تقديم:
ينتمي آفولاي إلى شمال أفريقيا، وهو واحد من الذين برزوا في ميدان الأدب اللاتيني، إلا أنه فاقهم جميعاً من حيث غنى معارفه، وتنوع كتاباته، خاصة الكتابات القصصية والروائية. ومن ثم اعتبر آفولاي بحق ممثل السرد اللاتيني الأفريقي ووصف بأمير خطباء أفريقيا وأكثرهم نفوذاً وشهرة في عصره، حتى ولو أهمله معاصروه من الأدباء ولم يتحدثوا عنه.
يعد آفولاي أو (لوكيوس أبوليوس / Lucius Apeleius) صاحب رواية الحمار الذهبي التي تحكي عن تحول إنسان إلى حمار، روائي العصور القديمة الأول بلا منازع ومؤسس الرواية، لا بمعني السرد وإنما بالمعني الاصطلاحي الذي يتشكل من بطل وأحداث وعقدة وشخصيات وفضاء وزمن. هذا الفن الذي صار بعد ذلك نمطا أدبيا متميزا عن غيره من الأجناس الأدبية وهو فن الرواية . وتعد رواية آفولاي “الحمار الذهبي” أول رواية قديمة وصلت إلينا كاملة، وشكلت نوعاً أدبياً جديداً، هو النوع الذي يعرف اليوم بالرواية، وتضم هذه الرواية مجموعة من القصص يرويها المؤلف بضمير المتكلم. وإن كان آفولاي من شعب الأمازيغ بشمال أفريقيا إلا أنه ليس هناك من شك أن روايته استمدت روحها من أنفاس يونانية.
وتعد رواية “الحمار الذهبي” في واقع الأمر محاكاة ساخرة تنتمي إلى نموذج قصة المغامرات أو المخاطرات، ومن ثم يبدو أن التحول الساخر من إنسان إلى حمار له صلة بالجنس الأدبي يعتمد التحول كنهج للتعبير النثري. إنها رواية تجمع بين السخرية والاستعراضية والفكاهية والهزلية الماجنة والنِكات والهجو اللاذع. كتب آفولاي روايته بحرية متناهية غير مقيد بالمعايير الصارمة، غير أنها لا تخلو من مشاهد القسوة والجريمة والغرابة والجنس المقنع من حين لآخر.
وكما مسرحيات “ترنس”، أخذ الروائي آفولاي المصدر اليوناني على أنه إطار لإضافة حكايات أخرى تتخلل خط الرواية الرئيسة. وقد اعتمد آفولاي بالإضافة إلى المصدر اليوناني على المصدر الأمازيغي فيما يتعلق بالمعتقدات الوثنية لذلك العصر (الأعمال السحرية التي كانت في الشمال الأفريقي). وبالتالي فإن آفولاي تجاوز المصدر اليوناني، عندما حل في نهاية الرواية محل بطله، وتحدث فيها عن حياته الخاصة، ففصل بذلك الحدث الرئيسي عن مجراه واهتم بتمجيد عبادة الإلهة “إيزيس” التي كان يمجدها سكان شمال أفريقيا، حيث أن معاناة البطل عند آفولاي تجد حلها في الأسرار المقدسة. وأسلوب الرواية مليء بالعبارات الشعبية والاقتباسات الأدبية القديمة، متوفر على المحسنات البلاغية وشيء من الشاعرية ومليئ بالمتعة، لذا خاطب آفولاي القارئ في تقديمه للرواية قائلاً: “انتبه ستنال حظك من التسلية!”.
حياة آفولاي (لوكيوس أبوليوس):
ولد “أفولاي” (الإسم الأمازيغي) أو “لوكيوس أبوليوس” (الإسم الروماني) ببلاد النوميديين، بمدينة مداوروش (Madauroch) المدينة الجزائرية (ولاية طاڨاست / سوق أهراس) بالقرب من الحدود التونسية حوالي سنة 125 ميلادية. وقد اختار الإقامة بقرطاج، وهو مدين بشهرته وبتكريسه كاتبا كبيرا لهذه المدينة الفينيقية. تعلم بقرطاج، ثم بأثينا حيث درس على الخصوص الفلسفة الأفلاطونية. يجهل كل شيء عن تاريخ وفاته، لكن ما يعرف عنه هو أنه قام بأسفار عديدة جريا وراء المغامرة والبحث عن المعرفة. سافر إلى روما حيث امتهن المحاماة، وخلال سفر من بلاده الأصلي إلى مصر، توقف بطرابلس حيث تعرف على أرملة غنية جدا كانت تكبره بكثير، وهي تسمى إميليا بيدونتيلا. تزوجها وورث كل ما تملك بعد وفاتها. وأمام حرمنهما من إرث ابنتهما، ما كان من أبويها إلا اتهام آفولاي بالسحر وبتسليط الأرواح على ابنتهما لتعشقه وتسحر به وتوصي له بكل ما تملك. تقدم الأبوان بدعوى قضائية للقنصل الروماني كلوديوس مكسيموس بطرابلس. خلال هذه الفترة، كتب آفولاي دفاعه بقلمه (فهو دارس للقانون) ليحكم عليه بالبراءة ويستقر بعدها بقرطاج حيث درس البلاغة.
كان آفولاي خطيبا متمرسا يخطب في الجمهور العريض في عدد كبير من مدن شمال إفريقيا. كما اعتبر واحدا من أولائك السحرة المستعينين بالغيبيات والذين ينعتون دائما بأنهم ضد المسيح. ورغم كفاءاته تلك، لم يتقلد آفولاي أي منصب رسمي في مجال القضاء، كما يخبرنا “سان أغسطين”. وفي إطار مناخ قرطاج الثقافي، أنجز آفولاي أعماله الفكرية والأدبية وكتابه الذائع الصيت تحت عنوان “التحولات” أو “قصة الحمار الذهبي” . ويعد هذا الكتاب من أهم الأعمال الأدبية الخالدة التي ترجمت أيضا إلي العربية، وهي تروي قصة إنسان مسخ حمارا. ولربما يحكي فيه الكاتب ذكرياته في اليونان القديمة وفي بعض أماكن من شاطئ البحر الأبيض المتوسط.
