حين يقرأ المرء في الأدبيات الفلسطينية عن المنفى الفلسطيني في شتى بقاع العالم ، خارج الوطن العربي ، لا ينسى بعض أسطر لراشد حسين وأخرى لمحمود درويش ، تلح على الذاكرة.
غادر الأول فلسطين وظل يحن إليها ، حتى وهو في نيويورك التي عدها بعض الناس جنة الدنيا ، وحنينه إلى وطنه لم يكن في نظر قسم من معارفه مبررا فماذا تساوي فلسطين أمام نيويورك؟
عبر الشاعر عن مشاعره ، كما لو أنه يرد على هؤلاء ، ورأى أنه لا يرى في الدنيا إلا مدينته حيفا ، فقال:
" طلبت الطب في نيويورك أطلب منه مستشفى ، فقالوا:
- أنت مجنون ولن يشفى ، أمامك جنة الدنيا
ولست ترى سوى حيفا"
ومات في نيويورك ، وفي رثائه كتب درويش:
" في الشارع الخامس حياني بكى
مال على السور
الزجاجي:
ولا صفصاف في نيويورك .
أبكاني " .
المدينة الزجاجية تخلو من الصفصاف وهي ليست إلا مباني لا روح فيها .
مات راشد في شباط ١٩٧٧ وبعد موته جرت مياه كثيرة في النهر .
في العام ١٩٨٢ خرج الفلسطينيون من بيروت مجبرين ، وبعد خروجهم بأيام ارتكبت مجزرة شاتيلا وصبرا وساح قسم من الناجين منها في هذا العالم ، واتسعت رقعة المنفى وطالت مدة الإقامة فيه ، ما جعل درويش في قصيدة " نزل على بحر " من ديوان " هي أغنية .. هي أغنية " ١٩٨٦ يكتب :
" طالت نباتات البعيد ، وطال ظل الرمل فينا وانتشر
طالت زيارتنا القصيرة ... " .
تصبح نيويورك ، لا لندن ، مربط خيولنا ، لا في الأدب الفلسطيني وحسب ، بل وفي الرواية العربية .
في العام ٢٠٠٩ نشر واسيني الأعرج روايته " سوناتا لأشباح القدس " واختار لها هو الجزائري الذي لم تطأ قدماه القدس قبل ٢٠٠٩ شخصية فلسطينية اضطرت ووالدها قبل النكبة إلى الهجرة ، خوفا من العصابات الصهيونية التي تسعى وراء الأب لقتله بحجة تأييده للنازية لعلاقته بالألمانية ( إيفا موهلر ) ، وهكذا تجد مي نفسها في أميركا وتظل فيها إلى أن تصاب بالسرطان وتموت في مشفى نيويورك المركزي في الأول من كانون الثاني ٢٠٠٠ .
رواية واسيني هذه لم تظهر صورة واحدة للفلسطينيين وصورة واحدة لليهود . إنها تنطلق أصلا من منطلق يرفض النظر إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أنه صراع ديني ، ولهذا تحفل بنماذج عديدة ؛ فلسطينية ويهودية ، وهو ما كتبت عنه من قبل ( أنظر جريدة الأيام الفلسطينية ١٩ / ١ / ٢٠٢٠ ) . والنموذج الفلسطيني الأساس في الرواية يتجسد في مي حسن الحسيني .
كانت مي طفلة يوم هاجرت ، وفي أميركا تغدو رسامة مشهورة ولا تغيب القدس عن ذاكرتها ، فأميركا تظل لها منفى .
تحضر نيويورك في رواية جنى فواز الحسن " طابق ٩٩ " . الفلسطيني مجدي يقيم في مخيم شاتيلا ، وكان عمره يوم ارتكبت المجزرة خمسة عشر عاما ، تماما مثلما كان عمر أبيه في عام النكبة ١٩٤٨ . اضطر الأب إلى ترك قريته والهجرة إلى لبنان وهناك درس اللغة العربية وصار معلما في مدارس الأونروا وشارك في الثورة الفلسطينية ، وفي مجزرة شاتيلا وصبرا في منتصف أيلول ١٩٨٢ قتلت زوجته وقتل بقية أفراد عائلته ونجا هو وابنه مجدي وهاجرا تاركين لبنان ، وفي المنفى يموت الأب.
