كنت أظنني أعرف القاهرة كلها، من بولاق الدكرور والباطنية حتى الزمالك وجاردن ستي، ومن شبرا الخيمة والسكرية حتى قصر النيل والمنشية، ومن المريوطية وشامبليون الى فلفلة والأزبكية. أنا أكثر المشائين عشقاً للشوارع والمشربيات وباعة الكشري في العربات، عشت فيها أحلى سنوات شبابي وكنت أسكن في التوفيقية على مقربة من التابعي الدمياطي بائع الطعمية الشهير، أنام وأصحو على جدار من الضجيج، أصوات باعة الصحف والعم حسنين البواب والمآذن والشيالين والتاكسيات وأغاني التلباني ومحرم فؤاد وطشت الغسيل الذي نطق منذ أعوام تحت أصابع عايدة الشاعر.
لم يعد من شيء في مصر غريباً ولا عجيباً، خمس سنوات وثلاثة شهور وأنا أمشي قرب النيل، أدخل في أدغال الأزقة وفروعها، أقرأ اليافطات التي تضحكني، شخابيط على الحيطان والسيارات والدكاكين، يا ناس يا شر كفاية قر، أنت عمري، حاسبني النهارده وبلاش كلمة بكره، عزيزة ومظلومة، والحكومة كفت عن تنظيف الجدران، لا فائدة، إحنا اللي خرمنا التعريفة ولبسنا البحر مايوه، فماذا تفعل أمانة مصر مع مليارات الكلمات المعلقة في كل جزء من المدينة؟ ناهيك عن حروب كرة القدم ما بين الزمالك والأهلي والتي تخرج القاهرة من ثيابها إذا ما فاز هذا على ذاك وصارت الشوارع تصرخ حتى الإعياء في مشهد مخيف مرعب لا يوصف بأي كلام؟
أقطع الممرات والدروب الخلفية، أتمتع بالمقاهي الفقيرة، أشرب الشاي والقهوة والسحلب والموز بالحليب، أتذكر الطعام سهواً فأمضي الى الفول المدمس مع الشطة والبصارة والرغيف الساخن، وفي السيدة زينب ودير الملاك أتساءل عن الفقر الذي دون حلول، الفقر الذي يمشي في الزوايا وتكاد أن تلمسه بيديك، إذا بي ذات مساء ماطر أدخل مبللاً الى قرية لم أرها طوال عامين من بقائي هناك، رفعت رأسي وقرأت اسم المكان الذي (كزبر) جلدي واقشعرت معه مساماتي، قرأته أكثر من مرة حتى أتأكد أنه ( خلوة الغلبان) وحينها سمعت صوتاً متحشرجاً عنيفاً يسألني:
- أوامر الباشا، شاي، قهوة، قرفة، أرجيلة؟
كنت أجلس مبللاً في مقهى المعلم رزق الله، مكتوب على جدارها بالأحمر الفاقع (الطلبات من غير شكك) ورزق الله على ما يبدو فخور بالشبه الكبير بينه وبين الممثل علي الشريف، قسوة في الملامح، حول في العينين، حنجرة غاضبة جارحة كالشوك، هو صاحب المقهى ومحاسبها وحارسها والواد الشغال فيها، والوحيد الذي لا يبتسم ولا يضحك في ( خلوة الغلبان) كما لو أن اسم القرية جاء موازياً لخلوته، هو الغلبان الحاكم والمحكوم في مقهى كل ما فيها عتيق مكركب يوشك أن يتحطم.
احتسيت الشاي ثلاث مرات، مع أرجيلة بطعم التفاح، والمعلم رزق الله يحدق بي، ماذا يملك هذا الرجل الذي يشرب الشاي ثلاث مرات؟ في كل مرة يحني رأسه ويكرر: أهلاً وسهلاً نورت مصر يا بيه.
قلت له وأنا أبتسم: اسمها غريب، خلوة الغلبان.
لم يكن في المقهى غير عجوز يشفط دخان أرجيلته بقوة ويحكي مع نفسه، ملابس رثة محشوة بالغبار برغم المطر النازل فوق سقف المقهى، بينما المعلم رزق الله يقول كمن يحكي عن شيء لا يهم:
- هيّ كده، قرية غلابة، ما فيهاش حد عنده فلوس، وأول واحد عاش فيها كان اسمه محمد السيد محمد، يكنس ويشيل الزبالة ويعمل شيال ومرمطون ويفتح المية عالزرع كل يوم جمعة، كان من السودان، عاش هنا غلبان ومات غلبان.
