جابر عصفور - عالم خاص

مكتبتي الخاصة من أحب الأشياء إلى نفسي. أهرب إليها من صخب العالم الذي نعيشه، وأحرص دائما على أن أضيف إليها. وكان من نتيجة ذلك أن تضخمت المكتبة على مر السنين. وتعددت الأماكن التي تشغلها، ومع ذلك لا أتوقف عن تزويدها بما يبقيني دائما على معرفة بالمجالات المعرفية التي أحتاج إليها في النقد الأدبي وفي العلوم والمعارف المعاونة له. أذكر جيدا أن عادة تملك الكتب وتكوين مكتبتي الخاصة، بدأت منذ أن كنت في أوائل مراحل التعليم. وقبل أن ألتحق بالجامعة، كنت أمتلك أغلب أعمال طه حسين الذي فتنت به منذ الصغر. وتكاثر عدد الكتب التي كنت أحملها معي أينما رحلت. ولكني لم أعرف معنى المكتبة الخاصة للأدباء الكبار إلا بعد أن زرت طه حسين في بيته. وكان ذلك عقب تخرجي في الجامعة وتعييني معيدا في القسم الذي ظل يرأسه سنوات عديدة ولا يزال مفخرة لي إلى اليوم. ولن أنسى مشهد دخولي إليه، وهو جالس في حجرة المكتبة الخاصة به. وكانت دواليب الكتب تمتد على جدران الغرفة من الأرض إلى السقف. وبهرني مشهد طه حسين وهو جالس في مكتبه الخاص الذي هو مكتبته. وظلت صورة الجدران التي تحيطها دواليب الكتب حاضرة في خيالي.

ويومها تمنيت أن تكون عندي مكتبة تحتل غرفة كاملة. ويبدو أن هذا التمني أصبح هوسا في رأسي. ومرت بي الأعوام. وأكملت درجاتي العلمية، ومكتبتي الخاصة تتضخم كل عام. ولا أذكر أني سافرت إلى بلد عربي أو أجنبي إلا وعدت محملا بالكتب، فرحا بما حصلت عليه فرح الأطفال بما يحبونه كل الحب. وتطورت تقنيات المعرفة، وعرفت النت، ولا أزال أفرح بمتابعة موقع Amazon الذي أعرف منه الكتب الجديدة في المجالات المعرفية التي تعنيني، وأحرص على الحصول عليها. وازداد تضخم المكتبة، وتكاثرت شكاوى زوجتي من كثرة الكتب التي توجد في كل مكان. ولا أزال أتذكر في هذا السياق ما نسب إلى الإمام الشافعي من أنه قال: كتبي أضر على زوجتي من ثلاث نساء. ولا أزال إلى اليوم أراجع المكتبة سنويا، حتى أتخلص من النسخ المكررة، فقد أصابني السن بمرض النسيان وضعف الذاكرة. ولذلك أنسى أحيانا ما عندي من عناوين فأشتري نسخا جديدة منها، إذا لم أستطع العثور على الكتاب، فضلا عن الإهداءات أو الطبعات المختلفة. وإلى الآن، يحلو لي الجلوس في مكتبتي، وأتأمل الكتب التي تحيط بي، وأسرح بخيالي، معتزا أني أصبحت أنتسب إلى العقول والقرائح التي أبدعت هذه الكتب في كل موضوع، وفي كل زمان ومكان. وقد أسترجع أحيانا كلمة الجاحظ الرائعة عن الكتاب، وهي درة من درر النثر العربي. وأضم إليها في ذاكرتى ما قاله أحمد شوقي:
أَنا مَن بَدَّلَ بِالكُتبِ الصِحابا = لَم أَجِد لي وافِيًا إِلا الكِتابا
لقد أصبحت مكتبتي عالمي، وأماكن وجودها في حجرات بيتي أحب الأماكن وأقربها إلى نفسي.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...