د. صلاح السروى - الأنواع الأدبية العابرة للنوع وقانون تطور النوع الأدبى

شهد الأدب العربي عدة تحولات مهمة منذ نهاية النصف الأول من هذا القرن، على صعيد بنية أشكاله وأجناسه ومحدداتها الجمالية والفنية والموضوعية. فإلى جانب استزراع أنواع أدبية جديدة على التربة الثقافية العربية في عشرينيات وثلاثينيات القرن مثل الرواية( )، والقصة القصيرة على أيدي محمد تيمور وعيسى وشحاتة عبيد ...الخ في العشرينيات والثلاثينيات، إلى جانب ذلك، شهدت نهاية الأربعينيات ظهور الشكل الجديد للشعر العربي الذي سمى بالشعر الحر أو شعر التفعيلة على أيدي نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي. وهى الجهود التي تعمقت وتجذرت بفضل اسهامات صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وعبد الرحمن الشرقاوي. وهو ما مثل صدمة غير هينة التأثير لدى المتذوق والناقد التقليديين على السواء.

وها هو تيار التجديد تتلاحق روافده ولا تنتهي ، حيث ظهر ما سمى ب "قصيدة النثر" لأول مرة عام 1954 عند توفيق صايغ في ديوان بعنوان "ثلاثون قصيدة" ، ثم توالت أعمال أنسي الحاج، ومحمد الماغوط، وجبرا ابراهيم جبرا، وأدونيس (علي أحمد سعيد)، في بعض أعماله. وهو ما أثمر جهودا على قدركبير من النضج والاكتمال لدى بعض شعراء السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات. وهناك أخيرا ما يسمى ب "القصة-القصيدة"، ذلك المصطلح الذي صكه الكاتب والناقد ادوارد الخراط في كتابه الذي صدر بعنوان "الكتابة عبر النوعية" يؤصل فيه لنوع من الكتابة ظهر في أعمال يحيى الطاهر عبدالله ومحمد المخزنجي ومنتصر القفاش وناصر الحلواني واعتدال عثمان ونبيل نعوم وابتهال سالم. حيث يؤكد أن هذا النوع من الكتابة قديم نسبيا، فقد كتب بدر الديب في أواخر الأربعينيات ..."نصوصا تستعصي على الاندراج في في مألوف الكتابات، وتتأبى على الانتساب إلى نوع أو جنس أدبي محدد بعينه. أهى شعر منثور، أم تأملات فلسفية مصوغة (هكذا في النص) على شكل قصائد نثرية، أم قصص طليعي؟ أم هى في النهاية قصص-قصائد؟"( ). حيث ينتهي إلى اعتبار تسميتها "بالكتابة عبر النوعية" التسمية الأنسب ( ).

ورغم أن ادوارد الخراط يعتبر أن هذا النوع من الكتابة يتأبى على الانتساب إلى أى نوع أدبي مألوف فإن العنوان الثاني للكتابة الذي يقترح فيه مصطلح "القصة-القصيدة" يعكس (كما يتضح نصا في المتن) انتسابا من نوع ما، أو "انصهارا" على حد تعبيره، بصورة معينة بين نوعين معروفين. بل إنه بعد ذلك يجتهد في محاولة انتزاع الاعتراف بهذا المصطلح الجديد الذي يرى أنه بكل المقاييس قصة، من حيث احتواؤه على بنية سردية يقوم عليها العمل قصدا وعمدا، ثم يكتسب بعد ذلك أبعاده الشعرية من خلال عدة آليات كالتكثيف والاختزال والتعبير بالصورة والمجاز ( ) وهو ما يعكس ارتباكا بدرجة ما، في طرح ادوارد الخراط ، من الناحية النظرية.

ورغم المآخذ التي يمكن رصدها عند المناقشة المستفيضة لكتاب ادوارد الخراط ، وكذلك وجهات النظر المتعددة بل الاعتراضات التي طرحت حول الأعمال النظرية التي عالجت "قصيدة النثر" (يعترض على هذه التسمية ذاتها الدكتور غالي شكري في كتابه "شعرنا الحديث إلى أين؟" ( )) فإننا لا نستطيع انكار أن هناك شكلين أدبيين جديدين يولدان حقا في محيط أدبنا العربي هما: "قصيدة النثر" و "القصة-القصيدة"، (إذا أقررنا هذين المصطلحين بصفة مؤقتة)، من حيث استخدامهما لتقنيات أسلوبية واستراتيجيات بنائية مغايرة لما عرف عن الأشكال التقليدية، كما أنهما ينطلقان من أسس معرفية (ابستمولوجية) ورؤى فنية للعالم مختلفة عن منطلقات ورؤى هذه الأشكال التقليدية، (دون ترتيب أفضلية أو حجية من نوع خاص لأيها في مواجهة الأخرى).

ولعله من الجدير بالملاحظة هذه القرابة الواضحة بين هذين الشكلين الجديدين (ولا أقول النوعين، فالأول لازال ينتسب إلى نوع معروف ومستقر التقاليد هو الشعر، رغم وجهات النظر المحافظة التي تمارى في ذلك، والثاني ينتسب هو الآخر إلى نوع معروف وراسخ الملامح هو القصة). تتمثل تلك القرابة في أن كليهما شكل هجين، أى أنه نتاج تلاقح نوعين منفصلين، مختلفين، هما: الشعر من ناحية، والنثر الفني أو القصة، من الناحية الأخرى , على كلا المستويين. وهو ما يذكر بأشكال شبيهة سبقت: مثل "التراجيكوميديا" التي ظهرت في مفترق القرنين الماضيين، كشكل يقوم على دمج نوعي بين التراجيديا والكوميديا، وكذلك "المسرواية" في القرن التاسع عشر، كشكل يقوم على نفس الدمج بين المسرحية والرواية. بل إن الرواية نفسهان حسب لوكاتش، تعتبر "ملحمة" العصر البورجوازي، أى أنها متحورة عن نوع أدبي قديم هو الملحمة , التي كانت تصاغ شعرا، فأضحت الرواية novel التي تصاغ نثرا , مع تحول كامل في نوعية الأبطال وأزماتهم الروحية والمادية ورؤاهم للعالم( ).

