عندما ظهر كتاب «المتمرد» لألبير كامي في سنة ١٩٥١ استقبله معظم النقاد بالحفاوة والتقدير، واعتبروه من أهم الأحداث الأدبية والفكرية في فرنسا وفي أوروبا بوجهٍ عام، وتعددت الآراء حول هذا الكتاب الذي يعالج قضية الثورة في الحياة الغربية منذ ثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس على سلطان روما حتى الثورة الماركسية الكبرى، ويكشف عن مدى إخلاصها لطبيعة الإنسان وكرامته، أو انحرافها عن مبادئ التواضع والاعتدال وسقوطها في مأساة القتل والجريمة. قال عنه البعض: إنه كتاب لم يظهر له مثيل منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ووصفوه بأنه أحد الكتب الأساسية التي تسجل بنبلها وإنسانيتها بداية عهد جديد. وكان هناك اتفاق يشبه الإجماع على أنه — من الناحية الأدبية على الأقل — قد نجح نجاحًا تامًّا، فلم يبق هناك أحد لم يتأثر بسمو عبارته تأثره بسمو تفكيره، ولم يختلف أحد من أصحاب اليمين أو اليسار على أسلوبه القوي الحساس الذي يكاد في جماله وشجاعته وحدَّته ألا يكون قد جرى على قلم كاتب أوروبي بعد نيتشه.
غير أن هناك كاتبًا خرج على هذا الإجماع، وراح يحمل على الكتاب وصاحبه حملة شديدة كانت سببًا في نزاعٍ مؤسف أدى إلى القطيعة بين اثنين من أعظم المفكرين في عصرنا الحديث، فقد كان هذا الكاتب هو «فرنسيس جانسون»، مساعد سارتر في تحرير مجلته «العصور الحديثة» وأحد النقاد والمفكِّرين اليساريين.
لقد استفز كامي استفزازًا جعله يردُّ عليه بلهجةٍ غاضبة لا تخلو من التعالي والكبرياء؛ مما حمل سارتر على الإجابة على هذا الرد في لهجةٍ أشد غضبًا وقسوةً. ومع أن الحساسية الشديدة للنقد كانت من أقوى الأسباب التي زادت من حدة هذا الخلاف، فإننا نستطيع اليوم — بعد أربعة عشر عامًّا من وقوعه — أن ننظر إليه نظرة هادئة تبعد عنه العوامل الذاتية المسرفة، وتوضح كيف أنه لم يكن في الواقع مجرد خلاف بين شخصيتين كبيرتين، بل شيئًا ينبع من صميم العصر الذي نعيش فيه ولا يزال يشغله ويعذبه إلى اليوم.
يبدأ جانسون فيسأل هذا السؤال: هل يجوز لكتاب يعالج قضايا ينقسم حولها الناس وقد يقتتلون من أجلها أن يكتب بمثل هذا الأسلوب الجميل، أو يبلغ هذه الدرجة من سمو اللغة ونبلها وتعاليها؟ إن كامي نفسه يرفض الفنان الشكلي كما يرفض الفنان الواقعي، فهو في الفصل الذي وضعه عن «التمرد والفن» يدين الاثنين معًا، ويقول: إن عيب الأول أن الشكل في أعماله يغرق المضمون، كما يأخذ على الثاني أن المضمون عنده يطغى على الشكل. كلاهما يبحث عن الوحدة حيث لا مكان لها، فإذا ظن أنه وصل إليها لم تكن سوى وحدةٍ خادعة ومخدوعة، وإذا طبَقنا هذا على أسلوب كامي وجدناه قد أغرق في الشكلية على حساب الروح الموضوعي التي يُحتِّمها مضمون يتناول مسائل الثورة والتاريخ، وأسرف في الاهتمام بالأسلوب إلى حد وصل فيه إلى التطرف الذي وضع هو نفسه كتابه لإدانته. لقد قال في حديثه عن الأسلوب: «عندما يبالغ الكاتب في الاهتمام بالأسلوب والتظاهر به، يصبح عمله حنينًا خالصًا، وتصبح الوحدة التي يحاول اقتحامها شيئًا غريبًا على الواقع.» فهل ينطبق هذا القول على أحد كما ينطبق عليه؟ إن الكتاب كله صرخة احتجاج على التطرف والظلم والتنكر للإنسانية الحقة، ولكنه — على حد قول الناقد — احتجاجٌ مفرط في جماله وجلاله وثقته بنفسه، مبالغ في دقته وكماله وتعاليه.
ويعود الناقد إلى إنتاج كامي السابق على «المتمرد» ليحلِّله من وجهة النظر هذه، فقد كانت روايته الوباء «تاريخًا متعاليًا» لمرض الطاعون الذي داهم مدينة وهران الجزائرية، وهي في ذلك تختلف عن روايته الأخرى «الغريب» في أن مرسو — بطل هذه الرواية الأخيرة — يرى العالم من وجهة نظر الذات الواقعية الوحيدة التي تجد نفسها غريبة بين ذوات أخرى واقعية، في حين أن مؤرخ الوباء ينظر إلى الأحداث التي تقع في المدينة من علٍ، ويكتفي بتأمل الموقف من خارجه؛ ولذلك فإن الوباء لا تمثل تحولًا في تفكير كامي، بل تتابع المرحلة التي يعبر عنها كتابه الفلسفي «أسطورة سيزيف»، فقد تعلمنا من هذا الكتاب كيف نحافظ على العبث أو المحال، ونتمسك بالرهان الممزق العجيب معه، عندئذٍ يحتل الجسد والحنان والخلق والفعل والنبل الإنساني مكانه في هذا العالم الخالي من المعنى. كانت كرامة الإنسان تتمثل عند سيزيف في التمرد العنيد على قدره، والإصرار على مجهود يعلم أنه عقيم. وكان عليه أن يقتدي بهذا البطل الإغريقي فينتقل باستمرار من فعل إلى فعل ويواجه العالم، ويستزيد من الحياة بقدر ما يستطيع، ويستنفد طاقاته في سبيل لا شيء، ويفقد الأمل في إدراك معنى الوجود، ويتجرد من كل الأوهام التي تعده بالخلاص. وهكذا قدمت أسطورة سيزيف صورة منطقية أو منهجية لسلوك «الغريب» غير المنطقي ولا المعقول، ووضعت الإنسان أمام قدره الظالم غير المفهوم، وعلمته أن الإنسان غريب أمام نفسه وأمام العالم، وأن واجبه وكرامته معًا في احتمال هذا الوجود العبثي وتحدِّيه. ثُمَّ جاءت «الوباء» فعبَّرت عن هذه المعاني كلها على نطاقٍ أوسع، فلم يعد الأمر هنا يتعلق بمصير فردٍ واحد، بل بمصير مدينة وقعت فريسة للطاعون وكُتِبَ عليها أن تحيا في حال حصار؛ ولذلك جاءت الرواية «ميتافيزيقية»، واستحقت أن تُسَمَّى «بالقدر الإنساني». فالمشهد الحقيقي الذي تدور أحداثها على مسرحه هو العالم كله لا مدينة وهران وحدها، وشخصياتها تعبر عن البشر جميعًا لا عن رجال هذه المدينة ونسائها فحسب، والوباء الذي تروي قصته ليس هو الطاعون، بل الشر المطلق الذي يرزح بثقله على كل وجدان واعٍ. غير أن هذا التشابه بين الموقفين كان في الحقيقة نوعًا من الخطأ الذي يتحمل المؤلف وزره؛ لأن الانتقال مستحيل من أحدهما إلى الآخر، ولأن الصلة مقطوعة بين الوباء الذي يؤرِّخ له عقلٌ خالص وبين القدر الإنساني الذي يحياه أناسٌ واقعيون. ولعل أسلوب كامي هو الذي كان مسئولًا إلى حدٍّ كبير عن هذا الخطأ أو عن هذا الوهم، فقد لجأ إلى أسلوب الرواية الذي يتميز بالتعالي والبرود، ويتأمل الموقف ولا يعيش فيه؛ ذلك لأن صراع البشر مع فيران الأرض لا يمكن أن يكون خاليًا من المعنى إلا إذا نظرت إليه من أعلى، أمَّا إذا عشت بينهم ووصفته من الداخل فستجد أن كل واحد فيهم يُضفي على حياته معنًى من المعاني؛ لأن مجرد الحياة في ذاتها لا بد أن ينطوي على المعنى، فإذا قررت أنها خالية من كل معنًى فعليك عندئذٍ أن تضع لها حَدًّا؛ لأن المنتحر هو وحده الذي يقرر ألا يقرر شيئًا …
كان كامي إذن يعيش في تناقضٍ مستمر لم ينكره لحظةً واحدة من حياته، فهذا العقل الذي يحب الوضوح، وهذه الروح التي تمجِّد النور، قد وجدت أنها تصطدم كل يوم بتناقضات العالم وعذاب البشر، حتى اعتقدت أن الإنسان قد حُكِمَ عليه ظلمًا بأن يعيش، وهو الكائن العاقل في عالم غير معقول، وأن ينشد الوحدة والانسجام وسط التناقض والاضطراب، وهو لذلك لا يملك إزاء هذا «الظلم الميتافيزيقي» سوى أن يقابله «بالشرف الميتافيزيقي» الذي يمكِّنه من الصمود لعبثية العالم، والتمرد عليها كذلك تمرُّدًا عبثيًّا. كذلك يفعل الدكتور «ريو»: بطل الوباء الذي يتحدى المرض ويحاول أن ينتزع من بين مخالبه أكبر عدد من الأحياء، وإن كان يؤمن مع ذلك أن كفاحه عقيم، وأن الوباء لا بد أن ينتصر عليه في النهاية.
حاول كامي إذن في أسطورة سيزيف أن يثبت وجود العبث أو المحال ويثبت معه أن الوعي به لا يؤدي إلى الانتحار بل إلى التمرد، ثُمَّ عكف سنواتٍ عديدةً على وضع «مقاله» عن التمرد، وفيه ينتقل من الفرد إلى المجموع، ومن قدرٍ ظالمٍ مقدور إلى قدرٍ آخر مفروض على الناس، فهو يتأمل في هذا الكتاب حقيقة العلاقة بين التمرد والجريمة، وبالأخص تلك الجريمة التي يصفها بالجريمة المشروعة أو الجريمة المنطقية أو الأيديولوجية، وهو يسأل إن كان من الممكن أن يؤدي التمرد — الذي هو بطبيعته احتجاج على قدرٍ ظالم وغير مفهوم — إلى تبرير الجريمة الشاملة والقتل الجماعي، أو إن كان من الممكن على العكس من ذلك أن نكتشف فيه مبدأ ذنب معقول؛ فالفعل التاريخي لا يستطيع أن يدَّعي البراءة. والمهم أن نعرف إن كان في طاقة الإنسان أن يعصم نفسه من الانزلاق إلى الذنب الشامل، ويلتزم بلون من التمرد المعتدل الذي يحتجُّ على الظلم والعبودية والمهانة في الوقت الذي يؤكد فيه طبيعة الإنسان وكرامته. فالعبد الذي يتمرد على طغيان سيده ويقول له: «لا»، إنما يقول في نفس الوقت «نعم»، ويؤكد قيمةً إنسانية لا ينبغي أن تُهدَر أو تُهان؛ لأن البشر جميعًا من مظلومين وظالمين يشاركون فيها بنفس المقدار، وبذلك يكون التمرد — الذي هو أصله تعبير عن صرخة ذاتٍ وحيدة — تأكيدًا للتضامن بين البشر، فإذا أنكر هذا التضامن فقَدَ اسمه وانحرف إلى القتل والجريمة. كان تمرد سيزيف تعبيرًا عن سخطه على الموت وعاطفته الجياشة بالحياة، وكان إنكارًا للآلهة وتحديًا للمُحال أو العبث؛ ولذلك فقد كان من الممكن أن يظل تمرُّدًا وحيدًا، أمَّا التمرد الذي نتحدث عنه الآن فهو ينتزع الفرد من وحدته، ويجعل الإحساس بالغربة التي كان يقاسيها والشر الذي كان يعانيه وحده وباءً «مشتركًا» بينه وبين الناس. وبذلك يصبح التمرد هو الحقيقة الواضحة الأولى التي تجمع البشر على قيمةٍ واحدة، كما يصبح من المستطاع أن نقول: نحن نتمرد، فنحن إذن موجودون.
وهكذا ينتقل كامي إلى دراسة التمرد الميتافيزيقي الذي يصفه بأنه حركة يواجه الإنسان بها قدره والخليقة بأجمعها، محاولًا أن يستردَّ الوحدة السعيدة ويتخلص من عذاب الموت والحياة، ثُمَّ يبين بعد ذلك كيف يتحول هذا التمرد المتافيزيقي إلى تمرد تاريخي؛ فينسى أصله ويتنكر لمنبعه ويزحف إلى السيطرة على العالم خلال جرائم لا نهاية لها، بعد أن كان في مبدئه احتجاجًا على الموت والشقاء، ومحاولة «لغزو الوجود الذاتي وإبقائه في وجه الله» ويكون لويس السادس عشر أول ضحية لهذا الانحراف التاريخي، وتقيم الثورة الفرنسية نظامًا من القهر الذي لا ينتهي، وتنشئ الجمعية الوطنية نظامًا مطلقًا جديدًا؛ فتجلس الفلسفة على العرش بعد أن طردت الله من السماء، مِنْ ثَمَّ يفلت التمرد الإنساني الأصيل من كل الحدود ليصبح ثورة ميتافيزيقية تجلَّت في ثورات العصر التي حاولت أن تؤله النوع البشري، أو تنطلق إلى الغزو الشامل للعالم، أو تقيم مملكة غيبية في نهاية التاريخ، فتشوِّه وجه التمرد الأصيل في كل الأحوال.١
لم يكن غرض كامي إذن هو وصف ظاهرة الثورة ولا عرض أسبابها التاريخية والاقتصادية، بل كان غرضه — على حد قوله — هو الكشف عن المسار المنطقي في بعض الوقائع الثورية، وبيان الموضوعات الدائمة للتمرد الميتافيزيقي، ومن هنا يبدأ جانسون في توجيه نقده إليه، فهو في رأيه ينظر إلى الثورات من وجهة نظر ميتافيزيقية، ويهمل أسبابها الاقتصادية والتاريخية، وهو يذهب إلى أبعد من هذا، فيقتصر على اكتشاف المسار المنطقي للثورات، ويرفض الاعتراف بأن للعوامل الاقتصادية والتاريخية دورًا في نشوئها؛ وبذلك تُصبح الثورة عنده مرادفة لتأليه الإنسان. وتتكفل الشيوعية الروسية بتحقيق الطموح الميتافيزيقي الذي يصفه كتابه بمحاولتها أن تشيد مملكة الإنسان الذي سيصل في النهاية إلى مرتبة الألوهية.
