ما هي الفلسفة ؟
الفلسفة لفظة إغريقيّة ليس لها ما يقابلها في أي لغة أخرى، ولذلك نجد أنها حافظت في كل اللغات على نفسها كلفظة متميّزة، قيل فيها الكثير من التعريفات المختلفه من حيث الرؤية والمضمون والاسلوب، وفق طروحات الفلاسفة واختلافهم منذ الاغريق إلى يومنا هذا، لكنهم جميعاً اتفقوا على أن الفلسفة هي المدخل الرئيسي للمعرفة.
الفلسفة كلمة يونانية الأصل مركبة من جزئين هما : "فيلو" وتعني محبة، و"سوفيا" وتعني الحكمة، وعليه تدل كلمة " الفلسفة من الناحية الاشتقاقية على محبة الحكمة أو إيثارها، والفيلسوف مشتق من الفلسفة "فيلوسوفوس" ومعناه مؤثر الحكمة"([1]).
بدأت لحظة الفلسفة، "عندما اخذ الإنسان يتسائل ليكتشف ما هو مجهول أو غير مفهوم وليصل إلى جواب مناسب فيه، فمنذ ان بدأ وعي الإنسان النقدي، بدأت أزمة المعرفة، ومعها بدأ التفكير بالمفاهيم والمقولات المبهمة، ذلك إن محاولات الإنسان لمعرفة الكون والوجود وسبر اغوارهما والكشف عن اسرارهما اثارت دهشته، ومع الدهشة بدأ القلق، ومع القلق بدأت الخيبة، ومع الخيبة بدأ التساؤل ومع التساؤل بدأ التفكير الفلسفي، الذي كان أول محركات الوعي والوعي النقدي على وجه الخصوص. ومع الوعي النقدي بدأت أزمة وعي الوجود، وكل الفلسفات تبدأ بدهشة وأزمة وتساؤل.! "([2]).
والأزمة تعني الشك، " والشك هو طريق اليقين.. ومع الشك بدأ الوعي النقدي بالوجود.. عندما بدأ الابناء يشكون في اساطير الأولين وتولاهم الشعور بأن العالم ليس محكما تماما، كما في القصص والأساطير وملاحم الآلهة، وبدأت خيبة الأمل من اللاجواب، ودفعت الإنسان إلى التفلسف، والتفلسف ايقظ العقل وفتح الذهن امام آفاق عديدة من المعرفة، فلم يعد الإنسان يقف سلبيا امام الكون والوجود.
فالفلسفة اذن، هي البحث المتواصل، الذي لا ينتهي، ولا يكل عن التساؤل عن أسرار الوجود الذي حركه وعي الإنسان النقدي، الذي نَوَّر العقل، وشَحَذَ الفكر، ودفعه لمزيد من التساؤل والنقد للوصول إلى الحقيقة، وحل الغاز الوجود واسرار الحياة"([3]). والفلسفة أيضاً ليست كما تُتَرجَم عن اليونانية بأنها حب الحكمة .. إنها حب المعرفة وهي قبل كل شئ موقف الإنسان من الظواهر، والأحداث السياسية والاجتماعية والطبيعية من حوله، من خلال وعيه العميق لتلك الظواهر، وبدون ذلك الوعي في شكله الطليعي يفقد الموقف قدرته على التأكيد والانتشار، ذلك إن الوعي بالظلم الوطني أو الاستغلال الطبقي الاجتماعي، هو المقدمة الضرورية لبلورة الموقف المطلوب لعملية التغيير الوطني التحرري أو الاجتماعي.
إن المضمون المعرفي في تعريفنا للفلسفة، يتلخص في ان الفلسفة تعني السعي وراء المعرفة، فيما يخص أموراً أساسيّة وجوهريّة في حياة الإنسان كالحياة والموت والحقيقة، وقبل كل شيء استيعاب الواقع الاجتماعي السياسي والثقافي بكل مكوناته ومعانيه، وطرح الرؤى الشمولية المطلوبة للتغيير والتطوير في بنية ذلك الواقع .
هكذا نتوصل إلى التعريف الذي نتوخاه للإجابة على سؤال ما هي الفلسفة؟ ويتلخص في أن الفلسفة هي: مجموعة من النظرات الشاملة إلى العالم والطبيعة والمجتمع والإنسان، عبر التلازم الجدلي بين العام والخاص، في كل مرحلة من مراحل تطور البشرية.
لكن سؤال ما هي الفلسفة، يظل سؤال أزمة لاسؤال معرفة - كما يقول المفكر الراحل محمود العالم-والمقصود هنا أزمة في الفلسفة على المستوى الإنساني العام، وهي جزء من الأزمة التي يعانيها العالم كله في مختلف أقطاره، وفي مختلف جوانب حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والقيمية بوجه خاص، وهي بالنسبة لنا أزمة فكرية خاصة، لا تقتصر على أوضاعنا الداخلية والمخاطر التي ادت إلى فشل المشروع النهضوي العربي فحسب، ولكنها تتصل بالانهيار الذي تعرضت له التجربة الاشتراكية، بمثل ما تتصل بحركة الاستقطاب العالمي لمصلحة الهيمنة الرأسمالية العالمية عبر مفاهيم "جديدة" تسعى إلى فرض مبدأ إرادة القوة بديلاً للعقل والتنوير والحرية والديمقراطية.
لكن، على الرغم من هذه الأزمات، يظل تعريف الفلسفة، موضوعياً، يتجلى في كونها تُجَسِّد مجمل الآراء والتصورات عن القضايا العامة –في هذا العصر أو ذاك- لتطور الوجود والوعي (علاقة الفكر بالوجود )، وهي شكل من أشكال الوعي الاجتماعي (أشكال الوعي الاجتماعي هي: العلم-الفلسفة - الفن- الأخلاق- السياسة- الدين كلها مترابطة عضوياً)، وفي هذا الجانب أشير إلى أن هناك مستويين من الوعي الاجتماعي:
1. مستوى عفوي.
2. مستوى عميق – طليعي (أيديولوجي)
الأول : المستوى العفوي أو السيكولوجي الاجتماعي:
وهو يمثل وعي الناس للأحداث، والوقائع والظواهر السطحية، والانفعالات والأمزجة، ويرسخ في العادات والتقاليد والأعراف لدى جميع الفئات الاجتماعية والطبقات والأمم، هذا المستوى يعبر عن العلاقات والمصالح اليومية، والقريبة للناس بارتباطها بالبعد التاريخي أو التراثي المتراكم بكل معطياته السالبة والإيجابية وبما يعزز دور "الطبقات السائدة".
الثاني : المستوى الطليعي (الأيديولوجي):
ويعني تعمق الوعي بشكل نوعي في سبر أغوار الوجود الاجتماعي، فالوعي على المستوى الأيديولوجي يعكس الوجود الاجتماعي، في النظريات والأفكار والمذاهب والمفاهيم، وهو يصاغ بتفكير وترو عميقين، من قبل ممثلين للطبقة المعنية (إنهم إيديولوجيو الطبقة الأكثر فعالية وقدرة على الهيمنه أو التغيير، بما يحقق نزوعهم نحو السيطرة أو الأنعتاق).
الفلسفة في رأينا هي أهم شكل من أشكال الوعي الاجتماعي (تنعكس فيه حصيلة التقدم العلمي والاجتماعي وكافة التناقضات الاجتماعية) إنها كما يقول ماركس، زبدة عصرها الروحية، وهي روح الثقافة الحية، وبهذا المعنى لايمكننا عزل الفلسفة عن معطيات التحرر الوطني الفلسطيني والعربي، كما لايمكن عزلها عن الواقع الاجتماعي الاقتصادي الذي نعيشه اليوم، لأن الترابط بين الفلسفة والسياسة والتاريخ أصبح حالة موضوعية([4]) في عصرنا الراهن على وجه الخصوص .
ففي عصرنا هذا، لم تعد المفاهيم السابقة – في معظمها – قادرة على الاستجابة لضرورات هذا العصر، لدى مثقفي العالم الثالث عموماً، والوطن العربي بشكل خاص، فالفلسفة " مطالبه اليوم، بالإشتغال بالمفاهيم: لقد تغير العالم، عالم الفكر وعالم الواقع، مع ماشهده من احداث عظام منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وتلاشي المنظومة الفكرية الاشتراكية، وحلول منطق العولمة محل الفكرة القومية.. الخ، هذه التحولات فرضت على الفلسفة إعادة تحديد مهمتها، والأمر لايتوقف عند العودة إلى مفاهيم سابقة تحتاج اليوم إلى بعث الحياة فيها، على سبيل المثال: مفهوم "التسامح" ومفهوم "العدل" ومفهوم "الأخلاق"، ولكنه يتخطى ذلك نحو مواجهة المفاهيم الطارئة مثل مفهوم "صراع الحضارات" ومفهوم "العولمة" ومفهوم "اللاقومية" ومفهوم "نهاية الديمقراطية" ومفهوم "ما بعد الحداثه" إلى غير ذلك من المفاهيم التي على الفكر الفلسفي أن يواجهها بسلاح النقد والتعرية"([5]).