تحمل الأب قسوة المنفى في البلاد العربية وصار هاجسه الوحيد أن يمضي بابنه إلى بلاد أخرى " كان يخبر الأصدقاء أنه اكتشف أن ما وجده هنا ، بين الميليشيات المسيحية والقيادات العربية ، يفوق كراهية الصهاينة للفلسطينيين".
في نيويورك يقيم مجدي الذي أحب هيلدا المسيحية ابنة أحد قيادات الكتائب ، يقيم في طابق ٩٩ من عمارة عدد طوابقها ١٠٢ ، لأنه صار يمني نفسه بأن يقف على قمة البرج أو المبنى لينتمي إلى الأعلى ولتبقى البلاد كلها " في الأسفل " وبيروت وفلسطين التي لم أعرفها " . ومن مكتبه الواقع في طابق ٩٩ بدا المخيم غير موجود وبدت فلسطين كبلاد ضائعة في الزحمة " بلاد لن يبلغني نداؤها ، إن تجرأت على مناجاتي " وكان مكتبه " المكان الذي أمارس فيه سلطتي ، حميما وأليفا ، ومتعجرفا ومتسلطا في وقت واحد ، وإن كنت قد فشلت في الاعتناء بأثاث المنزل ، اختلف ديكور مكان العمل كليا ." ويتخلص مجدي من عقدة الماضي ولا يتردد في إقامة علاقات مع هيلدا ، ومثله هي التي حين تعرف حقيقة أبيها وعمها ودورهما في الحرب الأهلية تغادر قريتها هربا عائدة إلى نيويورك وحبيبها الفلسطيني متحررة من العائلة التي ارتكبت القتل بحق الفلسطينيين . تختار هيلدا ما يقرره قلبها ولا ترضخ لشروط العائلة ورؤيتها للصراع .
في رواية الياس خوري " أولاد الغيتو : اسمي آدم " لا يهاجر آدم الذي عثر عليه رضيعا على صدر امرأة ، ولا يهاجر مراد العلمي الذي كان واعيا في تموز ١٩٤٨ ويظل كلا الرجلين في فلسطين يعانيان من قسوة الحياة فيما عرف بغيتو اللد ، ومن قسوتها حتى العام ١٩٦٦ في بقية فلسطين ، ولكنهما مع مرور الوقت يغادران البلاد كلها ويستقران في أميركا وتحديدا في نيويورك.
تصبح نيويورك مستقرا لراشد حسين وفيها يموت ، وفي مشفاها أيضا تموت مي الحسيني ، وفيها يموت آدم ، ويقضي مراد العلمي بقية حياته .
اللاجئون الناجون من شاتيلا ، والباقون على أرضهم ممن ضاقت بهم الحياة ، يجدون في نيويورك مأوى لهم ، وفيها يقيمون مجبرين مضطرين وقسم منهم لا يرى فيها جنة الدنيا ويظل يحن إلى بلاده ، وقسم آخر ممن ولد في المنفى ، مثل ابن مي الحسيني يوبا ، ومثل مجدي ، لا يشعر برابطة نحوها ، فيوبا الذي لم ير في حياته القدس إلا ثلاث مرات يعبر صراحة عن علاقته بها:
" أرض لم أعرفها من قبل ولم تعرفني إلا من خلال روايات جدي وأمي " .
وفيما يظل والد مجدي مرتبطا بوطنه يقل ارتباط الابن . يرد على لسان الأب:
" تسألني ما هو الوطن . هو أن تنتمي إلى هذه الحياة ، ولكي تنتمي ، لا يمكنك أن توافق على الظلم ، وإلا فأنت تنتمي إلى عالمهم فحسب . ربما فلسطين ليست أجمل رقعة على الأرض ، يا ابني ، لكن كرامتنا هناك " وأما مجدي فلم تكن مشكلته يوما في فلسطينيته ولا رغبته بالهرب منها أحيانا " بل بكيفية التصالح مع ذاك الشعور بالانسلاخ عن مكان لا أعرفه ولا ذكريات لي فيه ، عن أرض تسكنني وأنا لم أطأها يوما " .