في رأي الناقد بالمواقف الواقعية في هذا التصور الغريب للتاريخ لا بد أن يلغي التاريخ نفسه؛ إذ إن كامي يضحي في سبيل حوارٍ فكري مجرد، يدور بين الاحتجاج الميتافيزيقي على الموت والعذاب من ناحية، وبين الطموح الميتافيزيقي الذي يُغري الإنسان بالتسلط المطلق والسيطرة الشاملة من ناحيةٍ أخرى، بحيث نجد التمرد الحق في الحالة الأولى، والثورة الفاسدة في الحالة الثانية، وقد يصلح هذا المستوى الفكري للمناقشات اللاهوتية، ولكنه لا يصلح للكلام عن المواقف الواقعية، ولا لفهم حياة البسطاء من الناس، والكادحين الذين يجوعون ويكافحون المسئولين عن تجويعهم. ولا شك عند الناقد في أن كامي أرفع من أن يؤمن بهذه «المستويات الدنيا» أو أن يُسلِّم بالدور الرئيسي الذي تؤثر به الحتمية الاقتصادية — أو الحتمية التاريخية كما يُفضِّل أن يسمِّيها — على أفعال الناس وأفكارهم. ويستمر الناقد فيقول: إنه إذا كان هناك عيبٌ كامن في الثورات، فلا ينبغي أن نفتش عنه عند الفلاسفة، بل في الأفعال الثورية نفسها؛ ولذلك فلا صحة للقول بأن مذهب ماركس هو الذي أدى إلى إرهاب ستالين، ولا مبرر للحكم على النظرية من نتائجها، وللزعم بأن المادية الجدلية أو التاريخية هي المسئولة عن النظام البوليسي البشع على عهد ستالين. وهكذا يكون كامي قد وقع في خطأين: أولهما أنه لم ينقد النظرية من داخلها بل حمَّلها مسئولية أفكار وأفعالٍ بعيدة عنها بُعدًا كبيرًا، وثانيهما أنه مر مرور العابرين على ظاهرة الثورة نفسها وسكت عن ظروف نشأتها وحركة تطورها وعناصر السلوك البشري المكونة لها.
ويأخذ الناقد على كامي أنه عرض للثورات التاريخية عرضًا ناقصًا بالاعتماد على كتابةٍ تاريخية ناقصة للمذاهب الثورية. فمن الخطأ أن يوجَّه النقد إلى الثورات الكبرى في العصر الحديث بالاعتماد على تحليل العقد الاجتماعي لروسو، أو سرد خطب سان جوست، أو تحليل ظاهريات الروح لهيجل، أو عرض حركات التمرد الدامية والفوضوية والفاشية، أو الكلام عن ماركس ولينين وستالين من وجهة نظر مسبقة، أضِف إلى ذلك التحليل السطحي لمذهب هيجل، ففي رأي كامي أنه أراد أن يجسد الحقيقة والعقل والعدالة ويُلقي بها في مجرى التاريخ؛ فقذف بالعقل المجرد الذي كان إلى عهده يخطط من أعلى للظواهر المتعلقة به في مسار التاريخ، ومهَّد بذلك لعهدٍ جديد يخلو من العلو أو «المتعالي»،٢ وينصرف بكلِّيته إلى تنازع القوى والصراع على العالم. لقد بذل جهده لتدمير كل حقيقةٍ متعالية وكل حنين إلى التعالي، وقدَّم بذلك — على مستوى ديالكتيك السيد والعبد — المبرِّر الحاسم لروح القوة التي تسيطر على القرن العشرين، وبذلك جعل من تاريخ الإنسانية صراعًا مميتًا لغزو العالم والوصول إلى السيطرة المطلقة، وانتهى تفكيره إلى «الدولة المطلقة» التي أقامها الجنود والعمال، وتمجيد النجاح البشع بكل ثمن، حتى ولو كان هذا الثمن هو موت الملايين، كما استمد منه الثوريون في القرن العشرين تلك الأسلحة التي دمَّروا بها مبادئ الفضيلة الشكلية.
فعل كامي هذا كله ليثبت أن كل الثورات تخون التمرد الحق من حيث تريد أن تؤلِّه الإنسان، وهو لهذا يُلقي الذنب كله على رأس هيجل، فمنهجه الجدلي يريد أن يصل في نهاية المطاف إلى اللحظة التي «تلتقي فيها مدينة البشر مع مدينة الله.» وستالين عنده هو أحد أبناء هيجل الروحيين، والشيوعية في جوهرها محاولة متطرفة لتحقيق المساواة بين الإنسان والإله، وجعل الأرض مملكة يصبح الإنسان فيها إلهًا، وإقامة ديانة تتعبَد الإنسان وحده؛ ولهذا أصبحت «الأرض المقفرة» اليوم نهبًا للقوة المحضة التي ستقرر إن كان الإنسان إلهًا أو لا.
وهكذا يبدأ نابليون وهيجل — الفيلسوف النابليوني — عهد الفعالية المحضة، كما توضع المبادئ الخالدة والقيم غير المتجسدة والفضيلة الشكلية موضع الشك، ويبدأ العقل في التحرك فلا يعود تجريدًا خالصًا بل غزوًا متصلًا، وتنتصر العدمية، فيجلس قيصر على العرش، وينتشر الرعب في كل مكان. وينتهي كامي إلى اقتراح الشكل السياسي الذي يلائم التمرد الحق في عصرنا الحاضر، ويقف في وجه الفعالية التاريخية المطلقة، هذا الشكل السياسي هو النقابية الثورية التي ترتبط في رأيه بالحقائق الواقعية، وتتمثل في البلاد الإسكندنافية، وليس للعالم نجاة إلا بالتمسك بالتمرد المعتدل في وجه الثورة القيصرية، وإثبات فعاليته من خلال عذابه وتناقضاته وهزائمه المتكرِّرة وكبريائه العنيد.
هكذا ينتهي كامي من حيث بدأ، أعني إلى التمرد الحقيقي الذي لا ينتهي بدوره إلى نتيجة؛ لأنه موجَّه إلى «قدر ظالم وغير مفهوم» ولأنه لا يخرج عن كونه وجودًا يحارب نفسه، وتمردًا يتمرد على ذاته. فيم كانت الحاجة إذن إلى هذه «اللفة» التاريخية كلها؟ لا شك عند الناقد في أن الهدف منها هو إلغاء التاريخ بمعناه الواقعي؛ فكامي الذي يتطلع إلى أوروبا العجوز المعتمة من شواطئ الجزائر الشابة المشمسة لا يرى إلا «تاريخ الغرور الأوروبي»، أي وجه التاريخ المظلم الكئيب، وحين كان يتحدث على لسان سيزيف، كان يؤمن حقًّا بضرورة الفعل، ولكنه الفعل العقيم الذي لا معنى له ولا أمل فيه، فلما اشترك في مقاومة الاحتلال النازي لبلاده، بدأ يحس بأن للتاريخ معنًى، وظن أن التحرير سيؤدي إلى حياةٍ نبيلة وسعيدة. ولكن ذلك لم يكن إلا وهمًا؛ فالتاريخ يتكلم من جديد بلغة البطش لا بلغة الفضيلة، وسيزيف الذي ازدادت تجربته قد زادت كذلك خيبة أمله، ولا بد الآن من تناول التاريخ لإثبات أنه غير موجود، أعني لإثبات أن الشر التاريخي ليس إلا صورة من صور الشر المطلق، أو من العبث الذي كُتِبَ على الإنسان أن يتحمَّله ويتحداه في وقتٍ واحد، والدليل على هذا أنه يتكلم عن تمرد العبد على سيده — وهو تمرد تاريخي لا يُفْهَم إلا في مجتمعٍ معين وظروفٍ معينة — على ضوء التمرد الميتافيزيقي؛ ليستخرج منه «قاعدة التمرد الذهبية» التي يصوغها في هذه العبارة الديكارتية: «أنا أتمرد، فنحن إذن موجودون.» وهكذا يُسَمَّى تاريخًا ما ليس بتاريخ، ويظل مغلقًا على نفسه في هذا التمرد الميتافيزيقي الخالص الذي يعجز — على حد قوله — عن إخراج الإنسان من عزلته، لا بل يحكم عليه بهذه العزلة حين يضعه وجهًا لوجه أمام قدرٍ ظالم لا معنى له. وما دام الإنسان سيظل معرضًا لهذا الظالم المطلق، فمن الظلم أن نأخذ ألوان الظلم النسبية مأخذ الجد أو أن نحاول إيجاد حلول لها، فالأطفال الأبرياء سيظلون يموتون، حتى في ظل مجتمعٍ كامل، والشر الأصيل باقٍ مهما حاولنا أن نتمرد عليه.
لا مفرَّ إذن عند الناقد من الوصول إلى هذه النتيجة: إن تمرد «الإنسان المتمرد» قد فقد النقاء الأصيل الذي وجدناه في تمرد سيزيف بعد أن التزم واهتم بالعالم، وتحول لحظة عن حواره المتكبر مع العبث إلى شكل من أشكال التنكُّر للعقل، والإفلات من الحد، فكامي قد أراد بكتابه أن يجد ملجأً يفزع إليه من شرور التاريخ؛ ليفتش عن الخير خارجه؛ ولذلك كان تمرده هروبًا من التاريخ أو رفضًا له؛ لأنه وجد الاعتدال والبراءة في التمرد، والانحراف والعبودية والعذاب الجماعي في التاريخ، ولا يشفع لكامي أنه يلحُّ في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه على الالتزام بالتاريخ وعدم إنكاره؛ لأن إنكاره يعني إنكار الواقع، ولأن تاريخنا مهما يكن جحيمنا، فلا يمكننا أن ندير له ظهورنا أو نشيح عنه بوجوهنا؛ ذلك لأن التاريخ هنا ليس إلا شكلًا آخر من أشكال العبث أو المجال التي ينبغي علينا أن نحافظ عليها ونتحدَّاها وجهًا لوجه، وإن كُنَّا لا نستطيع أن نغيِّر منها شيئًا أو نُقدِم فيها على شيء، وكامي بذلك يجعل نفسه سجينًا للتاريخ، أو خارجًا عن مجرى التاريخ، ويحكم على نفسه بما حكم به على الشيوعيين والوجوديين، وهو بذلك أيضًا يسلخ نفسه من مجرى التاريخ، ويضع نفسه على قمةٍ وحيدة ليتأمله من بعيد، مع أننا مهما خرجنا عن التاريخ — لإعطائه هدفًا أو غاية — فنحن دائمًا نعيش فيه، وإذا كان التاريخ يصنعنا، فنحن كذلك نصنعه على الدوام.
•••
كتب جانسون هذا النقد في شهر مايو سنة ١٩٥٢ تحت عنوان لا يخلو من السخرية: «ألبير كامي أو النفس المتمردة»، وكتب كامي في آخر يونيو ردًّا نُشِرَ في عدد أغسطس من «العصور الحديثة»، تنبئ سطوره الأولى بالمرارة والكبرياء، لم يكتب الرد إلى سارتر، الذي كان الناس جميعًا يعلمون أنهما صديقان، بل أرسله باسم «السيد مدير تحرير العصور الحديثة» معلنًا بذلك في العنوان نفسه عن الجفوة التي ستستمر بينهما أكثر من سبع سنوات، حتى يضع لها الموت حَدًّا بالحادث الذي أودى بحياة كامي في مطلع سنة ١٩٦٠. ويبدأ كامي — بلهجةٍ جادة ونبرة متعالية! — فيقول: إنه سيقصر حديثه على المنهج العقلي والاتجاه الذي يدل عليه المقال؛ لأنه — في رأيه — ليس دراسة بقدر ما هو موضوع يستحق الدراسة. ويحمِّل كامي سارتر مسئولية المقال كله، فيغفل اسم جانسون — الذي يصفه بقوله مساعدكم — ويتساءل عن غرضه من تشويه موضوع كتابه وتلفيق تاريخٍ وهمي لحياة صاحبه، فإذا كان الناقد يورد تقريظ الصحافة اليمينية لكتابه، فإن بعض المجلات اليمينية قد هاجمته، كما أنه لا يتردد في أن يكون يمينيًّا إذا وجد الحق مع اليمينيين. هذا إلى أن مقال الناقد يُثبت في رأيه أنه ليس هناك حدود فاصلة بين اليمين الرجعي واليسار المتزمِّت؛ فكلاهما قد هاجم الكتاب وجرح صاحبه.
لم يستطع الناقد في رأيه أن يضعه بين اليمنيين فحاول أن يبرهن على أن دراسته للتمرد والثورة دراسة سطحية تلغي التاريخ وتنكر الواقع ولا تخدم غير الرجعية، ثُمَّ عاب عليه أن أسلوبه «قد بلغ درجة من النجاح تكاد تكون كاملة.» وكأن الأسلوب الجميل لا يأتي إلا من اليمين، أو كأن الثوريين ينبغي أن يكتبوا بأسلوبٍ ركيك! ولا ينكر الناقد في هذا الكتاب الذي يعالج موضوع التمرد والرعب في العصر الحديث نوعًا من الاحتجاج، ولكن الشيء الذي يغضبه أنه احتجاج بلغ ذروة الجمال والجلال، وكان التعبير عن الاحتجاج يتطلب من الكاتب أن يبتعد عن الحياة، ويلجأ إلى جزيرة البرود والصفاء، ويستخدم لغةً ركيكة تصلح دون غيرها للكلام عن شقاء الإنسان!
ويتساءل كامي: كيف يمكن أن يُتَّهم بالرجعية وعدم الواقعية والإيمان بالحقائق المتعالية؛ وجميع كتاباته السابقة على «المتمرد» تشهد على قربه من الواقع والْتصاقه بالتاريخ؟ وكيف يمكن أن ينكر قارئ أو كاتب أن الطريق من «الغريب» إلى «الوباء» هو الطريق إلى المشاركة والتضامن بين البشر؟ لا شك إذن عند كامي في أن ناقده قد اتبع أيسر السبل وأكثرها رواجًا، وهي أنه إذا تعَذَّر على الناقد أن يجد عيبًا في الكتاب فمن السهل عليه أن يضعه فيه؛ فهو قد راح يتحدث عن موضوعات لا وجود لها في الكتاب أو ليست على الأقل هي موضوعه الرئيسي، وترك المسائل الأساسية التي تناولها كالكلام عن الحد والاعتدال اللذين يفرضهما فعل التمرد نفسه، ونقد العدمية التي جاءت بعد هيجل، والتنبؤ الماركسي وفكرة الذنب … إلخ. لقد راح يؤكد أنه — أي كامي — يرفض أن يعترف بأي دور للعوامل الاقتصادية والتاريخية في نشوء الثورات. والواقع أنه لم يبلغ من الجهل والغباء إلى الحد الذي يوقعه في هذا الخطأ، ولكنه لم يرد أن يُضيف إلى مئات الكتب التي تبحث في الأسس الاقتصادية التي يقوم عليها التاريخ كتابًا جديدًا، ولا أن يصف ظاهرة الثورة أو يتتبع أسبابها التاريخية والاقتصادية، وهو الأمر الذي حاوله غيره آلاف المرات، وإنما أراد أن يقصر نفسه على توضيح الخط المنطقي في بعض الوقائع الثورية، والكشف عن موضوعات التمرد الميتافيزيقي الدائمة فيها، وإبراز ميلها الواضح إلى تأليه الإنسان. ومِنْ ثَمَّ عدم كلامه بالتفصيل عن تلك العوامل الاقتصادية لا يعني إهمالها أو إنكار أثرها، كما لا يعني السكوت عن شقاء الجائعين.