الفلسفة أيضاً هي الوسيط المنطقي بين العلم والثورة –كما يقول د.عادل ضاهر-، " إنها الأداه الفعلية المطلوبة لتسويغ المثال السياسي والاجتماعي الذي يسعى إلى بلورته من أجل بناء نظام اجتماعي وطني/ قومي على صورته، وبالتالي فإن وظيفة الفلسفة، هي المساهمة في تزويدنا بالنظرات الجديدة والشاملة التي يفترض بناء الإنسان الطليعي بها، ووضوح البناء المعرفي الذي يحدد مسار الإطار الطليعي من جهة، وسمات أو طبيعة وشكل النظام السياسي – الاجتماعي الذي يفترض أن ننتهي إلى إقامته من جهة أخرى"([6]).
" وعلى هذا يمكن القول أن الفلسفة إنما هي: مبدأ لتوجيه الإنسان في سلوكه إزاء العالم المحيط به، أي أن اعتناقنا مبدءاً مُوَجِّهاً إزاء الحياة معناه اعتناقنا لفلسفة ما، ما دامت المبادئ الكبيرة، ذات الطابع العام التي يقبلها الإنسان، إما عن وعي وإما دون وعي، هي التي تحدد سلوكه في كافة المسائل التي تعترضه في أثناء حياته.
والحق أن وراء نزوعنا إلى التفلسف، رغبة في اكتشاف معارف نحيا من أجلها ومبادئ نعيش لها، بالنسبة لأنفسنا من ناحية، ومن اجل تقديمها للآخرين من ناحية أخرى.
مباحث الفلسفة :
تناولت الفلسفة عبر عصورها المختلفة موضوعات متعددة يمكن أن نبينها على النحو الآتي([7]):
أ- الميتافزيقا (ما بعد الطبيعة): افترضت الميتافزيقا وجود عالم يقوم فيما وراء عالمنا المحسوس وهو عصي على الإدراك الحسي، ولذلك فكل ما يقال عن هذا العالم ليس مما يمكن التحقق منه بالمشاهدة ولا بالتجربة.
ب- المنطق: هو علم يدرس الاستدلال من حيث الصحة والفساد، إذ لا يكتفي الإنسان باعتباره كائناً مفكراً، ان يتخذ من أشياء، بينات على أشياء أخرى، فيستدل بالأولى على الأخيرة، بل يعمد إلى دراسة الشروط التي إن توفرت في أي استدلال كان صحيحاً، وإن انعدمت منه كان فاسداً، بغض النظر عن الميادين العلمية التي يستخدم فيها.
ج- نظرية المعرفة (الابستيمولوجيا([8])): تتناول نظرية المعرفة مسائل أساسية أربع هي: 1- أصل المعرفة البشرية ومصدرها. 2- طبيعة المعرفة البشرية. 3- صدق المعرفة أي كيف تتميز المعرفة الصادقة عن المعرفة الكاذبة. 4- حدود المعرفة البشرية.
د- فلسفة الأخلاق: وهي دراسة وتحليل الألفاظ والعبارات التي نستخدمها في حياتنا الأخلاقية مثل "ينبغي"، "حق"، "باطل"، "خير"، "شر"، "فضيلة"، "رذيلة"، وما إلى ذلك.
ه- فلسفة الجمال: تتناول فلسفة الجمال دراسة وتحليل العبارات التي تستخدم فيها الكلمات "جميل"، "قبيح" مثل "هذا منظر جميل" و" هذه صورة قبيحة" وما إلى ذلك.
و- فلسفة العلم: وهي دراسة وتحليل العلوم من حيث طبيعتها ومنهجها ومفاهيمها، وذلك من أجل تعميق فهمنا لها.
ز- فلسفة الدين: تعنى فلسفة الدين بدراسة ما تنطوي عليه المعتقدات الدينية من مسائل عقلية تنشأ من تطبيق نظرية المعرفة على الدين ومن محاولة تبرير هذه المعتقدات تبريراً عقلياً.
وللفلسفة مباحث أخرى كفلسفة التاريخ وفلسفة القانون وفلسفة السياسة وفلسفة التربية وغيرها.
وجها الفلسفة :-
الوجه المثالي، والوجه المادي، وكل منهما يحاول الإجابة عن المسألة الأساسية في الفلسفة وهي: علاقة الفكر بالوجود أو علاقة الروح بالطبيعة … إنه السؤال الخالد أيهما أسبق إلى الوجود ؟
عبر الإجابة على هذا السؤال يتحدد موقفنا مع المثالية أم مع المادية([9]) ومنهجها العلمي، فالمفكر المادي هو الذي ينظر إلى العالم المحيط بالإنسان (شمس ونجوم وأرض وبحار وكائنات حية) على أنها أشياء موجودة موضوعياً، أي أنها غير مرهونة في وجودها بالوعي البشري، من ناحية أخرى ترى المادية أن العالم الموضوعي هو عالم سرمدي، غير مخلوق وأنه هو علة وجود الوعي، لاالعكس (أي أنه سبب الوعي).
فالمادية تؤكد على قضيتين رئيسيتين هما([10]):
1. أن حوادث العالم هي الأوجه المختلفة للمادة المتحركة، باعتبار أن المادة([11]) هي ما هو موجود خارج روح كل روح والتي لا تحتاج لأية روح لكي توجد.
2. ان المادة هي، بالتالي، الواقع الأول وليست احساساتنا وفكرنا سوى نتاج هذا الواقع وانعكاسه.
فالمادة كما تعرفها الفلسفة المادية، هي الواقع الموضوعي، المستقل عن الروح والتي لاتحتاج إلى الروح لكي توجد.
أما المفكر المثالي، فهو ينطلق من أن الوعي (أو الفكر أو الروح) هو الأسبق على الوجود، إنه ينكر أن يكون وعي الناس انعكاساً للواقع الموضوعي من حولهم بكل جوانبه الاجتماعية والاقتصادية والوجودية ..إلخ.
في هذا السياق، أُشير إلى أن المادية لا تنكر أبداً وجود الروح، فالفكر موجود، والمادة موجودة، ولا يتعلق الأمر بـ"رد" الفكر إلى المادة، بل البرهنة على أن المادية هي الواقع الأول وان الروح هي المعطى الثاني.
وعندما تعلن المادية أن المادة هي الواقع الأول والفكر الواقع الثاني، فإن ذلك يعني أمرين([12]):
1. ان الفكر لا يمكن أن يوجد دون موضوع خارجي: الطبيعة.
2. ان الفكر لا يمكن أن يوجد دون شروطه المادية: دماغ الانسان.
وتكبر معرفة الإنسان مع سلطانه على الطبيعة، "فاذا اكتفينا فقط بملاحظة الواقع الذي يحيط بنا، لا نرى سوى واقعات معزولة، وظاهرات، ولكي نكتشف ونعرف قوانين الظاهرات، يجب أن نَنْفَذْ إلى جوهر التسلسلات التي تتم في العالم الموضوعي، لكي تتضح وتتبلور المقولة العلمية الموضوعية القائلة بأن الوجود أو المادة أسبق من الفكر أو الوعي.
فالطبيعة تظهر لنا قبل كل شيء بالشكل الذي تبدو فيه مباشرة لأعضاء حواسنا، لبصرنا، وسمعنا، ولمسنا، وَشَمِّنا، الخ.. ومع ذلك لكي نعرف قوانين الطبيعة والمجتمع، لا يكفي أن ننظر ونصغي، بل علينا أن نأخذ بالحسبان، كافة الخصائص والتفاصيل المتعلقه بأي ظاهرة في الطبيعة أو في المجتمع وصولاً إلى الحقائق الموضوعية.
على أي حال، بالرغم من موضوعية الرؤية المادية للعالم، إلا أننا لا ندعو إلى الوقوف أمام هذه المسألة التي قد تثير كثيراً من الجدل والتساؤلات والخلافات دون أي طائل، لكننا في نفس الوقت مع المنهج([13]) العلمي الجدلي، ومع الموقف الموضوعي في تفسير الظواهر والمتغيرات الكونيه عموماً، وكل ما تتعرض له مجتمعاتنا العربية خصوصاً من أجل الوصول عبر هذا المنهج إلى المفاهيم والمواقف والتطبيقات التي تؤدي للوصول إلى النهضة الحداثية التي نتطلع اليها، من أجل التحرر السياسي والاقتصادي والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، بإعتبار هذه القضايا إطارنا العملي المباشر في مواجهة الواقع من حولنا وفي تطبيق وعينا الفلسفي ومنهجه العلمي على هذا الواقع، من خلال الاستخدام الأمثل للعقل المرتبط بالتجربة الحسيه أو الممارسة، فالمعرفة تبدأ بالممارسة العملية، وبالممارسة العملية نكتسب معرفة نظرية، يجب بعدئذ أن ترجع من جديد إلى الممارسة العملية باعتبارها أساس المعرفة بجميع درجاتها، ذلك إن اكتشاف الحقيقة عبر الممارسة العملية، والتثبت من الحقيقة وتنميتها عبر الممارسة العملية، يتم عبر الانتقال من الاحساسات انتقالاً فاعلا إلى المعرفة العقلية، ومن المعرفة العقلية إلى التوجيه الفاعل للممارسة العملية الثورية، إلى تحويل العالم الموضوعي والذاتي". هكذا يلخص ماو تسي تونغ الحركة الصاعدة للمعرفة.
