قبل أسبوع، تحدثت والصديق ممدوح عن موضوع طريف -لا أظن أنه طرق كفاية- وهو "محاكمة الكتب". هل الكتب أيضا تحاكم؟ بكل تأكيد، و أظن أن صفحات الأدب والنقد والتاريخ تمتليء بشواهد من هذا القبيل. عندما أردت أن أوضح لصديقي ما أعنيه بمحاكمة الكتب قلت محاولا أن أضع تعريفا: "لا أعني بمحاكمة الكتب اتخاذ رأي نقدي منها، إذ أن فعل المحاكمة حدث جديّ له تبعاته، وهو ينتهي بقرار مصيري بحق الكتاب؛ فإما الصفح والإبقاء على الكتاب، أو الإتلاف والنفي إلى مكان بعيد في أهون الحالات."
قلت بأن صفحات الأدب تمتليء بشواهد من هذا القبيل، ولعل أشهر مثال على الإطلاق هي تلك المحاكمة الشهيرة في الفصل السادس من رواية (دون كيخوته)، عندما رجع الفارس ذو الوجه الحزين -كما يطلق عليه- جريحا مصابا بعد مغامرته الأولى، مما دفع بابنة أخيه وخادمتهم وصديقيه الراهب والحلاق أن يقوموا بمحاكمة علنية تذكر بمحاكم التفتيش للتخلص من هذه الكتب التي أفسدت عقل دون كيخوته. هذا الفصل من أبرع وأطرف ما قرأت في حياتي، فعبر هذا الموقف البارع يستطيع المؤلف سيرفانتس أن يمرر أراءه بخصوص بعض كلاسيكيات الفروسية وبأدباء عصره، فنجد أنه يلقي بأغلبها من النافذة ثم إلى النار لاحقا، ولا تنجو إلا كتب معدودة، أحدها رواية (غالطيا) للمؤلف سيرفانتس نفسه!
عندما أردت أن أقدم شاهدا آخرا على هذه الممارسة ذكرت مقالا طريفا قرأته لهرمان هسه بعنوان (كتب في المحكمة). يذكر هسه أن ظروفه دفعته للتخلي عن جزء من مكتبته (قد تكون ضائقة مالية أو الانتقال إلى مكان لايتسع لكل هذه الكتب). وهكذا يجد نفسه فوق مقعد القاضي وهو يجري تحقيقا ومساءلة لكل رف وكل كتاب في مكتبته. من الواضح أن هسه كان يستحضر دون كيخوته وهو يكتب عن هذه المحاكمة الممتعة. المقالة من أمتع ما قرأت، وهي تعطي نظرة سريعة على ثقافة هيرمان هسه وذوقه وما يفضله من اختيارات. طلب مني الصديق ممدوح أن أترجم المقالة، وها أنا ذا لم أكتب هذه التدوينة إلا لأضع ترجمتي لمقالة هسه.
أحيانا لا يكون القاضي منصفا، وتتحول المحاكمة إلى إجراء صوري تدان فيه الكتب وتحرق من أجل إدانة مؤلفيها. تاريخنا يمتليء بشواهد من هذا القبيل: كتب ابن رشد أحرقت في قرطبة، وكتب لسان الدين بن الخطيب أحرقت في غرناطة، وقد تطال المحرقة أعمالا أخرى غير الكتب كما في محرقة سافونورولا الشهيرة، عندما قام بوتشيلي نفسه برمي لوحاته وسط اللهب تحت وازع من شعور ديني حديث.
محاكمة الكتب أمر شائع جدا ونحن نمارسها أحيانا دون أن ننتبه لها. عندما أردت أن أرجع من كندا إلى وطني، كان عليّ أن أنقل حصيلة سبع سنوات من الكتب، وهو ما ملأ أكثر من عشرين كرتونا. عندما كثرت الكراتين وزاد الوزن منذرا بفاتورة نقل خيالية كان عليّ أن أجري محاكمة سريعة أتخلى فيها عن بعض الكتب التي اشتريتها ثم ندمت على شرائها أو لم تلق مني قبولا بعد تصفحها. حينها تخلصت من روايات يوسا وماركيز ومورافيا وكثير من مؤلفي أمريكا الجنوبية المعاصرين.
حتى في عملية اقتناء وشراء الكتب، هناك نوع من المحاكمة. عندما أدخل مكتبة أقوم بسرعة بسحب كل كتاب يروق لي غلافه أو عنوانه أو موضوعه. إنها ممارسة قديمة منذ طفولتي كنت أفعلها خوفا من أن يُباع الكتاب الذي أريده إذا غادرته. مع الوقت وتراكم التجربة اكتشفت أن الكتب التي اقتنيها من أقل الكتب شعبية وأقلها شراءا، لكن يظل ذلك الهاجس القديم وتظل تلك العادة الطفولية ملازمة لي لا تغادرني. أطوف بالمكتبة وأسحب كل ما أظن أنه سيعجبني حتى تثقل ذراعي تحت وطأة الكتب، ثم أجلس على كرسي أو دكة أو على الأرض وأبدأ بتصفح ومحاكمة ما سحبت واحدا واحدا، وفي أغلب الأحيان تعود كل تلك الكتب إلى أماكنها دون أن يحظى واحد منها على صك براءة.