وإذن فقد كان هَمُّ الناقد أن يُثبت بُعْدَ المؤلف عن الواقع، في الوقت الذي يثبت فيه بُعْدَه هو عن نصوص الكتاب! لقد كتب كامي يقول: إن من الممكن التسليم بالدور الأساسي الذي تقوم به الحتمية الاقتصادية في نشأة السلوك والفكر البشري، وإن رفض مع ذلك التسليم بأنها هي التي تقوم بالدور الوحيد، ولكن الناقد جاء يقول: إنه لا يعترف بالدور الأساسي الذي تقوم به العوامل الاقتصادية … إلخ. فلماذا الإصرار على نقد كتاب لا نصدق ما يقوله صاحبه أو نفهم منه غير ما يقول؟ وما الفائدة إذا كان المؤلف يقول: إن السماء زرقاء فيصمم الناقد على أنها سوداء؟! أليس معناه أن المؤلف مجنون أو أن الناقد أصم؟! إن الناقد يكذب إذ يلخص الموضوع الرئيسي للكتاب على هذا النحو: الشر كله في التاريخ، والخير كله خارجه. في الوقت الذي خصص فيه المؤلف قسمًا كبيرًا من كتابه لمحاربة هذا الرأي وإثبات بطلانه؛ فقد حاول أن يقيم الدليل على أن النزعة التاريخية والنزعة المضادة للتاريخ كلتيهما على خطأ، فالذين لا يؤمنون إلا بالتاريخ يسيرون إلى الرعب، والذين لا يؤمنون بالتاريخ يبررون الرعب أيضًا، وكلاهما يسير في الحالين إلى العدمية. وكيف يستطيع أن ينكر التاريخ وفي ذلك إنكار للواقع نفسه؟ إن الكتاب لا ينكر التاريخ، ولكنه يحتجُّ على الاتجاه العقلي الذي يجعل منه شيئًا مطلقًا، ولا يشهد على ذلك نص أو بضعة نصوص، بل تشهد عليه تحليلات الكتاب وعاطفته العامة. لقد كان على الناقد أن يواجه رأي المؤلف الأصلي، الذي يذهب فيه إلى أن خدمة التاريخ لذاته تؤدي إلى العدمية، أو يحاول بدلًا من ذلك أن يثبت أن التاريخ وحده يمكنه أن يقدِّم قيمًا أخرى غير القيم التي تمجِّد القوة والعنف، أو يثبت أيضًا أن في إمكان الإنسان أن يخوض التاريخ بغير حاجة إلى أية قيمة من أي نوع. لو أنه فعل ذلك — وهو أمرٌ عسير بغير شك — لاستحق منهجه الاحترام وربما حظيَ بالقبول، ولكنه اختار الطريق الملتوي، وراح يلفِّق للمؤلف آراء لم يقُلْها، وينكر عليه أشياء لم تخطر على باله، وينصب نفسه قاضيًا يتهمه بالانعزال عن التاريخ والانسلاخ عن ثورات العصر وكفاح الأحرار في مدغشقر والجزائر والهند الصينية! هذا في الوقت الذي يعرف فيه الجميع موقفه من ثورات التحرير، ودوره في حركة المقاومة السرية في بلاده، أليس من حق المؤلف بعد هذا كله أن يتهم الناقد بالتجرد عن النزاهة والإخلاص والبُعد عن كل مناقشة عميقة أو جادة؟
•••
ويتخلَّى كامي بعد هذا عن موقف الدفاع ليبدأ في الهجوم! فهو يتهم ناقده بأن مقاله يقوم من الناحية الفلسفية على التناقض والعدمية، ومن الناحية التاريخية على عدم الفاعلية. أمَّا التناقض فلأن مقاله يدافع عن الماركسية كعقيدة ويعجز عن تأييدها كسياسة؛ ولذلك يحاول أن يصف كل نقد للماركسية بأنه يمين، وأن يثبت — اعتمادًا على هيجل وماركس — أن الفلسفة المثالية فلسفةٌ رجعية، هذا إلى جانب أن يصمت صمتًا تامًّا عن كل الحركات الثورية فيما عدا الماركسية، وإذا ذكرها فلكي يسخر منها أو يتهكَّم عليها؛ فهو يتجاهل الحركة الدولية الأولى وثورة الباكونيين، كما يصمت عن ثوار سنة ١٩٠٥ في روسيا، وهم الذين يصفهم كامي بالمتمردين المعتدلين أو القتلة الأبرياء، ويضعهم في مركز كتابه، ثُمَّ يسخر بالحل الذي يقدمه كامي ممثلًا في الحركة النقابية الاشتراكية كبديل للاشتراكية القيصرية، وينكر أن يكون هناك حلٌّ آخر غير الاشتراكية الماركسية، ربما لأنها هي التي أثبتت نجاحها وأصبح لديها جيشٌ قوي ونظام بوليسي متين!
فعل الناقد هذا كله من وجهة نظر ماركسيةٍ متزمتة، ولكنه لم يستطع أن يناقش الماركسية كسياسةٍ مفتوحة، يدل على ذلك أمران: أنه لم يتعرض لآراء المؤلف عن ماركس وهيجل، ولم يُشِرْ بالتأييد أو النفي إلى هذين السؤالين اللذين طرحهما في كتابه: أليست هناك نزعة إلى التنبؤ في تفكير ماركس (أي التنبؤ بالمجتمع البشري السعيد الذي ستنتهي عنده كل المتناقضات) تدحضها اليوم وقائع عديدة؟ ألم يكن كتاب «ظاهريات العقل» لهيجل سببًا في قيام نظرية في الانحطاط أو «الكلبية» السياسية وظهور هيجليين يساريين أثَّروا على الحركة الشيوعية في القرن العشرين؟
إن كامي لم يهاجم منهج ماركس النقدي، بل أثنى عليه، ولكنه انتقد فكرة التنبؤ «اليوتوبية» وحمَّلها مسئولية جانبٍ كبير من الرعب والإرهاب الذي عرفته الاشتراكية على عهد ستالين مثلًا، وهو يرى أن آراء ماركس ليست آراءً مقدسة لا تُمَس؛ إذ أصبح من الضروري مناقشتها بعد مرور قرن من التطور الاقتصادي والعلمي والصناعي، ولو بُعِثَ ماركس نفسه اليوم لكان أول مَنْ يحرص على تعديل آرائه. وإذا كان من الواجب مناقشة الماركسية، فإن الماركسيين أنفسهم هم أول من يلزمهم هذا الواجب؛ ذلك لأن الفلسفة الماركسية قد وصلت إلى مرحلة تحتِّم عليها أن تتجاوز نفسها أو تتناقض مع نفسها، وأن تصحِّح مبادئها أو تتنكر لها.
وأخطر من هذا كله أن الناقد يصمت صمتًا تامًّا عن كل مآسي الاشتراكية «الفردية» المتسلِّطة، كما يتجاهل ما كتبه المؤلف عن الصلة بين الثورة في القرن العشرين وبين الرعب والفزع السائدين فيه. وإذا صَحَّ أن هذه الاشتراكية المتسلطة هي التجربة الثورية الأساسية في عصرنا الحديث، فلا بد من مواجهةٍ صريحة لمشكلة الرعب والتعذيب والإرهاب التي اقترنت ولا تزال تقترن إلى حدٍّ كبير بهذه الاشتراكية، وبالأخص مشكلة معسكرات الاعتقال، ولا شك أن طرح هذه المشكلة يضايق الكثيرين ممن يفتخرون بأنهم يعيشون في التاريخ أو يصفون أنفسهم بالواقعية، ولكنهم — على كل حال — لا يستطيعون أن يتجاهلوا عذاب ملايين البشر الذين عاشوا في هذه المعسكرات. وتجاهل هذه المشكلة معناه أمر واحد، وهو الموافقة على المذهب، والسكوت عن السياسة العملية التي يتبعها؛ وفي هذا تناقضٌ دموي صريح، ومغالطة يزعم معها صاحبها أن التاريخ الحديث — على الرغم من اضطرابه وبشاعة وجهه — ينطوي على معنًى ضروري ويسير نحو غاية محددة، تنتهي عندها كل التناقضات، ويقوم المجتمع الحر السعيد. إن كتاب المتمرد يحاول أن يبين أن التضحيات التي اقتضتها الثورة الماركسية أمس واليوم لا يمكن أن تبررها إلا النهاية السعيدة المفترضة للتاريخ، وأن الديالكتيك الهيجلي والماركسي يستبعد — في نفس الوقت — هذه النهاية، ولا بد للتغلب على هذه الصعوبة من القول بهذا الفرض: التاريخ ليس له غاية، ولكن له معنًى غير متعالٍ عليه. ربما كان هذا الفرض ممكنًا، ولكنه سيؤدي حتمًا إلى نتائج خطيرة، فتحرير الإنسان من كل عقبة لحبسه بعد ذلك في سجن ضرورة تاريخية يساوي في الواقع تجريده من كل بواعث الكفاح للإلقاء به في آخر الأمر في أحضان حزب من الأحزاب، بشرط أن يكون المبدأ الوحيد لهذا الحزب هو الفاعلية والنجاح، ومعنى هذا — بحسب قانون العدمية — هو الانتقال من الحرية القصوى إلى الضرورة القصوى، والنتيجة هي خلق جيل أو أجيال من العبيد.
إن الناقد يوافق على التمرد الذي يمكنه — على حد قوله — أن يساهم في سلامة أي مشروعٍ ثوري، ما دامت شعلته حية في قلب هذا المشروع، ومعنى هذا أنه يوافق على التمرد، بشرط ألا يكون تمرُّدًا على الحزب أو الدولة الشيوعية، أمَّا المؤلف فهو يتمرد باسم الطبيعة الإنسانية، وباسم كرامة الإنسان، وهو يحس بكل ما قاسته أوروبا وما تقاسيه من تطرف الثورات وانحرافها، فيقول: إن الروح الثورية في أوروبا تستطيع للمرة الأولى والأخيرة أن تُعيد التفكير في مبادئها، وتسأل نفسها ما هو الانحراف الذي أضلَّها وقادها إلى الرعب والحرب، وتكتشف من جديد — بأسباب تمردها — روح الصدق والإخلاص الكامنة فيها. أمَّا التمرد باسم التاريخ، وجعله هو القاعدة والمبدأ والمعنى الوحيد، فلا بد أن يؤدي إلى تأليه التاريخ، والتنكر للتمرد الحق، وإلغاء الحرية والمغامرة الوجودية، وفي هذا إلغاء لروح المذهب الذي يدعو إليه سارتر صاحب مجلة العصور الحديثة والمسئول في رأي كامي عن هذا النقد وصاحبه، وفيه كذلك إنكار لكل منهج نزيه ينبغي أن يلتزم به النقاد. ليس هناك من حل إذن غير التخلي عن اللعب بالحجج العقلية والوقوف إلى جانب الضحايا والمقهورين والملايين المجهولة التي تحمل التاريخ على ظهرها كما تحمل الصليب، ويستغلها المستبدون كل يوم لأغراض الحرب وصراع القوة والدمار.
•••
كان من الطبيعي أن يردَّ سارتر على هذه السطور المتكبرة المريرة التي وجَّهها كامي إليه؛ فجاء ردُّه أشد قسوة ومرارة، وإذا كان كامي قد سمَّاه «السيد مدير تحرير العصور الحديثة»، فإنه يوجِّه إليه خطابه قائلًا: «عزيزي كامي.» إنه يأسف في السطور الأولى على الصداقة التي كانت تربط بينهما، ولم تكن صداقةً يسيرة، لقد كان هناك الكثير الذي يجمعهما، والقليل الذي يفرِّق بينهما، ولكنه كان يفضل أن ينصبَّ الخلاف بينهما على المسائل الأساسية، ولا تختلط به رائحة الكبرياء الجريحة، وكان يريد أن يسكت، لولا أن لهجة كامي قد جعلت سكوته شيئًا مخجلًا، ولولا أن طريقته «البوليسية» في مهاجمة الناقد جانسون قد أجبرته على مواجهته بالحقائق التي كان يجد حرجًا في مصارحته بها.
إن سارتر يسأله قائلًا: أين مرسو — بطل الغريب — يا كامي؟ وأين سيزيف؟ أين هؤلاء الذين دعوا إلى الثورة الدائمة؟ لا شك أنهم قد قُتِلُوا غيلة، أو أنهم يعيشون اليوم في المنفى؛ فقد سيطرت ديكتاتورية مستبدة على صاحبهم الذي يريد تنظيم القانون الخلقي، إنه لا يريد أن يناقش ناقده مناقشة الند للند، بل يريد أن يلقِّنه درسًا، ويصوِّره كما لو كان ظاهرة مرضية في الحياة العقلية، يتناولها تناول الطبيب للجثة الميتة في لوحة رمبرانت المشهورة عن درس التشريح! ولكن من الذي قال: إن آراءه مقدَّسة؟ ومن الذي قال: إن في مناقشتها تجريحًا «لمبررات حياتنا وكفاحنا» ومساسًا بمبادئ لا يجوز لها أن تُمَسَّ؟ وما الذي جعله مدافعًا عن البؤساء وشقيقًا لهم؟ وهل هو حقًّا شقيق للعامل البائس الذي يتظاهر في بولندا، أو للصحفي المسكين الذي يكافح المستعمرين في الهند الصينية؟ أليس هو الذي اختار بؤساءه وقال عنهم: إنهم إخوته؟ أم يريد أن يبين للناس أنه تعب، ويحتج بذلك للخروج بنفسه من دائرة النقاش والكفاح؟ ولماذا يغضب كل هذا الغضب لأن أحد النقاد الشُّبَّان قال له: إن تفكيره غير فعَّال، أو أن الحركة النقابية السكندنافية واعتدال البحر الأبيض المتوسط اللذين يبشر بهما لا يعجبانه؟ كيف يتحول السخط على العصر إلى موضوع إنشائي يزدحم بالبلاغة والإنشاء؟ ولِمَ هذا التجاهل كله للناقد، والكلام عنه كأنه شيء ميت، وتوجيه الخطاب باسم «مدير التحرير» في حين يعلم الناس أنهما (سارتر وكامي) صديقان منذ أكثر من عشر سنين؟ ولِمَ التخفي وراء المكافحين والبؤساء والشهداء وأبطال المقاومة أو بالأحرى لِمَ الوقوف أمامهم؟ وكيف نُسَمِّي هذا كله؟ إرهابًا؟ أم تهديدًا؟ أم تخويفًا باسم الأخلاق؟! ثُمَّ من أنت يا كامي حتى تتعالى كل هذا التعالي؟! وما الذي يعطيك الحق في التكبر على جانسون على هذه الصورة التي لا يوافقك عليها أحد؟ وإذا كنت تكتب أو تفكر خيرًا منه، فهل يبرر هذا أن تتكلم عنه كما لو كان نملة، أو تقف منه موقف القاضي من المتهم؟ ولماذا ترميه بالنية السيئة، والرغبة في الافتراء عليك وتشويه كتابك، والادِّعاء بأن كل تفكير ليس ماركسيًّا فهو تفكيرٌ رجعي، والسكوت على وجود معسكرات الاعتقال في روسيا؟ يا لَسُخف هذه الاتهامات جميعًا! وماذا يفعل الناقد إذا كانت أفكارك غامضة وضعيفة، وكان كتابك شاهدًا على عجزك الفلسفي؟ وإذا كنت تدافع عن المغامرة في التاريخ، فلماذا ترفضها في الأدب؟ ولماذا تحتمي بعالم من القيم الخالدة التي لا تُمَس بدلًا من أن تكافح ضدنا أو تكافح معنا؟ لقد قلت مرة: «إننا نختنق بجانب أولئك الذين يعتقدون أنهم على حق مطلق، سواء أكان ذلك في آلاتهم أو في أفكارهم.» ولكن يبدو أنك قد تخليت الآن عن أصدقائك القدامى من المخنوقين، ووقفت مع الذين يقبضون على رقابهم!
