يعود يحيى يخلف في روايته الأخيرة "اليد الدافئة" ليكتب رواية يتطابق فيها الزمنان ؛ الكتابي والروائي - أي أنه يكتب الآن عن الفترة التي يعيش فيها - وهي بذلك تقترب من رواياته "نجران تحت الصفر" و"تفاح المجانين" و "نشيد الحياة" و "نهر يستحم في البحيرة" وتختلف عن رواياته الثلاثة الأخيرة "ماء السماء" و "جنة ونار" و "راكب الريح" ففي هذه الثلاثة اختلف الزمن الروائي عن الزمن الكتابي - أي أنه يسترجع ، في زمن الكتابة ، زمنا أسبق ليكتب عنه - وقد لفت الأمر نظري وأخذت أبحث عن الأسباب : أتعود إلى أن الكاتب الذي عاد إلى رام الله ، إثر اتفاقات ( اوسلو ) ، عاش في بيئة جديدة مختلفة لم يتمثلها جيدا ليكتب عنها ، فعاد إلى الذاكرة والتاريخ ليستوحي منهما موضوعات رواياته ، أم أنه رأى أن النكبة التي عاشها لم تكتب روائيا ، ففضل أن يوفيها حقها ، وأن يافا أيضا ، زمن نابليون ، لم تنكتب روائيا ووجبت كتابتها؟
أيا كانت الإجابة فإن يحيى عاد بعد عشرين عاما من كتابة رواية يتطابق فيها الزمنان ؛ الكتابي والروائي ، هي "نهر يستحم في البحيرة" 1997 ، ليكتب رواية جديدة تنهل من الواقع ولا ترتد إلى زمن سابق.
في "نهر يستحم في البحيرة" كتب يحيى عن تجربة العودة من المنفى وعبر عن خيبة العائدين، وفي "اليد الدافئة" يعبر عن خيبة بطله مما آلت إليه أوضاعه بعد عشرين عاما ، وتحسره على الزمن الجميل ؛ زمن الثورة في بيروت ، علما بأن رواية "نشيد الحياة" لا تبرز صورة جميلة للثورة لذلك الزمن.
يختار يحيى لروايته شخصية كاتب وإعلامي شارك في الثورة الفلسطينية في المنفى ، وعاش في مخيم اليرموك فترة ، وتنقل بين قواعد الفدائيين ومعسكراتهم ، وعاد إلى فلسطين ليواصل رحلته ، ثم بلغ سن التقاعد فأحيل عليه وأخذ يشعر أنه صار على الهامش ولم يعد له دور . إنه صار مثل خيول مخيم اليرموك في زمن الاستغناء عن خدماتها وأيام هرمها ، والخيول معادل فني لبطل الرواية - وغالبا ما يعتمد الكاتب في بناء رواياته على معادل فني - ويعبر أحمد أبو خالد عن همومه وأحزانه ويصف وحدته ، بعد أن فقد زوجته ، وصارت ابنته الوحيدة بعيدة عنه تقيم في دولة خليجية ، ويبدأ يتعود عادات جديدة ، ولأنه كاتب وإعلامي فإنه يفكر في كتابة رواية عن جيل الثورة الذي تقاعد ، وتذكرنا بداية الرواية برواية ( غابرييل غارسيا ماركيز ) " ليس لدى الكولونيل من يكاتبه " فالوحدة والانقطاع عن العمل ، والتهميش ، هي ما آل إليه ، ولكن حياته تتخذ مسارا آخر حين يتعرف إلى امرأة في الأربعين تمد له حبل وصالها هي ذات "اليد الدافئة".
