هذا ملتقى كان يمكن أن يضمّ ابن هرمة وأبا نواس والخيام والشيرازي وأمثالهم من شعراء الخمريات ليدلوا بشهاداتهم، لو قدّر لهم أن يكونوا اليوم بيننا، فهو، كما يدل عليه عنوانه،[1] مخصص للكحول ومكانتها في حياة المبدعين، قدامى ومحدثين، ودورها في تجلي الإبداع، شعرا ونثرا. وقد اشترط المشرفون على تنظيم الملتقى أن يأتي كل متدخل بقارورته، نظرا للإقبال الذي فاق كل التوقعات، فقد كان عدد الراغبين في الحضور ( بمقابل ) ثلاثة أضعاف ما تسعه القاعة.
والغاية من عقده كانت للتثبت من مدى صحة الرأي الشائع حول كمون العبقرية في قعر الدّنّ أو الزجاجة أو الكأس، ومحتواها واحد، وإن اختلفت أنواعه ودرجات اختماره وآثاره، خصوصا بعد ما راج من سير مشاهير الأدباء من راسين وكورناي إلى فوكنر وبلوندان ومالكوم لاوري وبوكوفسكي وهيمنغواي وجيم هاريسون استنادهم إلى شرب الراح لقدح أفكارهم وإبداع نصوصهم.
يرى برنار بيفو صاحب “معجم عشاق الخمر” أن الصلة بين الأدب والخمر قديمة قدم الكتابة، وأن أسماء كثيرة من مونتاني إلى فرنسوا مورياك كانت تدمن شرب الخمر قبل الكتابة أو أثناءها، ومنهم من لا يكتفي باحتسائها بل كان يملك مزرعة كروم ومعاصر وقباء تودع فيها القوارير المعتقة لتكون طوع اليد، بمناسبة وبغير مناسبة. وكان الإدمان لدى بعضهم بمثابة بطاقة عيادة، وفي نصوصهم، يغدو وصف لذائذ السكر والانتشاء وسيلة لممارسة مواهبهم. ولكن من الوهم أن يجيئهم الإلهام من القارورة.
أما الفيلسوف ألكسندر لاكروا واضع كتاب “الغرق في الكحول” ( وليس الإغراق )، فهو يميز بين شرب البروتستانت الذين يميلون إلى الرّوم والويسكي مثل جاك كرواك صاحب الرواية الشهيرة ” في الطريق”، وشرب اللاتينيين الذين يفضلون النبيذ. وإذا كان الأيرلندي جيمس جويس أبو الرواية الحديثة يكره النبيذ الأحمر الذي يطلق عليه اسم “اللحم”، ويفضل الاستعانة على تأليف نصه بما يسميه “الكهرباء” أي النبيذ الأبيض، فإن الفرنسي فيليب سوليرس يعترف بإقباله عليهما معا دون تمييز.
وكما أن لكل كاتب أسلوبه، فإن لكل منهم أيضا نوع الكحول الذي أدمن شربه، من الفودكا لدى تولستوي والبستيس لدى مارسيل بانيول إلى الأبسنتة ( الشبيهة بالعرق في بلاد الشام والعراق ) لدى موباسان وخصوصا جيرار نرفال التي ذهبت بعازب عقله. والمعروف أن متعاطي هذا الشراب ( الذي حرم في فرنسا منذ مطلع القرن الماضي ) كانت تنسب إليهم قدرات خارقة في الاكتشافات، وساد اعتقاد لدى الأدباء أنفسهم بأن المدمن منهم لا يستطيع الكتابة إذا أقلع عن إدمانه.