هل كل أرض الله منفى ؟ ربما هذا هو ما اكتشفه الفلسطينيون !!
الجمعة والسبت ٢و٣ تشرين الأول ٢٠٢٠
غادر الأول فلسطين وظل يحن إليها ، حتى وهو في نيويورك التي عدها بعض الناس جنة الدنيا ، وحنينه إلى وطنه لم يكن في نظر قسم من معارفه مبررا فماذا تساوي فلسطين أمام نيويورك؟
عبر الشاعر عن مشاعره ، كما لو أنه يرد على هؤلاء ، ورأى أنه لا يرى في الدنيا إلا مدينته حيفا ، فقال:
" طلبت الطب في نيويورك أطلب منه مستشفى ، فقالوا:
- أنت مجنون ولن يشفى ، أمامك جنة الدنيا
ولست ترى سوى حيفا"
ومات في نيويورك ، وفي رثائه كتب درويش:
" في الشارع الخامس حياني بكى
مال على السور
الزجاجي:
ولا صفصاف في نيويورك .
أبكاني " .
المدينة الزجاجية تخلو من الصفصاف وهي ليست إلا مباني لا روح فيها .
مات راشد في شباط ١٩٧٧ وبعد موته جرت مياه كثيرة في النهر .
في العام ١٩٨٢ خرج الفلسطينيون من بيروت مجبرين ، وبعد خروجهم بأيام ارتكبت مجزرة شاتيلا وصبرا وساح قسم من الناجين منها في هذا العالم ، واتسعت رقعة المنفى وطالت مدة الإقامة فيه ، ما جعل درويش في قصيدة " نزل على بحر " من ديوان " هي أغنية .. هي أغنية " ١٩٨٦ يكتب :
" طالت نباتات البعيد ، وطال ظل الرمل فينا وانتشر
طالت زيارتنا القصيرة ... " .
تصبح نيويورك ، لا لندن ، مربط خيولنا ، لا في الأدب الفلسطيني وحسب ، بل وفي الرواية العربية .
في العام ٢٠٠٩ نشر واسيني الأعرج روايته " سوناتا لأشباح القدس " واختار لها هو الجزائري الذي لم تطأ قدماه القدس قبل ٢٠٠٩ شخصية فلسطينية اضطرت ووالدها قبل النكبة إلى الهجرة ، خوفا من العصابات الصهيونية التي تسعى وراء الأب لقتله بحجة تأييده للنازية لعلاقته بالألمانية ( إيفا موهلر ) ، وهكذا تجد مي نفسها في أميركا وتظل فيها إلى أن تصاب بالسرطان وتموت في مشفى نيويورك المركزي في الأول من كانون الثاني ٢٠٠٠ .
رواية واسيني هذه لم تظهر صورة واحدة للفلسطينيين وصورة واحدة لليهود . إنها تنطلق أصلا من منطلق يرفض النظر إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أنه صراع ديني ، ولهذا تحفل بنماذج عديدة ؛ فلسطينية ويهودية ، وهو ما كتبت عنه من قبل ( أنظر جريدة الأيام الفلسطينية ١٩ / ١ / ٢٠٢٠ ) . والنموذج الفلسطيني الأساس في الرواية يتجسد في مي حسن الحسيني .
كانت مي طفلة يوم هاجرت ، وفي أميركا تغدو رسامة مشهورة ولا تغيب القدس عن ذاكرتها ، فأميركا تظل لها منفى .
تحضر نيويورك في رواية جنى فواز الحسن " طابق ٩٩ " . الفلسطيني مجدي يقيم في مخيم شاتيلا ، وكان عمره يوم ارتكبت المجزرة خمسة عشر عاما ، تماما مثلما كان عمر أبيه في عام النكبة ١٩٤٨ . اضطر الأب إلى ترك قريته والهجرة إلى لبنان وهناك درس اللغة العربية وصار معلما في مدارس الأونروا وشارك في الثورة الفلسطينية ، وفي مجزرة شاتيلا وصبرا في منتصف أيلول ١٩٨٢ قتلت زوجته وقتل بقية أفراد عائلته ونجا هو وابنه مجدي وهاجرا تاركين لبنان ، وفي المنفى يموت الأب.