•••
ولعل أهم ما يأخذه سارتر على كامي هو أن الأخير يخلط بينه وبين جانسون — كاتب ذلك النقد الذي أثار ثائرته — فهو يوجه خطابه إلى مدير تحرير العصور الحديثة والمسئول عما يُنشَر فيها، وليس في هذا ما يُلام عليه، ولكنه يجعله كذلك مسئولًا عن رأي جانسون واتجاهه الفكري، وكأنه هو الذي حرك القلم في يده بالكتابة، وسب المكافحين والبؤساء ورجال المقاومة، وسد أذنيه عما يُقال من وجود معسكرات الاعتقال في روسيا! وكل هذا ليس صحيحًا، ولا يمكن أن يكون وسيلةً مشروعة للجدال؛ فالعصور الحديثة — كما يقول سارتر — قد خصصت أحد أعدادها لمناقشة موضوع معسكرات الاعتقال، واتخذت منه الموقف الملتزم الذي يُنتظر منها، كما أن صاحبها لم يتردد يومًا في إعلان رأيه في الشيوعية، والدليل على هذا أن الشيوعيين يكرهونه ولا يكرهون كامي. إن سارتر يدين معسكرات الاعتقال، ولكنه كذلك يدين استغلال الصحافة البرجوازية لموضوعها كل يوم، وكأنها تفرح بتعذيب الروس للتركمانيين كتبرير لتعذيب الفرنسيين للأحرار في مدغشقر أو الجزائر، وتخويف اليساريين في داخل فرنسا نفسها، وفرض العبودية على الناس في ظل حكومة تدَّعي الاشتراكية. وهكذا يقف البرجوازيون هذا الموقف العجيب من اليساريين، فإمَّا أن يعترفوا بوجود معسكرات الاعتقال في روسيا، أو يُتَّهموا بالاشتراك في أكبر جريمة ترتكب على وجه الأرض، حتى إذا اعترض أحدهم على شيء قالوا له: «والمعسكرات! إن معسكرات الاعتقال فضيحة للجميع، وليس الستار الحديدي غير مرآة ينعكس عليها نصفا العالم المشتركان في الجريمة.» لقد كافح كامي — كما يقول سارتر — بكل قواه طغيان فرانكو وسياسة فرنسا الاستعمارية، وكان من حقه أن يتناول موضوع معسكرات الاعتقال في كتاب يبحث قضية الرعب في عصرنا الحديث، ولكن استغلال هذا الموضوع لإسكات ناقد هاجمه شيء لم يكن يليق به، هكذا يخلط بين الأسياد كما يخلط بين العبيد. وما دام لا يفرق بين هؤلاء، فلن يشعر نحوهم بغير تعاطف من ناحية المبدأ؛ ولذلك فإن سارتر لا يجد له حلًّا إلا أن يذهب بنفسه إلى جزر جالاباجوس!
•••
ويستطرد سارتر في الكلام عن قصور كامي الفلسفي، وكيف أنه يكتفي بالكتب الثانوية ولا يكلف نفسه بالرجوع إلى المراجع الأصلية، سواء أكان ذلك في حديثه عنه أو عن هيجل أو ماركس، بل إن سارتر يذهب إلى حد أنه لا ينصحه بالرجوع إلى «الوجود والعدم» الذي ستكون قراءته صعبة عليه أيما صعوبة؛ لأنه تعوَّد ألا يُتعب نفسه في الفهم؛ لكي يستطيع بعد ذلك أن يقول: إنه لم يجد شيئًا يُفْهَم.
ثُمَّ يمضي سارتر في إلقاء درس في الفلسفة على كامي، يعلِّمه فيه معنى الحرية، وكيف أن الحرية الباقية هي «الاختيار الحر» للكفاح من أجل أن نصبح أحرارًا، أي حرية الالتزام الذي يخوض معركة التاريخ، لا حرية المتفرج من فوق قمة وحيدة «خارج» التاريخ، ثُمَّ يعود بالذاكرة إلى الأيام التي تعرَّف فيها على كامي، وكان ذلك في سنة ١٩٤٥، فيقول له: «لقد كُنت بالنسبة لنا — وقد تصبح كذلك غَدًا — مركبًا عجيبًا يتألف من الشخص والفعل والمؤلفات.» كان ذلك في سنة ١٩٤٥ عندما اكتشفنا كامي الذي اشترك في المقاومة كما اكتشفنا كامي مؤلف الغريب، وعندما قارنَّا بين محرر جريدة الكفاح «كومبا» السرية وبين «مرسو» الذي أدت به الأمانة إلى حد أن يرفض القول بأنه يحب أمه أو عشيقه، والذي حكم عليه مجتمعنا بالإعدام، وعندما عرفنا قبل كل شيء أنك لم تكف يومًا عن أن تكون أحدهما أو الآخر، جعلَنا هذا التناقضُ الواضح نتقدم في معرفة العالم، ولم تكن في ذلك الحين بعيدًا عن القدوة والمثل؛ ذلك لأنك تجمع في شخصك صراعات العصر، وتتجاوزها بالحماس الذي يجعلك تحياها، كنت من أغنى الشخصيات وأشدها خصوبة، آخر ورثة شاتوبريان وأفضلهم والمدافع المتمرس عن قضية اجتماعية، وكانت لديك كل فرص النجاح وكل ما يجعلك جديرًا به، فقد كنت تجمع بين عاطفة العظمة والإحساس الملتهب بالجمال، بين حب الحياة والشعور بمعنى الموت. ويواصل سارتر كلامه عن تجربة كامي بالعبث أو المحال، وعاطفته التي تتمرد على العالم وتحبه في نفس الوقت، وجعله من السعادة واجبًا على الإنسان، وإضفائه المعنى على وجوده؛ لأنه هو الكائن الوحيد الذي يبحث عن هذا المعنى ويُطالب به، وكيف أن هذا المعنى كان دائمًا «خارج» التاريخ أو فوقه؛ لأن الإنسان قد حكم عليه أن يبحث عن العدالة في مواجهة الظلم الأبدي، ويخلق السعادة ليحتج على عالم الشر والشقاء. وإذن فقد ظل كامي حلقة في تراث فكري معادٍ للتاريخ، يمكننا — إذا استثنينا باسكال — أن نقول: إنه بدأ بديكارت، وهو قد رفضه رفضًا سابقًا على كل تجربة؛ لأن هذا التراث يرفضه، ولأنه — أي كامي — يجعل القيم الإنسانية كلها في الصراع «ضد السماء»؛ ولذلك فقد انتهى إلى حكمةٍ مريرة، تحاول أن تنكر الزمن بسبب ما واجهته فيه من متاعب، وعندما جاءت الحرب واختار أن يشترك في حركة المقاومة للنازيين، كان ذلك نوعًا من الاحتجاج على شكل من أشكال الظلم والعبث الأبدي. وهكذا دخل التاريخ مرغمًا، لكي يخرج منه بعد ذلك ويواصل تأمله من بعيد، وظل التاريخ بالنسبة إليه هو الحرب وجنون الآخرين الذي «يمنع الطيور من الغناء، والناس من الحب.» كما ظل الصراع فيه يحمل طابع الصراع غير الزمني ضد ظلم القدر الإنساني؛ ولذلك فلم يكن يفكر حين اشترك في المقاومة في صنع التاريخ — كما قد يقول مفكر مثل ماركس — بل في إنقاذ فكرة الإنسان من بين مخالب القوى العمياء التي توجه هذا التاريخ. وهكذا عاد إلى اليأس الذي يرى من واجب الإنسان أن ينتزع منه سعادته لإثبات أننا «لا نستحق كل هذا الظلم.» ولكن سارتر وأصحابه لم ينظروا إلى الحرب على أنها حالة من حالات التاريخ بل تمسكوا بكلمة مالرو: «ليبق النصر من حظ أولئك الذين قاموا بالحرب دون أن يحبوها.»
وهكذا أصبح كامي رمزًا للتضامن بين البشر، واستطاع أن يقول: «إن الناس يكتشفون تضامنهم عندما يدخلون في صراع مع قدرهم المتمرد.» ولكن هذا هو الذي حجب عنه حقيقة أخرى، وهي أن صراع الإنسان مع الطبيعة ليس إلا سببًا ونتيجةً لصراع من نوع آخر أقسى وأَمَرَّ، ألا وهو صراع الإنسان مع الإنسان. كان يتمرد على الموت، وكان غيره يتمرد على ظروفه الاجتماعية، وكان الطفل البريء يموت فيلعن القدر الظالم، ولكن والد الطفل — سواء أكان عاملًا أو عاطلًا — كان يلعن البشر الذين تسببوا في موته بسبب الفقر أو الجوع. وهكذا ظل تمرده مثاليًّا لا تستطيع الملايين أن تسمع فيه صوت سخطها الحقيقي، وكان كلامه عن الفقر أو الموت كلامًا حقيقيًّا قبل الحرب، ولكنه لم يعد كذلك بعد انتهائها؛ فقد أصبح الناس لا يتمردون على القدر، بل على الذين يصنعون قدرهم، ولا يريدون أن يتعلموا «فن الحياة» أو يكتشفوا «أسرار الجسد والطبيعة» بل يحاولون أن يحتملوا عناء أجسادهم المتعبة في آخر الليل، والطبيعة الغريبة التي يرون بها عدوهم الأول وهو يستغلهم في المصنع أو المعمل أو الوظيفة؛ ولذلك أصبح تمرده صرخةً مثالية لا تقنع مظلومًا، وتضامنه صراعًا يدور تحت عينيه بين الطبقات، وراح يحمِّل التاريخ مسئولية الخطأ بدلًا من أن يحاول تفسيره أو يشارك في تقدمه، ويستعير من مالرو وغيره كلامهم عن تأليه الإنسان، ويُصْدِر أحكامه على الجنس البشري بغير تمييز، ويسأل عن معنى التاريخ — وهو سؤال جامد مجرد — بدلًا من أن يحاول إعطاءه ذلك المعنى بالمشاركة فيه. وهكذا أصبحت شخصيته — التي كانت عنوانًا على الأمل والحياة في خلال الحرب — مجرد سراب من آثار الماضي، ولم يفطن إلى أن الطبيعة التي كان يتغنى بمجدها وجمالها قد تغيرت هي أيضًا بتغير علاقات الناس بها. لم يبقَ له إذن غير الذكريات واللغة التي تزداد تجريدًا، وليس أمامه إلا أن يترك الناس ويعكف على نفسه وحيدًا في عزلةٍ بعيدة قد يجد فيها الدراما الإنسانية التي افتقدها.
•••
بهذه اللهجة القاسية تحدث سارتر إلى كامي، ولكن من الإنصاف أن نقول: إنه كان كذلك قاسيًا في حديثه عن نفسه، وإنما اشتد في لهجته معه؛ لأنه أحسَّ أنه قريب منه، وأن كليهما ملتزم بالتاريخ وإن اختلفت نظرتهما إليه، فكامي — في رأي سارتر — قد تجمَّد في قلعة أفكاره المثالية وقيمه الأخلاقية المطلقة، بينما راح سارتر — بنزعته العقلية وفكره التحليلي — يفسر هذا التاريخ الذي يصنعه البشر كل يوم، ويشارك في اتخاذ المواقف الحاسمة من الظلم الاجتماعي والسياسي في بلاده وفي العالم كله على السواء، ولعله لم يشتدَّ في قسوته على كامي كما قلت إلا لأنه أحسَّ أنه بعاطفته وجدِّه وصدقه جزء منه، فالإنسان لا يهاجم شيئًا مقطوع الصلة به، بل يزداد في هجومه عليه كلما كان هناك شيءٌ قوي يجمعه به أو يفرقه عنه، وتلك هي إحدى المفارقات الكامنة في طبيعته؛ ولذلك فإن هجومه عليه — مهما اشتدت قسوته — يخفي على الدوام عاطفة حبه وتقديره له، بل ويعبر عن رغبته في أن يمدَّ يده إليه ليسيرا معًا — برغم كل الاختلافات — على طريقٍ واحد إلى جانب المظلومين والضحايا والمقهورين. وإذا كان الموت قد باغت كامي وهو في أوج شبابه ومجده — بعد سبع سنوات من هذا الخلاف قضاها وحيدًا كالبطل الجريح — ولم يقدَّر لهذه اليد أن تصافح يد الصديق القديم، فإننا نحن الذين ننظر اليوم إلى هذا النزاع — بعد أربعة عشر عامًا من وقوعه — لا نملك إلا الأسف؛ لأنه فرق بين شخصيتين كبيرتين كان من الممكن أن تكمل إحداهما الأخرى، ولكننا مع ذلك لا نملك إلا الإعجاب بهذا الخلاف الذي دار في صميمه حول الإنسان وعذابه ومصيره في عصرنا الحديث، وطبيعي أن الفرد الواحد لا يمكنه أن يملك الحقيقة كلها، كما لا يمكن أيضًا أن يكون كل ما يقوله أو يفكر فيه خطأً كله. ولقد أظهرت هذه المناقشة — إذا أحسنَّا فهمها وجرَّدناها من الحدة والغضب والحساسية التي اتسمت بها — أن الخلاف هو الشرط الأساسي للقاء، والحوار بين الأشخاص والأفكار هو الدليل الأول على حرية الفكر والضمير، ولا شك أن هذا الخلاف لم تُقَلْ فيه الكلمة الأخيرة ولا يمكن أن تُقال، فما زال سارتر يتابع نشاطه المذهل ويثبت كل يوم مدى صدقه والتزامه بواقع الإنسانية ومستقبلها، وإذا كان زميله قد تركه إلى الأبد، فلا شك أنه كلما فكَّر في هذا الخلاف أحسَّ بما يدين له به، واستمد منه مزيدًا من العمق والشجاعة والإخلاص، ولا شك أيضًا أننا سنستطيع أن نستفيد من تأملنا في هذا الخلاف؛ لأنه كان وسيظل خلافًا حول الإنسان.
