لعل الأوان قد آن لنكتفي بأضحية الرسول الكريم، والذي ضحى -عليه أفضل الصلوات والتسليم -بكبشين أملحين أقرنين، أحدهما عنه وعن أهل بيته، والأخر عمن لم يستطع أن يضحي من أمته وهذا خيار.
والخيار الآخر هو أن نقتنع بما تجلبه لنا الريح اللعوب المستفزة من روائح الشواء، ونجلس مع الصغار (لنحجيهم) في الصباحات والأمسيات ،عن تلك المخلوقات المنقرضة، الغول والعنقاء وخروف الضحية.
كان صوت الخراف المتعارف عليه (باااااع)، يصدح كنغمة اليفة ليلة العيد الكبير من كل المنازل بلا استثناء، فالجميع قادر على شراء خروف الأضحية، ولوازمه من فحم وزيت وبهار، وخبز.
كان الأطفال الذين يسكنون (الحيشان) الكبيرة، اكثر حظاً من الذين يعيشون في منازل منفردة، إذ أنهم ينعمون باللعب لوقت اطول مع الخراف، قبل أن تغيب ثم تخرج للعيان محمولة على (سراويس) الشية الشهية.
وقد كان للحياة الاجتماعية في مواسم الأعياد بالأحياء القديمة مزاياها وخصوصيتها، فنجد أن الخبيز والحلويات و لحم (الخروف) حق مشاع للجميع، العاكفين والآملين وابناء السبيل.
وربما يفطر شباب الحي أكثر من مرة ذلك الصباح المبارك، فبعد أداء صلاة العيد، ينخرط الجميع في جولة المعايدة، وهي جولة لا تخلو من قراءة ذكية للواقع مدعمة بقرائن تدفع بها حاسة الشم، أو ارتفاع صوت الصحون وهي تهبط ثقيلة على الصواني الواسعة، وانسياب عطر الشطة الخضراء والليمون والبصل الابيض، دليل على الجاهزية القصوى، فقط ينتظرون من صاحب الدار أن ينطق (بالحليفة):
علي اليمين ما بتمشوا..
اكلوا (المرارة) مسافة الشية تمرق.
وينكب الجميع على صحن المرارة المعد جيداً، بتوابله و(تكاته)، وكل سيدة تبرع في ترتيبه وتقديمه متنوع المذاقات والألوان.
وقد توضع العصارة الصفراوية التي يفرزها البنكرياس في قلب(الشطة) الحارة كفاتح للشهية (المتحيلة)، ولكي تساعد من بعد على هضم تلك اللحوم، فهي محبوبة وضرورية على الرغم من مذاقها المر، يسكبونها على الطعام كمن يسكب ألواناً من العذاب اللذيذ.
وقبل ان تسكن الأفواه وترفع الصحون، ياتيهم احد صغار القوم (بشية الجمر) أو (الماكنتوش) كما يسمونها، والتي لا يحتاج تناولها لخبز أو صفوف.
ثم قبل ان يكمل الجميع التقام القطع المشوية الساخنة، يعلن الحظ السعيد عن وصلول (الصينية) محملة بالمزيد من اللحوم والاطباق الجانبية، بحسب الثقافة الغذائية والوضع الاقتصادي لأهل المنزل.
تختلف تفاصيل الصواني من حيث المحتويات، لكنها تتفق من حيث الأريحية والاتساع للجميع.
كانت وحدة النية و الهدف، تشيعان روحاً جميلة بين الحاضرين ، فهو اجتماع أشبه بالموائد المستديرة ، يصل المشاركون فيه لقمم الشبع المجاني، وعند بلوغهم مرحلة (الشعيرية) او (التحلية) ثم احتساء (الشربوت) الناطق، تجدهم قد أجمعوا فيما بينهم على الوفاق والسلام التام.
لا ينحصر دور الأطفال في العيد الكبير على اللعب وتلقي العيديات والمراسيل ومواساة (الضحايا) والمرح معها واطعامها آخر طعام الدنيا فقط، بل لهم دور اكثر اهمية، تؤرخ له ربات البيوت بشكل يقظ يحفظ الدقائق ويبعث على الدهشة، عطاء يسعد بعضهن وتنتظره أخريات.
فبمجرد انتهاء عمليات(تكسير) العظام وتفصيل اللحم (دي جمر، ودي صاج)، تقوم السيدات الحكيمات في المنازل بعملية(جبر الخواطر)، وتجهيز صينية الجيران بحرص وحذر ودقة، ولفها بفوطة أنيقة قبل توزيعها، وهي صينية تترقبها العيون التي في طرفها دفتر للحسابات اليومية، وركن مخصص للمقاصة.