هذا يعني أن اندماج أنواع ، أو أشكال من أنواع ، أو تحورها بما ينتج أنواعا جديدة ، ليس أمرا مستحدثا ولا شاذا، بل منطقي وطبيعي بصورة "أكيدة"، بيد أن الاتجاهات الجديدة في الأدب العربي (المشار إليها آنفا) تثير من جديد وبقوة قضية النوع أو الجنس الأدبي، أو ما يسميه صبري حافظ قضية "التجنيس"( )، حيث نشهد في الآونة الأخيرة ظهور أعمال أدبية من الصعب التعامل معها بالمعايير التقليدية، ليس فقط على مستوى الشعر والقصة القصيرة، ولكن أيضا على مستوى الأعمال المنسوبة للرواية.

ولاتطمح هذه الدراسة إلى طرح معالجات تطبيقية لهذه النصوص، ولا إلى طرح تسميات جديدة لأنواع مفترضة أو مناقشة التسميات المقترحة، فهذا أمر يضيق عنه المجال ولا تفي به مثل هذه المعالجة المتسرعة. ولكنها ستسعى , بتواضع , إلى طرح قضية النوع الأدبي من جانبها النظري . بداية ببحث ما أسميته "اشكالية النوع الأدبي"، حيث أستعرض جهود المنظرين في تحقيق مفهوم النوع أو الشكل الأدبي . ثم دراسة آلية حركة الأنواع الأدبية وتحولاتها , تحت عنوان "قانون تطور النوع الأدبي"، ثم تخصيص وتطبيق نتائج هذه النقطة على الأشكال العابرة للنوع ، تحت عنوان "قانون ظهور الأشكال العابرة للنوع" ثم محاولة أولية لرصد ظهور الأشكال العابرة للنوع في الأدب المصري المعاصر تحت عنوان "الأشكال العابرة للنوع في الأدب المصري". حيث تتوخى الدراسة الاسهام مع جهود الباحثين في وضع هذه القضية على أسس علمية ، قدر الامكان، تنطلق من درس مصطلحى موضوعى وواضح .


-1-
اشكالية النوع الأدبي

يكاد يجمع المنظرون على أن الأنواع الأدبية ليست ثابتة الأركان، ولا مطلقة الوجود. بل كيانات متحركة متحولة , أبدا , بما يجعل من انقراض أنواع وتولد أخرى جديدة وتحولها أمرا طبيعيا، كما سبق القول، بل يكاد يمثل قانون وجود هذه الأنواع ذاتها. من حيث أن الفن، بطبيعته، تجاوز دائم بصفته ابداعا وخلقا متجددا. يستوي في تقرير ذلك المثاليون والعلميون.

في الاتجاه الأول يرى رينيه ويلليك أن الحدود بين هذه الأنواع في حالة حركة دائمة، وهو ما يمنع نظرية الأنواع الأدبية من أن تحتل (في رأيه) مكانا هاما في الدراسات الأدبية المعاصرة. يتأكد ذلك من قوله: "إن التمييز بين الأنواع الأدبية لم يعد ذا أهمية في كتابات معظم كتاب عصرنا , فالحدود بينها (أى الأنواع الأدبية) تعبر (يتم عبورها) باستمرار, والأنواع تخلط (يتم خلطها) أو تمزج. والقديم منها يترك أو يحور، أو تخلق أنواع جديدة أخرى، إلى حد صار معها المفهوم نفسه (أى مفهوم النوع الأدبي) موضع شك"( ). وقبله كان بنديتو كروتشة، الفيلسوف الايطالي وأحد مؤسسي علم الجمال الحديث، قد شن في كتابه "الاستطيقا" الذي ظهر عام 1902 هجوما حادا على مفهوم النوع الأدبي متنبئا له بأنه "لن تقوم له قائمة بعد ذلك"( ). أى أنه لن يصبح هناك نوع أدبي بعينه، محدد بملامح واشتراطات جمالية استطيقية واضحة. وهو الأمر الذي يؤكد عليه ويلليك باستعصاء النوع على الاستقرار تحت مصطلح محدد.

نفس هذه النظرة نجدها عند المنظرين العلميين (الماديين) فنجد كارل ماركس يقف بقوة في مواجهة الزعم بوجود معايير أزلية للجمال، وأن الجمال (بوجه عام) أمر متغير باستمرار, فيكتشف ويعاد اكتشافه على الدوام حسب احتياجات الانسان الروحية، حيث يقول ساخرا : "وإنني لأود أن أرى خياطا أطلب منه أن يخيط لي سترة باريسية، فيصنع لي بدلا من ذلك حلة رومانية بحجة أنه استجاب في صنعها إلى ما يمليه قانون الجمال الأزلي"( ). إن نفى أزلية الجمال ينفي بالضرورة أزلية النوع الأدبي بصورة محددة . فالنوع الأدبي , في النهاية ، انما هو أحد تجليات القوانين الجمالية وأحد تجسداتها في زمان ومكان معينين.
ونجد هذا المعنى عند ارنست فيشر في حديثه عن الشكل عندما يربطه بالوظيفة التي من أجلها استحدثه الانسان، فقد شكل الانسان البدائي قطعة من الصخر أو الخشب ليخدم بها غرضا من أغراضه . وهذا الأمر ينطبق على كافة الأشكال , بما فيها الأنواع الأدبية التي تتغير هى الأخرى بتغير الوظائف المنوطة بها , فالشكل حسب رأيه هو ... "الخبرة الاجتماعية عندما تتخذ صورة محددة"( ). ولأن الخبرة الاجتماعية في حالة حركة وتطور دائمين بفعل التراكم المعرفي والحضاري , فالشكل هو الآخر دائم الصيرورة.