3- أعمال آفولاي
يمكن القول بأن رواية “الحمار الذهبي” رواية قديمة ارتبطت بالغيبيات والسحر… ورغم أنها تغرق في الغيبيات وتبتعد عن العقلانية، إلا أن وصف الكاتب لحياته كحمار كان إبداعا جيدا يذكرنا اليوم برواية النمساوي “فرانز كافكا” الذي اعتمد تقنية المسخ إذ يتحول بطله في إحدى رواياته التي تحمل نفس العنوان التحول إلى صرصار. لكن الفارق طبعا، وإن لم يكن إبداعيا، لأن الروايتين في قمة الإبداع، الفارق هو أن آفولاي الأمازيغي سبق كافكا النمساوي بما يقارب ألفي سنة.
بكتابه التحولات {أو الحمار الذهبي}، احتل آفولاي الصف الأول مع كبار الكتاب العالميين الخالدين. وفي كتابه ذاك، اتخذ الرواية الطويلة النفس مطية لوصف الأوضاع الإجتماعية وانتقادها في سخرية حينا، وفي شدة وصرامة أحيانا. دافع عن المستضعفين، وطرق بكيفية غير مباشرة موضوعات فلسفية، مظهرا لنزعته الصوفية، ولميوله إلى الديانات المشرقية النشأة وولوعه بعبادة الآلهة المصرية” إزيس” عوض المسيحية السائدة وقتها، فوصف ب “النوميدي المزعج” ، ولكن اعترف له بصدق التعبير وبالبراعة في فني القص والكلام. وكان هو نفسه يصرّح بأنّه تأثر بعمق الفكر اليوناني. (محمد شفيق).
سافر آفولاي إلى أثينا وتشبع بثقافتها ليصبح أكثر هيلينية من المجتمع الهيليني نفسه. كان يسلك مسلكا فلسفيا جديدا لما بعد الأفلاطونية، أو لنقل الأفلاطونية الجديدة حينئذ. كان آفولاي يعتز بأنه كتب شعرا كـأوبدوكل، وكتب حوارات كأفلاطون وقصصا ككسينوفان، وتراتيل كسقراط، ومسرحيات كبيشارم… كما أنه كتب أيضا باللغة اللاتينية والإغريقية في الحساب والموسيقى والفلاحة… وأهم مؤلفات آفولاي التي وصلتنا، نذكر:
1- كتاب “الدفاع أو السحر”، حيث يدافع عن نفسه بحرارة إثر اتهامه بالشعوذة ويكشف القناع عن إحساس حاد بقيمه الشخصية. كما أنه سيرة ذاتية تمد القارئ بمعلومات عن قناعات واعتقادات الكاتب آفولاي وموطنه أفريقيا خلال تلك الفترة. كل هذا يتم تحت قناع بلاغي من حيث التعبير يعرض فيه الكاتب للأنا الأمازيغية مقابل الآخر اللاتني-الإغريقي.
2- كما ترك لنا آفولاي كتابا آخر هو” الفلوريدات – Les Florides”، ويمكن ترجمة هذا العنوان إلي اللغة العربية ب الورديات أو الزهريات ، وهي أنطولوجيا تضم مختارات من أعماله وندواته وخطبه. كما يجمع مناقشات شفهية في عدة مجالات. إنه بالأساس عبارة عن آراء كاتب مسافر باستمرار، بالمعنى المادي والمعنوي لكلمة السفر.
3- كتاب “التحول”، وهو رواية ساخرة سماها “الحمار الذهبي” حيث يحكي عن الحب والنفس والآلهة والجن وعادات الإمبراطورية الرومانية.
4- كتاب “حول إله سقراط”، يتطرق لعالم الأرواح والجن. شخصيات غريبة يقدمها الكاتب تجد مكانها في العالم الإلهي وعالم البشر. شخصيات من ثلاثة أنواع: أرواح داخل جسد، أرواح تحررت من الجسد وأرواح لم يسبق لها أن سكنت الجسد المادي. ورغم أن نص الكتاب يبحث عن الجوانب الروحية عند سقراط، إلا أنه دعوة صريحة للبحث عن الحكمة.
5- كتاب فلسفي حول مذهب أفلاطون يتعرض للأمور الأخلاقية والمادية. إنها قراءة مراوغة لمسألة الأخلاق عند أفلاطون.
6- كتاب يتعرض لعلم الفضاء وموضوع الدين. هنا يذهب آفولاي إلى تقديم فكرته التي تفيد بأن الله أصل الحياة.
بالإضافة إلى كتب أخرى في الحياة وفي المذهب الأفلاطوني. وقد كانت بحق كتبا مهمة أغنت تاريخ اللغة اللاتينية بإفريقيا الشمالية خلال القرن الثاني من الميلاد. ويعد آفولاي (لوكيوس أبوليوس) من المدافعين عن الخصوصية الأمازيغية الإفريقية المتعلقة حد الهوس بمعتقداتها وعاداتها في مواجهة الطقوس التي كانت تفرضها روما تمجيدا وتبجيلا وتعبدا للقيصر، وكذا في مواجهة المد المسيحي.
لا يعرف أي شيء عن وفاة آفولاي : أين ومتى وتحت أية ظروف مات. لكن الأكيد هو أنه توفي حوالي 170 ميلادية قرب قرطاج، مدينته المحببة.
