ربما لن يكون بو علي ممتناً، كما قد نعتقد، لنشر "قروشاته" عارية هكذا على (الملأ). وبكل ما تعنيه كلمة (الملأ) من معنى. وقد تغدو نظرته مليئة بالعتب، عتب لا يستطيع حتى في أقاصي عنفه إلا أن يكون لطيفاً. ولا أدري حقاً ما الذي يعتمل داخله حين يعرف أن "قروشاته" الخاصة للغاية، الحميمية للغاية، لم تعد (حبرا على ورق)! تتداوله عشرات الأيادي بشكل محصور وحيّي (كما أراد هو)، بل أضحت كلماتٍ تفضحه (ويا لجمال الفضيحة)! على شاشة يقرؤها من يشاء، ولم يشأ، في أقصى أقاصي المعمورة.
بو علي الذي لم يكن متفاخراً يوماً، ولم يعشق حلبات المسارح... كان المؤلف المجهول الذي يستوطن صفوف المتفرجين الأخيرة.
ولن يستطيع أحد أن يدّعي أن صوت بو علي اقتحم سمعه دون رغبة، فلكي نسمع بو علي كان علينا أن ننصت جيداً ونشنف آذاننا.
باختصار... فكرة نشر "قروشات" بو علي هي فكرة مناقضة له تماماً. ولأنها مناقضة له كان ينبغي نشرها...
ربما لأن معرفة ما هو معدّ ليعرف فحسب تختلف بجوهرها ومتعتها عن معرفة ما هو غير معدّ ليعرف، ولم يطمح يوماً لذلك. إذاً فقد وُجد هكذا، تسكنه الطزاجة والدهشة، دون رتوشات الأضواء، وبحميمية وصدق من يهمس لقلب آمن مراراً به، وبأنه لن يبوح بأسراراه أبداً.
بو علي يرى أن "قروشاته" ما هي إلا أقاويل وأحاديث في أشياء لا رابط بينها ولا جامع ولا طائل من ورائها سواء في النوم أو اليقظة.. وأنا أرى أنها من مرايا نقية تناثرت في دواخل ذاك الرجل النقي.
تلك "القروشات" ستجعلنا نعرف ما لم يكن بو علي راغباً في الإفصاح عنه من جمال جوّاني.. وقت يفضحه من وضع السر عنده: يفضح ليالي العشق والشهوة مع حبيبته شهرزاد، وخيبة مريرة من (مشبوهة الوطن)!! يفضح علاقاته (المشبوهة) بأصدقاء الليل، والتي لم تغيّرها (موضة) تغيير الإيديولوجيات: ماركس، جون ريد، علي، غويا، لينين، ويفضح جملته بأنه كتاب مفتوح يعرف قراءته من يفك رموزه!.
بو علي.. يا بو علي.. نادرون من يحفلون اليوم بفك الشيفرات، والعقول تُقتحم بشكل مضطرد بالنهايات.. بالنهايات والمنجزات فحسب.
في زمن استعراض الأجساد القبيحة أما آن لجسدك (الفاتن) المستور أن يمزّق حجبه.. ما رأيك؟
أما آن لليل المثقفين (أمثالك) أن ينقضي؟!!
____________
" الإهداء إلى ذات المعطف الأخضر "
القـَرْوَشَة مصدرها فعل قَرْوَشَ ، على وزن فَعْوَلَ . هذا الوزن أو هذه الصيغة أهملتها – كما يبدو – العربية الفصحى . وما زال ثمة بقايا من هذه الصيغة تشير إلى وجودها في أصل اللغة ، مثل : شعوذة و هلوسة و دهورة . لكنها موجودة ومستخدمة بشكل اعتيادي في اللغات ( أو اللهجات ) العربية (المسماة " عامية " ) ، وإن كان أيضاً ليس بكثرة . مثال ذلك :
لَحْوَسَ ( أكثر من اللحس ) ، ثلاثيه : لَحَسَ . نَحْوَدَ ( جعل الشيء مدبباً في مقدمته ) ، ثلاثيه : نَحَدَ ، وهو جذر عربي أصيل بدليل أن القاموس المحيط يذكر فعل "ناحد" بمعنى عاهد وتعهد . نَقْوَرَ ( تناول كالعصفور من كل شيء قطعة صغيرة أو حبة من هنا و حبة من هناك ) ثلاثيه : نَقَرَ
جَعْوَرَ ( أكثر من الجعير و هو الصراخ ) ، ثلاثيه : جَعَرَ ، ومنه الكلب الجعاري ( شبيه الضبع ) .
نَكْوَشَ ( أكثرَ من النكش وهو النكت ) ثلاثيه : نَكَشَ ...
