ديمة الشكر - في عشق العميد

أربعة وأربعون عامًا بالضبط على غياب عميد الأدب العربي؛ الدكتور طه حسين. وإذ هو غير محتاج لمديح، فلأن ما تركه من مؤلّفات يشيع في النفس فخرًا وغبطة. أكثر من هذا، إذ تعطي مؤلفاته للقارئ، قوّة التكوين الأدنى إلى تشكيل هوية ثقافية. ذلك لأن مؤلفات العميد موسوعية المعرفة، أصيلة المنهج، مبتكرة لدروب عبّدها تضافر القراءة العميقة للتراث العربي والقرآن والانفتاح على الثقافات الأخرى والانتماء إلى العصر، مع موهبة نادرة في البسط والتحليل والإقناع، والأهم الابتكار النقدي الذي يفضي إلى فتح طرق جديدة، والتأسيس لتيارات في الفكر والثقافة العربيين.

المثال الأكثر سطوعًا على فعل طه حسين في ثقافتنا، كتابه الأشهر: في الشعر الجاهلي (1926). الكتاب الصغير المنمنم بألف كتاب وكتاب. أمن حاجة للتذكير كيف أن بفضله، غنمت المكتبة العربية كتبًا ترد عليه؟ لعلّ من أقواها وأمتعها كتاب ناصر الدين الأسد “مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية”. ومن الطريف أن الكتب التي ردت على كتاب العميد، جاء في عناوينها كلّها تقريبًا: الشعر الجاهلي. لكأن “هبّة” ما، أصابت غير ما باحث للدفاع عن مقدسٍ ثاوٍ فينا.

لكن في الواقع، تعرّض الأديب كما هو معروف ومقيّد إلى محاكمة بسبب كتابه هذا نتيجةً لتقرير رفعه علماء الأزهر، ثم أصدر طبعةً جديدة منه عام 1927، حذف منها ما “أثار الضجة”. ولحسن الحظ أن مجلة القاهرة، نشرت في أحد أعدادها أوراق محاكمة العميد، وحفظت لنا أقوال رئيس نيابة مصر وقتها محمّد نور، الذي برأ العميد وقرّر: “لم يكن غرض المؤلّف مجرد الطعن والتعدّي على الدين، بل إن العبارات الماسّة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه، إنما أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده بأن بحثه يقتضيها، وحيث إنه من ذلك، يكون القصد الجنائي غير متوافر”.


القصّة كلّها هنا، فلكي يتمكن محمّد نور من الوصول إلى قراره القضائي هذا، كان عليه أن يقرأ كتاب العميد قراءة عميقةً، ويظهر أنه كان دؤوبًا مجدًا بحق فقد عاد إلى الكتب القديمة، ونظر وقارن، ثم بيّن أن العميد غيّر لفظةً في قول أبي عمرو بن العلاء: “ما لسان حِمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا” إلى “ولا لغتهم بلغتنا”. وشتان ما بين الاثنين، فالأولى يقصد بها اللهجة أما الثانية فهي فعلًا اللغة.

والعميد استند إلى “فكرة” الاختلاف بين “اللغتين” لا اللهجتين، في الفصل المعنون “الشعر الجاهلي واللغة”، كي يبدأ بالتشكيك في ما يروى عن كيفية تعلّم إسماعيل بن إبراهيم “العربية” من قبيلة جُرهُم اليمنية، وأنه نسي لغة أبيه. وبكلام مختلف، أن “عربية” حمير (اليمن)، انتقلت إلى الحجاز وسادت هناك، والدليل أن “أوّل من تكلم بالعربية ونسي لغة أبيه، إسماعيل ابن إبراهيم”. وبكلام آخر أيضًا أن العرب المستعربة في الحجاز، نسيت لغتها وأخذت اللغة العربية (لغة القرآن) من العرب العاربة في اليمن.