يوضح هذا الأمر أيضا جورج لوكاتش عندما يربطه بمفهوم "النظرة إلى العالم" , ذلك الذي يتغير بتغير التشكيلة الاجتماعية، فالنظرة التي كانت تطرحها الملحمة لم تعد مناسبة لتلبية احتياجات العصر البورجوازي فتلاشت لترثها الرواية وهكذا( ). كما نجد تلخيصا وافيا للموقف المادي من هذه القضية في كتاب الدكتور عبد المنعم تليمة "مقدمة في نظرية الأدب" عندما يتحدث عن "نشأة النوع الأدبي وتغيره وتلاشيه في نوع أدبي آخر أو انقراضه".( )

غير أن الفارق بين النظرتين (المثالية والمادية) كبير, رغم اتفاقهما ، من هذه الزاوية . من حيث أن كلا منهما تنطلق من نقطة فكرية وأيديولوجية مغايرة. (وسوف أناقش هذا الأمر بقدر من التفصيل في الجزء التالي).

إذا كان النوع الأدبي يحمل هذه السمة المتغيرة المتحولة، فهل هناك ما يتطلب أو يقتضي وضع تعريفات محددة له؟ أظن أن الأمر على قدر من الأهمية (خلافا لرأى كروتشة وويليك)، لا من حيث وضع تعريفات للأنواع الأدبية , ولكن من حيث التعرف إلى طبيعة النوع الأدبي بصفة عامة، وفهم قوانين حركته عبر الاستهداء بهذه الطبيعة المجردة.

ولابد في هذا المقام من تقرير حقيقة قلة الأعمال النظرية التي عالجت مفهوم النوع الأدبي من الزاوية الجمالية العامة . وربما كانت هذه الأعمال على قلتها، غير منطلقة من حقائق وأسس معرفية ومنهجية واضحة . بقدر ما هى منطلقة من نفس المنطقة الاشكالية , مستهدفة وضع القضية على بساط البحث. ولعل ما قدمه أوستن وارن مع رينيه ويليك في كتابهما نظرية الأدب Theory of Literature , الذي نشر في نيويورك عام 1949, يمثل أحد الجهود النادرة والهامة في هذا المجال.

يقول أوستن وارن ورينيه ويليك أن "النوع الأدبي له وجود يشبه وجود المؤسسة. ويستطيع المرء أن يعمل من خلال المؤسسات القائمة وأن يعبر عن نفسه من خلالها وأن يخلق مؤسسات جديدة..كما يستطيع أن يلتحق بها ثم يطورها"( ). ومن الواضح أن تعبير "المؤسسة" هنا يستمد دلالته من طبيعة التحول الاجتماعي الذي صحب صعود البرجوازية وانتصارها , الذي تم منذ نهاية القرن الثامن عشر, من حيث بروز تقسيم جديد للعمل يقوم على فصل الأفراد عن نتاجهم الابداعي ، وصولا إلى اندراجهم في بنيات منظومية أوسع من فاعليتهم الفردية فيصبح دورهم متقلصا في كونه أحد المكونات التي تعمل مجتمعة، وبانضباط آلي، على تسيير الميكانيزم الخاص بهذه المؤسسة. وهو الأمر الذي يؤدي إلى التشيؤ والاغتراب الناتجين عما أسماه لوكاتش بالتماثلية( ) uniformalization. ومن ثم يصبح التمرد على هذه الوضعية الاستلابية أحد عناصر المقاومة التي قد يبديها الأفراد الذين تطحنهم الآلة، أو المؤسسة الرأسمالية، ووصلت بهم إلى حد التشيؤ. ومن ثم يأخذون في محاولة ابداع أشكال جديدة، ربما توفر كينونة أكثر احساسا بالحرية . واكاد أجزم أن كثرة التقاليع والمذاهب والمدارس في الغرب الرأسمالي ربما كانت مدينة في بعض عواملها إلى هذه الوضعية الروحية- النفسية. هذا التوصيف للطبيعة المؤسسية للمجتمع البرجوازي، قد لا ينطبق بشكل دقيق على مجال الأدب أو الأنواع الأدبية. الا أنه يشترك معه في أن النوع الأدبي، حسب هذا التوصيف، إنما هو منظومة جمالية على قدر من التحدد الجمالي (الاستطيقي)، الذي قد يمتلك حجية ملزمة، بدرجة ما، على المبدع والناقد معا. فهو بمثابة التقاليد التي تكونت عبر حقب من التراكمات الابداعية، بما جعلها تشكل مسارا جماليا محدد الملامح والقسمات. يقول وارن: "والأنواع الأدبية تقاليد استطيقية (في الأساليب والمواضيع)شكلت الأعمال الفنية، كلا على انفراد تشكيلا هاما"( ). وهذا ما يمنح النوع الأدبي ذي الأطر المستقرة قوته وفاعليته الدائمة (النسبية بالطبع)، والملزمة حتى في أكثر العصور فوضى وتخبطا ... يواصل وارن قائلا: "وقد يلتزم بالأنواع الأدبية حتى في غمار النشاط الأدبي في القرن العشرين المتصف بالفوضى"( ). غير أن وارن، رغم ذلك يتشكك في امكانية استمرار أى نوع أدبي على الشاكلة التي تكون بمقتضاها، بل إنه يرى أن التقسيم الأرسطي للشعر (ملحمة، مسرحية، قصيدة غنائية) لم يعد من الممكن التمسك به ويتساءل عما إذا كان من الممكن لهذه الأنواع أن تكون لها "مكانة نهائية"( ). ولعل هذا التناقض في حديث وارن بين الطبيعة الملزمة للنوع الأدبي ("حتى في غمار القرن العشرين المتصف بالفوضى") وبين تشككه في أن تكون لهذه الأنواع مكانة نهائية , راجع إلى نظرتين متناقضتين للنوع الأدبي في وقت واحد: الأولى، داخلية تحاول رؤية مفهوم النوع من خلال مكوناته وسماته الخاصة، وهى التي أطلق بمقتضاها وصف "مؤسسة"، ومن ثم فهى تحيل إلى معنى الكمال والاتساق والاستمرارية. أما الأخرى فهى خارجية من حيث أنه ينظر إلى حركة الأنواع الأدبية من خلال البانوراما التاريخية الشاملة، فإذا به يجد أن الحركة هى القانون وليس الثبات المؤسسي. بيد أنه لا يحاول الوقوف أمام تلك الملاحظة نتيجة لانشغاله بالبحث عن القانون الخاص دون ربطه بقانون الحركة الاجتماعية العام. وهو نفس المنحى الذي نجده عند معظم المنظرين البرجوازيين.

