عالم الأرواح عالمٌ غريب، يضجّ بما يُثيرُ العقول ، ويُحفِّز الخيال ، ويبعثُ على الدهشةِ ، يفق عنده المرء مدهوشا محتارا ، لا يمكنه أن يجزم برأيٍ البتّة ، يطيش العقل الذي لا يقنع بهذا المتّّسعِ الفضفاض أمامه ، يسرح ويجول في مشاهداتٍ الجزم بماهيتها ضربٌ من الجنونِ .
وفي الرِّيف ، وفي أيامهِ الخوالي ، عندما كانت بيوتنا تغبّ في ظلمةٍ لاحدود لها ، سواد لا شاطئ يحويه ، تلاعبت بعقولِ البسطاء من أبناءِ هاتهِ الحقبة خيالات ، أثّرت الظلمة فيها كثيرا ، والتي_ ولا شك_ لعبت دور البطولة ، اعتقدنا كبقيةِ أهلينا من أبناءِ الكَدِّ ؛ أنّ الرّوح عندما تخرج من جسدِ ابن آدم ، تتجولُ في فضاءاتٍ نورانية ، كخيطٍ أبيضٍ رفيع ، يُشبه خيوط الدخان المنبعثة من " كانون" النّار الذي توقده أمهاتنا ، قال بعض فلاسفة قريتي _ وما أكثرهم _ إن تلك الألوان تتشكل حسب طبيعة الميت ، فإذا كانَ من أهلِ الإيمان ، كان خيطا أبيضا ناصع البياض ، أمّا إن كان من أهلِ الكُفرِ والفجورِ ، فخيط أسود حالك السّواد بغيض المنظر ، والأمر لا يقتصر في حكاوي الطيبين من بسطاءِ المصاطب ، الذين افترشوا الأرضَ أمام دكانِ عم " صابر" تاجر الملوحة الوحيد في القريةِ، عندما تهبّ نسائم العصرية ، بعد يومٍ حار دبّ فيه الغلابة من مطلع الشمسِ، حتى مغيبها بين قرون النخلات الطوال غرب الترعةِ ، هناك يتلاقى العجائز ممن اعتزلوا الفأس ، وتهيأوا لأخراهم كما قالوا ، هناك تشيعُ حكايا الموت والقبر ، والحساب والشفاعة ، وأثر قراءة القرآن الذي يكون ثوابه بردا وسلاما على الأجسادِ في قبورها ، يظلّ رواد المكان في قصصهم ، التي لا تخلو من الغيبةِ والنميمةِ ، وبين الحين والآخر يصفق أحدهم بيدهِ ، ويطلق تنهيدة من صدرهِ ، ويقول بصوتٍ عالي : لا إله إلا الله .. دعّ الملك لصاحبِ الملك .
لتعود حكايات الآخرة ثانية ، يدلي كُلّ واحد فيهم بدلوهِ ، تتقاطر القصص والروايات الملفقة ، التي تُلامس هوى أصحابها ، فمن أكل حراما وسرق وفعل أفعال الأبالسة في الدنيا ، ما إن يموت تكفيه سورة ياسين ، تقرأ عليهِ من الشيخ " حسب النبي" يوهب ثوابها ، عندها تُفتّح أمامه جنان الخُلد ، ويتقاطر عليه الولدان المخلدون والحور العين ، يسوقونه لأعالي الجنان .
ثم يبدأ حديث كُلّ يوم عن الأرواحِ وطبيعتها ، تحوم من حولهم ذبابة خضراء كبيرة ، ذات طنينٍ صاخب ، تُحلِّق قريبة من الرّؤوسِ ، بل وتكاد تُلامسُ الوجوه في تصميمٍ غريب ، يطلب أحدهم من الحضورِ قراءة المعوذتين ، وبعد الانتهاء من القراءة ؛ يخلع ملفحته ويبدأ في هشها، قائلا : يلا على قبرك .. الله يسهل لك.
ظنّ الناس طويلا ؛ أن تلك الذبابة الخضراء ، ما هي إلا روح لميتٍ حديث الوفاة ، وأنّها ستختفي بعد أربعين يوما ، فقد خرجت تستطلع نبأ أهله ، وتعود له بأخبارهم في قبرهِ .