وفي هذا يقول الفيلسوف جيل دولوز – بعد إقلاعه عن الشرب – في باب حرف الشين من كتابه “أبجديات” : “كنت أحسب أن الشرب يساعدني على ابتكار مفاهيم جديدة، ولكني اكتشفت أن ما قمت به بفضل الكحول يمكن أن آتي بمثله دونما حاجة إليها.” وإن كان يتفهم أن العمل قد يفرض على المرء “أن يقدم جسده قربانا”، ويضرب مثلا على ذلك حال الكاتب الأمريكي سكوت فيتزجيرالد، النبي اليائس كما يسميه، فقد “شهد في حياته أمرا جللا، لم يستطع احتمال وطأته بغير الكحول”. وهو ما يشاطره فيه الروائي باتريك دوفيل الفائز بجائزة فيمينا لهذا العام، إذ يقول : “الكاتب ينخرط في مغامرة بروميثيوسية. فهو إذ يكتب ويرسم ويصوغ، فمرد ذلك إحساسه بأن الحياة وحدها لا تكفي. هذا الإحساس قد يكون هو أيضا مصدرا لإدمان ما.”
وأيا ما تكن الصلة بين الإدمان والإبداع، فإن آداب الكحول، كما يرى لاكروا، شهدت انتكاستها منذ العام 1848 الذي صادف دخول عبارة “الكحولية” القواميس، ومع صدور كتاب بودلير “فراديس مصطنعة” عام 1860 فقد الأديب مكانته في مجتمع الأُجَراء الناشئ، وبات يحتسي كأسه في الحانات جنبا إلى جنب مع العمال، وصارت الخمر حاضرة في أدب الكتاب من زولا إلى رامبو كمادة أدبية ومحركٍ لعملية الخلق. ومنذ العام 1970 انحسرت أمام ثقافة المخدرات التي فَشَتْ في أوساط فئات كثيرة من المجتمع، بمن فيهم الأدباء.
أما الجيل الجديد من الكتاب مثل ماتياس إينار وسيبَستيان لاباك وكلووي ديلوم فهم ينظرون إلى المسألة كثيمة أدبية لرواياتهم ويعتبرون أن الذين يشربون هم العاجزون عن الكتابة. يقول جيروم فيراري الفائز بجائزة غونكور لهذا العام عن روايته “خطبة في سقوط روما” التي تدور أحداثها في حانة : “الكتابة تتطلب صفاء الذهن بشكل تام، وإلا فسوف نجد أنفسنا في وضع يجعلنا نندهش أمام ما نكتب، ثم نصاب عند الصحو بمرارة الحقيقة.”
باريس في 17 نوفمبر 2012
[1] كحول، ملتقى ساحة المعوقين في دورته السادسة عشرة، المركز الثقافي الكندي بباريس، 16 نوفمبر 2012.
والغاية من عقده كانت للتثبت من مدى صحة الرأي الشائع حول كمون العبقرية في قعر الدّنّ أو الزجاجة أو الكأس، ومحتواها واحد، وإن اختلفت أنواعه ودرجات اختماره وآثاره، خصوصا بعد ما راج من سير مشاهير الأدباء من راسين وكورناي إلى فوكنر وبلوندان ومالكوم لاوري وبوكوفسكي وهيمنغواي وجيم هاريسون استنادهم إلى شرب الراح لقدح أفكارهم وإبداع نصوصهم.
يرى برنار بيفو صاحب “معجم عشاق الخمر” أن الصلة بين الأدب والخمر قديمة قدم الكتابة، وأن أسماء كثيرة من مونتاني إلى فرنسوا مورياك كانت تدمن شرب الخمر قبل الكتابة أو أثناءها، ومنهم من لا يكتفي باحتسائها بل كان يملك مزرعة كروم ومعاصر وقباء تودع فيها القوارير المعتقة لتكون طوع اليد، بمناسبة وبغير مناسبة. وكان الإدمان لدى بعضهم بمثابة بطاقة عيادة، وفي نصوصهم، يغدو وصف لذائذ السكر والانتشاء وسيلة لممارسة مواهبهم. ولكن من الوهم أن يجيئهم الإلهام من القارورة.
