سُمِّيَ عشرات المثقفين الفلسطينيين الذين سمحت لهم اتفاقات «أوسلو» الالتحاق بالسلطة الفلسطينية بـ «العائدين». هناك، بين مواطني الضفة وغزة، من سَمّاهم «التوانسة» أيضاً، نسبة إلى آخر محطة من الشتات جاؤوا منها. التسمية الأخيرة تضمر موقفاً «محلياً» سلبياً من تسنُّم هؤلاء مقاليد الشأن الثقافي في مناطق السلطة، وهذا موضوع آخر. بعد سنين من عودة هؤلاء المثقفين لم تظهر «آثار» العودة، واضحة، في نصوصهم. أتحدث هنا تحديداً عن الشعراء. حتى الراحل محمود درويش «الذي عاد و لم يعد» لم تصنع «عودته» تحوُّلاً في نصه الشعري على مستوى العلاقة مع الوطن. فالوطن، الشخصي، هو البيت، الأمكنة، الروائح والذكريات الأولى، وليس العلم المرفرف فوق «المقاطعة». بيت درويش وخطوته و ذكرياته وقصائده الأولى ليست في رام الله سواء أكانت محتلّة أم كانت محرَّرة، بل في الجليل، وذلك مكان لم يعد إليه إلا زائراً بتصريح من إسرائيل. لا أعرف شاعراً فلسطينياً ظهرت في قصائده علاقة عضوية بالمكان الذي عاد إليه في الضفة أو غزة. فالعودة لم تكن كاملة لا على المستوى السياسي السيادي ولا على مستوى الحركة الشخصية. كانت (وظلت للأسف) عودة ناقصة. فما الذي ظهر في المدوَّنة الشعرية الفلسطينية «العائدة» إذن؟ المنفى أم الأمكنة التي عرفت خطوة أولئك الشعراء الأولى، سواء أكانت في مخيم أم كانت في حي عادي بمدينة عربية؟
***
البيت والمكان الأوَّلان في المدوَّنة الفلسطينية هما صنو «إيثاكا». والفلسطيني مثل عوليس في شتاته الطويل بعيداً عن وطنه، ورحلته إلى الوطن هي (أوديسة) تتخلَّلها أهوال وتعترضها أقدار مُصَمَّمَةٌ على رفع العودة، الفعلية، إلى رتبة الاستحالة. ليست صدفة أن تتردد مفردات هوميرية في الكتابة الأدبية الفلسطينية، الشعرية خصوصاً، تصنع تناظراً بين الحالة الفلسطينية والتيه العوليسي.
هذا ما هو مسطّر، على الأقل، في المدوّنة الكلاسيكية الفلسطينية وتحديداً في أعمال الذين اقتلعوا من أماكنهم وبيوتهم في فلسطين، ولهم في البيت والمكان الأوَّلين مرابع وذكريات. كما يمكننا أن نقع على فلسطين، كمكان أول، عند من لم يولدوا فيها مدفوعين بعرف يسود عادة كتابة المنفيين فتظهر فلسطين عندهم كمكان يطفو فوق سطح التاريخ الشخصي. كمكان ذي مواصفات ثابتة.
***
هناك إغراء خاص في قراءة المدوَّنة الشعرية الفلسطينية لـ «العائدين» بعد كل هذا الوقت. فالعودة إلى فلسطين يُفتَرض أن تكون، عودة إلى «إيثاكا» كما أشرنا في المستهل. نتذكر هنا وصية كفافي لعوليس: فلتضع «إيثاكا» دائماً في عقلك، فوصولك إليها هو هدفك الأخير، ولكن لا تتعجَّل الرحلة!
ليس الوصول إلى «إيثاكا» عند كفافي هو المهمّ بل الطريق إليها حتى وإن استمرَّ أعواماً طويلة، وشاخ المرتحل في الطريق.
ولكن. هل يكفي أن يعود المرء إلى «إيثاكا» كي يترجَّل الحنين عن أعلى صواريه، كي يحطّ رحاله أخيراً ويستريح؟ لا نقع على إجابة إيجابية، في مدوَّنة «العائدين»، بل أخشى أن أقول إننا نجد أنفسنا أمام العكس. فإذا كانت أخبار عوليس هوميرس تنتهي بعودته إلى بيته واستقراره فيه بعد طواف، فإنه عند دانتي يضجر من العودة والاستقرار، فينطلق في مغامرة جديدة.عوليس هوميروس ينعم بلقاء بنلوبي، وينسى الحورية كاليبسو. أما عوليس دانتي فيحنّ إلى المنفى. لكن عوليس الفلسطيني لم يصل إلى نهاية الرحلة وهدفها الأخير.
نعرف أن الحنين مصوَّب دائماً جهة المكان الأول، فهل يمكن أن يكون هناك حنين إلى المنفى؟
لست متأكداً. الشيء المؤكَّد أن تلك العودة ليست كاملة ولا هي عودة حقيقية للذين ينتمون إلى أجزاء من فلسطين صارت خارج خطاب السياسة الفلسطينية الرسمي. أما حقّ العودة العتيد فليس سوى قرار يجاهد كثيرون في الغرب والعالم العربي لنسيانه.