ينبري فيلسوف غيره ، قائلا : هي تخرج عند الشّروقِ تحوم حول بيوتِ معارفِ الميت ، في الحقيقة سادَ هذا الاعتقاد لعقودٍ ، والحقيقة أن تلك الذبابة شيء عادي ، لا تدع للغرابةِ والذهولِ وفرض الافتراضات في شيء ، ففي الريفِ تُحيط بالبيوتِ من كُلّ مكانٍ بالقربِ البركِ والمجاري ، وقد تمتلئ الدّروبِ بالأوساخِ وفضلات المواشي ، فلابد من وجودِ حشرةٍ كهذه وغيرها .
في قريتنا للأرواحِ دورها البطولي ، ويالفعل الظلام وسحره على عقولهم ، عرفنا بعض الأماكن في قريتنا التي كانت محطات للخوفِ والرهبة للكبيرِ والصّغيرِ على السّواءِ ، ولعلّ مكمن الفزع عند بوابةِ " الأفندي " وهي مدخل عالٍ كبير يمتد قبيل الولوج البابِ الرئيسي لمنزله الواسع ، ومكمن الخطر تلك الظُّلمة التي تتخلل البيت من داخلهِ، يغرق المكان في وحشةٍ عجيبة ، "فالأفندي " اقتصر في معيشتهِ على قسمٍ صغيرٍ من منزلهِ ، وهجرَ البقية ، بوابة البيت مشرعة يهطل الظلامُ من حيطانها السود ، يتزاحمُ السُكون القاتل من حولك وأنت تسير ، تتلاعب الوساوس كُلّ خطوةٍ برأسك ، ومع دخولِ المساء لا يطرق الشّارع غريب ، إذ كيف يأمن على نفسهِ ، و هو يُقدم على مجازفةٍ غير مأمونةِ العواقب ، ويدبّ وسط أكوامِ الأرانب البيض التي تقفز من حولِ المار ، قال لي أحدهم لقد رأيتها بيضاء ناصعة ، تنسلُّ من جحورها السِّحرية بين زوايا الصّالة المظلمة ، تسائل النّاس عن مصدرها ، من أين جاءت ، وكيف جاءت ، لم يجب أحد ، اللهم إلا قناعاتهم متضاربةٍ ، مستمدة من رواياتٍ لبعض الجبناء، ضعاف القلوب الذين كرهوا الظلام ، سألت الأفندي ذات مرةٍ عن هذه الأرانب البيض ، هل هي أرواح خرجت تسرح في الظّلامِ كما قالوا ، ضحكَ الرجل ملئ شدقيهِ ، وقال بنبرتهِ المعهودة : جهلاء .. واغبياء ، لا شيء من هذا أبدا .
علمت فيما بعد أن القصة من نسجِ أحد الصبية ، حين ضَاقَ ذرعا بطلباتِ أمه التي تحتاج أعراضا من دكانِ الشيخ " مصلح" وهو في نهايةِ الدّربِ المظلم ، ولابد من مرورهِ بالبوابةِ، فما كانَ منه إلا تلفيق هذه الحكاية ، ليقطعَ على أمهِ طلباتها غير المنتهية في الظّلامِ، من ساعتها تفشّت الإشاعة، التي تلقفها فلاسفة القرية والمؤولة ،فراحوا إلى تفسير هذه الأرانب البيضاء ، بأنّها صغار الجان
خرجوا للعلبِ في الظّلامِ ، وعند مرورِ البشرِ تبدأ المشاكسة ، حتى لا يمنعهم أحد من اللّعبِ والمرحِ ، ومن تلكع في مشيهِ ربّما خطفوه ، ولن يفلتوه إلا بعد جمعةٍ كاملة ، يخرج بعدها مسلوبَ العقل ، ومن ساعتها أصبحت بوابة منزل " الأفندي " العالية المظلمة حاجزا نفسيا ، ونقطة عبورٍ مخيفة أمام النّاسِ ، حتى بعد أن إضاءة الشوارع مصابيح الكهرباء ، ظلّوا في اعتقادهم القديم ، وبقيت رواسب الماضي وحكايات الأرانب البيض ، تحشو عقولهم وتفيض ُ بها مجالسهم ..
