إبراهيم صموئيل - الكاتب ناقد ورقيب

أول من يعرف قيمة عمله الأدبي هو الكاتب نفسه، وأكثر من يعرف سويّته الإبداعية هو الكاتب نفسه أيضا. وما قول المتنبي الشهير: "ابن جنّي أدرى بشعري مني" سوى دلالة على أن ابن جنّي أقدر على صوغ الحديث النقدي مما يقدر عليه المتنبي.
أما أن يكون ابن جنّي -أو أي ناقد دارس- أسبق بالمعرفة، وأقدر على تحديد المستوى الإبداعي من المؤلف ذاته، فلا يعدو ذلك أن يكون على سبيل المجاز فحسب! بل إن شاعرنا لا يعرف قيمة شعره وأثره على الناس عموما فحسب، وإنما يمتلئ أيضا يقينا بذلك، حتى على الأعمى من الناس والأصم، وهو القائل ثقة: "أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي / وأسمعت كلماتي من به صممُ"!
فالكاتب -والمبدع عموما- حين ينكب على عمله، ثم يعاود قراءته أو النظر إليه أو الإصغاء له.. يتبيّن مواطن القوة، ومواضع الضعف أو الوهن، يميّز البارقة التي شعّت عن الظل المعتم الذي أناخ، يشعر بالدفقة الحيوية التي انبثقت منه، وبالأخرى التي استعصى تظهيرها فغاصت وغارت بعيدا.
من المفردة الواحدة، إلى الجملة إلى المقطع، وعبر صفحات الكتاب، يرافق المؤلفَ "الناقدُ" الذي في داخله، أو هو يحضر بعد إنجاز العمل ليدلي برأيه وتقويمه.
ما من كاتب أو مبدع إلا ويكمن في داخله ناقد حصيف. وإلا فلماذا يقدِم الكاتب على شطب كلمة أو تعبير، وحذف جملة أو مقطع أو فصل كامل أحيانا ليعاود صوغه وكتابته على نحو مغاير ومختلف؟ أليس لأن الوجه الآخر للكاتب: الناقد، اعترض مقترحا إنشاء بديل؟
الجملة المستعارة لبعض الكتاب من الوالدين اللذين حين يطلب منهما الممايزة والمفاضلة بين أولادهما فيجيبان عادة: "لا فرق بينهم، كلهم أبناؤنا" تتجنب الإحراجَ بالإفصاحِ، أما واقع الأمر فالوالدان يعرفان حقّ المعرفة، يميزان ويفرزان الابنَ النجيب، المجتهد، الذكي، والطموح من الابن الآخر الكسول، الاتكالي، المهمل، المحدود الموهبة.
الأمر نفسه ينسحب على ما يخص المنجَز من الأعمال الكتابية أو الفنية التي يمثّل الكاتب والفنان -في الاستعارة- فيها دورَ الأبوين. كلّ أعماله أبناؤه، لكنه يستطيع أن يفرزها ويفاضل بينها. أليس لمعرفة المؤلف انتقى واختار نزار قباني مثلاً مجموعة من شعره، وأصدرها عن دار منشوراته مسمّيًا إياها: "أجمل قصائدي"؟! أحسبُ الأمر كذلك.
ثمة هاتف داخل المبدع، نداء خافت، صوت هامس أشبه بالرنين الرهيف، يُنبئه، على امتداد مسيرته الإبداعية بضعفٍ في عمله هذا، وترهّل في ذاك، وابتسار في آخر، وتكرار أو تسرّع هنا أو هناك.. تمامًا، مثلما يؤكد له قوةَ موضوع، وعمق مضمون، وجدّة فكرة، وبراعة لقطة، وفرادة زاوية رؤية، وتوهج تعبير.
وعلى الدوام يصل نداء التحذير -على خفوته- إلى ذائقة المبدع وإدراكه النقدي، وينبهه إلى ما يكون قد غفل عنه، أو تهرب منه، أو تجاهله لسبب ما، بيد أن ما يحدث لدى بعض الكتّاب هو أنهم يصمّون آذانهم، وينحون معرفتهم وثقافتهم النقدية، متغاضين عن الإشارات المرسلة إليهم من ندائهم الداخلي!