الشخصية الرئيسة في الرواية وهي أحمد أبو خالد تتقاطع كثيرا في تجربتها مع تجربة الكاتب نفسه، ولكنها لا تتماثل معها تماثلا تاما ، فثمة معلومات نعرفها عن الكاتب تختلف عما قرأناه عنها ، منها أن ليحيى غير رواية في حين يشرع أحمد بكتابة روايته الأولى ، ومنها ما يخص عائلة كل منهما ، فليحيى ابن هو هيثم ولأحمد ابنة أنثى ، وما أعرفه أن زوجة يحيى ما زالت على قيد الحياة . ولكن ما هو متشابه يتمثل في تجربة الاثنين مع الثورة وفي إقامتهما في مخيم اليرموك وأماكن اخرى في المنفى ، وفي عودتهما إلى الضفة ، وفي تحولهما من العمل السياسي إلى العمل الثقافي ، وفي تقاعد كل منهما ، وفي شعور كل منهما بأنه كاتب مجيد يتقن حرفة الكتابة ، وعدا ذلك في تعاطفهما مع الفقراء والبسطاء ، والإشارة الأخيرة يجب الوقوف عندها ، لأنها تقول لنا إن في أحمد أبو خالد من يحيى أكثر مما نتصور.
في روايات يحيى أكثرها ما هو متشابه وما يقول لنا إنها تعكس مبنى ذهنيا واحدا لا يختلف ، على الرغم من اختلاف شخوصها واختلاف بيئاتهم وتجاربهم.
سوف أقف ، بإيجاز أمام ثلاث روايات ، لتبيان ما أذهب إليه و الروايات هي:
"نجران تحت الصفر" 1975و "نشيد الحياة" 1983 و "اليد الدافئة" 2018.
في الأولى يختار مشعان بطل الرواية بعد رحلة العذاب والمعاناة النضال والوقوف إلى جانب الفقراء ضد النظام الملكي ، ويذهب إلى حارة السبيل حيث "يسكن هناك العمال والأجراء والفقراء ومن ليس لديهم مأوى" ليعيد ترتيب الأمور.
الفقراء والبسطاء والعمال طببون ، وفي " نشيد الحياة " يبدو أهل المخيم الفقراء كذلك ، وحين تبدأ حرب 1982 ، ويكون المقاتل في بيت إمرأة للمتعة ، يترك البيت ، لا ليعود إلى بيروت هاربا ، وإنما ليعود الى "موقعي" في الجبهة ، وهو يختلف عن بعض من سرقوا وهربوا ، وفي "اليد الدافئة" يقول الكاتب أحمد أبو خالد مخاطبا بلاده:
"تستحقين الحرية والديمقراطية والعدالة لشعبك المعذب ، تستحقين قيادات مختلفة، قيادات شابة خارجة من صفوف الفقراء والبسطاء وأبناء البلد ، توحد ولا تفرق ، وتستنهض كل عناصر القوة التي يتحلى بها شعبنا".
وتذكرنا عبارة "خارجة من صفوف الفقراء والبسطاء وأبناء البلد" بما ورد في "نشيد الحياة" حيث يستورد المقاتلون من بلاد إسلامية وافريقية ، ولكن السؤال هنا:
هل قيادات شعبنا من خارج البلد؟
يتغنى أبطال يحيى كلهم في رواياته كلها بالفقراء والبسطاء وينتقدون القيادات إلا في "تلك الليلة الطويلة" التي كتبها عن سقوط طائرة المرحوم ياسر عرفات في الصحراء الليبية حين كان مقربا منه.
كما لو أن يحيى يمتلك أفكارا جاهزة يفصل لها الأحداث.
في الرواية الأخيرة معلومات كثيرة يمكن أن تناقش منها هذا التعاطف الأعمى مع "الفقراء والبسطاء".
أليس كثير من الفقراء والبسطاء هم من قيادات الثورة الذين أثروا؟ والناس أكثرها تعرف ، فهي لا تنسى كما قال أحد شخوص "نشيد الحياة".
في الرواية تكرار ممل لعبارة " اليد الدافئة "كما لو أن الكاتب يستغبي القاريء ويشك في ذاكرته . والصحيح أن الرواية فيها حشو وأخطاء في المعلومات التي تعبر عن عدم إلمام الكاتب ببيئة روايته إلماما جيدا . إن بطله يتحدث عن غابات في الغور فيها وحوش ضارة و "عرابيد سامة" ، ولا أعرف شخصيا وجود غابات هناك . هناك بيارات وجبال غير مزروعة ، والأفاعي هي السامة لا العرابيد التي تهاجم وتعض ، كما أن الطريق من نابلس إلى الباذان ليس فيه سوى مطعم واحد ،فلا مطاعم كثيرة.