في هذا الجانب، أؤكد على أن العقل هو اداة المعرفة، والمعرفة هي الأداة الفكرية المحاكمة، وكما يقال " من لايملك القدرة على استخدام المعارف لن يكون طرفاً في إنتاجها، والذي لايستطيع استنباط الأفكار والحصول على المعلومات لن يكون مشاركاً في إبداعها، وما أحوجنا اليوم إلى صحوة عاجلة لمواجهة هذه الإشكالية وتخطيها، فالمعرفة هي انعكاس ذاتي للواقع الموضوعي، وهي أيضاً أسلوب وجود الوعي، الذي يتشكل من خمسة جوانب: 1- الوعي معرفة. 2- الوعي وعي للذات. 3-الوعي انفعالات. 4- الوعي تخيل. 5- الوعي إرادة.
إن كافة جوانب الوعي، مرتبطة بصور مباشرة بالعقل، الذي هو الأداة الفكرية المحاكمة فالسؤال هنا ما هو الفكر؟؟ إنه إدراك هويات جميع الأشياء، والإدراك نوعان:
الأول : الإدراك الحسي :- هذه طاولة.. إنسان.. شجرة .. لاشيء آخر.. عملية تمييز، أو فصل محدد في المكان، هذا هو الإدراك الحسي.
الثاني: الإدراك في التجريد الفكري العالي:- مثلاً الحق أو الحقيقة… الحق غير الباطل.. ضده.. كلاهما الفكر… كلاهما المعرفة… فالفكر يدلنا على الحقيقة والصواب، ويرشدنا أيضاً إلى معرفة الخطأ أو الباطل، لنقوم بنفيه بالدحض من أساسه، ومن خلال ذلك النفي نسعى إلى امتلاك الحقيقة ودحض الباطل، باطل الفكرة، تلك هي البداية الأولى لدحض باطل الواقع، هنا نفهم كيف تكون الحقيقة -في إطار الممارسة- فوق أي نظرية عموماً، وفوق الجمود المذهبي خصوصاً.
علينا أن نميز بين الحقيقة الموضوعية، وبين فلسفة هذا الفيلسوف أو ذاك، وفي أي عصر (سواء سقراط أو ارسطو أو كانط أو هيجل أو ماركس... إلخ) لأن الحقيقة الموضوعية المتطوره فوق كل هؤلاء، وفوق كل إنسان، وكل علم وكل حزب.. الخ، وهي قبل كل ذلك فوق إرادة القوة، وفوق كل اتفاق أوعقد ناتج عنها.. لأن إرادة القوة أو الاحتلال على سبيل المثال، هي حالة غير متوازنة، لاتعكس الحقيقة الموضوعية، وبالتالي فإن كل ماينتج عنها يتناقض مع حقائق التاريخ والواقع.. ولابد من مقاومة نتائجها وصولاً إلى حالة التوازن أو حقائق الواقع والتاريخ، مع أهمية إدراكنا لفكرة الاختلاف.
ففي تطور العالم المدني كان لفكرة الاختلاف دوراً هاماً عند كافة الفلاسفة، وهذه الفكرة كانت في كل العصور -ومازالت- كما يقول المفكر الراحل الياس مرقص، "هي الأمر الجوهري في قيادة الفكر ورئاسة الواقع، إذ أن الاختلاف أو التناقض ظاهرة موضوعية، وبالتالي فإن التحكم في الواقع وكيفية فهمنا لفكرة الاختلاف تحدد بشكل أو بآخر مصيرنا المستقبلي - بمعنى كيف سنتعامل مع هذه الفكرة (الاختلاف) عبر الديمقراطية والتطور والتقدم والصعود إلى الأمام من خلال بديلنا القومي التقدمي الديمقراطي النقيض"، عبر فهمنا لطبيعة الصراع الحالي وشكل أو أسلوب مواجهة هذا الصراع، وإن هذا الفهم مشروط بمعرفة صورة الوطن العربي بكل تفاصيلها، التاريخيه والراهنه.
تطبيقا لهذه الفكرة على الطبيعة والكون –كما يضيف إلياس مرقص- لا يوجد شيئان مهما تماثلا إلا وبينهما اختلاف - علينا أن نلاحظ أهمية دور هذه الفكرة (الاختلاف) في عملية التطور كما عَبَّرَ عنها الفلاسفة والعلماء والمفكرين منذ الفلسفة اليونانيه ثم الفلسفة العربية الاسلاميه وصولاً إلى الفلسفة الغربية الحديثة"([14]).
لكن، لابد من الاقرار بأن المجتمعات المتخلفه، ومن بينها مجتمعاتنا العربية، لا زالت أسيرة للمفاهيم اليقينية المطلقة المتوارثة، دون أي تفاعل مع فكرة الاختلاف، وعلى سبيل المثال ما زالت مقولة الجماعة أو مقولة الشعب أو الأمة أو الجماهير قائمة في مجتمعاتنا كهوية نابذة للاختلاف، للتعددية، وبالتالي يتم التركيز على فرد يجسد ويقزم في آن واحد مفهوم الجماعة، سواء من منطلق وطني (عبد الناصر كمثال) أو من منطلق رجعي تابع ومتخلف([15]) (كما الأغلبية الساحقة من الحكام العرب).
الاختلاف لابد أن يُبنى على فكرة واضحة مسبقا، فلايمكن لأحد فينا أن يصنع بيتاً أو قميصاً بدون فكرة البيت أو فكرة القميص.. ولا يجوز -في هذا السياق- لحزب ثوري أن يفكر بصنع (أو تغيير) عالم أو واقع بدون إستيعاب فكرة هذا العالم أو هذا الواقع (الفكرة هنا يجب أن تكون متكاملة لانصف فكرة) لأنه لايمكن إدراك الفكرة عبر نصفها أو ثلاثة أرباعها، لأننا بذلك نجزىء الكلي.. لنتذكر دوما أن الذي يأتي انعكاساً للواقع هو مفتاح التقدم والتطور وكسر الجمود والتخلف.
هذا ما حصل في أوروبا في بداية عصر النهضة حينما أُلغَيتْ سيطرة الكنيسة المباشرة على عقول الناس، وتطبيق مبدأ فصل الدين عن الدوله، وهذا يقودنا إلى التذكير بأن "مفكرينا العرب لم يَحِلُّوا بعد إشكالية الثنائية في خطابنا المعاصر بين التراث والتحديث أو الأصالة والمعاصرة أو الدين والدولة أو العلم والدين، فمازال الحاضر عندنا صورة أخرى من الماضي، لأننا ما زلنا أسرى لحالة الانقطاع الفكري التي سادت بلادنا منذ القرن الثالث عشر ومايزال تأثيرها إلى يومنا هذا دون أي تفعيل جوهري لمضمون الاختلاف أو التعدد"([16]).
إن ما يجري عندنا (كعرب عموماً) هو شكل من أشكال تجميد قواعد الاختلاف الذي أدى إلى إنتصار الفرد القائد على الناس،انتصار الدولة على المجتمع ،القيادة الفردية على كل المؤسسات الوطنية والتشريعية والبرلمانات.
الصوره الحاليه إذن، هي كما يلي: الفرد المطلق مقابل "السكون" الاجتماعي ؟؟" طبعاً لاأنكر الحركة الموضوعية المتراكمة داخل ذلك السكون .. لكنها حركة بطيئة غير صاعدة من جهة، مسلوبة الإرادة، ولا تعرف بالضبط إلى أين تتوجه طالما أن الطليعة المنظمة الواعية لاتتصل بجسور قوية، وبنشاط لايعرف الكلل، داخل السكون الاجتماعي بهدف تحويله من شكله العفوي الساكن إلى حركة تغييرية واسعة وعميقة، وهذا أمر ممكن لان كافة الظروف الموضوعية متوفرة، لكن العامل الذاتي (الحزب الثوري) يعاني من أزمته الداخلية العميقة.
من هنا، فإن من واجبنا ترسيخ الوعي بمقولة الاختلاف، باعتبار إنها تمثل الجزء الأولي والبسيط في التصور الديمقراطي للعملية السياسية والاجتماعية والاقتصادية في بلادنا بإعتبار هذه المقولة هي الميدان الواسع الحقيقي الذي سيحدد وجهتنا في الحاضر والمستقبل، لكي نسهم في تراجع حالة السكون.