يبقى كتاب آفولاي المهم طبعا هو “التحول” أو “الحمار الذهبي” الذي ظهر في أحد عشر جزءا. إنها رواية طويلة تحكى بصيغة المتكلم بطلها “لوسيوس”، وهو شاب يسكنه الفضول. خلال سفر الشاب ”لوسيوس”، الذي ينتمي لعائلة ميسورة، إلى هيباتا، اكترى غرفة عند ساحرة تسمى “فوتيس”. بعد ذلك سيدخل في علاقات عاطفية مع خادمتها، ثم سيحاول الإمساك بخيوط معرفتها السحرية. وفي الليل هاجمه ثلاثة لصوص ولم يكن له مفر من مصارعتهم، وتمكن منهم فقضى عليهم جميعهم. قبض عليه وسجن بتهمة القتل. لكن في المحكمة، عندما أحضرت الجثث لإثبات الجريمة، تبين أنه لم يكن هناك جثث، بل كانت ثلاث قرب مملوءة بالهواء. أطلق سراح الشاب لعدم حدوث جريمة القتل أساسا، على الرغم من أنه هو القاتل.
أدرك البطل أن الساحرة علمت بوجوده ورغبت في التحرش به، من هنا ازدادت رغبته في معرفة أعمال هذه الساحرة. بمساعدة الخادمة وصل إلى بيت الساحرة ورأى بنفسه كيف دهنت نفسها بدهان تحولت بعده إلى بومة، وطارت أمام عينه إلى السماء وهو يشاهدها…
ازداد حب الاستطلاع عند لوسيوس ورغب في تجربة الدهان بنفسه، وطلب من الخادمة أن تسمح له بأن تأتيه بالوعاء ليدهن نفسه به. كذلك كان واستجابت الخادمة لطلبه وأعطته علبة الدهان. لكنها أخطأت في إحضار العلبة الخاصة بالطيور، وأعطته الدهان الذي حوله إلى حمار، وهنا تبدأ رحلة السخرية التي استفاد منها الكاتب لينقل أفكاره، فقد تحول هذا الإنسان بشكله إلى حمار، ولكن عقله بقي عقل إنسان مفكر. بعد هذه الحادثة الغير نتوقعة، وعدته الخادمة بأنها ستحضر له الدواء المضاد وهو عشب الورد الذي سيعيده إلى وضعه الإنساني، وطلبت منه أن يبقى في الإسطبل حتى تحضر له المطلوب، وهنا يأتي اللصوص ويسرقونه مع بقية الخيل وتبدأ رحلة المشاكل…
في رحلته الأولى مع اللصوص، يكون لوسيوس (الحمار) شاهدا على عملية اختطاف إحدى العرائس التي سيقع في حبها، وكان يعاملها معاملة خاصة قدرتها له، ولكن حياته بقيت معروفة بأنه حمار، ويقوم بأعمال الحمير، فهو يتمنى أن يحمل الحبيبة إلى أي مكان، ولكن أصحاب الإسطبل يفضلون عمله على رحى طحن أو حمل الحطب أو نقل الأمتعة…
هكذا يجد البطل لوسيوس نفسه فجأة وقد تحول إلى حمار نتيجة مخدر سحري صنعته الساحرة بامفيلي، وكي يسترجع آدميته كان عليه كما أسلفنا أن يتناول وردة، لكن لسوء حظه (ليجد آفولاي فسحة اكبر للتعبير) قيده مجموعة من اللصوص في مكان بعيد عن الورود و هكذا ستنشبك أحداث الرواية.
سيهرب الحمار (لوسيوس) ليصبح مطية لعدد من القراصنة، ثم عدد من العبيد الفارين، ثم عدد من الكهنة القادمين من سوريا، ثم طحان، فسباخ، فعسكري، فعبدين، فحلواني وطباخين أخوين، ثم سيدهما. وبما أن الحمار هو الذي يحكي وقد حافظ على قوة ملاحظته وفكره النقدي كإنسان، فإن الكاتب يقدم لنا، من الداخل، كل الأنشطة والأمور التي تشغل الأوساط المختلفة التي اتصل بها في المجتمع الأمازيغي والروماني.
يبقى فكر “لوسيوس” فكر إنسان، فكانت هذه هي الرابطة التي تربطه ببني جنسه الأصلي، ومنها أيضا ارتفع حب أصحابه له. وقد كانت مشكلته الكبيرة هي في الأكل فهو لا يأكل أكل الحمير. لذا أحبه أصحابه لأنه حمار صاحب ذوق، فهو لا يأكل الأعشاب ولكنه يأكل الخبر، فعلموا أنه حيوان نادر فعلموه بعض الألعاب فأجادها، وجعلوه يقوم برقصات وألعاب على المسارح…
تمكن الحمار (لوسيوس) من الهرب ليصل إلى الشاطئ، وغسل بدنه سبع مرات وطلب من الآلهة أن تحرره من شكله الحيواني… وهنا وصل موكب عظيم لتقديس الآلهة يحمل أعشاب الورد، فقفز إليها وأكل منها، وعاد إلى هيئة الأولى كإنسان. تحول “لوسيوس” إلى حمار في الكتاب الثالث من الأجزاء الإحدى عشر، وظل كذلك يحكي إلى أن وصل الكتاب الأخير الذي سيتمكن فيه من التحول بالخلف مرة أخرى إلى إنسان بعد أن أكل الوردة العجيبة وحصل على العفو بمساعدة الإلهة “إزيس”.
أهدى “أبولي” نهاية سعيدة على شرف “إيزيس”، إذ في موكب الاحتفال بالإلهة الفرعونية سيأكل الوردة الرمز ويسترد آدميته. والنص في جوهره يبدو و كأنه احتفاء و تبجيل لديانة القرطاجيين الذين كانوا يعبدون “إيزيس” إلى جانب “فينوس”.