_________________________________________
١- يستطيع القارئ إذا شاء أن يرجع إلى تفصيل هذا كله في كتابي عن ألبير كامي، دار المعارف، ١٩٦٤.
٢- راجع الفصل الذي تقدم عن مشكلة العلو في الفلسفة «ألترانسندنس».
غير أن هناك كاتبًا خرج على هذا الإجماع، وراح يحمل على الكتاب وصاحبه حملة شديدة كانت سببًا في نزاعٍ مؤسف أدى إلى القطيعة بين اثنين من أعظم المفكرين في عصرنا الحديث، فقد كان هذا الكاتب هو «فرنسيس جانسون»، مساعد سارتر في تحرير مجلته «العصور الحديثة» وأحد النقاد والمفكِّرين اليساريين.
لقد استفز كامي استفزازًا جعله يردُّ عليه بلهجةٍ غاضبة لا تخلو من التعالي والكبرياء؛ مما حمل سارتر على الإجابة على هذا الرد في لهجةٍ أشد غضبًا وقسوةً. ومع أن الحساسية الشديدة للنقد كانت من أقوى الأسباب التي زادت من حدة هذا الخلاف، فإننا نستطيع اليوم — بعد أربعة عشر عامًّا من وقوعه — أن ننظر إليه نظرة هادئة تبعد عنه العوامل الذاتية المسرفة، وتوضح كيف أنه لم يكن في الواقع مجرد خلاف بين شخصيتين كبيرتين، بل شيئًا ينبع من صميم العصر الذي نعيش فيه ولا يزال يشغله ويعذبه إلى اليوم.
يبدأ جانسون فيسأل هذا السؤال: هل يجوز لكتاب يعالج قضايا ينقسم حولها الناس وقد يقتتلون من أجلها أن يكتب بمثل هذا الأسلوب الجميل، أو يبلغ هذه الدرجة من سمو اللغة ونبلها وتعاليها؟ إن كامي نفسه يرفض الفنان الشكلي كما يرفض الفنان الواقعي، فهو في الفصل الذي وضعه عن «التمرد والفن» يدين الاثنين معًا، ويقول: إن عيب الأول أن الشكل في أعماله يغرق المضمون، كما يأخذ على الثاني أن المضمون عنده يطغى على الشكل. كلاهما يبحث عن الوحدة حيث لا مكان لها، فإذا ظن أنه وصل إليها لم تكن سوى وحدةٍ خادعة ومخدوعة، وإذا طبَقنا هذا على أسلوب كامي وجدناه قد أغرق في الشكلية على حساب الروح الموضوعي التي يُحتِّمها مضمون يتناول مسائل الثورة والتاريخ، وأسرف في الاهتمام بالأسلوب إلى حد وصل فيه إلى التطرف الذي وضع هو نفسه كتابه لإدانته. لقد قال في حديثه عن الأسلوب: «عندما يبالغ الكاتب في الاهتمام بالأسلوب والتظاهر به، يصبح عمله حنينًا خالصًا، وتصبح الوحدة التي يحاول اقتحامها شيئًا غريبًا على الواقع.» فهل ينطبق هذا القول على أحد كما ينطبق عليه؟ إن الكتاب كله صرخة احتجاج على التطرف والظلم والتنكر للإنسانية الحقة، ولكنه — على حد قول الناقد — احتجاجٌ مفرط في جماله وجلاله وثقته بنفسه، مبالغ في دقته وكماله وتعاليه.
ويعود الناقد إلى إنتاج كامي السابق على «المتمرد» ليحلِّله من وجهة النظر هذه، فقد كانت روايته الوباء «تاريخًا متعاليًا» لمرض الطاعون الذي داهم مدينة وهران الجزائرية، وهي في ذلك تختلف عن روايته الأخرى «الغريب» في أن مرسو — بطل هذه الرواية الأخيرة — يرى العالم من وجهة نظر الذات الواقعية الوحيدة التي تجد نفسها غريبة بين ذوات أخرى واقعية، في حين أن مؤرخ الوباء ينظر إلى الأحداث التي تقع في المدينة من علٍ، ويكتفي بتأمل الموقف من خارجه؛ ولذلك فإن الوباء لا تمثل تحولًا في تفكير كامي، بل تتابع المرحلة التي يعبر عنها كتابه الفلسفي «أسطورة سيزيف»، فقد تعلمنا من هذا الكتاب كيف نحافظ على العبث أو المحال، ونتمسك بالرهان الممزق العجيب معه، عندئذٍ يحتل الجسد والحنان والخلق والفعل والنبل الإنساني مكانه في هذا العالم الخالي من المعنى. كانت كرامة الإنسان تتمثل عند سيزيف في التمرد العنيد على قدره، والإصرار على مجهود يعلم أنه عقيم. وكان عليه أن يقتدي بهذا البطل الإغريقي فينتقل باستمرار من فعل إلى فعل ويواجه العالم، ويستزيد من الحياة بقدر ما يستطيع، ويستنفد طاقاته في سبيل لا شيء، ويفقد الأمل في إدراك معنى الوجود، ويتجرد من كل الأوهام التي تعده بالخلاص. وهكذا قدمت أسطورة سيزيف صورة منطقية أو منهجية لسلوك «الغريب» غير المنطقي ولا المعقول، ووضعت الإنسان أمام قدره الظالم غير المفهوم، وعلمته أن الإنسان غريب أمام نفسه وأمام العالم، وأن واجبه وكرامته معًا في احتمال هذا الوجود العبثي وتحدِّيه. ثُمَّ جاءت «الوباء» فعبَّرت عن هذه المعاني كلها على نطاقٍ أوسع، فلم يعد الأمر هنا يتعلق بمصير فردٍ واحد، بل بمصير مدينة وقعت فريسة للطاعون وكُتِبَ عليها أن تحيا في حال حصار؛ ولذلك جاءت الرواية «ميتافيزيقية»، واستحقت أن تُسَمَّى «بالقدر الإنساني». فالمشهد الحقيقي الذي تدور أحداثها على مسرحه هو العالم كله لا مدينة وهران وحدها، وشخصياتها تعبر عن البشر جميعًا لا عن رجال هذه المدينة ونسائها فحسب، والوباء الذي تروي قصته ليس هو الطاعون، بل الشر المطلق الذي يرزح بثقله على كل وجدان واعٍ. غير أن هذا التشابه بين الموقفين كان في الحقيقة نوعًا من الخطأ الذي يتحمل المؤلف وزره؛ لأن الانتقال مستحيل من أحدهما إلى الآخر، ولأن الصلة مقطوعة بين الوباء الذي يؤرِّخ له عقلٌ خالص وبين القدر الإنساني الذي يحياه أناسٌ واقعيون. ولعل أسلوب كامي هو الذي كان مسئولًا إلى حدٍّ كبير عن هذا الخطأ أو عن هذا الوهم، فقد لجأ إلى أسلوب الرواية الذي يتميز بالتعالي والبرود، ويتأمل الموقف ولا يعيش فيه؛ ذلك لأن صراع البشر مع فيران الأرض لا يمكن أن يكون خاليًا من المعنى إلا إذا نظرت إليه من أعلى، أمَّا إذا عشت بينهم ووصفته من الداخل فستجد أن كل واحد فيهم يُضفي على حياته معنًى من المعاني؛ لأن مجرد الحياة في ذاتها لا بد أن ينطوي على المعنى، فإذا قررت أنها خالية من كل معنًى فعليك عندئذٍ أن تضع لها حَدًّا؛ لأن المنتحر هو وحده الذي يقرر ألا يقرر شيئًا …
كان كامي إذن يعيش في تناقضٍ مستمر لم ينكره لحظةً واحدة من حياته، فهذا العقل الذي يحب الوضوح، وهذه الروح التي تمجِّد النور، قد وجدت أنها تصطدم كل يوم بتناقضات العالم وعذاب البشر، حتى اعتقدت أن الإنسان قد حُكِمَ عليه ظلمًا بأن يعيش، وهو الكائن العاقل في عالم غير معقول، وأن ينشد الوحدة والانسجام وسط التناقض والاضطراب، وهو لذلك لا يملك إزاء هذا «الظلم الميتافيزيقي» سوى أن يقابله «بالشرف الميتافيزيقي» الذي يمكِّنه من الصمود لعبثية العالم، والتمرد عليها كذلك تمرُّدًا عبثيًّا. كذلك يفعل الدكتور «ريو»: بطل الوباء الذي يتحدى المرض ويحاول أن ينتزع من بين مخالبه أكبر عدد من الأحياء، وإن كان يؤمن مع ذلك أن كفاحه عقيم، وأن الوباء لا بد أن ينتصر عليه في النهاية.
حاول كامي إذن في أسطورة سيزيف أن يثبت وجود العبث أو المحال ويثبت معه أن الوعي به لا يؤدي إلى الانتحار بل إلى التمرد، ثُمَّ عكف سنواتٍ عديدةً على وضع «مقاله» عن التمرد، وفيه ينتقل من الفرد إلى المجموع، ومن قدرٍ ظالمٍ مقدور إلى قدرٍ آخر مفروض على الناس، فهو يتأمل في هذا الكتاب حقيقة العلاقة بين التمرد والجريمة، وبالأخص تلك الجريمة التي يصفها بالجريمة المشروعة أو الجريمة المنطقية أو الأيديولوجية، وهو يسأل إن كان من الممكن أن يؤدي التمرد — الذي هو بطبيعته احتجاج على قدرٍ ظالم وغير مفهوم — إلى تبرير الجريمة الشاملة والقتل الجماعي، أو إن كان من الممكن على العكس من ذلك أن نكتشف فيه مبدأ ذنب معقول؛ فالفعل التاريخي لا يستطيع أن يدَّعي البراءة. والمهم أن نعرف إن كان في طاقة الإنسان أن يعصم نفسه من الانزلاق إلى الذنب الشامل، ويلتزم بلون من التمرد المعتدل الذي يحتجُّ على الظلم والعبودية والمهانة في الوقت الذي يؤكد فيه طبيعة الإنسان وكرامته. فالعبد الذي يتمرد على طغيان سيده ويقول له: «لا»، إنما يقول في نفس الوقت «نعم»، ويؤكد قيمةً إنسانية لا ينبغي أن تُهدَر أو تُهان؛ لأن البشر جميعًا من مظلومين وظالمين يشاركون فيها بنفس المقدار، وبذلك يكون التمرد — الذي هو أصله تعبير عن صرخة ذاتٍ وحيدة — تأكيدًا للتضامن بين البشر، فإذا أنكر هذا التضامن فقَدَ اسمه وانحرف إلى القتل والجريمة. كان تمرد سيزيف تعبيرًا عن سخطه على الموت وعاطفته الجياشة بالحياة، وكان إنكارًا للآلهة وتحديًا للمُحال أو العبث؛ ولذلك فقد كان من الممكن أن يظل تمرُّدًا وحيدًا، أمَّا التمرد الذي نتحدث عنه الآن فهو ينتزع الفرد من وحدته، ويجعل الإحساس بالغربة التي كان يقاسيها والشر الذي كان يعانيه وحده وباءً «مشتركًا» بينه وبين الناس. وبذلك يصبح التمرد هو الحقيقة الواضحة الأولى التي تجمع البشر على قيمةٍ واحدة، كما يصبح من المستطاع أن نقول: نحن نتمرد، فنحن إذن موجودون.
وهكذا ينتقل كامي إلى دراسة التمرد الميتافيزيقي الذي يصفه بأنه حركة يواجه الإنسان بها قدره والخليقة بأجمعها، محاولًا أن يستردَّ الوحدة السعيدة ويتخلص من عذاب الموت والحياة، ثُمَّ يبين بعد ذلك كيف يتحول هذا التمرد المتافيزيقي إلى تمرد تاريخي؛ فينسى أصله ويتنكر لمنبعه ويزحف إلى السيطرة على العالم خلال جرائم لا نهاية لها، بعد أن كان في مبدئه احتجاجًا على الموت والشقاء، ومحاولة «لغزو الوجود الذاتي وإبقائه في وجه الله» ويكون لويس السادس عشر أول ضحية لهذا الانحراف التاريخي، وتقيم الثورة الفرنسية نظامًا من القهر الذي لا ينتهي، وتنشئ الجمعية الوطنية نظامًا مطلقًا جديدًا؛ فتجلس الفلسفة على العرش بعد أن طردت الله من السماء، مِنْ ثَمَّ يفلت التمرد الإنساني الأصيل من كل الحدود ليصبح ثورة ميتافيزيقية تجلَّت في ثورات العصر التي حاولت أن تؤله النوع البشري، أو تنطلق إلى الغزو الشامل للعالم، أو تقيم مملكة غيبية في نهاية التاريخ، فتشوِّه وجه التمرد الأصيل في كل الأحوال.١
لم يكن غرض كامي إذن هو وصف ظاهرة الثورة ولا عرض أسبابها التاريخية والاقتصادية، بل كان غرضه — على حد قوله — هو الكشف عن المسار المنطقي في بعض الوقائع الثورية، وبيان الموضوعات الدائمة للتمرد الميتافيزيقي، ومن هنا يبدأ جانسون في توجيه نقده إليه، فهو في رأيه ينظر إلى الثورات من وجهة نظر ميتافيزيقية، ويهمل أسبابها الاقتصادية والتاريخية، وهو يذهب إلى أبعد من هذا، فيقتصر على اكتشاف المسار المنطقي للثورات، ويرفض الاعتراف بأن للعوامل الاقتصادية والتاريخية دورًا في نشوئها؛ وبذلك تُصبح الثورة عنده مرادفة لتأليه الإنسان. وتتكفل الشيوعية الروسية بتحقيق الطموح الميتافيزيقي الذي يصفه كتابه بمحاولتها أن تشيد مملكة الإنسان الذي سيصل في النهاية إلى مرتبة الألوهية.