مغيّرًا اللفظ في الشاهد إذن، أوجد العميد في ذهن القارئ أن ثمة لغتين مختلفتان، وانطلق من هذه النقطة في نزع “التقديس” عن بعض القصص في الكتاب الكريم، وفتح الباب أمام البحث العلمي، عادًا تلك القصص أدنى إلى الأساطير. إذ يكتب معلقًا على ذلك: “فواضح جدًا لكل من له إلمام بالبحث التاريخي عامة، وبدرس الأساطير والقصص خاصة، أن هذه النظرية متكلفة مصطنعة في عصور متأخرة، دعت إليها حاجة دينية أو اقتصادية أو سياسية”.

وفي الفصول التالية، سيسرد الدوافع الدينية والاقتصادية والسياسية، التي دفعت الرواة والمدونين القدامى، لاختلاق القصص وانتحال الشعر. المفارقة، أنه لن يصل إلى الشعراء الجاهليين إلا في الربع الأخير من كتابه، بينما كان الشعراء المتأخرون عنهم، خاصّة حسان بن ثابت (في ما كتبه بعد الجاهلية)، حاضرين كـ “حجة” لانتحال الشعر الجاهلي.

فالكتاب الصغير هذا، بطبقات وطبقات، ظاهره إثبات أن الشعر الجاهلي أُلّف بعد الإسلام، لكنه في العمق، يؤدّي إلى إعمال التفكير النقدي، عبر إخضاع أي نص للبحث العلمي. وكان هذا ما عدّ وقتها مسًا بالدين، وتمت محاكمة طه حسين على هذا الأساس.

الكتاب الصغير مشعّ، ويمكن تلمس أثره في توليد الشغف بالشعر الجاهلي والبحث فيه قبل أي شيء آخر.

يكتب العميد مثلًا: “أن امرأ القيس – إن صحّت أحاديث الرواة – يمني وشعره قرشي اللغة، لا فرق بينه وبين القرآن في لفظه وإعرابه وما يتصل بذلك من قواعد الكلام. ونحن نعلم – كما قدّمنا – أن لغة اليمن مخالفة كل الخلاف للغة الحجاز، فكيف نظم الشاعر اليمني شعره في لغة أهل الحجاز؟ بل في لغة قريش خاصة؟”، معيدًا بذكاء اختلاف اللغتين لا اللهجتين حجة علمية لتجريد “الملك الضليل” من كل شعر قاله تقريبًا. لن يتردد العميد في عد جل شعر امرئ القيس منحولًا، لا بل لم يرف له جفن في التشكيك بمعلقة امرئ القيس. يكتب معلقًا عن أشهر بيتين (وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله/ علي بأنواع الهموم ليبتلي/ فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازًا وناء بكلكل): “هذان البيتان أشبه بتكلف المشطر والمخمس منهما بأي شيء آخر”. إذ يبدو أن رنين اللام في الشطور الأربعة، زين لعميد الأدب تكلف امرئ القيس ونحل هذا الشعر.

لكن العودة إلى علم العروض المرذول، تنصف امرئ القيس وغيره من الجاهليين، ذلك أن التقفية والتصريع (بتبسيط شديد: استعمال اللام في الشطور الأربعة مثلًا)، من أسس بناء القصيد، أي الشطرين المقفى. لقد كان القصيد وقتها، يتشكّل وفقًا لقواعد دقيقة، لم يستطع الشعراء الالتزام بها كلّها ودفعة واحدة، من هنا شاع الإقواء كعيبٍ عروضي في الشعر الجاهلي (لا تخلو منه معلقة امرئ القيس)، وشاع الترتيب الهندسي للمعلقات التي لا يمكن أن تبدأ إلا بتصريع وتقفية، سيستعملهما الشاعر في المطلع حكمًا، ثم في كلّ مرة يريد الانتقال من غرض شعري إلى آخر. وهو (أي تعدد الأغراض الشعرية، وينقده العميد أيضًا) لا نكاد نجده في الشعر الإسلامي، الذي صار الغرض الشعري فيه واحدًا، وتمّ لجمٌ للخيال الشعري، وسادت دقة عروضية لعلها مزعجة لفرط ما فيها من تكلّف. وكان لا بدّ من الانتظار قليلًا لإعادة الخيال إلى مملكته، وتمّ ذلك في الشعر العذري، حيث الغرض واحد هو الحبّ “البريء” تغلفه الرحلة، (درسه الطاهر لبيب في كتابه الشهير)، لكن فيه حسية مخفية نجدها قليلًا لدى مجنون ليلى، وقليلًا أيضًا لدى جميل بثينة، فحكايتهما في النهاية حكاية عشق الشيخ الوسيم للصبية الجميلة، ولها ما لها من استدعاء الجسد في فتوته وكهولته. ومن بعد كان لا بدّ لكل ذلك أن يتخلخل ثانية على يدي أملح الشعراء (أبو نواس) الذي سخر من بنية المعلقات، وبلماحته غير المسبوقة، كتب أجمل الحسيات وأجمل الخمريات. وفي كل هذا، كان بارعًا في استعمال البحور القصيرة (بحر المقتضب خصوصًا)، والقليلة الورود في متن الشعر القديم.