في كتابه "مفاهيم نقدية" يورد رينيه ويليك , كذلك آراء الناقدة الألمانية كات هامبرجر, التي نشرتها في كتابها "منطق الشعر" المنشور عام 1957، حيث تقسم الشعر إلى نوعين: الأول قصصي، وتسميه "شعر المحاكاة"، والثاني غنائي ، وتسميه "شعر الوجود". فتشبه طبيعة الشعر الغنائي عندها طبيعة الرسالة أو الرواية التاريخية، ارتكازا على ضمير المتكلم المستخدم في كل هذه الأنواع الثلاثة. وهو الأمر الذي يجعلها تورد الرواية في نطاق الشعر، ففي القصيدة الغنائية يتكلم الشاعر نفسه، أما في الملحمة والمسرحية فيجعل غيره يتكلم. ومن ثم فالرواية التي يرويها المتكلم إنما هى جزء من الشعر(الغنائي خاصة)، على هذا الأساس( ).

ولعل مفهوما قريبا من هذا قد طرحه ميخائيل باختين عند تفريقه بين الرواية "المونوفونية" والرواية "البولفونية"، وهو الأمر الذي يقوم عنده على أساس تعدد الأصوات المستخدمة في العمل الروائي . فهناك الرواية ذات الصوت الواحد، أو ما يسميه رواية "الاختبار الروسية" , التي يمثل لها برواية "رودين" لتورجنيف، و الرواية ثنائية الصوت أو ذات الأصوات المتعددة , مثلما في "أوجين أونيجيين" للشاعر بوشكين , و "بيتشورين" لليرمونتوف( ).

وباختين هنا يقترب بدرجة ما من حديث كات هامبرجر، خاصة عندما يقول: "إن الموضوع الرئيسي الذي يخصص جنس الرواية، ويخلق أصالته الأسلوبية هو الانسان الذي يتكلم وكلامه"( ) وإن كان لا يتطابق معها في النتيجة من حيث أن كلا النوعين , في النهاية، يبقى منتميا إلى جنس الرواية عند باختين وليس إلى جنس الشعر كما هو عند السيدة هامبرجر.

يتضح مما سبق مقدار ما تطرحه قضية النوع الأدبي من إشكالية حقيقية، سواء على الصعيد النظري أو التطبيقي. ولكن يبقى رغم ذلك ما يمكن أن نسميه نوعا أدبيا. وهو الشكل الأدبي الذي استقر, نسبيا , في اطار من التقنيات التشكيلية والأسلوبية . سواء من ناحية الشكل أو المحتوى الفني (وأقصد بهما، معا، معنى التشكيل)، عن طريق تراكم الانتاج الابداعي في مرحلة زمنية مناسبة. وهنا يحضرني قول الشاعر الروسي لوشين: "في البداية لم يكن ثمة طريق، بيد أن جمعا من الناس سار في اتجاه واحد ثم تبعهم آخرون فارتسم الطريق". وهو نفس الأمر الذي يمكن أن ينطبق على مفهوم النوع أو المدرسة أو المذهب.


-2-
قانون تطور النوع الأدبي

يعتبر أرسطو , فى كتابه "فن الشعر" , أقدم من قال بمفهوم التطور فيما يتعلق بالتاريخ الأدبي , وفي هذا الكتاب يوضح أرسطو أن أصل التراجيديا يعود إل شعر الديثرامب , بينما يعود أصل الكوميديا إلى الأغاني والأناشيد الاحليلية (عضو الذكر)، وبعد ذلك يورد هذه العبارة المهمة : "ثم أخذت التراجيديا تتطور شيئا فشيئا إلى أن نمت وصارت إلى ما تبدو عليه الآن. وبعد أن مرت خلال عدة مراحل من التغيير، واستكملت شكلها الطبيعي، توقفت واستقرت"( ).

حيث يؤكد في هذه العبارة على التشابه بين دورة الحياة وتاريخ تطور التراجيديا من ميلاد وتطور ثم استقرار، وهو ما يؤدي في النهاية إلى أن التطور إنما هو عملية غائية تتجه نحو هدف محدد سلفا , وليس وتيرة أو صيرورة دائمة لانهائية كما يؤكد الفكر العلمي الحديث. ثم تتالت نظريات التطور التي يمكن أن نجدها عند مفكري عصر النهضة والنقد النيوكلاسيكي حيث أحياها وأكسبها أبعادا أكثر تخصصا إزدهار النظريات البيولوجية في منتصف القرن الثامن عشر على أيدي فيكو وبوفون وروسو . حيث انعكست هذه النظريات على التأريخ الأدبي ونظرية الأنواع الأدبية على أيدي جون براون 1763 وفنكلمان 1764 ...الخ( ) .