تقوم السيدة التي تحسن (الغرف)بإحضار (صينية) نظيفة تضع عليها سبعة اكوام من اللحم، وقد يصل وزن الكوم الواحد لأكثر من نصف الكيلو، تراعي فيه انتقاء القطع واحجامها وفقاً لنظرية (المشايلة) وذلك حتى تصلح لعمل (حلة) مكتملة، في الفترة التي تلي ايام العيد، عندما تعود الثلاجات لحالة الجفاف اللحمي، وما يصاحبه من مقاساة للفاصوليات والأعداس والأفوال.
والحكمة التي يجب ان تتصف بها واضعة السبع اكوام، تنبع من درايتها بجاراتها، واحوالهن، وطباعهن المختلفة من ناحية الطيبة واللطف وتقبل الهدية، أو النقد و(الشناف) وطول اللسان.
اذكر تلك الأكوام المخصوصة، التي ترقم وتعلَم او توضع عليها شارة مميزة، (الكوم الفيهو الضنب دا لي ناس فلانة)،ويوصى بمنحها نصيبها اولاً، ودعوتها لفطور العيد، وفلانة هذه يضحى من اجلها بعدد من القطع الطيبة اتقاءً لشرها، بينما تراعى قواعد التقسيم العفوي العادل في بقية (الكيمان)، التي قد تضطر السيدات لإكمالها من هدايا الجيران المستلمة، إذا زاد عدد الضيوف بالمنزل.
وأذكر كذلك الجارات الكريمات،بتلك اللمسات الجميلة، فيقسمن ان لا يعود (الماعون) فارغاً، فيضعن البلح والحلوى في الصينية المردودة، ومكافأة نقدية صغيرة في جيب حاملها.
والناظر لتلك المشاهد من علو ما، يشاهد بعض الصواني وهي تخرج من المنازل افقياً، وتعود راسياً وقد تركت الكثير من الانطباعات لدى المستلمين بين شاكر وناكر.
اسأل اليوم عن تلك الكيمان، التي لم تعد تخرج بها الصواني بحثاً عن الأجر والثواب والقربى في المودة!..
ما مصيرها واين ذهبت؟
وهل من سبيل لعودتها بين سكان الحي الواحد، سواء في مناطق الرقي الجاف، او تلك المناطق التي حرمها انعدام (النبق) متعة الاقتسام!!
اما وقد حللنا بأيام ذي الحجة، ولبينا لله ان ييسر لنا صومها ونفلها، إن تعسر علينا الحج، وشقت دروبه.
قريباً بإذن الله-نصحو على اصوات الجوامع وهي تلهج بالتكبير والتهليل والحمد، و تصطف الجموع متباعدة متقاربة لأداء صلاة العيد، فيعود بعدها رب الأسرة المقتدر لبيته وأضحيته ليشرف على عادته التي لم تنقطع بسبب التصدير، او ارتفاع أسعار العملات الأجنبية مقابل الجنيه السوداني، ويعود آخر من الصلاة يلفه الحزن على فرحة العيد التي كان ينتظرها الصغار في كل عام وهو لا يملك ولا يتوقع، فيبحث عن بقية عشاء الأمس، او يصطنع لأسرته اطباقاً من الكفاف المرشوش على خبز الصبر والمسغبة.
لا يسعني سوى ان أطلق دعوة عبر هذه النافذة، لبث الحب وإحياء روح التكافل الحقة بين أفراد المجتمع، والقيام الجاد لنتفقد جيراننا بلا من ولا أذى، او لنمضي بالعطاء حيث تنتظره القلوب المنكسرة، والأفواه الجائعة،
(سبعة كيمان) يمكنها ان تعيد الكثير من جماليات المجتمع المفقودة، وكما نرى ، فكل الأكوام تعود على أصحابها بخير وفير ورزق كثير، أما ذلك (الكوم) المميز فهو رصيد يضاف حتماً لمانحه.
كنت في صغري أعترض على فكرة إلذبح،و ما يصاحبها من إدخال الألم إلى قلب الخروف، وأتهم ابي ومن يعاونه بالوحشية والدموية، واحيا طيلة ايام العيد على فتات الخبز، والطعمية وتلك الوجبات النباتة التي لا تذبح ولا تجرح ولا تحزن.
