقاع بهن وفي توقع ما س سيكن عليه في المستقبل. وفي "جاهل في الأوبرا" نجد تلك الرغبة في التفوق والتميز من خلال الذهاب إلى الأوبرا والاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية دون معرفة كافية بمتى ينبغي التصفيق عندما تتوقف الموسيقى ومتى لا ينبغي. "كنت أحدِّق إلى الوجوه التي تخلو من تعقيدات الحياة وعلامات العوز، أحاول أن أبدو جذابًا، أنيقًا، كي لا أكون شيئًا ناتئًا، مُهمَلًا، وذا وجود باهت بينهم".
أما في "شوكولاتة نيتشه" هناك رصد لحالات الخوف والفضول وشخصية ما يقول السارد عنها "كنا نعرفه، مُتملِّقًا ومُراوِغًا، لا تمر عليه الأشياء دون استغلال لها، هذه طبيعته، فالعالم لديه قائم على المنفعة، لكن ملامحه خادعة، توحي بالطيبة، وربما التسول، خاصة عندما يتحدث عن عوزه الدائم، وعدم كفاية الراتب، ونفاذه في الأيام الأولى من الشهر، رغم أنه يقطن في بيت والده، لا يُسدِّد إيجار مسكن أو فواتير الماء والكهرباء...إلخ"؛ وقد كان ذلك الشخص إضافة إلى ذلك أيضًا، حكَّاءً بارعًا وقد: "كان يطاردنا بحكاياته العجيبة، وأساطيره المُذهِلة، مُبالِغا في معظم أقواله، حتى وهو يخلط كلماته بالشكل المُبْتذَل، فخياله الجامح يتغذى على فانتازيات مدهشة، تشعر معها بأنك تملك الوجود، مُتمنيًا في الوقت نفسه أن تكون أحد أبطالها، إنه يتحدث بثقة غريبة، ومعرفة واسعة من عوالم ماورائية، مخترقًا أكوانًا مشحونة بالرهبة والتفرد، تجعلنا نرتعد ونحن ننصت إليه في صمت مهيب، متماهين مع كلماته، حيث يصعب تجاهل المحاولات التي يسعى إليها لرأب الصدع بين الخرافة والحقيقة، على نحو شائق ومضمر في ثنايا عباراته، دون أن يدري أهمية ما يقوم به". ثم أن ذلك الرجل يحكي أيضًا، وكما في ألف ليلة وليلة، وفي نوع من الحكاية داخل الحكاية في هذه القصة، عن زوجته التي تغيرت أحوالها وصارت كثيرة النفور منه، ثم يكتشف بعد ذلك أن لها قرينًا من الجن.
إن عالم الواقع يختلط هنا بعالم الخيال، كما يمتزج عالم الحقيقة بعالم الوهم والأسطورة والحلم، وكما يتداخل عالم الإدراك الحسي المُحدَّد بعالم الخوارق العجائبي والغرائبي، كذلك يحيق بدافعية الكمال نقصان مريع، فالمروي عنه في هذه القصة يطالب أحد الجان بمطالب نفعية يرى أنها قد تُعوِّضه عن فقدانه لزوجته التي أصبحت زوجة سرية له، لكنها في النهاية تحمل من ذلك الجني وتلد طفلاً مُشوَّها يفتقر إلى أي اكتمال.
لصوص مجوِّدون
في قصة "أنامل" هناك نمط آخر من الكمالية والتجويد، وهناك أيضًا أكثر من شخصية لافتة للانتباه؛ بل إن هذه القصة تكاد أن تكون قصة نموذجية حول تلك الأنماط البشرية الموجودة في مجال الجريمة، وحول تلك الخصائص المُميّزة للمجرمين وحول طرائق عملهم أيضًا وكذلك حول تلك القدرات التي تتجه، ولأسباب شتى، إلى مسالك مضادة للمجتمع وموجهة على نحو خاص في طريق الشر. في هذه القصة ثلاثة أنماط من البشر:
أولاً: حسن توتو: "الذي يحمل وجه شيطان غضوب ومُكْفَهِر دائمًا، ويلتمع لديه ناب فضي، مجاور لأسنان قبيحة وسوداء"، وقد كان حسن توتو هذا "يشكل مصدر رعب بالمنطقة، نظرًا إلى تفوقه في التقاط شفرة الحلاقة المخبوءة بسقف فمه، وتمزيق وجه من يجابهه". هنا تركيز أيضًا على الاهتمام بالبراعة وجودة الأداء والنزعة الكمالية، وإن كانت تلك البراعة موظفة من أجل العدوان على الآخرين وتلك الكمالية مُوجَّهة من أجل إلحاق أكبر ضرر ممكن بهم. فقد كان نشالاً بارعًا "مشهود له بالكفاءة"، يمارس عمله في المواصلات الشديدة الازدحام "بأصابع تعرف الطريق جيدًا، يدسها في الجيوب لتعود بصيد ثمين: حافظة نقود، قلم فاخر، قداحة مرتفعة الثمن، أو بإسقاط ساعة يد من معصم أحدهم، فهو نادرًا ما يعود خالي الوفاض، إنه يعرف أسرار ضحاياه، حتى هؤلاء الذين يوزعون الأشياء على أماكن عدة، تجتذبه رائحة النقود، وتقوده إليها ذبذبات القلق، التي تصدر عن صاحبها وترتسم إشاراتها بوضوح على ملامحه".
