تُشرِّقُ الشّمس في كُلّ صباحٍ على القريةِ ، وما أكثرَ إشراقها ، لا شيء يتغيّر تحتَ قبةِ السّماء ، في هاتهِ السّاعة ينهض القوم من مخادعِ أحلامهم الوردية، على عصا الخولي ، يدكّ ألواح أبوابهم القديمة التي شاخت ، بعدما رتعت من أثداءِ الفقرِ قرونَ طوال.
يجوب الدّروبَ ، وينعطف في الأزقةِ ، فوقَ حمارهِ العجوز ، وكرشهِ الممدد فوقَ بردعتهِ التي اخرجت ألسنتها ، تتدلى بلغته الجلد الكالحة ، من قدميه الغلاظ ، وعصاه الثقيلة يمررها فوق الجدران ، منذ بكّت الشمس من فوق الحقولِ ، واعتلت شواشي النخلات السُّمر شرق القريةِ ، يصيح مهتاجا : قوم يا خينا ناموسيتك كحلي ... اتأخرنا...
نهض صاحبنا من نومهِ ، ينفض عن سحنتهِ السّمراء ووجهه الضّامر ، غبار التعب وخيوط الشقاء ، تثاءب بصوتٍ ملؤه الكسل والاجهاد ، هشّ بيده دجاجات أمه ، الللاتي اعتلينَ غطاء زير الماء المنصوب وسط الصّالةِ ، هربا من الديكِ المشاكسِ الذي يجري وراءهن من بعدِ الفجرِ .
كانت والدته قد شغلت بتجهيزِ شؤون البيتِ مُبكِرا ، ألقت حزمة الحطب من فتحةِ السّلمِ الطيني المرابض خلف َ البابِ ، وفي حجرِ جلبابها الأسود البالي ، رؤوس الثوم وحفنة الملوخية اليابسة .
تمعّن منظرها ، ثم هرش في رأسهِ ، عدّل ياقة جِلبابهِ الأزرق الباهت ، وألقى على أمهِ تحية الإصباح على عجلٍ ، ردت عليهِ في انشراحٍ ، وابتسامة تدغدغ تجاعيد وجهها الضّامر ، تناول كوز الماء ، مغترفا غرفة نضحها فوق وجههِ ، دَلَقَ بعدها البقية في فمهِ ، وتجشأ بصوتٍ عال ، ومن خلفهِ تهادى صوت أمه : صحة ... صحة .
اتخذ مكانه إلى جوارِ الكانون ، كانت أمه تمسك حزمة الحطب ؛ تكسرها فوقَ ركبتها ، ادخلتها تحتَ البرادِ ، وغابت في دخانهِ المُتصاعدِ ، تنفث بقوةٍ وقد اغرورقت عينيها ، رمت كفا من الشايِ ، اعقبتها بالسكرِ ، امسكت السلك الألومنيوم المحيط برقبةِ البراد ، هزّته سريعا ، كان صاحبنا قد انتهى من تقميرِ كسرة البتاو اليابس ، حشاها حصواتٍ من الجبن القديم ، وبدأ يأكل في وداعةٍ ، وعينه تجوب المكان ، وعشرات الأسئلة تتزاحم داخل رأسهِ ، تخالط لسانه ، عاجلته بصوتها الحاني، وهي تمسح وجهها بطرفِ حرامها القطني : اليوم سوق .. تخلص شغل متتأخرش.
بشّ إليها ، زَاغَ بصره من حولهِ ، تحرّك ناحيةِ الباب ، امسك بفأسهِ المركون خلفه ، وهو يقول : تكالنا عليك يا رزاق ..
وفي الشّارعِ تبادل التحايا مع جيرانهِ ، الذين اتخذوا طريقهم صوب الحقولِ ، تناثرت قطعان الماشية ، وتزاحمت الكلاب على رؤوسِ الدّروبِ ، اخرجت ألسنتها يسيل لعابها ، ترتسم على عيونها بهجة ، غابت عنها طوال الأسبوعِ ، كان المعلم " مفتاح " الجزار قد نصبَ اخشاب " السيبه" ، بجوارِ الجدارِ ، وبدأ في نزعِ غطاء القماش الرقيق ، الذي يلفّ بهِ قطعة اللحم ِ ، فخذ عجالي كبير ، تركَ لصبيهِ " مشهور " مهمة اخرجَ العدة من جوال نايلون ، والبدء في سنّها.