اسم الفاعل من فَعْوَلَ : فَعْوَلْ ، مثل جَدْوَلْ و جَرْوَلْ وجَعْوَرْ ( وهي عبارات فصيحة )؛أو فَعْويل،مثل درويش ؛أو فِعْوال،مثل شخوار (الذي يشخر كثيراً) وبرواز (وهو إطار الصور، جذره بَرَزَ ) .
ولهذه الصيغة قدرة على إعطاء معان دقيقة مشتقة من الأصل الثلاثي .
يقال مثلاً:كعوكت الأفعى ، أي لفَّت جسمها كالكعك . أما بهورة فتعبر عن التظاهر بما يبهر الآخرين .
ويعني دحوشَ ، أنه دحشَ هنا ودحشَ هناك ، أي دسَّ أشياء في أماكن متعددة أو كيفما اتفق أو دسَّ أشياء مختلفة في مكان معين . ويأتي بَخْوَشَ بمعنى أحدس عدة ثقوب .
نعود إلى قروش . ثلاثيه : قَرَشَ . في" المنجد" معنى قرش الشيء : جمعه من هنا ومن هنا وضمَّ بعضه إلى بعض .ويقال : تقرّش المال : جمعه. وتقرّش القوم: تجمَّعوا . وتقرَّشت الرماح : تداخلت في الحرب . ويقال :" قريشة " للجبينة التي تتميز من الحليب غير مقرَّصة ولا ملتحمة الأجزاء كالجبن . وفي القاموس "المحيط " : القَرْوَش كجرول ، ما يجمع من ههنا وههنا والقرواش الطفيلي و العظيم الرأس .
قروشات هي أقوال أو أحاديث في أشياء لا رابط بينها ولا جامع ، ولا طائل من ورائها ، سواء في النوم أو اليقظة .
ويمكن أن يقال عنها : هذيانات ، مفردها : هذيان . نقرأ في المنجد : فلان يهذو هذواً في الكلام أو يهذي هذياً و هذياناً : تكلّم بغير معقول لمرض أو لغيره .
أما في الاستخدام الشعبي فليست القروش دائما بهذه الخطورة : يكفي أن لا يعجبك كلام أحدهم ، أو أن لا ترى له غاية أو هدفاً ، كي تقول : إنه يقروش .
بصراحة : أنا هنا أقروش . لو طلب مني أن أضع عنواناً لحياتي الخاصة بعد خمسين سنة ، لكان حُب و خيبة . الحب هو ما ابتغيت والخيبة هي ما جنيت .
أنا عاشق خائب . ولأنني عاشق خائب فأنا أقروش .
بو علي ياسين
اللاذقية ، آب 1993
.
بو علي الذي لم يكن متفاخراً يوماً، ولم يعشق حلبات المسارح... كان المؤلف المجهول الذي يستوطن صفوف المتفرجين الأخيرة.
ولن يستطيع أحد أن يدّعي أن صوت بو علي اقتحم سمعه دون رغبة، فلكي نسمع بو علي كان علينا أن ننصت جيداً ونشنف آذاننا.
باختصار... فكرة نشر "قروشات" بو علي هي فكرة مناقضة له تماماً. ولأنها مناقضة له كان ينبغي نشرها...
ربما لأن معرفة ما هو معدّ ليعرف فحسب تختلف بجوهرها ومتعتها عن معرفة ما هو غير معدّ ليعرف، ولم يطمح يوماً لذلك. إذاً فقد وُجد هكذا، تسكنه الطزاجة والدهشة، دون رتوشات الأضواء، وبحميمية وصدق من يهمس لقلب آمن مراراً به، وبأنه لن يبوح بأسراراه أبداً.
بو علي يرى أن "قروشاته" ما هي إلا أقاويل وأحاديث في أشياء لا رابط بينها ولا جامع ولا طائل من ورائها سواء في النوم أو اليقظة.. وأنا أرى أنها من مرايا نقية تناثرت في دواخل ذاك الرجل النقي.
تلك "القروشات" ستجعلنا نعرف ما لم يكن بو علي راغباً في الإفصاح عنه من جمال جوّاني.. وقت يفضحه من وضع السر عنده: يفضح ليالي العشق والشهوة مع حبيبته شهرزاد، وخيبة مريرة من (مشبوهة الوطن)!! يفضح علاقاته (المشبوهة) بأصدقاء الليل، والتي لم تغيّرها (موضة) تغيير الإيديولوجيات: ماركس، جون ريد، علي، غويا، لينين، ويفضح جملته بأنه كتاب مفتوح يعرف قراءته من يفك رموزه!.