في رأي الناقد بالمواقف الواقعية في هذا التصور الغريب للتاريخ لا بد أن يلغي التاريخ نفسه؛ إذ إن كامي يضحي في سبيل حوارٍ فكري مجرد، يدور بين الاحتجاج الميتافيزيقي على الموت والعذاب من ناحية، وبين الطموح الميتافيزيقي الذي يُغري الإنسان بالتسلط المطلق والسيطرة الشاملة من ناحيةٍ أخرى، بحيث نجد التمرد الحق في الحالة الأولى، والثورة الفاسدة في الحالة الثانية، وقد يصلح هذا المستوى الفكري للمناقشات اللاهوتية، ولكنه لا يصلح للكلام عن المواقف الواقعية، ولا لفهم حياة البسطاء من الناس، والكادحين الذين يجوعون ويكافحون المسئولين عن تجويعهم. ولا شك عند الناقد في أن كامي أرفع من أن يؤمن بهذه «المستويات الدنيا» أو أن يُسلِّم بالدور الرئيسي الذي تؤثر به الحتمية الاقتصادية — أو الحتمية التاريخية كما يُفضِّل أن يسمِّيها — على أفعال الناس وأفكارهم. ويستمر الناقد فيقول: إنه إذا كان هناك عيبٌ كامن في الثورات، فلا ينبغي أن نفتش عنه عند الفلاسفة، بل في الأفعال الثورية نفسها؛ ولذلك فلا صحة للقول بأن مذهب ماركس هو الذي أدى إلى إرهاب ستالين، ولا مبرر للحكم على النظرية من نتائجها، وللزعم بأن المادية الجدلية أو التاريخية هي المسئولة عن النظام البوليسي البشع على عهد ستالين. وهكذا يكون كامي قد وقع في خطأين: أولهما أنه لم ينقد النظرية من داخلها بل حمَّلها مسئولية أفكار وأفعالٍ بعيدة عنها بُعدًا كبيرًا، وثانيهما أنه مر مرور العابرين على ظاهرة الثورة نفسها وسكت عن ظروف نشأتها وحركة تطورها وعناصر السلوك البشري المكونة لها.
ويأخذ الناقد على كامي أنه عرض للثورات التاريخية عرضًا ناقصًا بالاعتماد على كتابةٍ تاريخية ناقصة للمذاهب الثورية. فمن الخطأ أن يوجَّه النقد إلى الثورات الكبرى في العصر الحديث بالاعتماد على تحليل العقد الاجتماعي لروسو، أو سرد خطب سان جوست، أو تحليل ظاهريات الروح لهيجل، أو عرض حركات التمرد الدامية والفوضوية والفاشية، أو الكلام عن ماركس ولينين وستالين من وجهة نظر مسبقة، أضِف إلى ذلك التحليل السطحي لمذهب هيجل، ففي رأي كامي أنه أراد أن يجسد الحقيقة والعقل والعدالة ويُلقي بها في مجرى التاريخ؛ فقذف بالعقل المجرد الذي كان إلى عهده يخطط من أعلى للظواهر المتعلقة به في مسار التاريخ، ومهَّد بذلك لعهدٍ جديد يخلو من العلو أو «المتعالي»،٢ وينصرف بكلِّيته إلى تنازع القوى والصراع على العالم. لقد بذل جهده لتدمير كل حقيقةٍ متعالية وكل حنين إلى التعالي، وقدَّم بذلك — على مستوى ديالكتيك السيد والعبد — المبرِّر الحاسم لروح القوة التي تسيطر على القرن العشرين، وبذلك جعل من تاريخ الإنسانية صراعًا مميتًا لغزو العالم والوصول إلى السيطرة المطلقة، وانتهى تفكيره إلى «الدولة المطلقة» التي أقامها الجنود والعمال، وتمجيد النجاح البشع بكل ثمن، حتى ولو كان هذا الثمن هو موت الملايين، كما استمد منه الثوريون في القرن العشرين تلك الأسلحة التي دمَّروا بها مبادئ الفضيلة الشكلية.
فعل كامي هذا كله ليثبت أن كل الثورات تخون التمرد الحق من حيث تريد أن تؤلِّه الإنسان، وهو لهذا يُلقي الذنب كله على رأس هيجل، فمنهجه الجدلي يريد أن يصل في نهاية المطاف إلى اللحظة التي «تلتقي فيها مدينة البشر مع مدينة الله.» وستالين عنده هو أحد أبناء هيجل الروحيين، والشيوعية في جوهرها محاولة متطرفة لتحقيق المساواة بين الإنسان والإله، وجعل الأرض مملكة يصبح الإنسان فيها إلهًا، وإقامة ديانة تتعبَد الإنسان وحده؛ ولهذا أصبحت «الأرض المقفرة» اليوم نهبًا للقوة المحضة التي ستقرر إن كان الإنسان إلهًا أو لا.
وهكذا يبدأ نابليون وهيجل — الفيلسوف النابليوني — عهد الفعالية المحضة، كما توضع المبادئ الخالدة والقيم غير المتجسدة والفضيلة الشكلية موضع الشك، ويبدأ العقل في التحرك فلا يعود تجريدًا خالصًا بل غزوًا متصلًا، وتنتصر العدمية، فيجلس قيصر على العرش، وينتشر الرعب في كل مكان. وينتهي كامي إلى اقتراح الشكل السياسي الذي يلائم التمرد الحق في عصرنا الحاضر، ويقف في وجه الفعالية التاريخية المطلقة، هذا الشكل السياسي هو النقابية الثورية التي ترتبط في رأيه بالحقائق الواقعية، وتتمثل في البلاد الإسكندنافية، وليس للعالم نجاة إلا بالتمسك بالتمرد المعتدل في وجه الثورة القيصرية، وإثبات فعاليته من خلال عذابه وتناقضاته وهزائمه المتكرِّرة وكبريائه العنيد.
هكذا ينتهي كامي من حيث بدأ، أعني إلى التمرد الحقيقي الذي لا ينتهي بدوره إلى نتيجة؛ لأنه موجَّه إلى «قدر ظالم وغير مفهوم» ولأنه لا يخرج عن كونه وجودًا يحارب نفسه، وتمردًا يتمرد على ذاته. فيم كانت الحاجة إذن إلى هذه «اللفة» التاريخية كلها؟ لا شك عند الناقد في أن الهدف منها هو إلغاء التاريخ بمعناه الواقعي؛ فكامي الذي يتطلع إلى أوروبا العجوز المعتمة من شواطئ الجزائر الشابة المشمسة لا يرى إلا «تاريخ الغرور الأوروبي»، أي وجه التاريخ المظلم الكئيب، وحين كان يتحدث على لسان سيزيف، كان يؤمن حقًّا بضرورة الفعل، ولكنه الفعل العقيم الذي لا معنى له ولا أمل فيه، فلما اشترك في مقاومة الاحتلال النازي لبلاده، بدأ يحس بأن للتاريخ معنًى، وظن أن التحرير سيؤدي إلى حياةٍ نبيلة وسعيدة. ولكن ذلك لم يكن إلا وهمًا؛ فالتاريخ يتكلم من جديد بلغة البطش لا بلغة الفضيلة، وسيزيف الذي ازدادت تجربته قد زادت كذلك خيبة أمله، ولا بد الآن من تناول التاريخ لإثبات أنه غير موجود، أعني لإثبات أن الشر التاريخي ليس إلا صورة من صور الشر المطلق، أو من العبث الذي كُتِبَ على الإنسان أن يتحمَّله ويتحداه في وقتٍ واحد، والدليل على هذا أنه يتكلم عن تمرد العبد على سيده — وهو تمرد تاريخي لا يُفْهَم إلا في مجتمعٍ معين وظروفٍ معينة — على ضوء التمرد الميتافيزيقي؛ ليستخرج منه «قاعدة التمرد الذهبية» التي يصوغها في هذه العبارة الديكارتية: «أنا أتمرد، فنحن إذن موجودون.» وهكذا يُسَمَّى تاريخًا ما ليس بتاريخ، ويظل مغلقًا على نفسه في هذا التمرد الميتافيزيقي الخالص الذي يعجز — على حد قوله — عن إخراج الإنسان من عزلته، لا بل يحكم عليه بهذه العزلة حين يضعه وجهًا لوجه أمام قدرٍ ظالم لا معنى له. وما دام الإنسان سيظل معرضًا لهذا الظالم المطلق، فمن الظلم أن نأخذ ألوان الظلم النسبية مأخذ الجد أو أن نحاول إيجاد حلول لها، فالأطفال الأبرياء سيظلون يموتون، حتى في ظل مجتمعٍ كامل، والشر الأصيل باقٍ مهما حاولنا أن نتمرد عليه.
لا مفرَّ إذن عند الناقد من الوصول إلى هذه النتيجة: إن تمرد «الإنسان المتمرد» قد فقد النقاء الأصيل الذي وجدناه في تمرد سيزيف بعد أن التزم واهتم بالعالم، وتحول لحظة عن حواره المتكبر مع العبث إلى شكل من أشكال التنكُّر للعقل، والإفلات من الحد، فكامي قد أراد بكتابه أن يجد ملجأً يفزع إليه من شرور التاريخ؛ ليفتش عن الخير خارجه؛ ولذلك كان تمرده هروبًا من التاريخ أو رفضًا له؛ لأنه وجد الاعتدال والبراءة في التمرد، والانحراف والعبودية والعذاب الجماعي في التاريخ، ولا يشفع لكامي أنه يلحُّ في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه على الالتزام بالتاريخ وعدم إنكاره؛ لأن إنكاره يعني إنكار الواقع، ولأن تاريخنا مهما يكن جحيمنا، فلا يمكننا أن ندير له ظهورنا أو نشيح عنه بوجوهنا؛ ذلك لأن التاريخ هنا ليس إلا شكلًا آخر من أشكال العبث أو المجال التي ينبغي علينا أن نحافظ عليها ونتحدَّاها وجهًا لوجه، وإن كُنَّا لا نستطيع أن نغيِّر منها شيئًا أو نُقدِم فيها على شيء، وكامي بذلك يجعل نفسه سجينًا للتاريخ، أو خارجًا عن مجرى التاريخ، ويحكم على نفسه بما حكم به على الشيوعيين والوجوديين، وهو بذلك أيضًا يسلخ نفسه من مجرى التاريخ، ويضع نفسه على قمةٍ وحيدة ليتأمله من بعيد، مع أننا مهما خرجنا عن التاريخ — لإعطائه هدفًا أو غاية — فنحن دائمًا نعيش فيه، وإذا كان التاريخ يصنعنا، فنحن كذلك نصنعه على الدوام.
•••
كتب جانسون هذا النقد في شهر مايو سنة ١٩٥٢ تحت عنوان لا يخلو من السخرية: «ألبير كامي أو النفس المتمردة»، وكتب كامي في آخر يونيو ردًّا نُشِرَ في عدد أغسطس من «العصور الحديثة»، تنبئ سطوره الأولى بالمرارة والكبرياء، لم يكتب الرد إلى سارتر، الذي كان الناس جميعًا يعلمون أنهما صديقان، بل أرسله باسم «السيد مدير تحرير العصور الحديثة» معلنًا بذلك في العنوان نفسه عن الجفوة التي ستستمر بينهما أكثر من سبع سنوات، حتى يضع لها الموت حَدًّا بالحادث الذي أودى بحياة كامي في مطلع سنة ١٩٦٠. ويبدأ كامي — بلهجةٍ جادة ونبرة متعالية! — فيقول: إنه سيقصر حديثه على المنهج العقلي والاتجاه الذي يدل عليه المقال؛ لأنه — في رأيه — ليس دراسة بقدر ما هو موضوع يستحق الدراسة. ويحمِّل كامي سارتر مسئولية المقال كله، فيغفل اسم جانسون — الذي يصفه بقوله مساعدكم — ويتساءل عن غرضه من تشويه موضوع كتابه وتلفيق تاريخٍ وهمي لحياة صاحبه، فإذا كان الناقد يورد تقريظ الصحافة اليمينية لكتابه، فإن بعض المجلات اليمينية قد هاجمته، كما أنه لا يتردد في أن يكون يمينيًّا إذا وجد الحق مع اليمينيين. هذا إلى أن مقال الناقد يُثبت في رأيه أنه ليس هناك حدود فاصلة بين اليمين الرجعي واليسار المتزمِّت؛ فكلاهما قد هاجم الكتاب وجرح صاحبه.
لم يستطع الناقد في رأيه أن يضعه بين اليمنيين فحاول أن يبرهن على أن دراسته للتمرد والثورة دراسة سطحية تلغي التاريخ وتنكر الواقع ولا تخدم غير الرجعية، ثُمَّ عاب عليه أن أسلوبه «قد بلغ درجة من النجاح تكاد تكون كاملة.» وكأن الأسلوب الجميل لا يأتي إلا من اليمين، أو كأن الثوريين ينبغي أن يكتبوا بأسلوبٍ ركيك! ولا ينكر الناقد في هذا الكتاب الذي يعالج موضوع التمرد والرعب في العصر الحديث نوعًا من الاحتجاج، ولكن الشيء الذي يغضبه أنه احتجاج بلغ ذروة الجمال والجلال، وكان التعبير عن الاحتجاج يتطلب من الكاتب أن يبتعد عن الحياة، ويلجأ إلى جزيرة البرود والصفاء، ويستخدم لغةً ركيكة تصلح دون غيرها للكلام عن شقاء الإنسان!
ويتساءل كامي: كيف يمكن أن يُتَّهم بالرجعية وعدم الواقعية والإيمان بالحقائق المتعالية؛ وجميع كتاباته السابقة على «المتمرد» تشهد على قربه من الواقع والْتصاقه بالتاريخ؟ وكيف يمكن أن ينكر قارئ أو كاتب أن الطريق من «الغريب» إلى «الوباء» هو الطريق إلى المشاركة والتضامن بين البشر؟ لا شك إذن عند كامي في أن ناقده قد اتبع أيسر السبل وأكثرها رواجًا، وهي أنه إذا تعَذَّر على الناقد أن يجد عيبًا في الكتاب فمن السهل عليه أن يضعه فيه؛ فهو قد راح يتحدث عن موضوعات لا وجود لها في الكتاب أو ليست على الأقل هي موضوعه الرئيسي، وترك المسائل الأساسية التي تناولها كالكلام عن الحد والاعتدال اللذين يفرضهما فعل التمرد نفسه، ونقد العدمية التي جاءت بعد هيجل، والتنبؤ الماركسي وفكرة الذنب … إلخ. لقد راح يؤكد أنه — أي كامي — يرفض أن يعترف بأي دور للعوامل الاقتصادية والتاريخية في نشوء الثورات. والواقع أنه لم يبلغ من الجهل والغباء إلى الحد الذي يوقعه في هذا الخطأ، ولكنه لم يرد أن يُضيف إلى مئات الكتب التي تبحث في الأسس الاقتصادية التي يقوم عليها التاريخ كتابًا جديدًا، ولا أن يصف ظاهرة الثورة أو يتتبع أسبابها التاريخية والاقتصادية، وهو الأمر الذي حاوله غيره آلاف المرات، وإنما أراد أن يقصر نفسه على توضيح الخط المنطقي في بعض الوقائع الثورية، والكشف عن موضوعات التمرد الميتافيزيقي الدائمة فيها، وإبراز ميلها الواضح إلى تأليه الإنسان. ومِنْ ثَمَّ عدم كلامه بالتفصيل عن تلك العوامل الاقتصادية لا يعني إهمالها أو إنكار أثرها، كما لا يعني السكوت عن شقاء الجائعين.