تحمل الأب قسوة المنفى في البلاد العربية وصار هاجسه الوحيد أن يمضي بابنه إلى بلاد أخرى " كان يخبر الأصدقاء أنه اكتشف أن ما وجده هنا ، بين الميليشيات المسيحية والقيادات العربية ، يفوق كراهية الصهاينة للفلسطينيين".
في نيويورك يقيم مجدي الذي أحب هيلدا المسيحية ابنة أحد قيادات الكتائب ، يقيم في طابق ٩٩ من عمارة عدد طوابقها ١٠٢ ، لأنه صار يمني نفسه بأن يقف على قمة البرج أو المبنى لينتمي إلى الأعلى ولتبقى البلاد كلها " في الأسفل " وبيروت وفلسطين التي لم أعرفها " . ومن مكتبه الواقع في طابق ٩٩ بدا المخيم غير موجود وبدت فلسطين كبلاد ضائعة في الزحمة " بلاد لن يبلغني نداؤها ، إن تجرأت على مناجاتي " وكان مكتبه " المكان الذي أمارس فيه سلطتي ، حميما وأليفا ، ومتعجرفا ومتسلطا في وقت واحد ، وإن كنت قد فشلت في الاعتناء بأثاث المنزل ، اختلف ديكور مكان العمل كليا ." ويتخلص مجدي من عقدة الماضي ولا يتردد في إقامة علاقات مع هيلدا ، ومثله هي التي حين تعرف حقيقة أبيها وعمها ودورهما في الحرب الأهلية تغادر قريتها هربا عائدة إلى نيويورك وحبيبها الفلسطيني متحررة من العائلة التي ارتكبت القتل بحق الفلسطينيين . تختار هيلدا ما يقرره قلبها ولا ترضخ لشروط العائلة ورؤيتها للصراع .
في رواية الياس خوري " أولاد الغيتو : اسمي آدم " لا يهاجر آدم الذي عثر عليه رضيعا على صدر امرأة ، ولا يهاجر مراد العلمي الذي كان واعيا في تموز ١٩٤٨ ويظل كلا الرجلين في فلسطين يعانيان من قسوة الحياة فيما عرف بغيتو اللد ، ومن قسوتها حتى العام ١٩٦٦ في بقية فلسطين ، ولكنهما مع مرور الوقت يغادران البلاد كلها ويستقران في أميركا وتحديدا في نيويورك.
تصبح نيويورك مستقرا لراشد حسين وفيها يموت ، وفي مشفاها أيضا تموت مي الحسيني ، وفيها يموت آدم ، ويقضي مراد العلمي بقية حياته .
اللاجئون الناجون من شاتيلا ، والباقون على أرضهم ممن ضاقت بهم الحياة ، يجدون في نيويورك مأوى لهم ، وفيها يقيمون مجبرين مضطرين وقسم منهم لا يرى فيها جنة الدنيا ويظل يحن إلى بلاده ، وقسم آخر ممن ولد في المنفى ، مثل ابن مي الحسيني يوبا ، ومثل مجدي ، لا يشعر برابطة نحوها ، فيوبا الذي لم ير في حياته القدس إلا ثلاث مرات يعبر صراحة عن علاقته بها:
" أرض لم أعرفها من قبل ولم تعرفني إلا من خلال روايات جدي وأمي " .
وفيما يظل والد مجدي مرتبطا بوطنه يقل ارتباط الابن . يرد على لسان الأب:
" تسألني ما هو الوطن . هو أن تنتمي إلى هذه الحياة ، ولكي تنتمي ، لا يمكنك أن توافق على الظلم ، وإلا فأنت تنتمي إلى عالمهم فحسب . ربما فلسطين ليست أجمل رقعة على الأرض ، يا ابني ، لكن كرامتنا هناك " وأما مجدي فلم تكن مشكلته يوما في فلسطينيته ولا رغبته بالهرب منها أحيانا " بل بكيفية التصالح مع ذاك الشعور بالانسلاخ عن مكان لا أعرفه ولا ذكريات لي فيه ، عن أرض تسكنني وأنا لم أطأها يوما " .
هل كل أرض الله منفى ؟ ربما هذا هو ما اكتشفه الفلسطينيون !!
الجمعة والسبت ٢و٣ تشرين الأول ٢٠٢٠