بو علي.. يا بو علي.. نادرون من يحفلون اليوم بفك الشيفرات، والعقول تُقتحم بشكل مضطرد بالنهايات.. بالنهايات والمنجزات فحسب.
في زمن استعراض الأجساد القبيحة أما آن لجسدك (الفاتن) المستور أن يمزّق حجبه.. ما رأيك؟
أما آن لليل المثقفين (أمثالك) أن ينقضي؟!!
____________
" الإهداء إلى ذات المعطف الأخضر "
القـَرْوَشَة مصدرها فعل قَرْوَشَ ، على وزن فَعْوَلَ . هذا الوزن أو هذه الصيغة أهملتها – كما يبدو – العربية الفصحى . وما زال ثمة بقايا من هذه الصيغة تشير إلى وجودها في أصل اللغة ، مثل : شعوذة و هلوسة و دهورة . لكنها موجودة ومستخدمة بشكل اعتيادي في اللغات ( أو اللهجات ) العربية (المسماة " عامية " ) ، وإن كان أيضاً ليس بكثرة . مثال ذلك :
لَحْوَسَ ( أكثر من اللحس ) ، ثلاثيه : لَحَسَ . نَحْوَدَ ( جعل الشيء مدبباً في مقدمته ) ، ثلاثيه : نَحَدَ ، وهو جذر عربي أصيل بدليل أن القاموس المحيط يذكر فعل "ناحد" بمعنى عاهد وتعهد . نَقْوَرَ ( تناول كالعصفور من كل شيء قطعة صغيرة أو حبة من هنا و حبة من هناك ) ثلاثيه : نَقَرَ
جَعْوَرَ ( أكثر من الجعير و هو الصراخ ) ، ثلاثيه : جَعَرَ ، ومنه الكلب الجعاري ( شبيه الضبع ) .
نَكْوَشَ ( أكثرَ من النكش وهو النكت ) ثلاثيه : نَكَشَ ...
اسم الفاعل من فَعْوَلَ : فَعْوَلْ ، مثل جَدْوَلْ و جَرْوَلْ وجَعْوَرْ ( وهي عبارات فصيحة )؛أو فَعْويل،مثل درويش ؛أو فِعْوال،مثل شخوار (الذي يشخر كثيراً) وبرواز (وهو إطار الصور، جذره بَرَزَ ) .
ولهذه الصيغة قدرة على إعطاء معان دقيقة مشتقة من الأصل الثلاثي .
يقال مثلاً:كعوكت الأفعى ، أي لفَّت جسمها كالكعك . أما بهورة فتعبر عن التظاهر بما يبهر الآخرين .
ويعني دحوشَ ، أنه دحشَ هنا ودحشَ هناك ، أي دسَّ أشياء في أماكن متعددة أو كيفما اتفق أو دسَّ أشياء مختلفة في مكان معين . ويأتي بَخْوَشَ بمعنى أحدس عدة ثقوب .
نعود إلى قروش . ثلاثيه : قَرَشَ . في" المنجد" معنى قرش الشيء : جمعه من هنا ومن هنا وضمَّ بعضه إلى بعض .ويقال : تقرّش المال : جمعه. وتقرّش القوم: تجمَّعوا . وتقرَّشت الرماح : تداخلت في الحرب . ويقال :" قريشة " للجبينة التي تتميز من الحليب غير مقرَّصة ولا ملتحمة الأجزاء كالجبن . وفي القاموس "المحيط " : القَرْوَش كجرول ، ما يجمع من ههنا وههنا والقرواش الطفيلي و العظيم الرأس .
قروشات هي أقوال أو أحاديث في أشياء لا رابط بينها ولا جامع ، ولا طائل من ورائها ، سواء في النوم أو اليقظة .
ويمكن أن يقال عنها : هذيانات ، مفردها : هذيان . نقرأ في المنجد : فلان يهذو هذواً في الكلام أو يهذي هذياً و هذياناً : تكلّم بغير معقول لمرض أو لغيره .
أما في الاستخدام الشعبي فليست القروش دائما بهذه الخطورة : يكفي أن لا يعجبك كلام أحدهم ، أو أن لا ترى له غاية أو هدفاً ، كي تقول : إنه يقروش .
بصراحة : أنا هنا أقروش . لو طلب مني أن أضع عنواناً لحياتي الخاصة بعد خمسين سنة ، لكان حُب و خيبة . الحب هو ما ابتغيت والخيبة هي ما جنيت .
أنا عاشق خائب . ولأنني عاشق خائب فأنا أقروش .
بو علي ياسين
اللاذقية ، آب 1993
.