هذا الكتاب ليست قصة واحدة بل قصص منوعة وعديدة، وكل منها مستقلة بذاتها، ولكنها كلها في رواية واحدة. وهذا الكتاب مقسم إلى أحد عشر باباً، كل واحد من هذه الأبواب هو امتداد للرواية، وهو في الوقت نفسه رواية في قلب رواية مثل قصة العقاب البشع، وقصة العاشق المتخفي، وقصة التنين، وقصة الطحان… وغيرها من القصص المتناثرة على صفحات هذه الرواية الرائعة.
و حين يحس أبولي بالظمأ الفني سيستجدي الميتولوجيا، إذ تضم أحد المقاطع التي عُدت من طرف النقاد من الأهمية بمكان حكاية “بسيكي”-ربة الروح- حين واجهت الوحش -رمز الغرور والنرجسية- عقابا على جمالها الأخاذ وحاولت قتله بناء على نصيحة أخواتها اللواتي يكرهنها لأنها أجمل منهن. و في خضم مغامرتها ستسقط بفعل ذهولها قطرة من زيت الفانوس الحامي على كتف إيروس فيطردها الأخير. و بناء على نصيحة فينوز كي تلتقي به ستنجز بعض الأعمال من بينها النزول إلى الجحيم لتتزوج بإيروس في النهاية.
الرواية فيها انزياحات تنحرف عن الحكاية الرئيسية لتحكي قصصا قصيرة أخرى كقصة الحب والنفس مثلا ضمن الرواية الطويلة. ومن ثم فإن رواية التحول هي أيضا مجموعة قصصية تحكي عن خادم مسنة في مغارة القراصنة، وعن فتاة تحب الجن، وعن الإلهة إزيس التي تستحوذ على فكر آفولاي. كل ذلك في أسلوب يتراوح بين الديني والأسطوري والميتافيزيقي والخرافي، تغلفه نغمة حزينة يتزاوج فيها العنف بالسادية.
يحدث كل ذلك والكاتب الكبير آفولاي الأمازيغي يبرع في استحضار الخيال المدهش والأسطورة ليروي لنا قصة امتنع حتى الآن النقّاد التوصل إلى الإمساك بجميع تفاصيلها وخيوطها، فهو ينتقد الوضع السياسي بروما مستحضرا كل ما يخالج الفرد من تنائيات: الحب والكره، التضحية والخيانة، الوفاء والغدر، الفضيلة والرذيلة، الاحترام والتطاول، الدراما والكوميديا، الإيمان والتحرر… كما يجمع آفولاي في روايته بين شخصيات متناقضة أيضا: الغني والفقير، القرصان والفلاح، العسكري والتاجر، الغانية والمتعففة، الساحرة والمؤمنة…
إنها رواية تبحث عن حقيقة الأشياء عبر النظر إليها من زوايا مختلفة (لوكيوس الإنسان ولوكيوس المتخفي في دور الحمار). لم يكن التحول أبديا، بل إنه عبارة عن تحول-قضية قابل للعودة إلى نقطة البدء (إنسان-حمار-إنسان) بعد تسجيل الملاحظات على حين غرة وفي غفلة من الآخرين الذين لا ينتبهون للحمار. لكنه ليس حمارا عاديا، بل هو حمار في الشكل فقط يحتفظ بقوة الملاحظة.
لماذا التحول إلى حمار وليس إلى حيوان آخر؟
لأن الحمار في الثقافة الأمازيغية ينعت بالبلادة، لكن أيضا بالمكر. وبخصوص ذكاء الحمار آفولاي نقرأ في الرواية:
وقد تنبأ الحمار الآخر بقصدي وسبقني إليه، فتصنع فجأة التعب وهوى بكل ثقل جثته وظل ممددا على الأرض كما لو أنه جثة هامدة، فلا الضرب بالعصا التي انهالت عليه، ولا الوخز بالقضيب، ولا الجدب والشد الذي تعرض له عنقه وقوائمه، كل هذا لم يفلح في رفعه من على الأرض. وحين تعب السرقة من أمره ولم يعد لديهم أمل في تحركه… تشاوروا، لتنتهي بهم المشورة إلى حز ساقيه بالسيف وجره بعيدا عن الطريق، وهو لازال يتنفس، ثم رميه من فوق تلة عالية جدا حتى لا يعطلهم عن الهرب… حين فكرت أنا فيما آل إليه الحمار صديقي، قررت أن أتراجع عما كان في نفسي من مكر ومضيت أخدم أصحابي السارقين بكل وفاء وإخلاص… .
وعن الغراب الذي يعتبره الأمازيغ فأل شؤم وإنذارا بالموت وإشارة إلى الشيخوخة والذمامة، نقرأ في الرواية:
أي طائر أجمل ومحبب إلى المرأة أكثر من الغراب. ألا نقوم باصطياد هذا الطير ليلا متى دخل البيوت لندقه بالمسامير على الباب حتى نطرد بتعذيبه ذاك الكارثة التي كان سيستجلبها وهو يطير محلقا من حولنا في الفضاء؟
ونقرأ أيضا في الرواية عن البئر التي تعد رمزا للإنتحار:
“وجهت غضبها ضد سلالتها، إذ أنها ستدير حول جسدها حبلا وتشد إليها بنفس الحبل رضيعها الذي أنجبته للتو من زوجها، ثم سترمي بنفسها في البئر العميقة”
كما نقرأ عن الحلم في الرواية:
“لا ترهبنك صور الأحلام الزائفة، إذ لا تعد أحلام النهار وحدها كاذبة، بل إن أحلام الليل تشير في الغالب إلى عكس ما تذهب إليه ظاهريا. وبالتالي، فإن البكاء، أو تلقي اللكمات، أو حتى التعرض للذبح في بعض الأحيان، ينبئ بربح أو حدوث أمور سعيدة. وبالعكس، فإن الضحك، أو ملأ البطن بالحلوى أو أي شيئ حلو جميل، أو الاجتماع بفرد لتذوق اللذة الجسدية يعني أن الحزن أوالمرض أو أشياء أخرى عصيبة هي لنا بالمرصاد…”
ينتمي آفولاي إلى شمال أفريقيا، وهو واحد من الذين برزوا في ميدان الأدب اللاتيني، إلا أنه فاقهم جميعاً من حيث غنى معارفه، وتنوع كتاباته، خاصة الكتابات القصصية والروائية. ومن ثم اعتبر آفولاي بحق ممثل السرد اللاتيني الأفريقي ووصف بأمير خطباء أفريقيا وأكثرهم نفوذاً وشهرة في عصره، حتى ولو أهمله معاصروه من الأدباء ولم يتحدثوا عنه.