هناك أشياء كثيرة في الرواية يمكن مناقشتها ، وهي عموما يمكن أن تضاف إلى أدب العائدين الذي يمكن أن تدرس موضوعاته وخصائصه ، ليرى المرء كيف ارتطمت الآمال والأحلام بالواقع ، وكيف كانت النهايات صادمة مخيبة ، وهذا ما توصلت إليه مبكرا ، وأنا أقرأ النصوص الأدبية التي أنجزت بعد عودة الكتاب.
الجمعة
28 ايلول 2018
https://www.facebook.com/adel.alosta.9/posts/2127532940833597
أيا كانت الإجابة فإن يحيى عاد بعد عشرين عاما من كتابة رواية يتطابق فيها الزمنان ؛ الكتابي والروائي ، هي "نهر يستحم في البحيرة" 1997 ، ليكتب رواية جديدة تنهل من الواقع ولا ترتد إلى زمن سابق.
في "نهر يستحم في البحيرة" كتب يحيى عن تجربة العودة من المنفى وعبر عن خيبة العائدين، وفي "اليد الدافئة" يعبر عن خيبة بطله مما آلت إليه أوضاعه بعد عشرين عاما ، وتحسره على الزمن الجميل ؛ زمن الثورة في بيروت ، علما بأن رواية "نشيد الحياة" لا تبرز صورة جميلة للثورة لذلك الزمن.
يختار يحيى لروايته شخصية كاتب وإعلامي شارك في الثورة الفلسطينية في المنفى ، وعاش في مخيم اليرموك فترة ، وتنقل بين قواعد الفدائيين ومعسكراتهم ، وعاد إلى فلسطين ليواصل رحلته ، ثم بلغ سن التقاعد فأحيل عليه وأخذ يشعر أنه صار على الهامش ولم يعد له دور . إنه صار مثل خيول مخيم اليرموك في زمن الاستغناء عن خدماتها وأيام هرمها ، والخيول معادل فني لبطل الرواية - وغالبا ما يعتمد الكاتب في بناء رواياته على معادل فني - ويعبر أحمد أبو خالد عن همومه وأحزانه ويصف وحدته ، بعد أن فقد زوجته ، وصارت ابنته الوحيدة بعيدة عنه تقيم في دولة خليجية ، ويبدأ يتعود عادات جديدة ، ولأنه كاتب وإعلامي فإنه يفكر في كتابة رواية عن جيل الثورة الذي تقاعد ، وتذكرنا بداية الرواية برواية ( غابرييل غارسيا ماركيز ) " ليس لدى الكولونيل من يكاتبه " فالوحدة والانقطاع عن العمل ، والتهميش ، هي ما آل إليه ، ولكن حياته تتخذ مسارا آخر حين يتعرف إلى امرأة في الأربعين تمد له حبل وصالها هي ذات "اليد الدافئة".
الشخصية الرئيسة في الرواية وهي أحمد أبو خالد تتقاطع كثيرا في تجربتها مع تجربة الكاتب نفسه، ولكنها لا تتماثل معها تماثلا تاما ، فثمة معلومات نعرفها عن الكاتب تختلف عما قرأناه عنها ، منها أن ليحيى غير رواية في حين يشرع أحمد بكتابة روايته الأولى ، ومنها ما يخص عائلة كل منهما ، فليحيى ابن هو هيثم ولأحمد ابنة أنثى ، وما أعرفه أن زوجة يحيى ما زالت على قيد الحياة . ولكن ما هو متشابه يتمثل في تجربة الاثنين مع الثورة وفي إقامتهما في مخيم اليرموك وأماكن اخرى في المنفى ، وفي عودتهما إلى الضفة ، وفي تحولهما من العمل السياسي إلى العمل الثقافي ، وفي تقاعد كل منهما ، وفي شعور كل منهما بأنه كاتب مجيد يتقن حرفة الكتابة ، وعدا ذلك في تعاطفهما مع الفقراء والبسطاء ، والإشارة الأخيرة يجب الوقوف عندها ، لأنها تقول لنا إن في أحمد أبو خالد من يحيى أكثر مما نتصور.