لذلك لابد من الديمقراطية التي تنطلق من فلسفة الحداثة التقدميه، التي تقوم على وعي جدلية الواقع والاحترام للمجتمع، للناس، لفهم الناس وعقلهم، هذا الاحترام شرط المعرفة، والمعرفة شرط النقد والتغيير باتجاه النفي الايجابي. (البداية قد تكون في الأسرة .. في المدرسه .. والشارع ..أو في تداخلهم معاً، المهم أن نتوجه إلى الخاص أولاً ثم العام).
أما من ناحية العام، فالتاريخ كتغير وتحول وتقدم لا تحمله فكرة التناقض أو التعارض فحسب، بل على وجه التحديد فكرة النفي "ونفي النفي" التي تحمل فكرة "الجديد"، وهي فكرة تحمل معنى التحولية كنتاج للتراكمات الكميه (تاريخ التطور البشري عملية تركيبية.. كذلك تاريخ العلم)، إن التركيب هو نتاج نفي النفي .. وهو نتاج وعي الخاص في علاقته الجدلية والمستقبلية بالعام .
من جهة ثانية، إن تاريخ التطور البشري هو تاريخ انتاج الوعي البشري أو هو جزء من معركة العقل –من خلال الفلسفه- ضد كل الثوابت، في محاولة مستمرة منذ الاغريق إلى يومنا هذا، وهي عملية أجابت على سؤال ماهي الفلسفة؟ باعتباره السؤال الممتد في التاريخ البشري القديم والحديث والمعاصر، وهنا بالضبط تتجلى مقولة الوعي البشري إنعكاس للوجود البشري.
([1]) كريم متى - الموسوعة الفلسفية العربية- المجلد الأول- معهد الانماء العربي– الطبعة الأولى 1986–ص654
([2]) د. ابراهيم الحيدري – ماهي الفلسفة ؟.. أزمة المعرفة والوعي النقدي – الانترنت – 10 سبتمبر 2009.
([3]) المرجع نفسه .
([4]) موضوعية: للموضوعية أكثر من دلالة واحدة، فهناك دلالتها الخلقية، ودلالتها الابستمولوجية .. فإما دلالتها الخلقية فتعني النزاهة في القصد، والبعد عن الهوى ، والتجرد من العواطف الذاتية. وللموضوعية دلالة أخرى هي ما يمكن تسميته بالدلالة الابستمولوجية متى كانت تمثل الواقع تعبيراً عن الحقيقة. وهنا تختلف الآراء حول ما يقصد من الواقع أو الحقيقة. فهناك من يعتقد أن هذا العالم لا يوجد مستقلاً موضوعياً عن فكرنا، بينما هناك من يعتقد بوجود عالم موضوعي مستقل عن فكرنا. (صلاح قنصوه - الموسوعة الفلسفية العربية - المجلد الأول - معهد الانماء العربي – الطبعة الأولى 1986 –ص 803)
([5]) د.محمد عابد الجابرى- قضايا فى الفكر المعاصر- بيروت- مركز دراسات الوحدة العربية- 1997- ص11
([6]) د.عادل ضاهر- الفلسفة العربية المعاصرة - بيروت -مركز دراسات الوحدة -1988-ص83.
([7]) كريم متى- مرجع سبق ذكره - الموسوعة الفلسفية العربية- المجلد الأول- ص659
([8]) تعريف الابيستمولوجيا: مصطلح الابيستمولوجيا يعود أصله لكلمة يونانية الأصل، وهي Epistemology: مكونة من مقطعين Episteme وهي تعني معرفة، و Logos وتعني نظرية أو دراسة أو فلسفة، وبتركيب هذين المقطعين تصبح معنى الكلمة نظرية المعرفة، أو دراسة المعرفة.
أهم قضايا وأسئلة الابيستمولوجيا: إن الإنسان مجبول بالفطرة على غريزة المعرفة والفضول والاستكشاف، فهو دائما يريد أن يعرف ما هو وراء الأشياء المحسوسة التي يراها أمام عينه ، كما أنه يريد أن يعلم ما هو غير مدرك بالحس، وهي الأمور والمعاني المعنوية المجردة مثل القيم والأخلاق وغيرها من الأمور غير المحسوسة. فالإنسان دائم البحث عن المعرفة وهو دائم التساؤل. فمبحث الابيستمولوجيا أو نظرية المعرفة يبحث في هذه الأشياء، فقديما تطرق الفلاسفة إلى ما هي المعرفة وكيف يمكن أن تكتسب؟ وما هي قيمة المعرفة؟ وما الفرق بين العلم والمعرفة؟ بل وما علاقة العلم بالمعرفة؟ فهذه هي المباحث التي تبحث فيها الابيستمولوجيا.
([9]) المادية: الاتجاه الفلسفي العلمي الوحيد، في مقابل المثالية، وتذهب المادية الفلسفية إلى أن المادة أولية والعقل – أو الوعي- ثانوي، ويتضمن هذا ان العالم أبدي، وانه لا محدود في الزمان والمكان. (م. روزنتال و ب. يودين - الموسوعة الفلسفية – دار الطليعة – بيروت – ط1 اكتوبر 1974 – ص 429)
([10]) روجيه غارودي – تعريب: ابراهيم قريط – النظرية المادية في المعرفة – دار دمشق – طبعة ثانية – ص 30
([11]) المادة: مقولة فلسفية تعني الواقع الموضوعي الذي يوجد مستقلاً عن الوعي ومنعكساً فيه، ان الفهم المادي الجدلي للمادة يختلف عن الفهم الميتافيزيقي لها، في أنه طبقاً للفهم المادي الجدلي لا تعتبر المادة موجودة فحسب موضوعياً ومستقلة عن وعي الانسان، بل تعتبر أيضاً مرتبطة ارتباطاً لا انفصام له بالحركة والزمان والمكان، وقادرة على التطور الذاتي، بوصفها لانهائية كمياً وكيفياً في كل مستويات وجودها (م. روزنتال و ب. يودين - الموسوعة الفلسفية –دار الطليعة – بيروت – ط1 اكتوبر 1974 – ص 428).
"مفهوم المادة الفلسفيُّ" فلا يمكن أن يَعْني سوى أنَّ الواقع قائم بتمامه خارجَ رأسي، ولا يجوز أن يُضَمَّن أي شيء آخر؛ لا يجوز أن يغطِّي أية مُسَلَّمة أو مُصادرة ضمنية. (إلياس مرقص – أطروحات من أجل إصلاح الفلسفة – الانترنت)
([12]) روجيه غارودي – مرجع سبق ذكره - النظرية المادية في المعرفة – ص 30
([13]) أصل كلمة منهج يعود إلى ميتودوس الإغريقية التي تعني"الطريق".
([14]) الياس مرقص- العقلانية والتقدم- المغرب/الرباط - المجلس القومى للثقافة العربية - الطبعة الاولى1992.
([15]) تخلف: في الأصل اللغوي تخلف من خلف، والخلف ضد قدام .. والتخلف هو التاخر كما يقول ابن منظور، أما مضمون المفهوم فيقدم اعترافاً بنوع من الوحدة الحضارية العالمية بالنسبة للأهداف الموضوعة للنشاط الانساني، ويصبح التخلف والتقدم من وجهة النظر هذه، قطبي حركة واحدة هي النظام الاقتصادي العالمي. وهكذا يحمل المفهوم في طياته نموذجاً للتقدم مقبولاً كمرجع وكهدف نهائي، وهو يشير بصورة دائمة إلى لا مساواة ونقص ودونية بالنسبة لما يعتبر حياة أفضل، ويطرح بشكل خاص عوائق وموانع يجب إزالتها لإحداث نقلة نوعية نحو النقيض المنتج الذي هو التقدم.. ويتمظهر التخلف في العلاقات الاجتماعية كتعبير عن التخلف البنيوي للمجتمع الذي يرتكز إلى الاقتصاد أو يتخذ شكلاً معيناً على المستوى المعيشي، هذا الشكل يتحكم بالسلوك الاجتاعي يشكل بعدا ذاتياً لمسألة التخلف يكمل البعد الموضوعي ويتفاعل معه جدلياً... ولا يفهم التخلف إلا في علاقته بمفهومي الاستغلال والتبعية، وفي إطار النمو والتطور اللامتكافئ، فالتفاوت في مستويات التطور على المستوى التاريخي أدت إلى ممارسات منظمة لعلميات نهب الشعوب بالوسائل العسكرية وسلب الثروات الوطنية لهذه البلاد وتحويلها إلى مجرد سوق للاستيراد والتصدير، ويصبح التخلف بهذا المعنى "نتيجة لا مفر منها لعملية تاريخية سببتها قوانين التنافس والركض وراء الأرباح الاستعمارية واقتسام العالم بين القوى الامبريالية". (فهيمة شرف الدين - الموسوعة الفلسفية العربية - المجلد الأول - معهد الانماء العربي – الطبعة الأولى 1986 –ص 241)
الفلسفة لفظة إغريقيّة ليس لها ما يقابلها في أي لغة أخرى، ولذلك نجد أنها حافظت في كل اللغات على نفسها كلفظة متميّزة، قيل فيها الكثير من التعريفات المختلفه من حيث الرؤية والمضمون والاسلوب، وفق طروحات الفلاسفة واختلافهم منذ الاغريق إلى يومنا هذا، لكنهم جميعاً اتفقوا على أن الفلسفة هي المدخل الرئيسي للمعرفة.