يعد آفولاي أو (لوكيوس أبوليوس / Lucius Apeleius) صاحب رواية الحمار الذهبي التي تحكي عن تحول إنسان إلى حمار، روائي العصور القديمة الأول بلا منازع ومؤسس الرواية، لا بمعني السرد وإنما بالمعني الاصطلاحي الذي يتشكل من بطل وأحداث وعقدة وشخصيات وفضاء وزمن. هذا الفن الذي صار بعد ذلك نمطا أدبيا متميزا عن غيره من الأجناس الأدبية وهو فن الرواية . وتعد رواية آفولاي “الحمار الذهبي” أول رواية قديمة وصلت إلينا كاملة، وشكلت نوعاً أدبياً جديداً، هو النوع الذي يعرف اليوم بالرواية، وتضم هذه الرواية مجموعة من القصص يرويها المؤلف بضمير المتكلم. وإن كان آفولاي من شعب الأمازيغ بشمال أفريقيا إلا أنه ليس هناك من شك أن روايته استمدت روحها من أنفاس يونانية.
وتعد رواية “الحمار الذهبي” في واقع الأمر محاكاة ساخرة تنتمي إلى نموذج قصة المغامرات أو المخاطرات، ومن ثم يبدو أن التحول الساخر من إنسان إلى حمار له صلة بالجنس الأدبي يعتمد التحول كنهج للتعبير النثري. إنها رواية تجمع بين السخرية والاستعراضية والفكاهية والهزلية الماجنة والنِكات والهجو اللاذع. كتب آفولاي روايته بحرية متناهية غير مقيد بالمعايير الصارمة، غير أنها لا تخلو من مشاهد القسوة والجريمة والغرابة والجنس المقنع من حين لآخر.
وكما مسرحيات “ترنس”، أخذ الروائي آفولاي المصدر اليوناني على أنه إطار لإضافة حكايات أخرى تتخلل خط الرواية الرئيسة. وقد اعتمد آفولاي بالإضافة إلى المصدر اليوناني على المصدر الأمازيغي فيما يتعلق بالمعتقدات الوثنية لذلك العصر (الأعمال السحرية التي كانت في الشمال الأفريقي). وبالتالي فإن آفولاي تجاوز المصدر اليوناني، عندما حل في نهاية الرواية محل بطله، وتحدث فيها عن حياته الخاصة، ففصل بذلك الحدث الرئيسي عن مجراه واهتم بتمجيد عبادة الإلهة “إيزيس” التي كان يمجدها سكان شمال أفريقيا، حيث أن معاناة البطل عند آفولاي تجد حلها في الأسرار المقدسة. وأسلوب الرواية مليء بالعبارات الشعبية والاقتباسات الأدبية القديمة، متوفر على المحسنات البلاغية وشيء من الشاعرية ومليئ بالمتعة، لذا خاطب آفولاي القارئ في تقديمه للرواية قائلاً: “انتبه ستنال حظك من التسلية!”.
حياة آفولاي (لوكيوس أبوليوس):
ولد “أفولاي” (الإسم الأمازيغي) أو “لوكيوس أبوليوس” (الإسم الروماني) ببلاد النوميديين، بمدينة مداوروش (Madauroch) المدينة الجزائرية (ولاية طاڨاست / سوق أهراس) بالقرب من الحدود التونسية حوالي سنة 125 ميلادية. وقد اختار الإقامة بقرطاج، وهو مدين بشهرته وبتكريسه كاتبا كبيرا لهذه المدينة الفينيقية. تعلم بقرطاج، ثم بأثينا حيث درس على الخصوص الفلسفة الأفلاطونية. يجهل كل شيء عن تاريخ وفاته، لكن ما يعرف عنه هو أنه قام بأسفار عديدة جريا وراء المغامرة والبحث عن المعرفة. سافر إلى روما حيث امتهن المحاماة، وخلال سفر من بلاده الأصلي إلى مصر، توقف بطرابلس حيث تعرف على أرملة غنية جدا كانت تكبره بكثير، وهي تسمى إميليا بيدونتيلا. تزوجها وورث كل ما تملك بعد وفاتها. وأمام حرمنهما من إرث ابنتهما، ما كان من أبويها إلا اتهام آفولاي بالسحر وبتسليط الأرواح على ابنتهما لتعشقه وتسحر به وتوصي له بكل ما تملك. تقدم الأبوان بدعوى قضائية للقنصل الروماني كلوديوس مكسيموس بطرابلس. خلال هذه الفترة، كتب آفولاي دفاعه بقلمه (فهو دارس للقانون) ليحكم عليه بالبراءة ويستقر بعدها بقرطاج حيث درس البلاغة.
كان آفولاي خطيبا متمرسا يخطب في الجمهور العريض في عدد كبير من مدن شمال إفريقيا. كما اعتبر واحدا من أولائك السحرة المستعينين بالغيبيات والذين ينعتون دائما بأنهم ضد المسيح. ورغم كفاءاته تلك، لم يتقلد آفولاي أي منصب رسمي في مجال القضاء، كما يخبرنا “سان أغسطين”. وفي إطار مناخ قرطاج الثقافي، أنجز آفولاي أعماله الفكرية والأدبية وكتابه الذائع الصيت تحت عنوان “التحولات” أو “قصة الحمار الذهبي” . ويعد هذا الكتاب من أهم الأعمال الأدبية الخالدة التي ترجمت أيضا إلي العربية، وهي تروي قصة إنسان مسخ حمارا. ولربما يحكي فيه الكاتب ذكرياته في اليونان القديمة وفي بعض أماكن من شاطئ البحر الأبيض المتوسط.