القرية من أعمال العاصمة وخارطتها الرسمية، جزء من القاهرة ونفوسها، تبدو مثل ذيل حصان في مؤخرة المدينة، والمعلم رزق الله الذي يشبه علي الشريف علامة بارزة من أشياء القرية ورسوماتها، والمقهى ليست غير دكان صغير بثلاثة حيطان وثلاث صور غير مؤطرة ، واحدة للريس أنور السادات، والثانية أم كلثوم وهي تغني، والثالثة صورته بالجلابية البلدي البيضاء مع اسمه كاملاً تحت الصورة: المعلم رزق الله اسماعيل رزق الله الحلواني.
قلت له وأنا أبتسم:
- اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني.
وجه صارم عبوس، كما لو أن الضحك ممنوع عليه، دفعت حسابي ومشيت ، جنيه وعشرة قروش، لكنني أعطيته أكثر من ذلك وأنا ما زلت مبللاً أقرأ (خلوة الغلبان) وأقطع الطريق نحو بيتي بسرعة لئلا ينهمر المطر مرة أخرى.
ھھ
تأكد لي أن اكتشاف القاهرة يحتاج الى سنوات أطول، والى ساقين من حديد حتى أرى الموسكي والعتبة ودرب المهابيل وخان الخليلي وقصر المانسترلي والروضة والأزهر ومدكور والدقي ودرب المماليك وباب الحديد وعدلي باشا وميدان عرابي ورمسيس وباب زويلة ومئات الأزقة التي تدخل في شعاب مصر التي لا أحد يدري أين تبدأ والى أين ستنتهي، ذلك أن المقبرة وحدها تحتاج الى اسبوعين حتى تعرف نصف خباياها.
بعد خمسة أعوام وثلاثة شهور عدت الى بغداد، زارني الممثل علي الشريف أيام كنت رئيساً لتحرير مجلة فنون، وكم أسعدني وأبهجني أن أتذكر حينها تلك القرية والمقهى الفقير والطلبات من غير شكك، بل تمنيت أن أعود فوراً الى مصر على ظهر أول طائر مخبول حتى أشرب الشاي الكشري وأشفط الدخان بطعم التفاح من أرجيلتي، نظرت الى علي الشريف، الى ملامحه القاسية، الى حول عينيه وصوته المتحشرج الجارح كالشوك، فقلت له:
- يا أستاذ علي، أنا عشت في مصر أحلى سنواتي، ربما رأيت القاهرة كلها، حتى أنني ذهبت الى (خلوة الغلبان) ورأيت هناك شخصاً يشبهك تماماً.
قاطعني علي الشريف وهو يضحك:
- معقول؟ انت كمان شفت رزق الله الحلواني ،؟
لم يعد من شيء في مصر غريباً ولا عجيباً، خمس سنوات وثلاثة شهور وأنا أمشي قرب النيل، أدخل في أدغال الأزقة وفروعها، أقرأ اليافطات التي تضحكني، شخابيط على الحيطان والسيارات والدكاكين، يا ناس يا شر كفاية قر، أنت عمري، حاسبني النهارده وبلاش كلمة بكره، عزيزة ومظلومة، والحكومة كفت عن تنظيف الجدران، لا فائدة، إحنا اللي خرمنا التعريفة ولبسنا البحر مايوه، فماذا تفعل أمانة مصر مع مليارات الكلمات المعلقة في كل جزء من المدينة؟ ناهيك عن حروب كرة القدم ما بين الزمالك والأهلي والتي تخرج القاهرة من ثيابها إذا ما فاز هذا على ذاك وصارت الشوارع تصرخ حتى الإعياء في مشهد مخيف مرعب لا يوصف بأي كلام؟
أقطع الممرات والدروب الخلفية، أتمتع بالمقاهي الفقيرة، أشرب الشاي والقهوة والسحلب والموز بالحليب، أتذكر الطعام سهواً فأمضي الى الفول المدمس مع الشطة والبصارة والرغيف الساخن، وفي السيدة زينب ودير الملاك أتساءل عن الفقر الذي دون حلول، الفقر الذي يمشي في الزوايا وتكاد أن تلمسه بيديك، إذا بي ذات مساء ماطر أدخل مبللاً الى قرية لم أرها طوال عامين من بقائي هناك، رفعت رأسي وقرأت اسم المكان الذي (كزبر) جلدي واقشعرت معه مساماتي، قرأته أكثر من مرة حتى أتأكد أنه ( خلوة الغلبان) وحينها سمعت صوتاً متحشرجاً عنيفاً يسألني:
- أوامر الباشا، شاي، قهوة، قرفة، أرجيلة؟
كنت أجلس مبللاً في مقهى المعلم رزق الله، مكتوب على جدارها بالأحمر الفاقع (الطلبات من غير شكك) ورزق الله على ما يبدو فخور بالشبه الكبير بينه وبين الممثل علي الشريف، قسوة في الملامح، حول في العينين، حنجرة غاضبة جارحة كالشوك، هو صاحب المقهى ومحاسبها وحارسها والواد الشغال فيها، والوحيد الذي لا يبتسم ولا يضحك في ( خلوة الغلبان) كما لو أن اسم القرية جاء موازياً لخلوته، هو الغلبان الحاكم والمحكوم في مقهى كل ما فيها عتيق مكركب يوشك أن يتحطم.