اليوم هو يوم السّوق ، وليومِ السّوق طقوسه المقدسة عند أهلِ القرية ، كانت الحركة تدبّ في الحقولِ بنشاطٍ وهمةٍ ، وطوائف الأجرية متناثرة وسط سوادِ الأرضِ كنقوشِ الجدران .
بعدَ قليلٍ انتصفت شمس النّهار ، وجاءت لقمة الضُّحى ، تصبيرة تعوّد أرباب العمل تقديمها للأنفارِ ، في هاتهِ الساعةِ ، ووسط كركرةٍ وضحكٍ وابتسام يعتلي الوجوه الكالحة ، كانت العيون تتحول دون قصدٍ ناحيةِ البيوتِ ، تُراقب سحب الدخان الأبيض الرّقيق ، المتصاعد فجأةً ، تهب الرِّياح البحرية ، فتتعلق بها روائح انتظروا مقدمها أسبوعا كاملا ، تتمدد ابتسامة ثقة واطمئنان ، على الوجوهِ التي بدأت تلوكُ طعامها في صمتٍ ، وقد شغفتهم الروائح القادمة حُبّا.
كانت كوانين النّار في الدورِ على موعدٍ ، لقد اضرمت نيرانها ، وشبّ لهيبها ، بعد أن اعتلتها الحلل تغلي باللحمِ والمرقِ ، وتفورُ بالتخديعةِ الثقيلة التي تكاثرت روائحها الزكية ، ما إن يهبُّ الهواء حتى تتلوى غمامة متكاثرة ؛ تعبق المكان من حولِ البيوت ، تتكاثر روائح الطبخ المشبعة بالدّسمِ ، فتخلق من فوقِ المجاري ، غلالة سحرية تترامى على المصارفِ والسِّككِ ، وتطوفُ في صخبٍ حول الحقولِ القريبةِ من الحيطانِ ، طوفان العابد الزاهد حول منسكهِ.
بدأت أحاديث الحقولِ تنبش كعادتها في كُلّ شيء ، تجوبُ بينَ الدّروبِ ، وتقفز في البيوتِ دون استئذانٍ ، وتبعثر في فجاجةٍ أدق أسرار الجيران ، وتقتحم خصوصياتهم بين تلفيقٍ وكذبٍ وافتراء ، وتلك أحاديث الحقولِ منذ عرف الفلاح الحكي ، لكنّها سرعان ما ترقد فتعود لنقطةِ البدءِ ثانيةً ، تنتفض أحاديث تلك الروائح المنعشة القادمة بين طياتِ الفضاء ِ ، يطرق الأنفار في صمتٍ وتوجس ، لا تسمع ساعتئذٍ إلا صربات الفؤوس تقلِّب وجه التربة وتداعبه ، رويدا رويدا ينبري أحدهم ليفتح الطريق أمام أحاديث الطبيخ ، فيصل منها ما انقطع ، لتنصب سهراية اليوم وما ألذّها من سهرايةٍ ، وأحاديث عن رعونةِ بعض النساء ، وكرم بعض البيوت ، وبخل الآخرين ، وأحب الخضراوات ، والتفاضل المعهود ما بين اللحم ، وبين الطيور ، يتباهى البعض تيها ، فقطعة الزّفر عنده أغلى من الدنيا وما فيها،يقسم برأسِ أبيه بأنّه لا يحسب للدنيا حسابها أمام اللّقمة الحلوة والطّبخة المظبوطة ، فلحييه الله اليوم ويميته غدا ، ويعطف البعض متمنيا أن تصبح أيامهم جميعا سوق ، حتى لا ينقطع الطبيخ عن بيوتهم .
تتلمظ الحنوك خلسةً مع أحاديثِ الدّسمِ التي لا تنقطع ، وفي نفسِ كُلّ واحدٍ منهم أماني يشتهيها ، لا يرجو سواها ، ولا يحب أن ينقطع حديثها ، هكذا حتى تنقضي ساعات النّهارِ، تودع شمس اليوم ظهور الأنفار في الحقولِ ، وفي همةٍ تنسابُ جماعاتهم ، تتبع خيوط الدسم وروائح الزّفر التي غلّفت الأجواء ، وأمنيات حلوة تُداعبُ العقول ، كما داعبت من قبلٍ البطون ، يحلّ المساء ، ويعود الفلاحون لبيوتهم .
دقائق وتموت الحركة في الدّروبِ ، فلا تسمع إلا زمجرة الكلاب والقطط التي اتخذت أماكنها أمام الأعتاب ، تنتظر ما يُلقى إليها ، وطرقعة الطبالي تنصب للساعةِ الموعودة ، تُغرَق الشوارب ، وتغوصُ الأصابع في أطباقِ " اليخني" الثقال ، ووصايا الأمهات تتهادى من تحت مصابيح خافتة ، تنبّه صغارها ، أن يبدأوا باللحمِ قبل أن تمتلئ بطونهم بالخبزِ...