إن إراقة الدماء التي فدى بها الله- سبحانه وتعالى- الإنسان، ليست مدعاة للتفاخر واستفزاز مشاعر البسطاء المعدمين، فالله تعالى له فيها حكمة، و لا ينال منها إلا التقوى.
www.facebook.com
والخيار الآخر هو أن نقتنع بما تجلبه لنا الريح اللعوب المستفزة من روائح الشواء، ونجلس مع الصغار (لنحجيهم) في الصباحات والأمسيات ،عن تلك المخلوقات المنقرضة، الغول والعنقاء وخروف الضحية.
كان صوت الخراف المتعارف عليه (باااااع)، يصدح كنغمة اليفة ليلة العيد الكبير من كل المنازل بلا استثناء، فالجميع قادر على شراء خروف الأضحية، ولوازمه من فحم وزيت وبهار، وخبز.
كان الأطفال الذين يسكنون (الحيشان) الكبيرة، اكثر حظاً من الذين يعيشون في منازل منفردة، إذ أنهم ينعمون باللعب لوقت اطول مع الخراف، قبل أن تغيب ثم تخرج للعيان محمولة على (سراويس) الشية الشهية.
وقد كان للحياة الاجتماعية في مواسم الأعياد بالأحياء القديمة مزاياها وخصوصيتها، فنجد أن الخبيز والحلويات و لحم (الخروف) حق مشاع للجميع، العاكفين والآملين وابناء السبيل.
وربما يفطر شباب الحي أكثر من مرة ذلك الصباح المبارك، فبعد أداء صلاة العيد، ينخرط الجميع في جولة المعايدة، وهي جولة لا تخلو من قراءة ذكية للواقع مدعمة بقرائن تدفع بها حاسة الشم، أو ارتفاع صوت الصحون وهي تهبط ثقيلة على الصواني الواسعة، وانسياب عطر الشطة الخضراء والليمون والبصل الابيض، دليل على الجاهزية القصوى، فقط ينتظرون من صاحب الدار أن ينطق (بالحليفة):
علي اليمين ما بتمشوا..
اكلوا (المرارة) مسافة الشية تمرق.
وينكب الجميع على صحن المرارة المعد جيداً، بتوابله و(تكاته)، وكل سيدة تبرع في ترتيبه وتقديمه متنوع المذاقات والألوان.
وقد توضع العصارة الصفراوية التي يفرزها البنكرياس في قلب(الشطة) الحارة كفاتح للشهية (المتحيلة)، ولكي تساعد من بعد على هضم تلك اللحوم، فهي محبوبة وضرورية على الرغم من مذاقها المر، يسكبونها على الطعام كمن يسكب ألواناً من العذاب اللذيذ.
وقبل ان تسكن الأفواه وترفع الصحون، ياتيهم احد صغار القوم (بشية الجمر) أو (الماكنتوش) كما يسمونها، والتي لا يحتاج تناولها لخبز أو صفوف.
ثم قبل ان يكمل الجميع التقام القطع المشوية الساخنة، يعلن الحظ السعيد عن وصلول (الصينية) محملة بالمزيد من اللحوم والاطباق الجانبية، بحسب الثقافة الغذائية والوضع الاقتصادي لأهل المنزل.
تختلف تفاصيل الصواني من حيث المحتويات، لكنها تتفق من حيث الأريحية والاتساع للجميع.
كانت وحدة النية و الهدف، تشيعان روحاً جميلة بين الحاضرين ، فهو اجتماع أشبه بالموائد المستديرة ، يصل المشاركون فيه لقمم الشبع المجاني، وعند بلوغهم مرحلة (الشعيرية) او (التحلية) ثم احتساء (الشربوت) الناطق، تجدهم قد أجمعوا فيما بينهم على الوفاق والسلام التام.
لا ينحصر دور الأطفال في العيد الكبير على اللعب وتلقي العيديات والمراسيل ومواساة (الضحايا) والمرح معها واطعامها آخر طعام الدنيا فقط، بل لهم دور اكثر اهمية، تؤرخ له ربات البيوت بشكل يقظ يحفظ الدقائق ويبعث على الدهشة، عطاء يسعد بعضهن وتنتظره أخريات.
فبمجرد انتهاء عمليات(تكسير) العظام وتفصيل اللحم (دي جمر، ودي صاج)، تقوم السيدات الحكيمات في المنازل بعملية(جبر الخواطر)، وتجهيز صينية الجيران بحرص وحذر ودقة، ولفها بفوطة أنيقة قبل توزيعها، وهي صينية تترقبها العيون التي في طرفها دفتر للحسابات اليومية، وركن مخصص للمقاصة.