وبعد فترة انقضى زمانها بعد موتِ الأجيال التي عاصرتها ، وخرج للحياةِ جيل جديد ، ذابَ في زحمةِ الحياة وتبدلت الأحوال غير الأحوالِ ، وسبحان من له الدّوام .
وفي الرِّيف ، وفي أيامهِ الخوالي ، عندما كانت بيوتنا تغبّ في ظلمةٍ لاحدود لها ، سواد لا شاطئ يحويه ، تلاعبت بعقولِ البسطاء من أبناءِ هاتهِ الحقبة خيالات ، أثّرت الظلمة فيها كثيرا ، والتي_ ولا شك_ لعبت دور البطولة ، اعتقدنا كبقيةِ أهلينا من أبناءِ الكَدِّ ؛ أنّ الرّوح عندما تخرج من جسدِ ابن آدم ، تتجولُ في فضاءاتٍ نورانية ، كخيطٍ أبيضٍ رفيع ، يُشبه خيوط الدخان المنبعثة من " كانون" النّار الذي توقده أمهاتنا ، قال بعض فلاسفة قريتي _ وما أكثرهم _ إن تلك الألوان تتشكل حسب طبيعة الميت ، فإذا كانَ من أهلِ الإيمان ، كان خيطا أبيضا ناصع البياض ، أمّا إن كان من أهلِ الكُفرِ والفجورِ ، فخيط أسود حالك السّواد بغيض المنظر ، والأمر لا يقتصر في حكاوي الطيبين من بسطاءِ المصاطب ، الذين افترشوا الأرضَ أمام دكانِ عم " صابر" تاجر الملوحة الوحيد في القريةِ، عندما تهبّ نسائم العصرية ، بعد يومٍ حار دبّ فيه الغلابة من مطلع الشمسِ، حتى مغيبها بين قرون النخلات الطوال غرب الترعةِ ، هناك يتلاقى العجائز ممن اعتزلوا الفأس ، وتهيأوا لأخراهم كما قالوا ، هناك تشيعُ حكايا الموت والقبر ، والحساب والشفاعة ، وأثر قراءة القرآن الذي يكون ثوابه بردا وسلاما على الأجسادِ في قبورها ، يظلّ رواد المكان في قصصهم ، التي لا تخلو من الغيبةِ والنميمةِ ، وبين الحين والآخر يصفق أحدهم بيدهِ ، ويطلق تنهيدة من صدرهِ ، ويقول بصوتٍ عالي : لا إله إلا الله .. دعّ الملك لصاحبِ الملك .
لتعود حكايات الآخرة ثانية ، يدلي كُلّ واحد فيهم بدلوهِ ، تتقاطر القصص والروايات الملفقة ، التي تُلامس هوى أصحابها ، فمن أكل حراما وسرق وفعل أفعال الأبالسة في الدنيا ، ما إن يموت تكفيه سورة ياسين ، تقرأ عليهِ من الشيخ " حسب النبي" يوهب ثوابها ، عندها تُفتّح أمامه جنان الخُلد ، ويتقاطر عليه الولدان المخلدون والحور العين ، يسوقونه لأعالي الجنان .
ثم يبدأ حديث كُلّ يوم عن الأرواحِ وطبيعتها ، تحوم من حولهم ذبابة خضراء كبيرة ، ذات طنينٍ صاخب ، تُحلِّق قريبة من الرّؤوسِ ، بل وتكاد تُلامسُ الوجوه في تصميمٍ غريب ، يطلب أحدهم من الحضورِ قراءة المعوذتين ، وبعد الانتهاء من القراءة ؛ يخلع ملفحته ويبدأ في هشها، قائلا : يلا على قبرك .. الله يسهل لك.
ظنّ الناس طويلا ؛ أن تلك الذبابة الخضراء ، ما هي إلا روح لميتٍ حديث الوفاة ، وأنّها ستختفي بعد أربعين يوما ، فقد خرجت تستطلع نبأ أهله ، وتعود له بأخبارهم في قبرهِ .