قلتُ: لدى البعض، لأن بعضا آخر من الكتاب والفنانين يهبون أنفسهم واهتمامَهم بالكامل إلى ذلك الرنين الخافت، مستهدين في أعمالهم بإشاراته، حريصين على تجويدها وتعميقها في حال الإيجاب، أو تداركها وتجاوزها وتنحيتها في حال السلب، وذلك ليقينهم بأن التغاضي لن يعفي نتاجهم من عثراته ومثالبه وعيوبه حين ظهوره للمتلقي.
ولعل التجاهل الأشد لتحذير الهاتف الداخلي، والعطب الأكبر الذي يصيب تأثيره ويبطل مفعوله، يبرز لدى المبدعين المكرسين ممن اشتهرت أعمالهم، ولمعت نجومهم في سماء الثقافة.
هؤلاء -وبسبب من النجومية واللمعان- لا يتعالون على ملاحظات قرائهم ونقادهم ومجموعة الأصدقاء المحيطين بهم فحسب، وإنما يديرون ظهر اهتمامهم أيضا لمنبئهم الداخلي ولوعيهم النقدي، مكابرين بالمحسوس، في حين أن الخطّ البياني لمستوى منجزهم يهوي نزولا من ذرى ما وصلت إليه أعمالهم في السابق.
أسماء عديدة في المشهد الثقافي العربي (وغير العربي أيضا) تبوأ أصحابها مكانة بارزة، وصاروا أعلاما، وتقدمت أعمالهم في الشعر والرواية والقصة، في الفن التشكيلي والغناء والموسيقى، لتحتل الصف الأول بجدارة.
وبدلا من التأني في الإنتاج، وممارسة الرقابة الفنية والعناية المشدّدة للحفاظ على مكانتهم وإبداعية منجزهم، ينزلقون إلى ما هو أضعف من المحاولات التجريبية الأولى، ويتدنى المستوى الإبداعي الرفيع حتى لا يكاد المتلقي يصدق أن الأعمال الهابطة هذه هي للرموز والأعلام أولئك لولا أسماؤهم الممهورة عليها!
ثمة ممارسات طريفة -لكنها دالة في الآن نفسه- جرت في هذا الصدد، لغاية تبيّن الغث من السمين في أعمال مبدع، إذ يُقدم نصّ مغفلا من اسم صاحبه، ويطلب من مجموعة مثقفين إبداء الرأي فيه، فتكون النتيجة بمثابة كوارث تدهش وتثير تعجّب واستغراب أفراد المجموعة أنفسهم حين يعرفون اسم المؤلف!
وإذا كان من حق البعض أن يرى في "التجربة" السابقة سماجة و"خفّة كائن لا تحتمل" فإنها لدى بعضٍ آخر بمثابة ميزانٍ نقدي حقيقي لبيان من "شحمه ورم" وسلوك تطبيقي لمبدأ طالما نُودي به، واحتكم إليه في التقويم النقدي: فصل سلطة الاسم عن سلطة النص.
وبصرف النظر عن الرأيين السابقين، فإن سؤالا عاما يطرح نفسَه في هذا الصدد: أيكون الإصغاء لما يُنبئ به الهاتف الداخلي، والالتزام بإشاراته وما يمليه، العامل الأكبر وراء قلة الأعمال الصادرة لمبدعٍ كإبراهيم أصلان على سبيل المثال، في حين أن عدم الإصغاء له وتجاهل تحذيراته العلّة الحقيقية خلف توالد الأعمال، وتوالي صدورها، وتراكمها على نحو هائل بما لا يفسح في المجال -حتى للمعجبين المتابعين- الاطلاع على أحدثها صدورا وقراءته كحنا مينة مثلا؟
من دون شك، هذا شأن المبدع وحريته الشخصية، غير أن الأصل -كما أعتقد- أن تزايد اهتمام الكاتب والمبدع عموما بعمله، وارتفاع منسوب تأنيه ورقابته النقدية الصارمة يتناسبان طردا مع ازدياد شهرته، وارتفاع مكانته في الحياة الثقافية، وإلا أضاع الطريق، وأضاع البوصلة الهادية، وراح يهبط، جارّا معه الألقَ والمكانة والسمعة التي حاز عليها في مسيرته السابقة على مرحلة هبوطه الحر!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...