يجوب الدّروبَ ، وينعطف في الأزقةِ ، فوقَ حمارهِ العجوز ، وكرشهِ الممدد فوقَ بردعتهِ التي اخرجت ألسنتها ، تتدلى بلغته الجلد الكالحة ، من قدميه الغلاظ ، وعصاه الثقيلة يمررها فوق الجدران ، منذ بكّت الشمس من فوق الحقولِ ، واعتلت شواشي النخلات السُّمر شرق القريةِ ، يصيح مهتاجا : قوم يا خينا ناموسيتك كحلي ... اتأخرنا...
نهض صاحبنا من نومهِ ، ينفض عن سحنتهِ السّمراء ووجهه الضّامر ، غبار التعب وخيوط الشقاء ، تثاءب بصوتٍ ملؤه الكسل والاجهاد ، هشّ بيده دجاجات أمه ، الللاتي اعتلينَ غطاء زير الماء المنصوب وسط الصّالةِ ، هربا من الديكِ المشاكسِ الذي يجري وراءهن من بعدِ الفجرِ .
كانت والدته قد شغلت بتجهيزِ شؤون البيتِ مُبكِرا ، ألقت حزمة الحطب من فتحةِ السّلمِ الطيني المرابض خلف َ البابِ ، وفي حجرِ جلبابها الأسود البالي ، رؤوس الثوم وحفنة الملوخية اليابسة .
تمعّن منظرها ، ثم هرش في رأسهِ ، عدّل ياقة جِلبابهِ الأزرق الباهت ، وألقى على أمهِ تحية الإصباح على عجلٍ ، ردت عليهِ في انشراحٍ ، وابتسامة تدغدغ تجاعيد وجهها الضّامر ، تناول كوز الماء ، مغترفا غرفة نضحها فوق وجههِ ، دَلَقَ بعدها البقية في فمهِ ، وتجشأ بصوتٍ عال ، ومن خلفهِ تهادى صوت أمه : صحة ... صحة .
اتخذ مكانه إلى جوارِ الكانون ، كانت أمه تمسك حزمة الحطب ؛ تكسرها فوقَ ركبتها ، ادخلتها تحتَ البرادِ ، وغابت في دخانهِ المُتصاعدِ ، تنفث بقوةٍ وقد اغرورقت عينيها ، رمت كفا من الشايِ ، اعقبتها بالسكرِ ، امسكت السلك الألومنيوم المحيط برقبةِ البراد ، هزّته سريعا ، كان صاحبنا قد انتهى من تقميرِ كسرة البتاو اليابس ، حشاها حصواتٍ من الجبن القديم ، وبدأ يأكل في وداعةٍ ، وعينه تجوب المكان ، وعشرات الأسئلة تتزاحم داخل رأسهِ ، تخالط لسانه ، عاجلته بصوتها الحاني، وهي تمسح وجهها بطرفِ حرامها القطني : اليوم سوق .. تخلص شغل متتأخرش.
بشّ إليها ، زَاغَ بصره من حولهِ ، تحرّك ناحيةِ الباب ، امسك بفأسهِ المركون خلفه ، وهو يقول : تكالنا عليك يا رزاق ..
وفي الشّارعِ تبادل التحايا مع جيرانهِ ، الذين اتخذوا طريقهم صوب الحقولِ ، تناثرت قطعان الماشية ، وتزاحمت الكلاب على رؤوسِ الدّروبِ ، اخرجت ألسنتها يسيل لعابها ، ترتسم على عيونها بهجة ، غابت عنها طوال الأسبوعِ ، كان المعلم " مفتاح " الجزار قد نصبَ اخشاب " السيبه" ، بجوارِ الجدارِ ، وبدأ في نزعِ غطاء القماش الرقيق ، الذي يلفّ بهِ قطعة اللحم ِ ، فخذ عجالي كبير ، تركَ لصبيهِ " مشهور " مهمة اخرجَ العدة من جوال نايلون ، والبدء في سنّها.
اليوم هو يوم السّوق ، وليومِ السّوق طقوسه المقدسة عند أهلِ القرية ، كانت الحركة تدبّ في الحقولِ بنشاطٍ وهمةٍ ، وطوائف الأجرية متناثرة وسط سوادِ الأرضِ كنقوشِ الجدران .