الفلسفة كلمة يونانية الأصل مركبة من جزئين هما : "فيلو" وتعني محبة، و"سوفيا" وتعني الحكمة، وعليه تدل كلمة " الفلسفة من الناحية الاشتقاقية على محبة الحكمة أو إيثارها، والفيلسوف مشتق من الفلسفة "فيلوسوفوس" ومعناه مؤثر الحكمة"([1]).
بدأت لحظة الفلسفة، "عندما اخذ الإنسان يتسائل ليكتشف ما هو مجهول أو غير مفهوم وليصل إلى جواب مناسب فيه، فمنذ ان بدأ وعي الإنسان النقدي، بدأت أزمة المعرفة، ومعها بدأ التفكير بالمفاهيم والمقولات المبهمة، ذلك إن محاولات الإنسان لمعرفة الكون والوجود وسبر اغوارهما والكشف عن اسرارهما اثارت دهشته، ومع الدهشة بدأ القلق، ومع القلق بدأت الخيبة، ومع الخيبة بدأ التساؤل ومع التساؤل بدأ التفكير الفلسفي، الذي كان أول محركات الوعي والوعي النقدي على وجه الخصوص. ومع الوعي النقدي بدأت أزمة وعي الوجود، وكل الفلسفات تبدأ بدهشة وأزمة وتساؤل.! "([2]).
والأزمة تعني الشك، " والشك هو طريق اليقين.. ومع الشك بدأ الوعي النقدي بالوجود.. عندما بدأ الابناء يشكون في اساطير الأولين وتولاهم الشعور بأن العالم ليس محكما تماما، كما في القصص والأساطير وملاحم الآلهة، وبدأت خيبة الأمل من اللاجواب، ودفعت الإنسان إلى التفلسف، والتفلسف ايقظ العقل وفتح الذهن امام آفاق عديدة من المعرفة، فلم يعد الإنسان يقف سلبيا امام الكون والوجود.
فالفلسفة اذن، هي البحث المتواصل، الذي لا ينتهي، ولا يكل عن التساؤل عن أسرار الوجود الذي حركه وعي الإنسان النقدي، الذي نَوَّر العقل، وشَحَذَ الفكر، ودفعه لمزيد من التساؤل والنقد للوصول إلى الحقيقة، وحل الغاز الوجود واسرار الحياة"([3]). والفلسفة أيضاً ليست كما تُتَرجَم عن اليونانية بأنها حب الحكمة .. إنها حب المعرفة وهي قبل كل شئ موقف الإنسان من الظواهر، والأحداث السياسية والاجتماعية والطبيعية من حوله، من خلال وعيه العميق لتلك الظواهر، وبدون ذلك الوعي في شكله الطليعي يفقد الموقف قدرته على التأكيد والانتشار، ذلك إن الوعي بالظلم الوطني أو الاستغلال الطبقي الاجتماعي، هو المقدمة الضرورية لبلورة الموقف المطلوب لعملية التغيير الوطني التحرري أو الاجتماعي.
إن المضمون المعرفي في تعريفنا للفلسفة، يتلخص في ان الفلسفة تعني السعي وراء المعرفة، فيما يخص أموراً أساسيّة وجوهريّة في حياة الإنسان كالحياة والموت والحقيقة، وقبل كل شيء استيعاب الواقع الاجتماعي السياسي والثقافي بكل مكوناته ومعانيه، وطرح الرؤى الشمولية المطلوبة للتغيير والتطوير في بنية ذلك الواقع .
هكذا نتوصل إلى التعريف الذي نتوخاه للإجابة على سؤال ما هي الفلسفة؟ ويتلخص في أن الفلسفة هي: مجموعة من النظرات الشاملة إلى العالم والطبيعة والمجتمع والإنسان، عبر التلازم الجدلي بين العام والخاص، في كل مرحلة من مراحل تطور البشرية.
لكن سؤال ما هي الفلسفة، يظل سؤال أزمة لاسؤال معرفة - كما يقول المفكر الراحل محمود العالم-والمقصود هنا أزمة في الفلسفة على المستوى الإنساني العام، وهي جزء من الأزمة التي يعانيها العالم كله في مختلف أقطاره، وفي مختلف جوانب حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والقيمية بوجه خاص، وهي بالنسبة لنا أزمة فكرية خاصة، لا تقتصر على أوضاعنا الداخلية والمخاطر التي ادت إلى فشل المشروع النهضوي العربي فحسب، ولكنها تتصل بالانهيار الذي تعرضت له التجربة الاشتراكية، بمثل ما تتصل بحركة الاستقطاب العالمي لمصلحة الهيمنة الرأسمالية العالمية عبر مفاهيم "جديدة" تسعى إلى فرض مبدأ إرادة القوة بديلاً للعقل والتنوير والحرية والديمقراطية.
لكن، على الرغم من هذه الأزمات، يظل تعريف الفلسفة، موضوعياً، يتجلى في كونها تُجَسِّد مجمل الآراء والتصورات عن القضايا العامة –في هذا العصر أو ذاك- لتطور الوجود والوعي (علاقة الفكر بالوجود )، وهي شكل من أشكال الوعي الاجتماعي (أشكال الوعي الاجتماعي هي: العلم-الفلسفة - الفن- الأخلاق- السياسة- الدين كلها مترابطة عضوياً)، وفي هذا الجانب أشير إلى أن هناك مستويين من الوعي الاجتماعي:
1. مستوى عفوي.
2. مستوى عميق – طليعي (أيديولوجي)
الأول : المستوى العفوي أو السيكولوجي الاجتماعي:
وهو يمثل وعي الناس للأحداث، والوقائع والظواهر السطحية، والانفعالات والأمزجة، ويرسخ في العادات والتقاليد والأعراف لدى جميع الفئات الاجتماعية والطبقات والأمم، هذا المستوى يعبر عن العلاقات والمصالح اليومية، والقريبة للناس بارتباطها بالبعد التاريخي أو التراثي المتراكم بكل معطياته السالبة والإيجابية وبما يعزز دور "الطبقات السائدة".
الثاني : المستوى الطليعي (الأيديولوجي):
ويعني تعمق الوعي بشكل نوعي في سبر أغوار الوجود الاجتماعي، فالوعي على المستوى الأيديولوجي يعكس الوجود الاجتماعي، في النظريات والأفكار والمذاهب والمفاهيم، وهو يصاغ بتفكير وترو عميقين، من قبل ممثلين للطبقة المعنية (إنهم إيديولوجيو الطبقة الأكثر فعالية وقدرة على الهيمنه أو التغيير، بما يحقق نزوعهم نحو السيطرة أو الأنعتاق).
الفلسفة في رأينا هي أهم شكل من أشكال الوعي الاجتماعي (تنعكس فيه حصيلة التقدم العلمي والاجتماعي وكافة التناقضات الاجتماعية) إنها كما يقول ماركس، زبدة عصرها الروحية، وهي روح الثقافة الحية، وبهذا المعنى لايمكننا عزل الفلسفة عن معطيات التحرر الوطني الفلسطيني والعربي، كما لايمكن عزلها عن الواقع الاجتماعي الاقتصادي الذي نعيشه اليوم، لأن الترابط بين الفلسفة والسياسة والتاريخ أصبح حالة موضوعية([4]) في عصرنا الراهن على وجه الخصوص .
ففي عصرنا هذا، لم تعد المفاهيم السابقة – في معظمها – قادرة على الاستجابة لضرورات هذا العصر، لدى مثقفي العالم الثالث عموماً، والوطن العربي بشكل خاص، فالفلسفة " مطالبه اليوم، بالإشتغال بالمفاهيم: لقد تغير العالم، عالم الفكر وعالم الواقع، مع ماشهده من احداث عظام منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وتلاشي المنظومة الفكرية الاشتراكية، وحلول منطق العولمة محل الفكرة القومية.. الخ، هذه التحولات فرضت على الفلسفة إعادة تحديد مهمتها، والأمر لايتوقف عند العودة إلى مفاهيم سابقة تحتاج اليوم إلى بعث الحياة فيها، على سبيل المثال: مفهوم "التسامح" ومفهوم "العدل" ومفهوم "الأخلاق"، ولكنه يتخطى ذلك نحو مواجهة المفاهيم الطارئة مثل مفهوم "صراع الحضارات" ومفهوم "العولمة" ومفهوم "اللاقومية" ومفهوم "نهاية الديمقراطية" ومفهوم "ما بعد الحداثه" إلى غير ذلك من المفاهيم التي على الفكر الفلسفي أن يواجهها بسلاح النقد والتعرية"([5]).