في روايات يحيى أكثرها ما هو متشابه وما يقول لنا إنها تعكس مبنى ذهنيا واحدا لا يختلف ، على الرغم من اختلاف شخوصها واختلاف بيئاتهم وتجاربهم.
سوف أقف ، بإيجاز أمام ثلاث روايات ، لتبيان ما أذهب إليه و الروايات هي:
"نجران تحت الصفر" 1975و "نشيد الحياة" 1983 و "اليد الدافئة" 2018.
في الأولى يختار مشعان بطل الرواية بعد رحلة العذاب والمعاناة النضال والوقوف إلى جانب الفقراء ضد النظام الملكي ، ويذهب إلى حارة السبيل حيث "يسكن هناك العمال والأجراء والفقراء ومن ليس لديهم مأوى" ليعيد ترتيب الأمور.
الفقراء والبسطاء والعمال طببون ، وفي " نشيد الحياة " يبدو أهل المخيم الفقراء كذلك ، وحين تبدأ حرب 1982 ، ويكون المقاتل في بيت إمرأة للمتعة ، يترك البيت ، لا ليعود إلى بيروت هاربا ، وإنما ليعود الى "موقعي" في الجبهة ، وهو يختلف عن بعض من سرقوا وهربوا ، وفي "اليد الدافئة" يقول الكاتب أحمد أبو خالد مخاطبا بلاده:
"تستحقين الحرية والديمقراطية والعدالة لشعبك المعذب ، تستحقين قيادات مختلفة، قيادات شابة خارجة من صفوف الفقراء والبسطاء وأبناء البلد ، توحد ولا تفرق ، وتستنهض كل عناصر القوة التي يتحلى بها شعبنا".
وتذكرنا عبارة "خارجة من صفوف الفقراء والبسطاء وأبناء البلد" بما ورد في "نشيد الحياة" حيث يستورد المقاتلون من بلاد إسلامية وافريقية ، ولكن السؤال هنا:
هل قيادات شعبنا من خارج البلد؟
يتغنى أبطال يحيى كلهم في رواياته كلها بالفقراء والبسطاء وينتقدون القيادات إلا في "تلك الليلة الطويلة" التي كتبها عن سقوط طائرة المرحوم ياسر عرفات في الصحراء الليبية حين كان مقربا منه.
كما لو أن يحيى يمتلك أفكارا جاهزة يفصل لها الأحداث.
في الرواية الأخيرة معلومات كثيرة يمكن أن تناقش منها هذا التعاطف الأعمى مع "الفقراء والبسطاء".
أليس كثير من الفقراء والبسطاء هم من قيادات الثورة الذين أثروا؟ والناس أكثرها تعرف ، فهي لا تنسى كما قال أحد شخوص "نشيد الحياة".
في الرواية تكرار ممل لعبارة " اليد الدافئة "كما لو أن الكاتب يستغبي القاريء ويشك في ذاكرته . والصحيح أن الرواية فيها حشو وأخطاء في المعلومات التي تعبر عن عدم إلمام الكاتب ببيئة روايته إلماما جيدا . إن بطله يتحدث عن غابات في الغور فيها وحوش ضارة و "عرابيد سامة" ، ولا أعرف شخصيا وجود غابات هناك . هناك بيارات وجبال غير مزروعة ، والأفاعي هي السامة لا العرابيد التي تهاجم وتعض ، كما أن الطريق من نابلس إلى الباذان ليس فيه سوى مطعم واحد ،فلا مطاعم كثيرة.
هناك أشياء كثيرة في الرواية يمكن مناقشتها ، وهي عموما يمكن أن تضاف إلى أدب العائدين الذي يمكن أن تدرس موضوعاته وخصائصه ، ليرى المرء كيف ارتطمت الآمال والأحلام بالواقع ، وكيف كانت النهايات صادمة مخيبة ، وهذا ما توصلت إليه مبكرا ، وأنا أقرأ النصوص الأدبية التي أنجزت بعد عودة الكتاب.
الجمعة
28 ايلول 2018
https://www.facebook.com/adel.alosta.9/posts/2127532940833597