واستعمال بحور بعينها والعزف عن غيرها، يعين أيضًا في البحث في كلام العميد عن الرواة القدامى الذين “يجدون في ما ينسب إلى عدي بن زيد من الشعر سهولة ولينًا لا يلائمان العصر الجاهلي، فيحاولون تعليل ذلك بالإقليم والاتصال بالفرس واصطناع الحياة الحضرية التي كان يصطنعها أهل الحيرة”. إذ من الممكن البحث في هذه النقطة من خلال علم العروض أيضًا، والنظر في اشتباك العروضين العربي والفارسي في بلاط الحيرة، والميل من جرّاء ذلك للأوزان الأقصر.

القصد أن الكتاب الصغير لما يزل يفتح الباب أمام البحث العلمي، ويعيد القارئ إلى كتب كثيرة، إذ هو يجلو بإشعاعه غبار الماضي المثقل بالقيود، من هنا فرادته.

وقد اختار عميد الأدب، الشعر الجاهلي، “غطاءً” من أجل تمرير أفكار نقدية قوية تجاه التقديس، وثار عليه كثرٌ: طائفة لأنها تهوى الشعر الجاهلي، فكتبت فيه، وأخرى لا تميل لإخضاع المقدس للبحث العلمي، فحاكمته. لكنه الفطن الاستثنائي، الذي سيبتعد عن الشعر الجاهلي، ويذهب مسلّحًا بقوة علمه وجمال أسلوبه، ليكتب أحد أهم كتبه: الشيخان. وفيه يستعمل منهجه في “الشك” لبسط أمور حسّاسة من زاوية مختلفة، تهدف قبل أي شيء آخر إلى إعمال التفكير النقدي، وإخضاع كل شيء تقريبًا للبحث العلمي.

يبقى “في الشعر الجاهلي” من أجمل الكتب، يعود القارئ إليه، كمن يستعيد قصيدة جاهلية تشغفه، ويريد التمتع ثانية بأجوائها والسحر المبثوث في ثناياها. أيكتفي المرء بقصيدة جاهلية؟ لا. لا بدّ من أكثر من قصيدة. قصيدة فأخرى، تتشكّل صورة الشاعر الجاهلي، تقوى وتضعف على إيقاع كلمات العميد التي لن تكفّ عن التوهج، وبثّ المكر في التحليل والإقناع، وذاك الأسلوب الرفيع والرائع في الكتابة. شيء كالسحر ودائرته.

زد على هذا، قصّة روتها زوجته في كتابها عنه (معك، ترجمة بدر الدين عرودكي): “فقد تعرّفت عليه ذات يوم، فتاةٌ عند خروجه من المحطة، فتأملته ملياً ثم صاحت بإعجاب: (هو زي القمر). وبعد هذه الجملة لا إضافة ولا مزيد، لأن العميد في كلّ ما كتب “زي القمر”.


ديمة الشكر
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...