وتشترك هذه الجهود جميعها في النظر إلى تطور النوع الأدبي باعتباره مشابها لتطور الحياة البيولوجية، وهو الأمر الذي نجد شبيها له عند ابن خلدون في مجال ما أسماه "بالعمران" والذي يرتكز على الصياغة الشعرية المشهورة: "ما طار طير وارتفع* الا كما طار وقع". وقد ازدهرت هذه المدرسة مع ظهور دارون وسبنسر، حيث برزت تطبيقات جون سمندر ورتشارد مولتن في انجلترا وهيبوليت تين وبرونتير وسانت بوف في فرنسا , حيث ركز تين , بوضوح أكبر, على مفهوم البيئة والجنس كعوامل في التطور. أما عند برونتير ف "اللحظة" أو ما أسماه "روح العصر" هى العنصر الأكثر فاعلية . وهذه الاتجاهات جميعها تتناقض مع ما طرحه هيجل من حيث أن التطور إنما يتم على نحو جدلي حيث تصبح "الروح الموضوعية" , أو الفكر, هى العنصر الأكثر فاعلية , من خلال عملية أخذ وعطاء دائمة مع المجتمع أو التاريخ الذي تتبدى فيه الروح بأشكال مغايرة من مرحلة إلى أخرى وهو ما أنتج ما أسماه بعملية التغير الذاتي الذي يتم على نحو جدلي، وهو ما أثر بصورة ما في أفكار الشكليين الروس.

وعلى الجانب الآخر برزت أفكار المنهج العلمي الذي يقوم على فكرة حركة الواقع المجتمعي هى التي تفرز الخبرة الانسانية، التي تقوم بدورها , باعتبارها عنصرا رئيسيا , في تطور الأنواع الأدبية . يقول الدكتور عبد المنعم تليمة في كتابه "مقدمة في نظرية الأدب" (السابق ذكره) : "أن الواقع الذي ينتظم ما هو مادي موضوعي، وما هو وجود انساني، ليس ثابتا جامدا، بل هو في تغير وتطور دائبين"( ) حيث تحدد صورة الواقع في كل مرحلة من مراحل تطوره خبرة الانسان في سيطرته على الطبيعة وعلاقاته في المجتمع، التي يمكن اضافتها (أى علاقاته في المجتمع) إلى خبرته في السيطرة على الطبيعة، بل ربما كانت نتاجا لها. وبما أن الفن يعكس علاقة نوعية بين الانسان وعالمه الطبيعي والاجتماعي، أى بين الانسان وواقعه، بالمعنى الشامل، فإنه يترتب على ذلك أن نموذج الواقع في الفن متطور بتطور هذا الواقع نفسه. إن هذه الفكرة تقوم بصورة أساسية على أن الوعى والمعرفة والفن ..الخ إنما يمثلون البناء الفوقي المرتبط في "الحساب الأخير" (كما يؤكد كارل ماركس) بالبناء التحتي , وهو أدوات الانتاج وقوى الانتاج. وهذا الاكتشاف هو الذي أجهز على المفهوم المادي الآلي التبسيطي، الذي اعتبر القاعدة الاقتصادية العنصر الوحيد الحاسم في تحديد الواقع الفكري الثقافي بمختلف مؤسساته وتجلياته.

إن المبدأ العام في تطور الأنواع الأدبية , هنا ، من حيث نشأة النوع الأدبي وتطوره أو تلاشيه في نوع أدبي آخر، أو انقراضه, هو أن كل مرحلة من مراحل تطور المجتمع تجسد علاقتها الجمالية بالعالم في أنواع أدبية بعينها، تلائم فهم البشر لطبيعة عالمهم الطبيعي والاجتماعي. حيث أن "الذي يحدد الفنون والأنواع الأدبية السائدة , في مرحلة ما من مراحل التطور الاجتماعي، هو الحاجات العملية والروحية والخبرات التكنيكية والمثل العليا الجمالية والفكرية والعلاقات الاجتماعية في هذه المرحلة"( ). وعلى هذا فالنوع الأدبي محكوم في نشأته وتطوره بوضع تاريخي اجتماعي محدد، ومحكوم في طبيعته وطاقاته ووظيفته بالوفاء باحتياجات اجتماعية معينة , يحددها ذلك الوضع التاريخي-الاجتماعي الذي أثمر هذا النوع . هذا هو المبدأ العام، مع الاعتداد بأن الأعمال الفنية الخالدة (بالمعنى النسبي) في كل نوع تبقى محتفظة بقيمتها الجمالية بعد انقضاء ذلك الوضع التاريخي الاجتماعي الذي نشأت فيه. لأن هذه الأعمال تكتسب الخلود بنجاحها في اثارة ذكرى عهود كان الانسان فيها، كما يقول د.تليمة ... "مثالا تاريخيا ناهضا ضد الضرورات الطبيعية والاجتماعية القاهرة في وضع محدد بنجاحها في استخلاص العام من الخاص"، وهذا ما يسميه لوكاتش "بالأعمال الواقعية العظيمة"( ) من حيث أنها بذلك تجعل وضعها وضعا انسانيا عاما ينطلق من الانسان مؤكدا حضوره.
وبدهي أن أصحاب هذا الاتجاه ينفون التطابق الآلي بين النوع الأدبي والنظام الاجتماعي، كما أشرت آنفا، وإنما يتم الارتباط بينهما في الإطار العام للحركة التاريخية وليس في التفاصيل. كما أنهم يؤكدون مبدأ خصوصية الفن وارتباط تطوره بقوانينه الخاصة التي لا تعمل بمعزل عن القوانين العامة للواقع، ولكن كتجل خاص ونوعي لها.

والأمر على هذا النحو مخالف للتفسيرات المثالية السابق ايرادها التي تفسر الظاهرة الأدبية، إما بربطها بقانون ظاهرة أخرى بشكل متعسف خارجي مثل الوضعية والداروينية، أو تفسيرها تفسيرا داخليا مغلقا بحيث تصبح مسيرة بفعل قوانينها الداخلية الذاتية الخالصة، مثل أن تكون قوانين داخلية (اليوت) أو أسلوبية تشكيلية من نوع معين( ).