ثانيًا: أما اللص الآخر فهو عصام نمرود، وقد كان "قوي البنيان، يخلو من الوسامة تمامًا، وهو يصغر حسن بعشرة أعوام تقريبا"، وهو كما وصفه صابر رشدي في القصة: "لا يمكث في أي مهنة طويلاً، رغم مروره على الحرف اليدوية بالورش الصناعية الصغيرة، مشاغب ومتمرد، لا جلد له على العمل، يطرده أصحاب العمل بعد ضربه ضربًا مُبرِّحًا يوازي جرائمه، كان لصًا بالسليقة".
لقد كان "عصام نمرود" يشبه "حسن توتو" من حيث إنه كما لو كان لديه استعداد قوي لتعلم مهنة اللصوصية فقط، فقد فشل في تعلم أية مهنة أخرى، لكنه، كان على العكس من حسن، يفتقر إلى القدرة على التأمل. فهناك متأملون وهناك مندفعون حتى في عالم اللصوص. هكذا كان حسن يتأمل الوضع الخاص لضحاياه، ويفكر متى يهاجمهم ومتى يقوم بفعلته وأين. أمَّا عصام، فمندفع، يشعر سريعًا بالملل، لا يستطيع على أية مهنة صبرًا. وهكذا كانت اللصوصية هي المهنة التي كانت ميوله مُتجِهة إليها بقوة، ولم يكن في حاجة سوى إلى "دورة عملية على يد أحد شيوخ المهنة، تدريب على خفة اليد، وسرعة التصرف في الأزمات الطارئة وخطط الهروب من المخبرين السريين الذين يندسون في الأوتوبيسات لاصطياد هؤلاء اللصوص"، وبسبب طابعه الشخصي المندفع المغامر هذا فقد كان عصام مُتسمًا بالجرأة في عمله "فهو غير هياب ومتهور، يستعين على ذلك بالأقراص المُخدِّرة التي تفقده عنصر الإحساس بالخطر، وتجعل الهجوم عليه غير ذي أثر عند وقوعه في أيدي الشرطة أو ركاب الحافلة".
هكذا اجتمعت سمات التأمل العميق والتمهل والتريث والفحص لمجال العمل لدى حسن توتو، مع الجرأة والتهور والاندفاع لدى عصام نمرود، فشكلا فريقًا للقيام بعمليات مشتركة بينهما؛ هكذا كانا يذهبان معًا، الأستاذ وتلميذه، "يقفزان إلى أوتوبيس، أو ترام مزدحم، ينتقيان الضحية، بعد عدة إيماءات متفق عليها ينهيان المهمة، ثم يهبط كل واحد منهما في محطة مختلفة، يلتقيان بعدها، يتقاسمان الغنائم، ثم يذهبان لاحتساء الخمر الرديئة مكافأة لنجاحهما".
لا تكون المهارات هنا من النوع "إما .. أو"، أي أنها لا تكون موجودة أو غير موجودة، بل إن المهارات هنا لها مستويات، وفي هذه القصة هناك مستويات من المهارات والاتقان والتجويد؛ فعصام النمرود، والذي "استطاع أن يلم بقواعد المهنة وأبجدياتها الضرورية"، لم يستطع أن يصل أبدًا إلى ذلك المستوى الرفيع الخاص بأستاذه وقائده "حسن توتو"، فهو مندفع عجول، بينما أستاذه متأمل متمهل، كأنه فنان يتقن عمله ويستمتع به أيضًا، إن لديه نزعة كمالية مُبدَّدة بينما النزعة الكمالية لدى أستاذه تتسم بالتركيز وبراعة الوصول إلى الهدف.
هكذا تُوحِي هذه القصة أيضًا بذلك التفاوت بين الشخصيتين، وذلك لأنه وعلى الرغم من دقة أصابع "عصام نمرود" فإنها لم تصل أبدًا إلى المستوى الرفيع لأستاذه، كما أنه "كان نافذ الصبر، يمتعض من فكرة التنازل عن حصيلة أي مجهود قام به، يفضل العمل على نحو سريع ومباغت، كما كان بطيء الحركة، شرس الطباع، مُثيرًا للريبة، يحمل سمات قاتل مأجور، وقد كان حضوره يستثير نظرات مشحونة بالعداء، تعسِّر مهمته، وتجعل اصطياده أمرًا بالغ السهولة، ولذلك فإنه كثيرًا ما كان يعود من مهمته مُضرَّجا بالدماء، مطموس الملامح، مُشوَّهًا، بعد وقوعه في أيدي مواطنين مكبوتين أتيحت لهم لحظات نادرة لتفريغ شحنات الغضب"، هكذا ظل يندفع في عمله لا يتمهل أو يتدبر أموره، وهو انعكاس مرضي مكثف لواقع زاخر بمثل تلك الأمراض الفردية والجماعية، سواء بين اللصوص أو بين غيرهم من طوائف هذا المجتمع وشرائحه.