3- أعمال آفولاي
يمكن القول بأن رواية “الحمار الذهبي” رواية قديمة ارتبطت بالغيبيات والسحر… ورغم أنها تغرق في الغيبيات وتبتعد عن العقلانية، إلا أن وصف الكاتب لحياته كحمار كان إبداعا جيدا يذكرنا اليوم برواية النمساوي “فرانز كافكا” الذي اعتمد تقنية المسخ إذ يتحول بطله في إحدى رواياته التي تحمل نفس العنوان التحول إلى صرصار. لكن الفارق طبعا، وإن لم يكن إبداعيا، لأن الروايتين في قمة الإبداع، الفارق هو أن آفولاي الأمازيغي سبق كافكا النمساوي بما يقارب ألفي سنة.
بكتابه التحولات {أو الحمار الذهبي}، احتل آفولاي الصف الأول مع كبار الكتاب العالميين الخالدين. وفي كتابه ذاك، اتخذ الرواية الطويلة النفس مطية لوصف الأوضاع الإجتماعية وانتقادها في سخرية حينا، وفي شدة وصرامة أحيانا. دافع عن المستضعفين، وطرق بكيفية غير مباشرة موضوعات فلسفية، مظهرا لنزعته الصوفية، ولميوله إلى الديانات المشرقية النشأة وولوعه بعبادة الآلهة المصرية” إزيس” عوض المسيحية السائدة وقتها، فوصف ب “النوميدي المزعج” ، ولكن اعترف له بصدق التعبير وبالبراعة في فني القص والكلام. وكان هو نفسه يصرّح بأنّه تأثر بعمق الفكر اليوناني. (محمد شفيق).
سافر آفولاي إلى أثينا وتشبع بثقافتها ليصبح أكثر هيلينية من المجتمع الهيليني نفسه. كان يسلك مسلكا فلسفيا جديدا لما بعد الأفلاطونية، أو لنقل الأفلاطونية الجديدة حينئذ. كان آفولاي يعتز بأنه كتب شعرا كـأوبدوكل، وكتب حوارات كأفلاطون وقصصا ككسينوفان، وتراتيل كسقراط، ومسرحيات كبيشارم… كما أنه كتب أيضا باللغة اللاتينية والإغريقية في الحساب والموسيقى والفلاحة… وأهم مؤلفات آفولاي التي وصلتنا، نذكر:
1- كتاب “الدفاع أو السحر”، حيث يدافع عن نفسه بحرارة إثر اتهامه بالشعوذة ويكشف القناع عن إحساس حاد بقيمه الشخصية. كما أنه سيرة ذاتية تمد القارئ بمعلومات عن قناعات واعتقادات الكاتب آفولاي وموطنه أفريقيا خلال تلك الفترة. كل هذا يتم تحت قناع بلاغي من حيث التعبير يعرض فيه الكاتب للأنا الأمازيغية مقابل الآخر اللاتني-الإغريقي.
2- كما ترك لنا آفولاي كتابا آخر هو” الفلوريدات – Les Florides”، ويمكن ترجمة هذا العنوان إلي اللغة العربية ب الورديات أو الزهريات ، وهي أنطولوجيا تضم مختارات من أعماله وندواته وخطبه. كما يجمع مناقشات شفهية في عدة مجالات. إنه بالأساس عبارة عن آراء كاتب مسافر باستمرار، بالمعنى المادي والمعنوي لكلمة السفر.
3- كتاب “التحول”، وهو رواية ساخرة سماها “الحمار الذهبي” حيث يحكي عن الحب والنفس والآلهة والجن وعادات الإمبراطورية الرومانية.
4- كتاب “حول إله سقراط”، يتطرق لعالم الأرواح والجن. شخصيات غريبة يقدمها الكاتب تجد مكانها في العالم الإلهي وعالم البشر. شخصيات من ثلاثة أنواع: أرواح داخل جسد، أرواح تحررت من الجسد وأرواح لم يسبق لها أن سكنت الجسد المادي. ورغم أن نص الكتاب يبحث عن الجوانب الروحية عند سقراط، إلا أنه دعوة صريحة للبحث عن الحكمة.
5- كتاب فلسفي حول مذهب أفلاطون يتعرض للأمور الأخلاقية والمادية. إنها قراءة مراوغة لمسألة الأخلاق عند أفلاطون.
6- كتاب يتعرض لعلم الفضاء وموضوع الدين. هنا يذهب آفولاي إلى تقديم فكرته التي تفيد بأن الله أصل الحياة.
بالإضافة إلى كتب أخرى في الحياة وفي المذهب الأفلاطوني. وقد كانت بحق كتبا مهمة أغنت تاريخ اللغة اللاتينية بإفريقيا الشمالية خلال القرن الثاني من الميلاد. ويعد آفولاي (لوكيوس أبوليوس) من المدافعين عن الخصوصية الأمازيغية الإفريقية المتعلقة حد الهوس بمعتقداتها وعاداتها في مواجهة الطقوس التي كانت تفرضها روما تمجيدا وتبجيلا وتعبدا للقيصر، وكذا في مواجهة المد المسيحي.
لا يعرف أي شيء عن وفاة آفولاي : أين ومتى وتحت أية ظروف مات. لكن الأكيد هو أنه توفي حوالي 170 ميلادية قرب قرطاج، مدينته المحببة.