قلت بأن صفحات الأدب تمتليء بشواهد من هذا القبيل، ولعل أشهر مثال على الإطلاق هي تلك المحاكمة الشهيرة في الفصل السادس من رواية (دون كيخوته)، عندما رجع الفارس ذو الوجه الحزين -كما يطلق عليه- جريحا مصابا بعد مغامرته الأولى، مما دفع بابنة أخيه وخادمتهم وصديقيه الراهب والحلاق أن يقوموا بمحاكمة علنية تذكر بمحاكم التفتيش للتخلص من هذه الكتب التي أفسدت عقل دون كيخوته. هذا الفصل من أبرع وأطرف ما قرأت في حياتي، فعبر هذا الموقف البارع يستطيع المؤلف سيرفانتس أن يمرر أراءه بخصوص بعض كلاسيكيات الفروسية وبأدباء عصره، فنجد أنه يلقي بأغلبها من النافذة ثم إلى النار لاحقا، ولا تنجو إلا كتب معدودة، أحدها رواية (غالطيا) للمؤلف سيرفانتس نفسه!
عندما أردت أن أقدم شاهدا آخرا على هذه الممارسة ذكرت مقالا طريفا قرأته لهرمان هسه بعنوان (كتب في المحكمة). يذكر هسه أن ظروفه دفعته للتخلي عن جزء من مكتبته (قد تكون ضائقة مالية أو الانتقال إلى مكان لايتسع لكل هذه الكتب). وهكذا يجد نفسه فوق مقعد القاضي وهو يجري تحقيقا ومساءلة لكل رف وكل كتاب في مكتبته. من الواضح أن هسه كان يستحضر دون كيخوته وهو يكتب عن هذه المحاكمة الممتعة. المقالة من أمتع ما قرأت، وهي تعطي نظرة سريعة على ثقافة هيرمان هسه وذوقه وما يفضله من اختيارات. طلب مني الصديق ممدوح أن أترجم المقالة، وها أنا ذا لم أكتب هذه التدوينة إلا لأضع ترجمتي لمقالة هسه.
أحيانا لا يكون القاضي منصفا، وتتحول المحاكمة إلى إجراء صوري تدان فيه الكتب وتحرق من أجل إدانة مؤلفيها. تاريخنا يمتليء بشواهد من هذا القبيل: كتب ابن رشد أحرقت في قرطبة، وكتب لسان الدين بن الخطيب أحرقت في غرناطة، وقد تطال المحرقة أعمالا أخرى غير الكتب كما في محرقة سافونورولا الشهيرة، عندما قام بوتشيلي نفسه برمي لوحاته وسط اللهب تحت وازع من شعور ديني حديث.
محاكمة الكتب أمر شائع جدا ونحن نمارسها أحيانا دون أن ننتبه لها. عندما أردت أن أرجع من كندا إلى وطني، كان عليّ أن أنقل حصيلة سبع سنوات من الكتب، وهو ما ملأ أكثر من عشرين كرتونا. عندما كثرت الكراتين وزاد الوزن منذرا بفاتورة نقل خيالية كان عليّ أن أجري محاكمة سريعة أتخلى فيها عن بعض الكتب التي اشتريتها ثم ندمت على شرائها أو لم تلق مني قبولا بعد تصفحها. حينها تخلصت من روايات يوسا وماركيز ومورافيا وكثير من مؤلفي أمريكا الجنوبية المعاصرين.
حتى في عملية اقتناء وشراء الكتب، هناك نوع من المحاكمة. عندما أدخل مكتبة أقوم بسرعة بسحب كل كتاب يروق لي غلافه أو عنوانه أو موضوعه. إنها ممارسة قديمة منذ طفولتي كنت أفعلها خوفا من أن يُباع الكتاب الذي أريده إذا غادرته. مع الوقت وتراكم التجربة اكتشفت أن الكتب التي اقتنيها من أقل الكتب شعبية وأقلها شراءا، لكن يظل ذلك الهاجس القديم وتظل تلك العادة الطفولية ملازمة لي لا تغادرني. أطوف بالمكتبة وأسحب كل ما أظن أنه سيعجبني حتى تثقل ذراعي تحت وطأة الكتب، ثم أجلس على كرسي أو دكة أو على الأرض وأبدأ بتصفح ومحاكمة ما سحبت واحدا واحدا، وفي أغلب الأحيان تعود كل تلك الكتب إلى أماكنها دون أن يحظى واحد منها على صك براءة.