احتسيت الشاي ثلاث مرات، مع أرجيلة بطعم التفاح، والمعلم رزق الله يحدق بي، ماذا يملك هذا الرجل الذي يشرب الشاي ثلاث مرات؟ في كل مرة يحني رأسه ويكرر: أهلاً وسهلاً نورت مصر يا بيه.
قلت له وأنا أبتسم: اسمها غريب، خلوة الغلبان.
لم يكن في المقهى غير عجوز يشفط دخان أرجيلته بقوة ويحكي مع نفسه، ملابس رثة محشوة بالغبار برغم المطر النازل فوق سقف المقهى، بينما المعلم رزق الله يقول كمن يحكي عن شيء لا يهم:
- هيّ كده، قرية غلابة، ما فيهاش حد عنده فلوس، وأول واحد عاش فيها كان اسمه محمد السيد محمد، يكنس ويشيل الزبالة ويعمل شيال ومرمطون ويفتح المية عالزرع كل يوم جمعة، كان من السودان، عاش هنا غلبان ومات غلبان.
القرية من أعمال العاصمة وخارطتها الرسمية، جزء من القاهرة ونفوسها، تبدو مثل ذيل حصان في مؤخرة المدينة، والمعلم رزق الله الذي يشبه علي الشريف علامة بارزة من أشياء القرية ورسوماتها، والمقهى ليست غير دكان صغير بثلاثة حيطان وثلاث صور غير مؤطرة ، واحدة للريس أنور السادات، والثانية أم كلثوم وهي تغني، والثالثة صورته بالجلابية البلدي البيضاء مع اسمه كاملاً تحت الصورة: المعلم رزق الله اسماعيل رزق الله الحلواني.
قلت له وأنا أبتسم:
- اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني.
وجه صارم عبوس، كما لو أن الضحك ممنوع عليه، دفعت حسابي ومشيت ، جنيه وعشرة قروش، لكنني أعطيته أكثر من ذلك وأنا ما زلت مبللاً أقرأ (خلوة الغلبان) وأقطع الطريق نحو بيتي بسرعة لئلا ينهمر المطر مرة أخرى.
ھھ
تأكد لي أن اكتشاف القاهرة يحتاج الى سنوات أطول، والى ساقين من حديد حتى أرى الموسكي والعتبة ودرب المهابيل وخان الخليلي وقصر المانسترلي والروضة والأزهر ومدكور والدقي ودرب المماليك وباب الحديد وعدلي باشا وميدان عرابي ورمسيس وباب زويلة ومئات الأزقة التي تدخل في شعاب مصر التي لا أحد يدري أين تبدأ والى أين ستنتهي، ذلك أن المقبرة وحدها تحتاج الى اسبوعين حتى تعرف نصف خباياها.
بعد خمسة أعوام وثلاثة شهور عدت الى بغداد، زارني الممثل علي الشريف أيام كنت رئيساً لتحرير مجلة فنون، وكم أسعدني وأبهجني أن أتذكر حينها تلك القرية والمقهى الفقير والطلبات من غير شكك، بل تمنيت أن أعود فوراً الى مصر على ظهر أول طائر مخبول حتى أشرب الشاي الكشري وأشفط الدخان بطعم التفاح من أرجيلتي، نظرت الى علي الشريف، الى ملامحه القاسية، الى حول عينيه وصوته المتحشرج الجارح كالشوك، فقلت له:
- يا أستاذ علي، أنا عشت في مصر أحلى سنواتي، ربما رأيت القاهرة كلها، حتى أنني ذهبت الى (خلوة الغلبان) ورأيت هناك شخصاً يشبهك تماماً.
قاطعني علي الشريف وهو يضحك:
- معقول؟ انت كمان شفت رزق الله الحلواني ،؟