***
أخيراً ها هو كفافي (بترجمة سعدي يوسف) يقدم نصيحته التي طالما تردَّدت في كتاباتنا، بعد اليأس من بلوغ «إيثاكا»، بجعل الطريق أهمّ في نظر السالك من نقطة الوصول.. وهذا صحيح بمعنى ما وليس بكل المعاني، خصوصاً تلك المقصودة هنا:
«لتكن إيثاكا، دوماً، معك
إن بلوغك إياها، لهو مصيرك
لكن لا تسرع الرحلة في الأقل
والخير أن تستمر الرحلة أعواماً
كي تبلغ الجزيرة شيخاً
غنياً بما كسبته في الدرب
غير متوقَّع من إيثاكا أن تهَبَك الغنى
لقد وهَبَتْك إيثاكا الرحلة الرائعة
وبدونها لم يكن بإمكانك الرحيل
وليس لديها ما تَهَبُك سوى هذا
إن وجدت إيثاكا فقيرة، فهي لن تخدعك
إذ غدوتَ من الحكمة في هذه التجربة
بحيث فهمت، فعلاً، معنى هذه الإيثاكات». " لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير. ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية. "
***
البيت والمكان الأوَّلان في المدوَّنة الفلسطينية هما صنو «إيثاكا». والفلسطيني مثل عوليس في شتاته الطويل بعيداً عن وطنه، ورحلته إلى الوطن هي (أوديسة) تتخلَّلها أهوال وتعترضها أقدار مُصَمَّمَةٌ على رفع العودة، الفعلية، إلى رتبة الاستحالة. ليست صدفة أن تتردد مفردات هوميرية في الكتابة الأدبية الفلسطينية، الشعرية خصوصاً، تصنع تناظراً بين الحالة الفلسطينية والتيه العوليسي.
هذا ما هو مسطّر، على الأقل، في المدوّنة الكلاسيكية الفلسطينية وتحديداً في أعمال الذين اقتلعوا من أماكنهم وبيوتهم في فلسطين، ولهم في البيت والمكان الأوَّلين مرابع وذكريات. كما يمكننا أن نقع على فلسطين، كمكان أول، عند من لم يولدوا فيها مدفوعين بعرف يسود عادة كتابة المنفيين فتظهر فلسطين عندهم كمكان يطفو فوق سطح التاريخ الشخصي. كمكان ذي مواصفات ثابتة.
***
هناك إغراء خاص في قراءة المدوَّنة الشعرية الفلسطينية لـ «العائدين» بعد كل هذا الوقت. فالعودة إلى فلسطين يُفتَرض أن تكون، عودة إلى «إيثاكا» كما أشرنا في المستهل. نتذكر هنا وصية كفافي لعوليس: فلتضع «إيثاكا» دائماً في عقلك، فوصولك إليها هو هدفك الأخير، ولكن لا تتعجَّل الرحلة!
ليس الوصول إلى «إيثاكا» عند كفافي هو المهمّ بل الطريق إليها حتى وإن استمرَّ أعواماً طويلة، وشاخ المرتحل في الطريق.
ولكن. هل يكفي أن يعود المرء إلى «إيثاكا» كي يترجَّل الحنين عن أعلى صواريه، كي يحطّ رحاله أخيراً ويستريح؟ لا نقع على إجابة إيجابية، في مدوَّنة «العائدين»، بل أخشى أن أقول إننا نجد أنفسنا أمام العكس. فإذا كانت أخبار عوليس هوميرس تنتهي بعودته إلى بيته واستقراره فيه بعد طواف، فإنه عند دانتي يضجر من العودة والاستقرار، فينطلق في مغامرة جديدة.عوليس هوميروس ينعم بلقاء بنلوبي، وينسى الحورية كاليبسو. أما عوليس دانتي فيحنّ إلى المنفى. لكن عوليس الفلسطيني لم يصل إلى نهاية الرحلة وهدفها الأخير.
نعرف أن الحنين مصوَّب دائماً جهة المكان الأول، فهل يمكن أن يكون هناك حنين إلى المنفى؟
لست متأكداً. الشيء المؤكَّد أن تلك العودة ليست كاملة ولا هي عودة حقيقية للذين ينتمون إلى أجزاء من فلسطين صارت خارج خطاب السياسة الفلسطينية الرسمي. أما حقّ العودة العتيد فليس سوى قرار يجاهد كثيرون في الغرب والعالم العربي لنسيانه.
***
أخيراً ها هو كفافي (بترجمة سعدي يوسف) يقدم نصيحته التي طالما تردَّدت في كتاباتنا، بعد اليأس من بلوغ «إيثاكا»، بجعل الطريق أهمّ في نظر السالك من نقطة الوصول.. وهذا صحيح بمعنى ما وليس بكل المعاني، خصوصاً تلك المقصودة هنا:
«لتكن إيثاكا، دوماً، معك
إن بلوغك إياها، لهو مصيرك
لكن لا تسرع الرحلة في الأقل
والخير أن تستمر الرحلة أعواماً
كي تبلغ الجزيرة شيخاً
غنياً بما كسبته في الدرب
غير متوقَّع من إيثاكا أن تهَبَك الغنى
لقد وهَبَتْك إيثاكا الرحلة الرائعة
وبدونها لم يكن بإمكانك الرحيل
وليس لديها ما تَهَبُك سوى هذا
إن وجدت إيثاكا فقيرة، فهي لن تخدعك
إذ غدوتَ من الحكمة في هذه التجربة
بحيث فهمت، فعلاً، معنى هذه الإيثاكات». " لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير. ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية. "