يبقى كتاب آفولاي المهم طبعا هو “التحول” أو “الحمار الذهبي” الذي ظهر في أحد عشر جزءا. إنها رواية طويلة تحكى بصيغة المتكلم بطلها “لوسيوس”، وهو شاب يسكنه الفضول. خلال سفر الشاب ”لوسيوس”، الذي ينتمي لعائلة ميسورة، إلى هيباتا، اكترى غرفة عند ساحرة تسمى “فوتيس”. بعد ذلك سيدخل في علاقات عاطفية مع خادمتها، ثم سيحاول الإمساك بخيوط معرفتها السحرية. وفي الليل هاجمه ثلاثة لصوص ولم يكن له مفر من مصارعتهم، وتمكن منهم فقضى عليهم جميعهم. قبض عليه وسجن بتهمة القتل. لكن في المحكمة، عندما أحضرت الجثث لإثبات الجريمة، تبين أنه لم يكن هناك جثث، بل كانت ثلاث قرب مملوءة بالهواء. أطلق سراح الشاب لعدم حدوث جريمة القتل أساسا، على الرغم من أنه هو القاتل.
أدرك البطل أن الساحرة علمت بوجوده ورغبت في التحرش به، من هنا ازدادت رغبته في معرفة أعمال هذه الساحرة. بمساعدة الخادمة وصل إلى بيت الساحرة ورأى بنفسه كيف دهنت نفسها بدهان تحولت بعده إلى بومة، وطارت أمام عينه إلى السماء وهو يشاهدها…
ازداد حب الاستطلاع عند لوسيوس ورغب في تجربة الدهان بنفسه، وطلب من الخادمة أن تسمح له بأن تأتيه بالوعاء ليدهن نفسه به. كذلك كان واستجابت الخادمة لطلبه وأعطته علبة الدهان. لكنها أخطأت في إحضار العلبة الخاصة بالطيور، وأعطته الدهان الذي حوله إلى حمار، وهنا تبدأ رحلة السخرية التي استفاد منها الكاتب لينقل أفكاره، فقد تحول هذا الإنسان بشكله إلى حمار، ولكن عقله بقي عقل إنسان مفكر. بعد هذه الحادثة الغير نتوقعة، وعدته الخادمة بأنها ستحضر له الدواء المضاد وهو عشب الورد الذي سيعيده إلى وضعه الإنساني، وطلبت منه أن يبقى في الإسطبل حتى تحضر له المطلوب، وهنا يأتي اللصوص ويسرقونه مع بقية الخيل وتبدأ رحلة المشاكل…
في رحلته الأولى مع اللصوص، يكون لوسيوس (الحمار) شاهدا على عملية اختطاف إحدى العرائس التي سيقع في حبها، وكان يعاملها معاملة خاصة قدرتها له، ولكن حياته بقيت معروفة بأنه حمار، ويقوم بأعمال الحمير، فهو يتمنى أن يحمل الحبيبة إلى أي مكان، ولكن أصحاب الإسطبل يفضلون عمله على رحى طحن أو حمل الحطب أو نقل الأمتعة…
هكذا يجد البطل لوسيوس نفسه فجأة وقد تحول إلى حمار نتيجة مخدر سحري صنعته الساحرة بامفيلي، وكي يسترجع آدميته كان عليه كما أسلفنا أن يتناول وردة، لكن لسوء حظه (ليجد آفولاي فسحة اكبر للتعبير) قيده مجموعة من اللصوص في مكان بعيد عن الورود و هكذا ستنشبك أحداث الرواية.
سيهرب الحمار (لوسيوس) ليصبح مطية لعدد من القراصنة، ثم عدد من العبيد الفارين، ثم عدد من الكهنة القادمين من سوريا، ثم طحان، فسباخ، فعسكري، فعبدين، فحلواني وطباخين أخوين، ثم سيدهما. وبما أن الحمار هو الذي يحكي وقد حافظ على قوة ملاحظته وفكره النقدي كإنسان، فإن الكاتب يقدم لنا، من الداخل، كل الأنشطة والأمور التي تشغل الأوساط المختلفة التي اتصل بها في المجتمع الأمازيغي والروماني.
يبقى فكر “لوسيوس” فكر إنسان، فكانت هذه هي الرابطة التي تربطه ببني جنسه الأصلي، ومنها أيضا ارتفع حب أصحابه له. وقد كانت مشكلته الكبيرة هي في الأكل فهو لا يأكل أكل الحمير. لذا أحبه أصحابه لأنه حمار صاحب ذوق، فهو لا يأكل الأعشاب ولكنه يأكل الخبر، فعلموا أنه حيوان نادر فعلموه بعض الألعاب فأجادها، وجعلوه يقوم برقصات وألعاب على المسارح…
تمكن الحمار (لوسيوس) من الهرب ليصل إلى الشاطئ، وغسل بدنه سبع مرات وطلب من الآلهة أن تحرره من شكله الحيواني… وهنا وصل موكب عظيم لتقديس الآلهة يحمل أعشاب الورد، فقفز إليها وأكل منها، وعاد إلى هيئة الأولى كإنسان. تحول “لوسيوس” إلى حمار في الكتاب الثالث من الأجزاء الإحدى عشر، وظل كذلك يحكي إلى أن وصل الكتاب الأخير الذي سيتمكن فيه من التحول بالخلف مرة أخرى إلى إنسان بعد أن أكل الوردة العجيبة وحصل على العفو بمساعدة الإلهة “إزيس”.
أهدى “أبولي” نهاية سعيدة على شرف “إيزيس”، إذ في موكب الاحتفال بالإلهة الفرعونية سيأكل الوردة الرمز ويسترد آدميته. والنص في جوهره يبدو و كأنه احتفاء و تبجيل لديانة القرطاجيين الذين كانوا يعبدون “إيزيس” إلى جانب “فينوس”.