الفلسفة أيضاً هي الوسيط المنطقي بين العلم والثورة –كما يقول د.عادل ضاهر-، " إنها الأداه الفعلية المطلوبة لتسويغ المثال السياسي والاجتماعي الذي يسعى إلى بلورته من أجل بناء نظام اجتماعي وطني/ قومي على صورته، وبالتالي فإن وظيفة الفلسفة، هي المساهمة في تزويدنا بالنظرات الجديدة والشاملة التي يفترض بناء الإنسان الطليعي بها، ووضوح البناء المعرفي الذي يحدد مسار الإطار الطليعي من جهة، وسمات أو طبيعة وشكل النظام السياسي – الاجتماعي الذي يفترض أن ننتهي إلى إقامته من جهة أخرى"([6]).
" وعلى هذا يمكن القول أن الفلسفة إنما هي: مبدأ لتوجيه الإنسان في سلوكه إزاء العالم المحيط به، أي أن اعتناقنا مبدءاً مُوَجِّهاً إزاء الحياة معناه اعتناقنا لفلسفة ما، ما دامت المبادئ الكبيرة، ذات الطابع العام التي يقبلها الإنسان، إما عن وعي وإما دون وعي، هي التي تحدد سلوكه في كافة المسائل التي تعترضه في أثناء حياته.
والحق أن وراء نزوعنا إلى التفلسف، رغبة في اكتشاف معارف نحيا من أجلها ومبادئ نعيش لها، بالنسبة لأنفسنا من ناحية، ومن اجل تقديمها للآخرين من ناحية أخرى.
مباحث الفلسفة :
تناولت الفلسفة عبر عصورها المختلفة موضوعات متعددة يمكن أن نبينها على النحو الآتي([7]):
أ- الميتافزيقا (ما بعد الطبيعة): افترضت الميتافزيقا وجود عالم يقوم فيما وراء عالمنا المحسوس وهو عصي على الإدراك الحسي، ولذلك فكل ما يقال عن هذا العالم ليس مما يمكن التحقق منه بالمشاهدة ولا بالتجربة.
ب- المنطق: هو علم يدرس الاستدلال من حيث الصحة والفساد، إذ لا يكتفي الإنسان باعتباره كائناً مفكراً، ان يتخذ من أشياء، بينات على أشياء أخرى، فيستدل بالأولى على الأخيرة، بل يعمد إلى دراسة الشروط التي إن توفرت في أي استدلال كان صحيحاً، وإن انعدمت منه كان فاسداً، بغض النظر عن الميادين العلمية التي يستخدم فيها.
ج- نظرية المعرفة (الابستيمولوجيا([8])): تتناول نظرية المعرفة مسائل أساسية أربع هي: 1- أصل المعرفة البشرية ومصدرها. 2- طبيعة المعرفة البشرية. 3- صدق المعرفة أي كيف تتميز المعرفة الصادقة عن المعرفة الكاذبة. 4- حدود المعرفة البشرية.
د- فلسفة الأخلاق: وهي دراسة وتحليل الألفاظ والعبارات التي نستخدمها في حياتنا الأخلاقية مثل "ينبغي"، "حق"، "باطل"، "خير"، "شر"، "فضيلة"، "رذيلة"، وما إلى ذلك.
ه- فلسفة الجمال: تتناول فلسفة الجمال دراسة وتحليل العبارات التي تستخدم فيها الكلمات "جميل"، "قبيح" مثل "هذا منظر جميل" و" هذه صورة قبيحة" وما إلى ذلك.
و- فلسفة العلم: وهي دراسة وتحليل العلوم من حيث طبيعتها ومنهجها ومفاهيمها، وذلك من أجل تعميق فهمنا لها.
ز- فلسفة الدين: تعنى فلسفة الدين بدراسة ما تنطوي عليه المعتقدات الدينية من مسائل عقلية تنشأ من تطبيق نظرية المعرفة على الدين ومن محاولة تبرير هذه المعتقدات تبريراً عقلياً.
وللفلسفة مباحث أخرى كفلسفة التاريخ وفلسفة القانون وفلسفة السياسة وفلسفة التربية وغيرها.
وجها الفلسفة :-
الوجه المثالي، والوجه المادي، وكل منهما يحاول الإجابة عن المسألة الأساسية في الفلسفة وهي: علاقة الفكر بالوجود أو علاقة الروح بالطبيعة … إنه السؤال الخالد أيهما أسبق إلى الوجود ؟
عبر الإجابة على هذا السؤال يتحدد موقفنا مع المثالية أم مع المادية([9]) ومنهجها العلمي، فالمفكر المادي هو الذي ينظر إلى العالم المحيط بالإنسان (شمس ونجوم وأرض وبحار وكائنات حية) على أنها أشياء موجودة موضوعياً، أي أنها غير مرهونة في وجودها بالوعي البشري، من ناحية أخرى ترى المادية أن العالم الموضوعي هو عالم سرمدي، غير مخلوق وأنه هو علة وجود الوعي، لاالعكس (أي أنه سبب الوعي).
فالمادية تؤكد على قضيتين رئيسيتين هما([10]):
1. أن حوادث العالم هي الأوجه المختلفة للمادة المتحركة، باعتبار أن المادة([11]) هي ما هو موجود خارج روح كل روح والتي لا تحتاج لأية روح لكي توجد.
2. ان المادة هي، بالتالي، الواقع الأول وليست احساساتنا وفكرنا سوى نتاج هذا الواقع وانعكاسه.
فالمادة كما تعرفها الفلسفة المادية، هي الواقع الموضوعي، المستقل عن الروح والتي لاتحتاج إلى الروح لكي توجد.
أما المفكر المثالي، فهو ينطلق من أن الوعي (أو الفكر أو الروح) هو الأسبق على الوجود، إنه ينكر أن يكون وعي الناس انعكاساً للواقع الموضوعي من حولهم بكل جوانبه الاجتماعية والاقتصادية والوجودية ..إلخ.
في هذا السياق، أُشير إلى أن المادية لا تنكر أبداً وجود الروح، فالفكر موجود، والمادة موجودة، ولا يتعلق الأمر بـ"رد" الفكر إلى المادة، بل البرهنة على أن المادية هي الواقع الأول وان الروح هي المعطى الثاني.
وعندما تعلن المادية أن المادة هي الواقع الأول والفكر الواقع الثاني، فإن ذلك يعني أمرين([12]):
1. ان الفكر لا يمكن أن يوجد دون موضوع خارجي: الطبيعة.
2. ان الفكر لا يمكن أن يوجد دون شروطه المادية: دماغ الانسان.
وتكبر معرفة الإنسان مع سلطانه على الطبيعة، "فاذا اكتفينا فقط بملاحظة الواقع الذي يحيط بنا، لا نرى سوى واقعات معزولة، وظاهرات، ولكي نكتشف ونعرف قوانين الظاهرات، يجب أن نَنْفَذْ إلى جوهر التسلسلات التي تتم في العالم الموضوعي، لكي تتضح وتتبلور المقولة العلمية الموضوعية القائلة بأن الوجود أو المادة أسبق من الفكر أو الوعي.
فالطبيعة تظهر لنا قبل كل شيء بالشكل الذي تبدو فيه مباشرة لأعضاء حواسنا، لبصرنا، وسمعنا، ولمسنا، وَشَمِّنا، الخ.. ومع ذلك لكي نعرف قوانين الطبيعة والمجتمع، لا يكفي أن ننظر ونصغي، بل علينا أن نأخذ بالحسبان، كافة الخصائص والتفاصيل المتعلقه بأي ظاهرة في الطبيعة أو في المجتمع وصولاً إلى الحقائق الموضوعية.
على أي حال، بالرغم من موضوعية الرؤية المادية للعالم، إلا أننا لا ندعو إلى الوقوف أمام هذه المسألة التي قد تثير كثيراً من الجدل والتساؤلات والخلافات دون أي طائل، لكننا في نفس الوقت مع المنهج([13]) العلمي الجدلي، ومع الموقف الموضوعي في تفسير الظواهر والمتغيرات الكونيه عموماً، وكل ما تتعرض له مجتمعاتنا العربية خصوصاً من أجل الوصول عبر هذا المنهج إلى المفاهيم والمواقف والتطبيقات التي تؤدي للوصول إلى النهضة الحداثية التي نتطلع اليها، من أجل التحرر السياسي والاقتصادي والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، بإعتبار هذه القضايا إطارنا العملي المباشر في مواجهة الواقع من حولنا وفي تطبيق وعينا الفلسفي ومنهجه العلمي على هذا الواقع، من خلال الاستخدام الأمثل للعقل المرتبط بالتجربة الحسيه أو الممارسة، فالمعرفة تبدأ بالممارسة العملية، وبالممارسة العملية نكتسب معرفة نظرية، يجب بعدئذ أن ترجع من جديد إلى الممارسة العملية باعتبارها أساس المعرفة بجميع درجاتها، ذلك إن اكتشاف الحقيقة عبر الممارسة العملية، والتثبت من الحقيقة وتنميتها عبر الممارسة العملية، يتم عبر الانتقال من الاحساسات انتقالاً فاعلا إلى المعرفة العقلية، ومن المعرفة العقلية إلى التوجيه الفاعل للممارسة العملية الثورية، إلى تحويل العالم الموضوعي والذاتي". هكذا يلخص ماو تسي تونغ الحركة الصاعدة للمعرفة.