وإذن فقد كان هَمُّ الناقد أن يُثبت بُعْدَ المؤلف عن الواقع، في الوقت الذي يثبت فيه بُعْدَه هو عن نصوص الكتاب! لقد كتب كامي يقول: إن من الممكن التسليم بالدور الأساسي الذي تقوم به الحتمية الاقتصادية في نشأة السلوك والفكر البشري، وإن رفض مع ذلك التسليم بأنها هي التي تقوم بالدور الوحيد، ولكن الناقد جاء يقول: إنه لا يعترف بالدور الأساسي الذي تقوم به العوامل الاقتصادية … إلخ. فلماذا الإصرار على نقد كتاب لا نصدق ما يقوله صاحبه أو نفهم منه غير ما يقول؟ وما الفائدة إذا كان المؤلف يقول: إن السماء زرقاء فيصمم الناقد على أنها سوداء؟! أليس معناه أن المؤلف مجنون أو أن الناقد أصم؟! إن الناقد يكذب إذ يلخص الموضوع الرئيسي للكتاب على هذا النحو: الشر كله في التاريخ، والخير كله خارجه. في الوقت الذي خصص فيه المؤلف قسمًا كبيرًا من كتابه لمحاربة هذا الرأي وإثبات بطلانه؛ فقد حاول أن يقيم الدليل على أن النزعة التاريخية والنزعة المضادة للتاريخ كلتيهما على خطأ، فالذين لا يؤمنون إلا بالتاريخ يسيرون إلى الرعب، والذين لا يؤمنون بالتاريخ يبررون الرعب أيضًا، وكلاهما يسير في الحالين إلى العدمية. وكيف يستطيع أن ينكر التاريخ وفي ذلك إنكار للواقع نفسه؟ إن الكتاب لا ينكر التاريخ، ولكنه يحتجُّ على الاتجاه العقلي الذي يجعل منه شيئًا مطلقًا، ولا يشهد على ذلك نص أو بضعة نصوص، بل تشهد عليه تحليلات الكتاب وعاطفته العامة. لقد كان على الناقد أن يواجه رأي المؤلف الأصلي، الذي يذهب فيه إلى أن خدمة التاريخ لذاته تؤدي إلى العدمية، أو يحاول بدلًا من ذلك أن يثبت أن التاريخ وحده يمكنه أن يقدِّم قيمًا أخرى غير القيم التي تمجِّد القوة والعنف، أو يثبت أيضًا أن في إمكان الإنسان أن يخوض التاريخ بغير حاجة إلى أية قيمة من أي نوع. لو أنه فعل ذلك — وهو أمرٌ عسير بغير شك — لاستحق منهجه الاحترام وربما حظيَ بالقبول، ولكنه اختار الطريق الملتوي، وراح يلفِّق للمؤلف آراء لم يقُلْها، وينكر عليه أشياء لم تخطر على باله، وينصب نفسه قاضيًا يتهمه بالانعزال عن التاريخ والانسلاخ عن ثورات العصر وكفاح الأحرار في مدغشقر والجزائر والهند الصينية! هذا في الوقت الذي يعرف فيه الجميع موقفه من ثورات التحرير، ودوره في حركة المقاومة السرية في بلاده، أليس من حق المؤلف بعد هذا كله أن يتهم الناقد بالتجرد عن النزاهة والإخلاص والبُعد عن كل مناقشة عميقة أو جادة؟
•••
ويتخلَّى كامي بعد هذا عن موقف الدفاع ليبدأ في الهجوم! فهو يتهم ناقده بأن مقاله يقوم من الناحية الفلسفية على التناقض والعدمية، ومن الناحية التاريخية على عدم الفاعلية. أمَّا التناقض فلأن مقاله يدافع عن الماركسية كعقيدة ويعجز عن تأييدها كسياسة؛ ولذلك يحاول أن يصف كل نقد للماركسية بأنه يمين، وأن يثبت — اعتمادًا على هيجل وماركس — أن الفلسفة المثالية فلسفةٌ رجعية، هذا إلى جانب أن يصمت صمتًا تامًّا عن كل الحركات الثورية فيما عدا الماركسية، وإذا ذكرها فلكي يسخر منها أو يتهكَّم عليها؛ فهو يتجاهل الحركة الدولية الأولى وثورة الباكونيين، كما يصمت عن ثوار سنة ١٩٠٥ في روسيا، وهم الذين يصفهم كامي بالمتمردين المعتدلين أو القتلة الأبرياء، ويضعهم في مركز كتابه، ثُمَّ يسخر بالحل الذي يقدمه كامي ممثلًا في الحركة النقابية الاشتراكية كبديل للاشتراكية القيصرية، وينكر أن يكون هناك حلٌّ آخر غير الاشتراكية الماركسية، ربما لأنها هي التي أثبتت نجاحها وأصبح لديها جيشٌ قوي ونظام بوليسي متين!
فعل الناقد هذا كله من وجهة نظر ماركسيةٍ متزمتة، ولكنه لم يستطع أن يناقش الماركسية كسياسةٍ مفتوحة، يدل على ذلك أمران: أنه لم يتعرض لآراء المؤلف عن ماركس وهيجل، ولم يُشِرْ بالتأييد أو النفي إلى هذين السؤالين اللذين طرحهما في كتابه: أليست هناك نزعة إلى التنبؤ في تفكير ماركس (أي التنبؤ بالمجتمع البشري السعيد الذي ستنتهي عنده كل المتناقضات) تدحضها اليوم وقائع عديدة؟ ألم يكن كتاب «ظاهريات العقل» لهيجل سببًا في قيام نظرية في الانحطاط أو «الكلبية» السياسية وظهور هيجليين يساريين أثَّروا على الحركة الشيوعية في القرن العشرين؟
إن كامي لم يهاجم منهج ماركس النقدي، بل أثنى عليه، ولكنه انتقد فكرة التنبؤ «اليوتوبية» وحمَّلها مسئولية جانبٍ كبير من الرعب والإرهاب الذي عرفته الاشتراكية على عهد ستالين مثلًا، وهو يرى أن آراء ماركس ليست آراءً مقدسة لا تُمَس؛ إذ أصبح من الضروري مناقشتها بعد مرور قرن من التطور الاقتصادي والعلمي والصناعي، ولو بُعِثَ ماركس نفسه اليوم لكان أول مَنْ يحرص على تعديل آرائه. وإذا كان من الواجب مناقشة الماركسية، فإن الماركسيين أنفسهم هم أول من يلزمهم هذا الواجب؛ ذلك لأن الفلسفة الماركسية قد وصلت إلى مرحلة تحتِّم عليها أن تتجاوز نفسها أو تتناقض مع نفسها، وأن تصحِّح مبادئها أو تتنكر لها.
وأخطر من هذا كله أن الناقد يصمت صمتًا تامًّا عن كل مآسي الاشتراكية «الفردية» المتسلِّطة، كما يتجاهل ما كتبه المؤلف عن الصلة بين الثورة في القرن العشرين وبين الرعب والفزع السائدين فيه. وإذا صَحَّ أن هذه الاشتراكية المتسلطة هي التجربة الثورية الأساسية في عصرنا الحديث، فلا بد من مواجهةٍ صريحة لمشكلة الرعب والتعذيب والإرهاب التي اقترنت ولا تزال تقترن إلى حدٍّ كبير بهذه الاشتراكية، وبالأخص مشكلة معسكرات الاعتقال، ولا شك أن طرح هذه المشكلة يضايق الكثيرين ممن يفتخرون بأنهم يعيشون في التاريخ أو يصفون أنفسهم بالواقعية، ولكنهم — على كل حال — لا يستطيعون أن يتجاهلوا عذاب ملايين البشر الذين عاشوا في هذه المعسكرات. وتجاهل هذه المشكلة معناه أمر واحد، وهو الموافقة على المذهب، والسكوت عن السياسة العملية التي يتبعها؛ وفي هذا تناقضٌ دموي صريح، ومغالطة يزعم معها صاحبها أن التاريخ الحديث — على الرغم من اضطرابه وبشاعة وجهه — ينطوي على معنًى ضروري ويسير نحو غاية محددة، تنتهي عندها كل التناقضات، ويقوم المجتمع الحر السعيد. إن كتاب المتمرد يحاول أن يبين أن التضحيات التي اقتضتها الثورة الماركسية أمس واليوم لا يمكن أن تبررها إلا النهاية السعيدة المفترضة للتاريخ، وأن الديالكتيك الهيجلي والماركسي يستبعد — في نفس الوقت — هذه النهاية، ولا بد للتغلب على هذه الصعوبة من القول بهذا الفرض: التاريخ ليس له غاية، ولكن له معنًى غير متعالٍ عليه. ربما كان هذا الفرض ممكنًا، ولكنه سيؤدي حتمًا إلى نتائج خطيرة، فتحرير الإنسان من كل عقبة لحبسه بعد ذلك في سجن ضرورة تاريخية يساوي في الواقع تجريده من كل بواعث الكفاح للإلقاء به في آخر الأمر في أحضان حزب من الأحزاب، بشرط أن يكون المبدأ الوحيد لهذا الحزب هو الفاعلية والنجاح، ومعنى هذا — بحسب قانون العدمية — هو الانتقال من الحرية القصوى إلى الضرورة القصوى، والنتيجة هي خلق جيل أو أجيال من العبيد.
إن الناقد يوافق على التمرد الذي يمكنه — على حد قوله — أن يساهم في سلامة أي مشروعٍ ثوري، ما دامت شعلته حية في قلب هذا المشروع، ومعنى هذا أنه يوافق على التمرد، بشرط ألا يكون تمرُّدًا على الحزب أو الدولة الشيوعية، أمَّا المؤلف فهو يتمرد باسم الطبيعة الإنسانية، وباسم كرامة الإنسان، وهو يحس بكل ما قاسته أوروبا وما تقاسيه من تطرف الثورات وانحرافها، فيقول: إن الروح الثورية في أوروبا تستطيع للمرة الأولى والأخيرة أن تُعيد التفكير في مبادئها، وتسأل نفسها ما هو الانحراف الذي أضلَّها وقادها إلى الرعب والحرب، وتكتشف من جديد — بأسباب تمردها — روح الصدق والإخلاص الكامنة فيها. أمَّا التمرد باسم التاريخ، وجعله هو القاعدة والمبدأ والمعنى الوحيد، فلا بد أن يؤدي إلى تأليه التاريخ، والتنكر للتمرد الحق، وإلغاء الحرية والمغامرة الوجودية، وفي هذا إلغاء لروح المذهب الذي يدعو إليه سارتر صاحب مجلة العصور الحديثة والمسئول في رأي كامي عن هذا النقد وصاحبه، وفيه كذلك إنكار لكل منهج نزيه ينبغي أن يلتزم به النقاد. ليس هناك من حل إذن غير التخلي عن اللعب بالحجج العقلية والوقوف إلى جانب الضحايا والمقهورين والملايين المجهولة التي تحمل التاريخ على ظهرها كما تحمل الصليب، ويستغلها المستبدون كل يوم لأغراض الحرب وصراع القوة والدمار.
•••
كان من الطبيعي أن يردَّ سارتر على هذه السطور المتكبرة المريرة التي وجَّهها كامي إليه؛ فجاء ردُّه أشد قسوة ومرارة، وإذا كان كامي قد سمَّاه «السيد مدير تحرير العصور الحديثة»، فإنه يوجِّه إليه خطابه قائلًا: «عزيزي كامي.» إنه يأسف في السطور الأولى على الصداقة التي كانت تربط بينهما، ولم تكن صداقةً يسيرة، لقد كان هناك الكثير الذي يجمعهما، والقليل الذي يفرِّق بينهما، ولكنه كان يفضل أن ينصبَّ الخلاف بينهما على المسائل الأساسية، ولا تختلط به رائحة الكبرياء الجريحة، وكان يريد أن يسكت، لولا أن لهجة كامي قد جعلت سكوته شيئًا مخجلًا، ولولا أن طريقته «البوليسية» في مهاجمة الناقد جانسون قد أجبرته على مواجهته بالحقائق التي كان يجد حرجًا في مصارحته بها.
إن سارتر يسأله قائلًا: أين مرسو — بطل الغريب — يا كامي؟ وأين سيزيف؟ أين هؤلاء الذين دعوا إلى الثورة الدائمة؟ لا شك أنهم قد قُتِلُوا غيلة، أو أنهم يعيشون اليوم في المنفى؛ فقد سيطرت ديكتاتورية مستبدة على صاحبهم الذي يريد تنظيم القانون الخلقي، إنه لا يريد أن يناقش ناقده مناقشة الند للند، بل يريد أن يلقِّنه درسًا، ويصوِّره كما لو كان ظاهرة مرضية في الحياة العقلية، يتناولها تناول الطبيب للجثة الميتة في لوحة رمبرانت المشهورة عن درس التشريح! ولكن من الذي قال: إن آراءه مقدَّسة؟ ومن الذي قال: إن في مناقشتها تجريحًا «لمبررات حياتنا وكفاحنا» ومساسًا بمبادئ لا يجوز لها أن تُمَسَّ؟ وما الذي جعله مدافعًا عن البؤساء وشقيقًا لهم؟ وهل هو حقًّا شقيق للعامل البائس الذي يتظاهر في بولندا، أو للصحفي المسكين الذي يكافح المستعمرين في الهند الصينية؟ أليس هو الذي اختار بؤساءه وقال عنهم: إنهم إخوته؟ أم يريد أن يبين للناس أنه تعب، ويحتج بذلك للخروج بنفسه من دائرة النقاش والكفاح؟ ولماذا يغضب كل هذا الغضب لأن أحد النقاد الشُّبَّان قال له: إن تفكيره غير فعَّال، أو أن الحركة النقابية السكندنافية واعتدال البحر الأبيض المتوسط اللذين يبشر بهما لا يعجبانه؟ كيف يتحول السخط على العصر إلى موضوع إنشائي يزدحم بالبلاغة والإنشاء؟ ولِمَ هذا التجاهل كله للناقد، والكلام عنه كأنه شيء ميت، وتوجيه الخطاب باسم «مدير التحرير» في حين يعلم الناس أنهما (سارتر وكامي) صديقان منذ أكثر من عشر سنين؟ ولِمَ التخفي وراء المكافحين والبؤساء والشهداء وأبطال المقاومة أو بالأحرى لِمَ الوقوف أمامهم؟ وكيف نُسَمِّي هذا كله؟ إرهابًا؟ أم تهديدًا؟ أم تخويفًا باسم الأخلاق؟! ثُمَّ من أنت يا كامي حتى تتعالى كل هذا التعالي؟! وما الذي يعطيك الحق في التكبر على جانسون على هذه الصورة التي لا يوافقك عليها أحد؟ وإذا كنت تكتب أو تفكر خيرًا منه، فهل يبرر هذا أن تتكلم عنه كما لو كان نملة، أو تقف منه موقف القاضي من المتهم؟ ولماذا ترميه بالنية السيئة، والرغبة في الافتراء عليك وتشويه كتابك، والادِّعاء بأن كل تفكير ليس ماركسيًّا فهو تفكيرٌ رجعي، والسكوت على وجود معسكرات الاعتقال في روسيا؟ يا لَسُخف هذه الاتهامات جميعًا! وماذا يفعل الناقد إذا كانت أفكارك غامضة وضعيفة، وكان كتابك شاهدًا على عجزك الفلسفي؟ وإذا كنت تدافع عن المغامرة في التاريخ، فلماذا ترفضها في الأدب؟ ولماذا تحتمي بعالم من القيم الخالدة التي لا تُمَس بدلًا من أن تكافح ضدنا أو تكافح معنا؟ لقد قلت مرة: «إننا نختنق بجانب أولئك الذين يعتقدون أنهم على حق مطلق، سواء أكان ذلك في آلاتهم أو في أفكارهم.» ولكن يبدو أنك قد تخليت الآن عن أصدقائك القدامى من المخنوقين، ووقفت مع الذين يقبضون على رقابهم!