ينبري فيلسوف غيره ، قائلا : هي تخرج عند الشّروقِ تحوم حول بيوتِ معارفِ الميت ، في الحقيقة سادَ هذا الاعتقاد لعقودٍ ، والحقيقة أن تلك الذبابة شيء عادي ، لا تدع للغرابةِ والذهولِ وفرض الافتراضات في شيء ، ففي الريفِ تُحيط بالبيوتِ من كُلّ مكانٍ بالقربِ البركِ والمجاري ، وقد تمتلئ الدّروبِ بالأوساخِ وفضلات المواشي ، فلابد من وجودِ حشرةٍ كهذه وغيرها .
في قريتنا للأرواحِ دورها البطولي ، ويالفعل الظلام وسحره على عقولهم ، عرفنا بعض الأماكن في قريتنا التي كانت محطات للخوفِ والرهبة للكبيرِ والصّغيرِ على السّواءِ ، ولعلّ مكمن الفزع عند بوابةِ " الأفندي " وهي مدخل عالٍ كبير يمتد قبيل الولوج البابِ الرئيسي لمنزله الواسع ، ومكمن الخطر تلك الظُّلمة التي تتخلل البيت من داخلهِ، يغرق المكان في وحشةٍ عجيبة ، "فالأفندي " اقتصر في معيشتهِ على قسمٍ صغيرٍ من منزلهِ ، وهجرَ البقية ، بوابة البيت مشرعة يهطل الظلامُ من حيطانها السود ، يتزاحمُ السُكون القاتل من حولك وأنت تسير ، تتلاعب الوساوس كُلّ خطوةٍ برأسك ، ومع دخولِ المساء لا يطرق الشّارع غريب ، إذ كيف يأمن على نفسهِ ، و هو يُقدم على مجازفةٍ غير مأمونةِ العواقب ، ويدبّ وسط أكوامِ الأرانب البيض التي تقفز من حولِ المار ، قال لي أحدهم لقد رأيتها بيضاء ناصعة ، تنسلُّ من جحورها السِّحرية بين زوايا الصّالة المظلمة ، تسائل النّاس عن مصدرها ، من أين جاءت ، وكيف جاءت ، لم يجب أحد ، اللهم إلا قناعاتهم متضاربةٍ ، مستمدة من رواياتٍ لبعض الجبناء، ضعاف القلوب الذين كرهوا الظلام ، سألت الأفندي ذات مرةٍ عن هذه الأرانب البيض ، هل هي أرواح خرجت تسرح في الظّلامِ كما قالوا ، ضحكَ الرجل ملئ شدقيهِ ، وقال بنبرتهِ المعهودة : جهلاء .. واغبياء ، لا شيء من هذا أبدا .
علمت فيما بعد أن القصة من نسجِ أحد الصبية ، حين ضَاقَ ذرعا بطلباتِ أمه التي تحتاج أعراضا من دكانِ الشيخ " مصلح" وهو في نهايةِ الدّربِ المظلم ، ولابد من مرورهِ بالبوابةِ، فما كانَ منه إلا تلفيق هذه الحكاية ، ليقطعَ على أمهِ طلباتها غير المنتهية في الظّلامِ، من ساعتها تفشّت الإشاعة، التي تلقفها فلاسفة القرية والمؤولة ،فراحوا إلى تفسير هذه الأرانب البيضاء ، بأنّها صغار الجان
خرجوا للعلبِ في الظّلامِ ، وعند مرورِ البشرِ تبدأ المشاكسة ، حتى لا يمنعهم أحد من اللّعبِ والمرحِ ، ومن تلكع في مشيهِ ربّما خطفوه ، ولن يفلتوه إلا بعد جمعةٍ كاملة ، يخرج بعدها مسلوبَ العقل ، ومن ساعتها أصبحت بوابة منزل " الأفندي " العالية المظلمة حاجزا نفسيا ، ونقطة عبورٍ مخيفة أمام النّاسِ ، حتى بعد أن إضاءة الشوارع مصابيح الكهرباء ، ظلّوا في اعتقادهم القديم ، وبقيت رواسب الماضي وحكايات الأرانب البيض ، تحشو عقولهم وتفيض ُ بها مجالسهم ..
وبعد فترة انقضى زمانها بعد موتِ الأجيال التي عاصرتها ، وخرج للحياةِ جيل جديد ، ذابَ في زحمةِ الحياة وتبدلت الأحوال غير الأحوالِ ، وسبحان من له الدّوام .