إن النوع الأدبي على هذا الأساس بوصفه "شكلا" يجسد معنى اجتماعيا محددا، بما يسمح باستنتاج أنه في لحظة تاريخية محددة , حيث تتعارض بعض الجماعات- الطبقات , مع جماعات- طبقات أخرى ، فإن الأجناس- الأنواع الأدبية المختلفة يمكن أن تجسد مصالح جماعية متعارضة، بتعبير الناقد الروسي ميدفيديف الذي أورده في كتابه بعنوان "حول المنهج الشكلي في علم الأدب" (1929 موسكو)( ). وبعكس علماء فقه اللغة الذين يعتبرون الأجناس كيانات شكلية خالصة، يرى ميدفيديف أنه ينبغي أن يتم التعامل مع الأنواع الأدبية باعتبارها أشكالا تعمل داخل نظام الاتصال الاجتماعي، أشكالا تسمح للجماعات بتحديد اتجاهها في الواقع، حيث يقول: "الجنس (النوع الأدبي) هو، إذن، مجموع المناهج لتوجه جماعي في الواقع، توجه يستهدف الكلية الاجتماعية (...) ولهذا فإن البويطيقا الحقيقية للأجناس لا يمكن أن تكون الا علم اجتماع الأجناس"( ). فالأجناس هنا تحدد رؤى جماعية للعالم، وهى نفس الفكرة التي نجدها عند لوكاتش، خاصة في كتابه "معنى الواقعية المعاصرة" (سبقت الاشارة إليه)، كما نجدها عند لوسيان جولدمان الذي وسع من معناها ومنحها أبعادا بنيوية بالغة الأهمية في مقالته: "المادية الجدلية وتاريخ الأدب" بترجمة محمد برادة، حيث يقول: "بلا شك أنه من المستحيل أن نفهم "فاوست" و"باندورا" بدون ايلاء الاعتبار للثورة الفرنسية أو لنابليون"( ). فرؤية العالم المطروحة هنا، إنما هى نتاج للحراك التاريخي (الاجتماعي-السياسي) الذي صحب أو أنتج الثورة الفرنسية فتولدت رؤية جديدة للعالم.

غير أن جولدمان لا ينسى أن يواصل بعد ذلك مباشرة قائلا: "لكن عندما تظهر العلاقة الرابطة بين هذه الأعمال وبين الأحداث التاريخية المعاصرة, فإنه يبقى علينا, كذلك, أن نتساءل عن الكيفية التي امتزجت بها تلك الأحداث في وعى جوتة ومع تجاربه الشخصية, لتنتهي إلى تلك الروائع التي كتبها تعبيرا عنها"( ). حيث تتبدى هنا بوضوح العلاقة الجدلية بين العام والخاص. في نفس هذا السياق يقول بيير زيما: "أنه يمكن أن نرى في الملحمة الاقطاعية تعبيرا عن قيم نبالة السيف وفي تراجيديا القرن السابع عشر الفرنسي تجسيدا لمشاكل نبالة البلاط وفي روايات القرن الثامن عشر تمثيلا للفردية البورجوازية"( ).

وقد أكمل ايريك كوهلر الكاتب والنقد الألماني جهود ميدفيديف، حيث ينطلق من فكرة أن النوع الأدبي إنما هو واقعة إيديولوجية، وأن أى جنس من الأجناس يحرض القارىء على تبني وجهة نظر ورؤية للواقع تتمشى مع مصالح جماعة معينة، وهى نفس الفكرة التي رأيناها عند جولدمان. ويتساءل في دراسته التي نشرت بالألمانية عام 1977 بعنوان "نظام الأجناس ونظام المجتمع": "كيف يكون رد فعل نظام أجناس إزاء التحولات الاجتماعية؟"( ) . ويتساءل في موضع آخر: "كيف نفهم التغيرات داخل النوع الأدبي؟"( ). للاجابة على ذلك يحلل كوهلر تطور "الملحمة" في العصور الوسطى , باعتبارها الجنس السائد حتى القرن السابع عشر، وعقب التحولات الاجتماعية التي تمثلت في التحول من نبالة السيف إلى نبالة البلاط تحت الحكم المطلق والصعود الاقتصادي والسياسي للبورجوازية , حيث تم استبدالها (الملحمة) ب "التراجيديا" ثم ب "التراجيكوميديا" و"الرواية" ( ). ويستعرض كوهلر في دراسته تلك التحولات التي يمكن عن أن يتأثر, عن طريقها, نظام الأجناس بالتغيرات الاجتماعية، ويلخصها في ما يلي:

1- تزداد قدرة الأنواع الفرعية بما يسمح لها، على الأقل جزئيا بملء فراغ الأنواع التي تسقط في طى الاهمال وأن تتفاعل مع الأوضاع الجديدة.
2- يتكون نوع جديد يتفق شكله وموضوعاته مع تطلعات طبقة اجتماعية معينة، أو مع وضع جديد للجماعة التي تسعى للتحرر.
3- يمكن لأشكال هجينة (مثل التراجيكوميديا) أن تظهر في فترة انتقالية معينة، حيث تسمح بانقاذ التوازن داخل نظام نوعي مهدد من قبل التقلبات الاجتماعية.
4- يمكن دحض النظام (النوعي) بأكمله وارساء نظام جديد( ).