أما الفيلسوف ألكسندر لاكروا واضع كتاب “الغرق في الكحول” ( وليس الإغراق )، فهو يميز بين شرب البروتستانت الذين يميلون إلى الرّوم والويسكي مثل جاك كرواك صاحب الرواية الشهيرة ” في الطريق”، وشرب اللاتينيين الذين يفضلون النبيذ. وإذا كان الأيرلندي جيمس جويس أبو الرواية الحديثة يكره النبيذ الأحمر الذي يطلق عليه اسم “اللحم”، ويفضل الاستعانة على تأليف نصه بما يسميه “الكهرباء” أي النبيذ الأبيض، فإن الفرنسي فيليب سوليرس يعترف بإقباله عليهما معا دون تمييز.
وكما أن لكل كاتب أسلوبه، فإن لكل منهم أيضا نوع الكحول الذي أدمن شربه، من الفودكا لدى تولستوي والبستيس لدى مارسيل بانيول إلى الأبسنتة ( الشبيهة بالعرق في بلاد الشام والعراق ) لدى موباسان وخصوصا جيرار نرفال التي ذهبت بعازب عقله. والمعروف أن متعاطي هذا الشراب ( الذي حرم في فرنسا منذ مطلع القرن الماضي ) كانت تنسب إليهم قدرات خارقة في الاكتشافات، وساد اعتقاد لدى الأدباء أنفسهم بأن المدمن منهم لا يستطيع الكتابة إذا أقلع عن إدمانه.
وفي هذا يقول الفيلسوف جيل دولوز – بعد إقلاعه عن الشرب – في باب حرف الشين من كتابه “أبجديات” : “كنت أحسب أن الشرب يساعدني على ابتكار مفاهيم جديدة، ولكني اكتشفت أن ما قمت به بفضل الكحول يمكن أن آتي بمثله دونما حاجة إليها.” وإن كان يتفهم أن العمل قد يفرض على المرء “أن يقدم جسده قربانا”، ويضرب مثلا على ذلك حال الكاتب الأمريكي سكوت فيتزجيرالد، النبي اليائس كما يسميه، فقد “شهد في حياته أمرا جللا، لم يستطع احتمال وطأته بغير الكحول”. وهو ما يشاطره فيه الروائي باتريك دوفيل الفائز بجائزة فيمينا لهذا العام، إذ يقول : “الكاتب ينخرط في مغامرة بروميثيوسية. فهو إذ يكتب ويرسم ويصوغ، فمرد ذلك إحساسه بأن الحياة وحدها لا تكفي. هذا الإحساس قد يكون هو أيضا مصدرا لإدمان ما.”
وأيا ما تكن الصلة بين الإدمان والإبداع، فإن آداب الكحول، كما يرى لاكروا، شهدت انتكاستها منذ العام 1848 الذي صادف دخول عبارة “الكحولية” القواميس، ومع صدور كتاب بودلير “فراديس مصطنعة” عام 1860 فقد الأديب مكانته في مجتمع الأُجَراء الناشئ، وبات يحتسي كأسه في الحانات جنبا إلى جنب مع العمال، وصارت الخمر حاضرة في أدب الكتاب من زولا إلى رامبو كمادة أدبية ومحركٍ لعملية الخلق. ومنذ العام 1970 انحسرت أمام ثقافة المخدرات التي فَشَتْ في أوساط فئات كثيرة من المجتمع، بمن فيهم الأدباء.
أما الجيل الجديد من الكتاب مثل ماتياس إينار وسيبَستيان لاباك وكلووي ديلوم فهم ينظرون إلى المسألة كثيمة أدبية لرواياتهم ويعتبرون أن الذين يشربون هم العاجزون عن الكتابة. يقول جيروم فيراري الفائز بجائزة غونكور لهذا العام عن روايته “خطبة في سقوط روما” التي تدور أحداثها في حانة : “الكتابة تتطلب صفاء الذهن بشكل تام، وإلا فسوف نجد أنفسنا في وضع يجعلنا نندهش أمام ما نكتب، ثم نصاب عند الصحو بمرارة الحقيقة.”
باريس في 17 نوفمبر 2012
[1] كحول، ملتقى ساحة المعوقين في دورته السادسة عشرة، المركز الثقافي الكندي بباريس، 16 نوفمبر 2012.