في هذا الجانب، أؤكد على أن العقل هو اداة المعرفة، والمعرفة هي الأداة الفكرية المحاكمة، وكما يقال " من لايملك القدرة على استخدام المعارف لن يكون طرفاً في إنتاجها، والذي لايستطيع استنباط الأفكار والحصول على المعلومات لن يكون مشاركاً في إبداعها، وما أحوجنا اليوم إلى صحوة عاجلة لمواجهة هذه الإشكالية وتخطيها، فالمعرفة هي انعكاس ذاتي للواقع الموضوعي، وهي أيضاً أسلوب وجود الوعي، الذي يتشكل من خمسة جوانب: 1- الوعي معرفة. 2- الوعي وعي للذات. 3-الوعي انفعالات. 4- الوعي تخيل. 5- الوعي إرادة.
إن كافة جوانب الوعي، مرتبطة بصور مباشرة بالعقل، الذي هو الأداة الفكرية المحاكمة فالسؤال هنا ما هو الفكر؟؟ إنه إدراك هويات جميع الأشياء، والإدراك نوعان:
الأول : الإدراك الحسي :- هذه طاولة.. إنسان.. شجرة .. لاشيء آخر.. عملية تمييز، أو فصل محدد في المكان، هذا هو الإدراك الحسي.
الثاني: الإدراك في التجريد الفكري العالي:- مثلاً الحق أو الحقيقة… الحق غير الباطل.. ضده.. كلاهما الفكر… كلاهما المعرفة… فالفكر يدلنا على الحقيقة والصواب، ويرشدنا أيضاً إلى معرفة الخطأ أو الباطل، لنقوم بنفيه بالدحض من أساسه، ومن خلال ذلك النفي نسعى إلى امتلاك الحقيقة ودحض الباطل، باطل الفكرة، تلك هي البداية الأولى لدحض باطل الواقع، هنا نفهم كيف تكون الحقيقة -في إطار الممارسة- فوق أي نظرية عموماً، وفوق الجمود المذهبي خصوصاً.
علينا أن نميز بين الحقيقة الموضوعية، وبين فلسفة هذا الفيلسوف أو ذاك، وفي أي عصر (سواء سقراط أو ارسطو أو كانط أو هيجل أو ماركس... إلخ) لأن الحقيقة الموضوعية المتطوره فوق كل هؤلاء، وفوق كل إنسان، وكل علم وكل حزب.. الخ، وهي قبل كل ذلك فوق إرادة القوة، وفوق كل اتفاق أوعقد ناتج عنها.. لأن إرادة القوة أو الاحتلال على سبيل المثال، هي حالة غير متوازنة، لاتعكس الحقيقة الموضوعية، وبالتالي فإن كل ماينتج عنها يتناقض مع حقائق التاريخ والواقع.. ولابد من مقاومة نتائجها وصولاً إلى حالة التوازن أو حقائق الواقع والتاريخ، مع أهمية إدراكنا لفكرة الاختلاف.
ففي تطور العالم المدني كان لفكرة الاختلاف دوراً هاماً عند كافة الفلاسفة، وهذه الفكرة كانت في كل العصور -ومازالت- كما يقول المفكر الراحل الياس مرقص، "هي الأمر الجوهري في قيادة الفكر ورئاسة الواقع، إذ أن الاختلاف أو التناقض ظاهرة موضوعية، وبالتالي فإن التحكم في الواقع وكيفية فهمنا لفكرة الاختلاف تحدد بشكل أو بآخر مصيرنا المستقبلي - بمعنى كيف سنتعامل مع هذه الفكرة (الاختلاف) عبر الديمقراطية والتطور والتقدم والصعود إلى الأمام من خلال بديلنا القومي التقدمي الديمقراطي النقيض"، عبر فهمنا لطبيعة الصراع الحالي وشكل أو أسلوب مواجهة هذا الصراع، وإن هذا الفهم مشروط بمعرفة صورة الوطن العربي بكل تفاصيلها، التاريخيه والراهنه.
تطبيقا لهذه الفكرة على الطبيعة والكون –كما يضيف إلياس مرقص- لا يوجد شيئان مهما تماثلا إلا وبينهما اختلاف - علينا أن نلاحظ أهمية دور هذه الفكرة (الاختلاف) في عملية التطور كما عَبَّرَ عنها الفلاسفة والعلماء والمفكرين منذ الفلسفة اليونانيه ثم الفلسفة العربية الاسلاميه وصولاً إلى الفلسفة الغربية الحديثة"([14]).
لكن، لابد من الاقرار بأن المجتمعات المتخلفه، ومن بينها مجتمعاتنا العربية، لا زالت أسيرة للمفاهيم اليقينية المطلقة المتوارثة، دون أي تفاعل مع فكرة الاختلاف، وعلى سبيل المثال ما زالت مقولة الجماعة أو مقولة الشعب أو الأمة أو الجماهير قائمة في مجتمعاتنا كهوية نابذة للاختلاف، للتعددية، وبالتالي يتم التركيز على فرد يجسد ويقزم في آن واحد مفهوم الجماعة، سواء من منطلق وطني (عبد الناصر كمثال) أو من منطلق رجعي تابع ومتخلف([15]) (كما الأغلبية الساحقة من الحكام العرب).
الاختلاف لابد أن يُبنى على فكرة واضحة مسبقا، فلايمكن لأحد فينا أن يصنع بيتاً أو قميصاً بدون فكرة البيت أو فكرة القميص.. ولا يجوز -في هذا السياق- لحزب ثوري أن يفكر بصنع (أو تغيير) عالم أو واقع بدون إستيعاب فكرة هذا العالم أو هذا الواقع (الفكرة هنا يجب أن تكون متكاملة لانصف فكرة) لأنه لايمكن إدراك الفكرة عبر نصفها أو ثلاثة أرباعها، لأننا بذلك نجزىء الكلي.. لنتذكر دوما أن الذي يأتي انعكاساً للواقع هو مفتاح التقدم والتطور وكسر الجمود والتخلف.
هذا ما حصل في أوروبا في بداية عصر النهضة حينما أُلغَيتْ سيطرة الكنيسة المباشرة على عقول الناس، وتطبيق مبدأ فصل الدين عن الدوله، وهذا يقودنا إلى التذكير بأن "مفكرينا العرب لم يَحِلُّوا بعد إشكالية الثنائية في خطابنا المعاصر بين التراث والتحديث أو الأصالة والمعاصرة أو الدين والدولة أو العلم والدين، فمازال الحاضر عندنا صورة أخرى من الماضي، لأننا ما زلنا أسرى لحالة الانقطاع الفكري التي سادت بلادنا منذ القرن الثالث عشر ومايزال تأثيرها إلى يومنا هذا دون أي تفعيل جوهري لمضمون الاختلاف أو التعدد"([16]).
إن ما يجري عندنا (كعرب عموماً) هو شكل من أشكال تجميد قواعد الاختلاف الذي أدى إلى إنتصار الفرد القائد على الناس،انتصار الدولة على المجتمع ،القيادة الفردية على كل المؤسسات الوطنية والتشريعية والبرلمانات.
الصوره الحاليه إذن، هي كما يلي: الفرد المطلق مقابل "السكون" الاجتماعي ؟؟" طبعاً لاأنكر الحركة الموضوعية المتراكمة داخل ذلك السكون .. لكنها حركة بطيئة غير صاعدة من جهة، مسلوبة الإرادة، ولا تعرف بالضبط إلى أين تتوجه طالما أن الطليعة المنظمة الواعية لاتتصل بجسور قوية، وبنشاط لايعرف الكلل، داخل السكون الاجتماعي بهدف تحويله من شكله العفوي الساكن إلى حركة تغييرية واسعة وعميقة، وهذا أمر ممكن لان كافة الظروف الموضوعية متوفرة، لكن العامل الذاتي (الحزب الثوري) يعاني من أزمته الداخلية العميقة.
من هنا، فإن من واجبنا ترسيخ الوعي بمقولة الاختلاف، باعتبار إنها تمثل الجزء الأولي والبسيط في التصور الديمقراطي للعملية السياسية والاجتماعية والاقتصادية في بلادنا بإعتبار هذه المقولة هي الميدان الواسع الحقيقي الذي سيحدد وجهتنا في الحاضر والمستقبل، لكي نسهم في تراجع حالة السكون.