كان عصام نمرود يدرك الفارق الكبير بينه وبين أستاذه، وقد كان يريد التفرد في شيء خارق، له خصوصيته، شيء يميزه، يستطيع التفاخر به على أقرانه، هكذا حاول في أشياء عدة، فإنه و"بعد تدريبات مُرهِقة، استطاع أن يكون أسرع شقي يسحب مطواتين من خصر بنطاله ويفتحهما في الهواء، في جزء من الثانية".
ثم واصل عصام النمرود حياته بعد ذلك، غارقًا في المخدرات والبلطجة، راغبًا في التميز وإن في شيء بغيض، مع إشارات عبر هذه القصة لعالم الإجرام والمجرمين وكيفية تعامل الشرطة مع هذا العالم وسيطرتها المُضْمَرة أو الصريحة عليه.
هكذا يُقدِّم لنا صابر رشدي في هذه القصة المُدهشة عالمًا يزخر بالدماء والتشويه وتقطيع الأوصال والرعب والسرقة والمهارات الخفية الغريبة الموجودة في تلك العوالم الخفية الجلية والتي تحتوي على أنماط وفئات متعددة تسعى كلها نحو التميز في شيء ما، شيء مخيف ومرعب لكنه شيء خاص بها، وقد كان حسن توتو (المتأمل) وعصام نمرود (المُندفِع) يختفيان معًا ثم يعودان، بعد عام أو أقل أو أكثر معًا، على نحو مُفاجِئ وغير متوقع، بعد فترة قضياها معًا في السجون، وقد كان حسن توتو يزداد قسوة وشراسة وغدرًا وخيانة، خاصة عندما يكون غاضبًا، وكان عصام نمرود يزداد انحطاطًا واندفاعًا.
ثالثًا: ثم كان أن انضم إليهما شخص ثالث، نمط ثالث من المجرمين، لا هو بالمتأمل ولا هو بالمندفع، بل كان موجودًا في منزلة بين المنزلتين، كان مُتْسِمًا بالنعومة والمراوغة وكذلك القدرة على الإغواء، وكان هو هشام الجميل، ذلك "الدون جوان المشهور بوسامته الواثقة ووجهه الجميل، وقد كان يعمل في تجارة الشنطة ما بين بيروت والقاهرة، يتاجر في الملابس والإكسسوارات وأحيانًا المخدرات". ثم قام هؤلاء الثلاثة معًا بعد ذلك بالمشاركة في مطاردة الفتيات، "حتى ضجرت منهم معظم الأسر" واستمر عملهم هكذا إلى أن ساقهم سوء عملهم إلى مطاردة ابنة أحد رجال الاتحاد الاشتراكي، وقد كان ذلك الرجل "رمزًا للدولة وممثلا لها في المنطقة". ثم تنتهي هذه القصة بالقبض عليهم وإذلالهم جميعًا بشكل عنيف. أما ماذا عن مستقبلهم وحياتهم اللاحقة؟ فهذا ما لا تقوله لنا القصة، وأن علينا أن ننشِّط خيالنا وذلك فيما يتعلق بالمصائر المتعددة لهذه الشخصيات والتي ربَّما تحولت النزعة الكمالية لدى أحدهم إلى نزعة سوية فنجح في مهنة يرضاها المجتمع، وربما استمر واحد منهم أو اثنان في طريق الشر والضياع والموت في قلب القاهرة وفي أماكن ذات سحر خاص مثل بولاق أبو العلا ووكالة البلح وغيرهما.
خاتمة:
يصعب أن نحيط في هذا المقال بتلك العوالم الخصبة المتنوعة الموجودة في هذه المجموعة والتي نجد فيها، إضافة إلى ما ذكرناه سابقا، ذلك الولع بالجنس، وبمطاردة الفتيات والتحرش بهن وعوالم المخدرات والدعارة والمخنثين والمُتحرِّشين وضاربي الودع والثوريين الأنقياء والمُدَّعين، والذين يدعون القوة البدنية والجنسية وهم في حالة يُرثى لها من الضعف، والمؤمنين بالسحر والجنيات والعفاريت والخرافات، والمعلمين الذين يدركون مواهب الطلاب وقدراتهم ونزعاتهم نحو الكمال ويشجعونهم ولا يحطمون طموحاتهم ويحتفظون بكبريائهم ومهابتهم (قصة وسط البلد) الدقة في التدريس أو حتى يجيب بالنيابة عنهم عندما يدرك واقعهم. إنه عالم يقترب أحيانًا من عالم الأساطير والواقعية السحرية والأحلام لدى بورخيس وماركيز ويدخل أحيانًا أخرى في قلب الواقعية الصادمة الخشنة التي نجدها لدى هنري جيمس أو كنوت هامزن أو غيرهما من كبار الكتاب والمبدعين.
بقلم أ. د. شاكر عبد الحميد
وزير الثقافة الأسبق