•••
ولعل أهم ما يأخذه سارتر على كامي هو أن الأخير يخلط بينه وبين جانسون — كاتب ذلك النقد الذي أثار ثائرته — فهو يوجه خطابه إلى مدير تحرير العصور الحديثة والمسئول عما يُنشَر فيها، وليس في هذا ما يُلام عليه، ولكنه يجعله كذلك مسئولًا عن رأي جانسون واتجاهه الفكري، وكأنه هو الذي حرك القلم في يده بالكتابة، وسب المكافحين والبؤساء ورجال المقاومة، وسد أذنيه عما يُقال من وجود معسكرات الاعتقال في روسيا! وكل هذا ليس صحيحًا، ولا يمكن أن يكون وسيلةً مشروعة للجدال؛ فالعصور الحديثة — كما يقول سارتر — قد خصصت أحد أعدادها لمناقشة موضوع معسكرات الاعتقال، واتخذت منه الموقف الملتزم الذي يُنتظر منها، كما أن صاحبها لم يتردد يومًا في إعلان رأيه في الشيوعية، والدليل على هذا أن الشيوعيين يكرهونه ولا يكرهون كامي. إن سارتر يدين معسكرات الاعتقال، ولكنه كذلك يدين استغلال الصحافة البرجوازية لموضوعها كل يوم، وكأنها تفرح بتعذيب الروس للتركمانيين كتبرير لتعذيب الفرنسيين للأحرار في مدغشقر أو الجزائر، وتخويف اليساريين في داخل فرنسا نفسها، وفرض العبودية على الناس في ظل حكومة تدَّعي الاشتراكية. وهكذا يقف البرجوازيون هذا الموقف العجيب من اليساريين، فإمَّا أن يعترفوا بوجود معسكرات الاعتقال في روسيا، أو يُتَّهموا بالاشتراك في أكبر جريمة ترتكب على وجه الأرض، حتى إذا اعترض أحدهم على شيء قالوا له: «والمعسكرات! إن معسكرات الاعتقال فضيحة للجميع، وليس الستار الحديدي غير مرآة ينعكس عليها نصفا العالم المشتركان في الجريمة.» لقد كافح كامي — كما يقول سارتر — بكل قواه طغيان فرانكو وسياسة فرنسا الاستعمارية، وكان من حقه أن يتناول موضوع معسكرات الاعتقال في كتاب يبحث قضية الرعب في عصرنا الحديث، ولكن استغلال هذا الموضوع لإسكات ناقد هاجمه شيء لم يكن يليق به، هكذا يخلط بين الأسياد كما يخلط بين العبيد. وما دام لا يفرق بين هؤلاء، فلن يشعر نحوهم بغير تعاطف من ناحية المبدأ؛ ولذلك فإن سارتر لا يجد له حلًّا إلا أن يذهب بنفسه إلى جزر جالاباجوس!
•••
ويستطرد سارتر في الكلام عن قصور كامي الفلسفي، وكيف أنه يكتفي بالكتب الثانوية ولا يكلف نفسه بالرجوع إلى المراجع الأصلية، سواء أكان ذلك في حديثه عنه أو عن هيجل أو ماركس، بل إن سارتر يذهب إلى حد أنه لا ينصحه بالرجوع إلى «الوجود والعدم» الذي ستكون قراءته صعبة عليه أيما صعوبة؛ لأنه تعوَّد ألا يُتعب نفسه في الفهم؛ لكي يستطيع بعد ذلك أن يقول: إنه لم يجد شيئًا يُفْهَم.
ثُمَّ يمضي سارتر في إلقاء درس في الفلسفة على كامي، يعلِّمه فيه معنى الحرية، وكيف أن الحرية الباقية هي «الاختيار الحر» للكفاح من أجل أن نصبح أحرارًا، أي حرية الالتزام الذي يخوض معركة التاريخ، لا حرية المتفرج من فوق قمة وحيدة «خارج» التاريخ، ثُمَّ يعود بالذاكرة إلى الأيام التي تعرَّف فيها على كامي، وكان ذلك في سنة ١٩٤٥، فيقول له: «لقد كُنت بالنسبة لنا — وقد تصبح كذلك غَدًا — مركبًا عجيبًا يتألف من الشخص والفعل والمؤلفات.» كان ذلك في سنة ١٩٤٥ عندما اكتشفنا كامي الذي اشترك في المقاومة كما اكتشفنا كامي مؤلف الغريب، وعندما قارنَّا بين محرر جريدة الكفاح «كومبا» السرية وبين «مرسو» الذي أدت به الأمانة إلى حد أن يرفض القول بأنه يحب أمه أو عشيقه، والذي حكم عليه مجتمعنا بالإعدام، وعندما عرفنا قبل كل شيء أنك لم تكف يومًا عن أن تكون أحدهما أو الآخر، جعلَنا هذا التناقضُ الواضح نتقدم في معرفة العالم، ولم تكن في ذلك الحين بعيدًا عن القدوة والمثل؛ ذلك لأنك تجمع في شخصك صراعات العصر، وتتجاوزها بالحماس الذي يجعلك تحياها، كنت من أغنى الشخصيات وأشدها خصوبة، آخر ورثة شاتوبريان وأفضلهم والمدافع المتمرس عن قضية اجتماعية، وكانت لديك كل فرص النجاح وكل ما يجعلك جديرًا به، فقد كنت تجمع بين عاطفة العظمة والإحساس الملتهب بالجمال، بين حب الحياة والشعور بمعنى الموت. ويواصل سارتر كلامه عن تجربة كامي بالعبث أو المحال، وعاطفته التي تتمرد على العالم وتحبه في نفس الوقت، وجعله من السعادة واجبًا على الإنسان، وإضفائه المعنى على وجوده؛ لأنه هو الكائن الوحيد الذي يبحث عن هذا المعنى ويُطالب به، وكيف أن هذا المعنى كان دائمًا «خارج» التاريخ أو فوقه؛ لأن الإنسان قد حكم عليه أن يبحث عن العدالة في مواجهة الظلم الأبدي، ويخلق السعادة ليحتج على عالم الشر والشقاء. وإذن فقد ظل كامي حلقة في تراث فكري معادٍ للتاريخ، يمكننا — إذا استثنينا باسكال — أن نقول: إنه بدأ بديكارت، وهو قد رفضه رفضًا سابقًا على كل تجربة؛ لأن هذا التراث يرفضه، ولأنه — أي كامي — يجعل القيم الإنسانية كلها في الصراع «ضد السماء»؛ ولذلك فقد انتهى إلى حكمةٍ مريرة، تحاول أن تنكر الزمن بسبب ما واجهته فيه من متاعب، وعندما جاءت الحرب واختار أن يشترك في حركة المقاومة للنازيين، كان ذلك نوعًا من الاحتجاج على شكل من أشكال الظلم والعبث الأبدي. وهكذا دخل التاريخ مرغمًا، لكي يخرج منه بعد ذلك ويواصل تأمله من بعيد، وظل التاريخ بالنسبة إليه هو الحرب وجنون الآخرين الذي «يمنع الطيور من الغناء، والناس من الحب.» كما ظل الصراع فيه يحمل طابع الصراع غير الزمني ضد ظلم القدر الإنساني؛ ولذلك فلم يكن يفكر حين اشترك في المقاومة في صنع التاريخ — كما قد يقول مفكر مثل ماركس — بل في إنقاذ فكرة الإنسان من بين مخالب القوى العمياء التي توجه هذا التاريخ. وهكذا عاد إلى اليأس الذي يرى من واجب الإنسان أن ينتزع منه سعادته لإثبات أننا «لا نستحق كل هذا الظلم.» ولكن سارتر وأصحابه لم ينظروا إلى الحرب على أنها حالة من حالات التاريخ بل تمسكوا بكلمة مالرو: «ليبق النصر من حظ أولئك الذين قاموا بالحرب دون أن يحبوها.»
وهكذا أصبح كامي رمزًا للتضامن بين البشر، واستطاع أن يقول: «إن الناس يكتشفون تضامنهم عندما يدخلون في صراع مع قدرهم المتمرد.» ولكن هذا هو الذي حجب عنه حقيقة أخرى، وهي أن صراع الإنسان مع الطبيعة ليس إلا سببًا ونتيجةً لصراع من نوع آخر أقسى وأَمَرَّ، ألا وهو صراع الإنسان مع الإنسان. كان يتمرد على الموت، وكان غيره يتمرد على ظروفه الاجتماعية، وكان الطفل البريء يموت فيلعن القدر الظالم، ولكن والد الطفل — سواء أكان عاملًا أو عاطلًا — كان يلعن البشر الذين تسببوا في موته بسبب الفقر أو الجوع. وهكذا ظل تمرده مثاليًّا لا تستطيع الملايين أن تسمع فيه صوت سخطها الحقيقي، وكان كلامه عن الفقر أو الموت كلامًا حقيقيًّا قبل الحرب، ولكنه لم يعد كذلك بعد انتهائها؛ فقد أصبح الناس لا يتمردون على القدر، بل على الذين يصنعون قدرهم، ولا يريدون أن يتعلموا «فن الحياة» أو يكتشفوا «أسرار الجسد والطبيعة» بل يحاولون أن يحتملوا عناء أجسادهم المتعبة في آخر الليل، والطبيعة الغريبة التي يرون بها عدوهم الأول وهو يستغلهم في المصنع أو المعمل أو الوظيفة؛ ولذلك أصبح تمرده صرخةً مثالية لا تقنع مظلومًا، وتضامنه صراعًا يدور تحت عينيه بين الطبقات، وراح يحمِّل التاريخ مسئولية الخطأ بدلًا من أن يحاول تفسيره أو يشارك في تقدمه، ويستعير من مالرو وغيره كلامهم عن تأليه الإنسان، ويُصْدِر أحكامه على الجنس البشري بغير تمييز، ويسأل عن معنى التاريخ — وهو سؤال جامد مجرد — بدلًا من أن يحاول إعطاءه ذلك المعنى بالمشاركة فيه. وهكذا أصبحت شخصيته — التي كانت عنوانًا على الأمل والحياة في خلال الحرب — مجرد سراب من آثار الماضي، ولم يفطن إلى أن الطبيعة التي كان يتغنى بمجدها وجمالها قد تغيرت هي أيضًا بتغير علاقات الناس بها. لم يبقَ له إذن غير الذكريات واللغة التي تزداد تجريدًا، وليس أمامه إلا أن يترك الناس ويعكف على نفسه وحيدًا في عزلةٍ بعيدة قد يجد فيها الدراما الإنسانية التي افتقدها.
•••
بهذه اللهجة القاسية تحدث سارتر إلى كامي، ولكن من الإنصاف أن نقول: إنه كان كذلك قاسيًا في حديثه عن نفسه، وإنما اشتد في لهجته معه؛ لأنه أحسَّ أنه قريب منه، وأن كليهما ملتزم بالتاريخ وإن اختلفت نظرتهما إليه، فكامي — في رأي سارتر — قد تجمَّد في قلعة أفكاره المثالية وقيمه الأخلاقية المطلقة، بينما راح سارتر — بنزعته العقلية وفكره التحليلي — يفسر هذا التاريخ الذي يصنعه البشر كل يوم، ويشارك في اتخاذ المواقف الحاسمة من الظلم الاجتماعي والسياسي في بلاده وفي العالم كله على السواء، ولعله لم يشتدَّ في قسوته على كامي كما قلت إلا لأنه أحسَّ أنه بعاطفته وجدِّه وصدقه جزء منه، فالإنسان لا يهاجم شيئًا مقطوع الصلة به، بل يزداد في هجومه عليه كلما كان هناك شيءٌ قوي يجمعه به أو يفرقه عنه، وتلك هي إحدى المفارقات الكامنة في طبيعته؛ ولذلك فإن هجومه عليه — مهما اشتدت قسوته — يخفي على الدوام عاطفة حبه وتقديره له، بل ويعبر عن رغبته في أن يمدَّ يده إليه ليسيرا معًا — برغم كل الاختلافات — على طريقٍ واحد إلى جانب المظلومين والضحايا والمقهورين. وإذا كان الموت قد باغت كامي وهو في أوج شبابه ومجده — بعد سبع سنوات من هذا الخلاف قضاها وحيدًا كالبطل الجريح — ولم يقدَّر لهذه اليد أن تصافح يد الصديق القديم، فإننا نحن الذين ننظر اليوم إلى هذا النزاع — بعد أربعة عشر عامًا من وقوعه — لا نملك إلا الأسف؛ لأنه فرق بين شخصيتين كبيرتين كان من الممكن أن تكمل إحداهما الأخرى، ولكننا مع ذلك لا نملك إلا الإعجاب بهذا الخلاف الذي دار في صميمه حول الإنسان وعذابه ومصيره في عصرنا الحديث، وطبيعي أن الفرد الواحد لا يمكنه أن يملك الحقيقة كلها، كما لا يمكن أيضًا أن يكون كل ما يقوله أو يفكر فيه خطأً كله. ولقد أظهرت هذه المناقشة — إذا أحسنَّا فهمها وجرَّدناها من الحدة والغضب والحساسية التي اتسمت بها — أن الخلاف هو الشرط الأساسي للقاء، والحوار بين الأشخاص والأفكار هو الدليل الأول على حرية الفكر والضمير، ولا شك أن هذا الخلاف لم تُقَلْ فيه الكلمة الأخيرة ولا يمكن أن تُقال، فما زال سارتر يتابع نشاطه المذهل ويثبت كل يوم مدى صدقه والتزامه بواقع الإنسانية ومستقبلها، وإذا كان زميله قد تركه إلى الأبد، فلا شك أنه كلما فكَّر في هذا الخلاف أحسَّ بما يدين له به، واستمد منه مزيدًا من العمق والشجاعة والإخلاص، ولا شك أيضًا أننا سنستطيع أن نستفيد من تأملنا في هذا الخلاف؛ لأنه كان وسيظل خلافًا حول الإنسان.
_________________________________________
١- يستطيع القارئ إذا شاء أن يرجع إلى تفصيل هذا كله في كتابي عن ألبير كامي، دار المعارف، ١٩٦٤.
٢- راجع الفصل الذي تقدم عن مشكلة العلو في الفلسفة «ألترانسندنس».