هذا الكتاب ليست قصة واحدة بل قصص منوعة وعديدة، وكل منها مستقلة بذاتها، ولكنها كلها في رواية واحدة. وهذا الكتاب مقسم إلى أحد عشر باباً، كل واحد من هذه الأبواب هو امتداد للرواية، وهو في الوقت نفسه رواية في قلب رواية مثل قصة العقاب البشع، وقصة العاشق المتخفي، وقصة التنين، وقصة الطحان… وغيرها من القصص المتناثرة على صفحات هذه الرواية الرائعة.
و حين يحس أبولي بالظمأ الفني سيستجدي الميتولوجيا، إذ تضم أحد المقاطع التي عُدت من طرف النقاد من الأهمية بمكان حكاية “بسيكي”-ربة الروح- حين واجهت الوحش -رمز الغرور والنرجسية- عقابا على جمالها الأخاذ وحاولت قتله بناء على نصيحة أخواتها اللواتي يكرهنها لأنها أجمل منهن. و في خضم مغامرتها ستسقط بفعل ذهولها قطرة من زيت الفانوس الحامي على كتف إيروس فيطردها الأخير. و بناء على نصيحة فينوز كي تلتقي به ستنجز بعض الأعمال من بينها النزول إلى الجحيم لتتزوج بإيروس في النهاية.
الرواية فيها انزياحات تنحرف عن الحكاية الرئيسية لتحكي قصصا قصيرة أخرى كقصة الحب والنفس مثلا ضمن الرواية الطويلة. ومن ثم فإن رواية التحول هي أيضا مجموعة قصصية تحكي عن خادم مسنة في مغارة القراصنة، وعن فتاة تحب الجن، وعن الإلهة إزيس التي تستحوذ على فكر آفولاي. كل ذلك في أسلوب يتراوح بين الديني والأسطوري والميتافيزيقي والخرافي، تغلفه نغمة حزينة يتزاوج فيها العنف بالسادية.
يحدث كل ذلك والكاتب الكبير آفولاي الأمازيغي يبرع في استحضار الخيال المدهش والأسطورة ليروي لنا قصة امتنع حتى الآن النقّاد التوصل إلى الإمساك بجميع تفاصيلها وخيوطها، فهو ينتقد الوضع السياسي بروما مستحضرا كل ما يخالج الفرد من تنائيات: الحب والكره، التضحية والخيانة، الوفاء والغدر، الفضيلة والرذيلة، الاحترام والتطاول، الدراما والكوميديا، الإيمان والتحرر… كما يجمع آفولاي في روايته بين شخصيات متناقضة أيضا: الغني والفقير، القرصان والفلاح، العسكري والتاجر، الغانية والمتعففة، الساحرة والمؤمنة…
إنها رواية تبحث عن حقيقة الأشياء عبر النظر إليها من زوايا مختلفة (لوكيوس الإنسان ولوكيوس المتخفي في دور الحمار). لم يكن التحول أبديا، بل إنه عبارة عن تحول-قضية قابل للعودة إلى نقطة البدء (إنسان-حمار-إنسان) بعد تسجيل الملاحظات على حين غرة وفي غفلة من الآخرين الذين لا ينتبهون للحمار. لكنه ليس حمارا عاديا، بل هو حمار في الشكل فقط يحتفظ بقوة الملاحظة.
لماذا التحول إلى حمار وليس إلى حيوان آخر؟
لأن الحمار في الثقافة الأمازيغية ينعت بالبلادة، لكن أيضا بالمكر. وبخصوص ذكاء الحمار آفولاي نقرأ في الرواية:
وقد تنبأ الحمار الآخر بقصدي وسبقني إليه، فتصنع فجأة التعب وهوى بكل ثقل جثته وظل ممددا على الأرض كما لو أنه جثة هامدة، فلا الضرب بالعصا التي انهالت عليه، ولا الوخز بالقضيب، ولا الجدب والشد الذي تعرض له عنقه وقوائمه، كل هذا لم يفلح في رفعه من على الأرض. وحين تعب السرقة من أمره ولم يعد لديهم أمل في تحركه… تشاوروا، لتنتهي بهم المشورة إلى حز ساقيه بالسيف وجره بعيدا عن الطريق، وهو لازال يتنفس، ثم رميه من فوق تلة عالية جدا حتى لا يعطلهم عن الهرب… حين فكرت أنا فيما آل إليه الحمار صديقي، قررت أن أتراجع عما كان في نفسي من مكر ومضيت أخدم أصحابي السارقين بكل وفاء وإخلاص… .
وعن الغراب الذي يعتبره الأمازيغ فأل شؤم وإنذارا بالموت وإشارة إلى الشيخوخة والذمامة، نقرأ في الرواية:
أي طائر أجمل ومحبب إلى المرأة أكثر من الغراب. ألا نقوم باصطياد هذا الطير ليلا متى دخل البيوت لندقه بالمسامير على الباب حتى نطرد بتعذيبه ذاك الكارثة التي كان سيستجلبها وهو يطير محلقا من حولنا في الفضاء؟
ونقرأ أيضا في الرواية عن البئر التي تعد رمزا للإنتحار:
“وجهت غضبها ضد سلالتها، إذ أنها ستدير حول جسدها حبلا وتشد إليها بنفس الحبل رضيعها الذي أنجبته للتو من زوجها، ثم سترمي بنفسها في البئر العميقة”
كما نقرأ عن الحلم في الرواية:
“لا ترهبنك صور الأحلام الزائفة، إذ لا تعد أحلام النهار وحدها كاذبة، بل إن أحلام الليل تشير في الغالب إلى عكس ما تذهب إليه ظاهريا. وبالتالي، فإن البكاء، أو تلقي اللكمات، أو حتى التعرض للذبح في بعض الأحيان، ينبئ بربح أو حدوث أمور سعيدة. وبالعكس، فإن الضحك، أو ملأ البطن بالحلوى أو أي شيئ حلو جميل، أو الاجتماع بفرد لتذوق اللذة الجسدية يعني أن الحزن أوالمرض أو أشياء أخرى عصيبة هي لنا بالمرصاد…”