لذلك لابد من الديمقراطية التي تنطلق من فلسفة الحداثة التقدميه، التي تقوم على وعي جدلية الواقع والاحترام للمجتمع، للناس، لفهم الناس وعقلهم، هذا الاحترام شرط المعرفة، والمعرفة شرط النقد والتغيير باتجاه النفي الايجابي. (البداية قد تكون في الأسرة .. في المدرسه .. والشارع ..أو في تداخلهم معاً، المهم أن نتوجه إلى الخاص أولاً ثم العام).
أما من ناحية العام، فالتاريخ كتغير وتحول وتقدم لا تحمله فكرة التناقض أو التعارض فحسب، بل على وجه التحديد فكرة النفي "ونفي النفي" التي تحمل فكرة "الجديد"، وهي فكرة تحمل معنى التحولية كنتاج للتراكمات الكميه (تاريخ التطور البشري عملية تركيبية.. كذلك تاريخ العلم)، إن التركيب هو نتاج نفي النفي .. وهو نتاج وعي الخاص في علاقته الجدلية والمستقبلية بالعام .
من جهة ثانية، إن تاريخ التطور البشري هو تاريخ انتاج الوعي البشري أو هو جزء من معركة العقل –من خلال الفلسفه- ضد كل الثوابت، في محاولة مستمرة منذ الاغريق إلى يومنا هذا، وهي عملية أجابت على سؤال ماهي الفلسفة؟ باعتباره السؤال الممتد في التاريخ البشري القديم والحديث والمعاصر، وهنا بالضبط تتجلى مقولة الوعي البشري إنعكاس للوجود البشري.
([1]) كريم متى - الموسوعة الفلسفية العربية- المجلد الأول- معهد الانماء العربي– الطبعة الأولى 1986–ص654
([2]) د. ابراهيم الحيدري – ماهي الفلسفة ؟.. أزمة المعرفة والوعي النقدي – الانترنت – 10 سبتمبر 2009.
([3]) المرجع نفسه .
([4]) موضوعية: للموضوعية أكثر من دلالة واحدة، فهناك دلالتها الخلقية، ودلالتها الابستمولوجية .. فإما دلالتها الخلقية فتعني النزاهة في القصد، والبعد عن الهوى ، والتجرد من العواطف الذاتية. وللموضوعية دلالة أخرى هي ما يمكن تسميته بالدلالة الابستمولوجية متى كانت تمثل الواقع تعبيراً عن الحقيقة. وهنا تختلف الآراء حول ما يقصد من الواقع أو الحقيقة. فهناك من يعتقد أن هذا العالم لا يوجد مستقلاً موضوعياً عن فكرنا، بينما هناك من يعتقد بوجود عالم موضوعي مستقل عن فكرنا. (صلاح قنصوه - الموسوعة الفلسفية العربية - المجلد الأول - معهد الانماء العربي – الطبعة الأولى 1986 –ص 803)
([5]) د.محمد عابد الجابرى- قضايا فى الفكر المعاصر- بيروت- مركز دراسات الوحدة العربية- 1997- ص11
([6]) د.عادل ضاهر- الفلسفة العربية المعاصرة - بيروت -مركز دراسات الوحدة -1988-ص83.
([7]) كريم متى- مرجع سبق ذكره - الموسوعة الفلسفية العربية- المجلد الأول- ص659
([8]) تعريف الابيستمولوجيا: مصطلح الابيستمولوجيا يعود أصله لكلمة يونانية الأصل، وهي Epistemology: مكونة من مقطعين Episteme وهي تعني معرفة، و Logos وتعني نظرية أو دراسة أو فلسفة، وبتركيب هذين المقطعين تصبح معنى الكلمة نظرية المعرفة، أو دراسة المعرفة.
أهم قضايا وأسئلة الابيستمولوجيا: إن الإنسان مجبول بالفطرة على غريزة المعرفة والفضول والاستكشاف، فهو دائما يريد أن يعرف ما هو وراء الأشياء المحسوسة التي يراها أمام عينه ، كما أنه يريد أن يعلم ما هو غير مدرك بالحس، وهي الأمور والمعاني المعنوية المجردة مثل القيم والأخلاق وغيرها من الأمور غير المحسوسة. فالإنسان دائم البحث عن المعرفة وهو دائم التساؤل. فمبحث الابيستمولوجيا أو نظرية المعرفة يبحث في هذه الأشياء، فقديما تطرق الفلاسفة إلى ما هي المعرفة وكيف يمكن أن تكتسب؟ وما هي قيمة المعرفة؟ وما الفرق بين العلم والمعرفة؟ بل وما علاقة العلم بالمعرفة؟ فهذه هي المباحث التي تبحث فيها الابيستمولوجيا.
([9]) المادية: الاتجاه الفلسفي العلمي الوحيد، في مقابل المثالية، وتذهب المادية الفلسفية إلى أن المادة أولية والعقل – أو الوعي- ثانوي، ويتضمن هذا ان العالم أبدي، وانه لا محدود في الزمان والمكان. (م. روزنتال و ب. يودين - الموسوعة الفلسفية – دار الطليعة – بيروت – ط1 اكتوبر 1974 – ص 429)
([10]) روجيه غارودي – تعريب: ابراهيم قريط – النظرية المادية في المعرفة – دار دمشق – طبعة ثانية – ص 30
([11]) المادة: مقولة فلسفية تعني الواقع الموضوعي الذي يوجد مستقلاً عن الوعي ومنعكساً فيه، ان الفهم المادي الجدلي للمادة يختلف عن الفهم الميتافيزيقي لها، في أنه طبقاً للفهم المادي الجدلي لا تعتبر المادة موجودة فحسب موضوعياً ومستقلة عن وعي الانسان، بل تعتبر أيضاً مرتبطة ارتباطاً لا انفصام له بالحركة والزمان والمكان، وقادرة على التطور الذاتي، بوصفها لانهائية كمياً وكيفياً في كل مستويات وجودها (م. روزنتال و ب. يودين - الموسوعة الفلسفية –دار الطليعة – بيروت – ط1 اكتوبر 1974 – ص 428).
"مفهوم المادة الفلسفيُّ" فلا يمكن أن يَعْني سوى أنَّ الواقع قائم بتمامه خارجَ رأسي، ولا يجوز أن يُضَمَّن أي شيء آخر؛ لا يجوز أن يغطِّي أية مُسَلَّمة أو مُصادرة ضمنية. (إلياس مرقص – أطروحات من أجل إصلاح الفلسفة – الانترنت)
([12]) روجيه غارودي – مرجع سبق ذكره - النظرية المادية في المعرفة – ص 30
([13]) أصل كلمة منهج يعود إلى ميتودوس الإغريقية التي تعني"الطريق".
([14]) الياس مرقص- العقلانية والتقدم- المغرب/الرباط - المجلس القومى للثقافة العربية - الطبعة الاولى1992.
([15]) تخلف: في الأصل اللغوي تخلف من خلف، والخلف ضد قدام .. والتخلف هو التاخر كما يقول ابن منظور، أما مضمون المفهوم فيقدم اعترافاً بنوع من الوحدة الحضارية العالمية بالنسبة للأهداف الموضوعة للنشاط الانساني، ويصبح التخلف والتقدم من وجهة النظر هذه، قطبي حركة واحدة هي النظام الاقتصادي العالمي. وهكذا يحمل المفهوم في طياته نموذجاً للتقدم مقبولاً كمرجع وكهدف نهائي، وهو يشير بصورة دائمة إلى لا مساواة ونقص ودونية بالنسبة لما يعتبر حياة أفضل، ويطرح بشكل خاص عوائق وموانع يجب إزالتها لإحداث نقلة نوعية نحو النقيض المنتج الذي هو التقدم.. ويتمظهر التخلف في العلاقات الاجتماعية كتعبير عن التخلف البنيوي للمجتمع الذي يرتكز إلى الاقتصاد أو يتخذ شكلاً معيناً على المستوى المعيشي، هذا الشكل يتحكم بالسلوك الاجتاعي يشكل بعدا ذاتياً لمسألة التخلف يكمل البعد الموضوعي ويتفاعل معه جدلياً... ولا يفهم التخلف إلا في علاقته بمفهومي الاستغلال والتبعية، وفي إطار النمو والتطور اللامتكافئ، فالتفاوت في مستويات التطور على المستوى التاريخي أدت إلى ممارسات منظمة لعلميات نهب الشعوب بالوسائل العسكرية وسلب الثروات الوطنية لهذه البلاد وتحويلها إلى مجرد سوق للاستيراد والتصدير، ويصبح التخلف بهذا المعنى "نتيجة لا مفر منها لعملية تاريخية سببتها قوانين التنافس والركض وراء الأرباح الاستعمارية واقتسام العالم بين القوى الامبريالية". (فهيمة شرف الدين - الموسوعة الفلسفية العربية - المجلد الأول - معهد الانماء العربي – الطبعة الأولى 1986 –ص 241)
غازي الصوراني - مدخل إلى الفلسفة ( 1 / 3 ) ما هي الفلسفة ؟
غازي الصوراني - مدخل إلى الفلسفة ( 1 / 3 ) ما هي الفلسفة ؟
www.ahewar.org