بعدَ قليلٍ انتصفت شمس النّهار ، وجاءت لقمة الضُّحى ، تصبيرة تعوّد أرباب العمل تقديمها للأنفارِ ، في هاتهِ الساعةِ ، ووسط كركرةٍ وضحكٍ وابتسام يعتلي الوجوه الكالحة ، كانت العيون تتحول دون قصدٍ ناحيةِ البيوتِ ، تُراقب سحب الدخان الأبيض الرّقيق ، المتصاعد فجأةً ، تهب الرِّياح البحرية ، فتتعلق بها روائح انتظروا مقدمها أسبوعا كاملا ، تتمدد ابتسامة ثقة واطمئنان ، على الوجوهِ التي بدأت تلوكُ طعامها في صمتٍ ، وقد شغفتهم الروائح القادمة حُبّا.
كانت كوانين النّار في الدورِ على موعدٍ ، لقد اضرمت نيرانها ، وشبّ لهيبها ، بعد أن اعتلتها الحلل تغلي باللحمِ والمرقِ ، وتفورُ بالتخديعةِ الثقيلة التي تكاثرت روائحها الزكية ، ما إن يهبُّ الهواء حتى تتلوى غمامة متكاثرة ؛ تعبق المكان من حولِ البيوت ، تتكاثر روائح الطبخ المشبعة بالدّسمِ ، فتخلق من فوقِ المجاري ، غلالة سحرية تترامى على المصارفِ والسِّككِ ، وتطوفُ في صخبٍ حول الحقولِ القريبةِ من الحيطانِ ، طوفان العابد الزاهد حول منسكهِ.
بدأت أحاديث الحقولِ تنبش كعادتها في كُلّ شيء ، تجوبُ بينَ الدّروبِ ، وتقفز في البيوتِ دون استئذانٍ ، وتبعثر في فجاجةٍ أدق أسرار الجيران ، وتقتحم خصوصياتهم بين تلفيقٍ وكذبٍ وافتراء ، وتلك أحاديث الحقولِ منذ عرف الفلاح الحكي ، لكنّها سرعان ما ترقد فتعود لنقطةِ البدءِ ثانيةً ، تنتفض أحاديث تلك الروائح المنعشة القادمة بين طياتِ الفضاء ِ ، يطرق الأنفار في صمتٍ وتوجس ، لا تسمع ساعتئذٍ إلا صربات الفؤوس تقلِّب وجه التربة وتداعبه ، رويدا رويدا ينبري أحدهم ليفتح الطريق أمام أحاديث الطبيخ ، فيصل منها ما انقطع ، لتنصب سهراية اليوم وما ألذّها من سهرايةٍ ، وأحاديث عن رعونةِ بعض النساء ، وكرم بعض البيوت ، وبخل الآخرين ، وأحب الخضراوات ، والتفاضل المعهود ما بين اللحم ، وبين الطيور ، يتباهى البعض تيها ، فقطعة الزّفر عنده أغلى من الدنيا وما فيها،يقسم برأسِ أبيه بأنّه لا يحسب للدنيا حسابها أمام اللّقمة الحلوة والطّبخة المظبوطة ، فلحييه الله اليوم ويميته غدا ، ويعطف البعض متمنيا أن تصبح أيامهم جميعا سوق ، حتى لا ينقطع الطبيخ عن بيوتهم .
تتلمظ الحنوك خلسةً مع أحاديثِ الدّسمِ التي لا تنقطع ، وفي نفسِ كُلّ واحدٍ منهم أماني يشتهيها ، لا يرجو سواها ، ولا يحب أن ينقطع حديثها ، هكذا حتى تنقضي ساعات النّهارِ، تودع شمس اليوم ظهور الأنفار في الحقولِ ، وفي همةٍ تنسابُ جماعاتهم ، تتبع خيوط الدسم وروائح الزّفر التي غلّفت الأجواء ، وأمنيات حلوة تُداعبُ العقول ، كما داعبت من قبلٍ البطون ، يحلّ المساء ، ويعود الفلاحون لبيوتهم .
دقائق وتموت الحركة في الدّروبِ ، فلا تسمع إلا زمجرة الكلاب والقطط التي اتخذت أماكنها أمام الأعتاب ، تنتظر ما يُلقى إليها ، وطرقعة الطبالي تنصب للساعةِ الموعودة ، تُغرَق الشوارب ، وتغوصُ الأصابع في أطباقِ " اليخني" الثقال ، ووصايا الأمهات تتهادى من تحت مصابيح خافتة ، تنبّه صغارها ، أن يبدأوا باللحمِ قبل أن تمتلئ بطونهم بالخبزِ...