تقوم السيدة التي تحسن (الغرف)بإحضار (صينية) نظيفة تضع عليها سبعة اكوام من اللحم، وقد يصل وزن الكوم الواحد لأكثر من نصف الكيلو، تراعي فيه انتقاء القطع واحجامها وفقاً لنظرية (المشايلة) وذلك حتى تصلح لعمل (حلة) مكتملة، في الفترة التي تلي ايام العيد، عندما تعود الثلاجات لحالة الجفاف اللحمي، وما يصاحبه من مقاساة للفاصوليات والأعداس والأفوال.
والحكمة التي يجب ان تتصف بها واضعة السبع اكوام، تنبع من درايتها بجاراتها، واحوالهن، وطباعهن المختلفة من ناحية الطيبة واللطف وتقبل الهدية، أو النقد و(الشناف) وطول اللسان.
اذكر تلك الأكوام المخصوصة، التي ترقم وتعلَم او توضع عليها شارة مميزة، (الكوم الفيهو الضنب دا لي ناس فلانة)،ويوصى بمنحها نصيبها اولاً، ودعوتها لفطور العيد، وفلانة هذه يضحى من اجلها بعدد من القطع الطيبة اتقاءً لشرها، بينما تراعى قواعد التقسيم العفوي العادل في بقية (الكيمان)، التي قد تضطر السيدات لإكمالها من هدايا الجيران المستلمة، إذا زاد عدد الضيوف بالمنزل.
وأذكر كذلك الجارات الكريمات،بتلك اللمسات الجميلة، فيقسمن ان لا يعود (الماعون) فارغاً، فيضعن البلح والحلوى في الصينية المردودة، ومكافأة نقدية صغيرة في جيب حاملها.
والناظر لتلك المشاهد من علو ما، يشاهد بعض الصواني وهي تخرج من المنازل افقياً، وتعود راسياً وقد تركت الكثير من الانطباعات لدى المستلمين بين شاكر وناكر.
اسأل اليوم عن تلك الكيمان، التي لم تعد تخرج بها الصواني بحثاً عن الأجر والثواب والقربى في المودة!..
ما مصيرها واين ذهبت؟
وهل من سبيل لعودتها بين سكان الحي الواحد، سواء في مناطق الرقي الجاف، او تلك المناطق التي حرمها انعدام (النبق) متعة الاقتسام!!
اما وقد حللنا بأيام ذي الحجة، ولبينا لله ان ييسر لنا صومها ونفلها، إن تعسر علينا الحج، وشقت دروبه.
قريباً بإذن الله-نصحو على اصوات الجوامع وهي تلهج بالتكبير والتهليل والحمد، و تصطف الجموع متباعدة متقاربة لأداء صلاة العيد، فيعود بعدها رب الأسرة المقتدر لبيته وأضحيته ليشرف على عادته التي لم تنقطع بسبب التصدير، او ارتفاع أسعار العملات الأجنبية مقابل الجنيه السوداني، ويعود آخر من الصلاة يلفه الحزن على فرحة العيد التي كان ينتظرها الصغار في كل عام وهو لا يملك ولا يتوقع، فيبحث عن بقية عشاء الأمس، او يصطنع لأسرته اطباقاً من الكفاف المرشوش على خبز الصبر والمسغبة.
لا يسعني سوى ان أطلق دعوة عبر هذه النافذة، لبث الحب وإحياء روح التكافل الحقة بين أفراد المجتمع، والقيام الجاد لنتفقد جيراننا بلا من ولا أذى، او لنمضي بالعطاء حيث تنتظره القلوب المنكسرة، والأفواه الجائعة،
(سبعة كيمان) يمكنها ان تعيد الكثير من جماليات المجتمع المفقودة، وكما نرى ، فكل الأكوام تعود على أصحابها بخير وفير ورزق كثير، أما ذلك (الكوم) المميز فهو رصيد يضاف حتماً لمانحه.
كنت في صغري أعترض على فكرة إلذبح،و ما يصاحبها من إدخال الألم إلى قلب الخروف، وأتهم ابي ومن يعاونه بالوحشية والدموية، واحيا طيلة ايام العيد على فتات الخبز، والطعمية وتلك الوجبات النباتة التي لا تذبح ولا تجرح ولا تحزن.
إن إراقة الدماء التي فدى بها الله- سبحانه وتعالى- الإنسان، ليست مدعاة للتفاخر واستفزاز مشاعر البسطاء المعدمين، فالله تعالى له فيها حكمة، و لا ينال منها إلا التقوى.
Tomadir Altahir
Tomadir Altahir ist bei Facebook. Tritt Facebook bei, um dich mit Tomadir Altahir und anderen Nutzern, die du kennst, zu vernetzen. Facebook gibt Menschen die Möglichkeit, Inhalte zu teilen und die...