-3-
قانون ظهور الأشكال العابرة للنوع

نتوقف في هذا الجزء عند الاحتمال الثالث الذي أورده كوهلر، من حيث أنه يمكن لأشكال هجينة أن تظهر في فترة انتقالية معينة بحيث تسمح بانقاذ التوازن داخل نظام نوعي معين مهدد من قبل التقلبات الاجتماعية. حيث يتضح لنا أن القانون الذي يحدد امكانية ظهور أشكال جديدة هو أنها تظهر في فترة التقلبات الاجتماعية أى ما يمكن تسميته بالحراك الاجتماعي العنيف , أو الانقلاب في النظام المؤسساتي للمجتمع. ولأن هذا الحراك لا يكون نهائيا, فلابد أن يستقر على نحو ما , مكونا بنية مجتمعية واضحة الملامح، فإنه لذلك يكون انتقاليا في كل الأحوال. وهذه الانتقالية، أى المرحلة الواقعة بين النظام القديم الذي كان مستقرا والنظام الجديد الآخذ في الاستقرار، هى المرحلة التي يمكن لها أن تشهد ظهور تلك الأشكال العابرة للنوع . والأمر على هذا النحو يبدو بدهيا . فإذا كان النظام المجتمعي يفرز أنواعه أو أجناسه، فإنه في المرحلة الواقعة بين نظامين، أحدهما بائد والآخر في طور التشكل، يشهد زواجا أو اندماجا بين نوعين. غير أن هذين النوعين لا ينبغي لهما بالضرورة أن يكونا معبرين، كلا على حدة، عن كلا النظامين, وإنما الاندماج هنا يتم مكونا بنية جديدة تختلف بالقطع عن حاصل جمع البنيتين القديمتين,و يتم بذلك انقاذ التوازن داخل النوع كما يقول كوهلر. وهذا ما تم مع "التراجيكوميديا"، فإذا كان ازدهار "التراجيديا" معبرا عن استقرار الدولة المدنية الديمقراطية في العصر العبودي عند اليونان، ثم عصر استقرار نبالة السيف أواخر العصر الوسيط، , بينما تعبر "الكوميديا" عن فترات الانهيار سواء في النموذج اليوناني أو في عصر نبالة البلاط في القرن السابع عشر. فإن اندماجهما معا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، عصر صعود البورجوازية وانتصارها , مكونين "التراجيكوميديا" , يعد ترجمة واضحة لهذا التحول.

هذه النتيجة يطرحها , من زاوية أخري , جاك دوبوا في دراسته المعنونة ب "نحو نقد أدبي سوسيولوجي" بترجمة بشير القمري( )قائلا: "فبفعل الضغط المتوالي للنظام الاجتماعي، فإن المؤسسة الأدبية كتبت استقلالها الذاتي النسبي. وعندما يبدو وكأن وحدة هذا النظام تنفصم عراها، كما يسود الاعتقاد في عصرنا الحاضر، فإن المجموعات الصغرى تتشكل وتستحق كل الاهتمام، وسيكون مثمرا فهرسة الكتابات المتعددة في عصرنا الحاضرن بدءا من أقواها جزالة حتى أشدها ابتذالا، ثم وصفها احداها بالنسبة للأخرى في تماثلاتها وتقابلاتها، والبحث عن وظيفة كل واحدة منها داخل السياق الأدبي"( ). إن مفهوم "الاستقلال الذاتي" للمؤسسة الأدبية هنا لا يعني انفصالها عن النظام الاجتماعي، فهذا الاستقلال الذاتي لا يتم الا بفعل ضغط النظام الاجتماعي نفسه. وربما يشير دوبوا في ذلك إلى ما أثاره رولان بارت من حيث أن: "البنيات الصورية لا تخضع الا بصيغة غير مباشرة للتأثيرالاجتماعي، والذي يؤثر أكثر على ايقاع تحولاتها هو التطور التاريخي وهو تأثير يقع على هذه التحولات أكثر من تأثيره عليها في حد ذاتها"( ).

ونفى آلية التأثير المباشر هنا يتفق تماما مع ما يطرحه المنظرون الماركسيون الكلاسيكيون , بداية من ماركس , مرورا ببليخانوف حتى جرامتشى. وذلك ما يفسر في رأيي معنى ما يطرحه دوبوا من الاستقلال الذاتي للمؤسسة الأدبية. غير أن ما يلفت النظر في حديث دوبوا، وما يهمن في المقام الأول، هو تصوره حول "تشكل المجموعات الصغرى" التي تعني "الأنواع الفرعية" التي تحدث عنها كوهلر في النقطة السابقة. يؤكد ذلك أن السياق العام الذي ورد فيه هذا الحديث والذي جاء بعنوان "معنى الأشكال" (بصفته عنوانا جانبيا)، يوضح أن المقصود هو مجموعات الأشكال الأدبية من حيث كونها اتجاهات تشكيلية فنية، أو أغراضا تقوم على استخدام مناح تصويرية معينة . ولذلك فإنه يورد بعد ذلك مباشرة اقتراح رولان بارت في الاعتماد على ما يسميه ب"تعريف إعلامي للارسالية الأدبية"، عندما يقصد القيام باستقصاء حول الصور واستعمالاتها الأدبية( ). أى أن الحديث يدور حول البنى التصويرية التشكيلية المستخدمة في العمل الأدبي، ومن ثم فهى المقصودة بمصطلح "المجموعات الصغرى" المشار إليه. إذن فهذه المجموعات تتشكل، سواء من خلال التلاحم مع , أو من خلال التحول عن , أشكال أخرى سابقة. إن ما ذكره كوهلر وأوردته آنفا يجد هنا تأكيدا وتعميقا على نحو كبير عند جاك دوبوا ورولان بارت، عندما يصبح انفصام النظام الاجتماعي شرطا لتشكل الأجناس الأدبية. ويتسق الحديث على هذا النحو، من حيث أن هذه العلاقة العكسية (بين الانفصام للنظام الاجتماعي والتلاحم للأشكال الأدبية) لا تتم الا لتحقيق ما ذكره كوهلر قبل قليل وهو تحقيق التوازن داخل النوع الأدبي الذي يتهدده الانفصام بانفصام النظام الاجتماعي المعبر عنه.

وهنا يتبدى معنى جديد ل "لاستقلال الذاتي" الذي ذكر من قبل. حيث تظهر وظائف أخرى جديدة للنوع أو الشكل الأدبي لمزاحمة الأولى القديمة (بتعبير دوبوا) فيتشكل بها مكونا الشكل الجديد. وهذا ما يجعل دوبوا يرى ضرورة قياس الخصوصيات التصويرية المتنوعة لدى الأشكال الآخذة في التشكل، وهو ما يعنيه أيضا باستحقاقها كل الاهتمام , وما يلح عليه من ضرورة "فهرسة الكتابات المتعددة في عصرنا الحاضر، بدءا من أقواها جزالة حتى أشدها ابتذالا..." إلى آخر ما أوردته في اقتباس سابق. وصولا إلى رصد أكثر فاعلية لعملية التشكل تلك.


-4-
الأشكال العابرة للنوع في الأدب المصري المعاصر

من هنا نستطيع فهم الأعمال التي خرجت على التصنيفات الأدبية المعروفة، مثل قصيدة النثر عند بودلير ثم رامبو، وكذلك ما عرف باسم "مسرواية" وهى الأعمال الروائية التي وظفت تقنيات مسرحية، فوقفت بذلك على مشارف نوع جديد، مثلما نجد عند توماس هاردي وفلوبير ثم جيمس جويس. وهو ما وجد بعض تطبيقات له في أدبنا في أعمال توفيق صايغ وأنسي الحاج فيما يتعلق بقصيدة النثر في لبنان وبعض نصوص شعراء السبعينيات والتسعينيات في مصر، ونصوص "محاكمة ايزيس" للويس عوض و "بنك القلق" لتوفيق الحكيم و "نيويورك 80" ليوسف ادريس( ). ثم جاء لاحقا "القصة-القصيدة" الذي أشرت إليه في المقدمة.

ومن الجدير بالاعتبار هنا, كذلك, دراسة ما عبر عنه صبري حافظ ب "الحلقات القصصية" في معرض دراسته لنص مجموعة "منحنى النهر" لمحمد البساطي( )، وكافة الظواهر التشكيلية الجديدة التي أشرت إليها في المقدمة.

إن التحولات المهمة على صعيد الابداع الأدبي، خاصة فيما يتعلق بالأنواع الأدبية في مصر، لجديرة بتأمل جاد ودراسة متعمقة لبنياتها الأسلوبية وعناصرها الجمالية والصورية والدلالية، خاصة في ضوء التحولات الخطيرة التي ألمت ببنية المجتمع والوعى، ليس فقط على مستوى تغير النظام السياسي، ولكن أيضا على صعيد التراتب الطبقي الجديد والتحول البنيوي الذي طرأ على الكيان الاجتماعي المصري، سواء من الناحية الموضوعية أو الروحية- القيمية والذوقية، عن طريق التحول نحو رأسمالية شائهة يتم تطبيقها بصورة قسرية، وكذلك الاشتباك مع التقاليد شبه الاقطاعية التي تقاتل معركتها الأخيرة( ) . حيث تقع على عاتق الباحثين مهام جسام، تبدأ بدراسة خصوصية الظاهرة الأدبية المصرية المعاصرة، اجتماعيا وابداعيا، ومقارنتها بالظواهر السابقة والمعاصرة في الأدب العالمي، وهل هى مجرد صدى؟ أم أنها تتحرك بفعل قانونها الخاص وعواملها الإجتماعية المحددة؟ وصولا إلى دراسة الوظائف اللغوية والمستويات الأسلوبية وأبنية الخطاب والتقنيات السردية، إلى آخر ما تشتمل علية الدراسة النقدية الجادة.



المصادر والمراجع

1- الأدب والفن في الاشتراكية، ترجمة عبد المنعم الحفني. القاهرة: مكتبة مدبولي، 1977.
2- ادوارد الخراط، الكتابة عبر النوعية: مقالات في ظاهرة القصة-القصيدة ونصوص مختارة. القاهرة: دار شرقيات، 1994.
3- أرسطو، فن الشعر. ترجمة د. ابراهيم حمادة. مكتبة الأنجلو المصرية، 1989، ص 81.
4- بييرزيما، النقد الاجتماعي. ترجمة: عايدة لطفي، دار فكر القاهرة، 1991، ص 177.
5- جورج لوكاتش، التاريخ والوعى الطبقي , ترجمة حنا الشاعر, بيروت: دار الأندلس، 1979، 79.
6- جورح لوكاتش , مشكلات نظرية الرواية , ترجمة صلاح السروي. مجلة أدب ونقد. العدد 96 أغسطس 1993.
7- جورح لوكاتش , معنى الواقعية المعاصرة , ترجمة أمين العيوطي. القاهرة: دار المعارف، 1971.
8- جورح لوكاتش، دراسات في الواقعية الأوروبية. ترجمة أمير اسكندر. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1972.
9- د. غالي شكري , الثورة المضادة في مصر، كتاب الأهالي ، القاهرة ، 1987 .
10 - د غالى شكرى , ديكتاتورية التخلف العربي ، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة 1994.
11 – د غالى شكرى , شعرنا الحديث الى أين ؟ , القاهرة , دار الشروق , 1991 .
12 - رينيه ويلك -مفاهيم نقدية. ترجمة د. محمد عصفور. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. الكويت , 1987 .
13- ارنست فيشر, ضرورة الفن، ترجمة أسعد حليم. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986، 201.
14- د . عبد المنعم تليمة، مقدمة في نظرية الأدب. القاهرة: دار الثقافة، 1973
15- غالي شكري، شعرنا الحديث إلى أين؟ القاهرة: دار الشروق، 1991
16- ميخائيل باختين ,الخطاب الروائي، ترجمة محمد برادة. القاهرة: دار الفكر، 1987.
17- مجلة فصول , ربيع 1993


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...