"والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي".
هذا ما قاله الجاحظ في القرن الثالث الهجري، وهو ما عزّزه آخرون كثر.
أما ابن قتيبة في كتابه "الشعر والشعراء" فقد ذهب إلى أن الكلام على أربعة أضرب: ما حسن لفظه وحسن معناه، وما ساء لفظه وساء معناه، وما حسن لفظه وساء معناه، وما ساء لفظه وحسن معناه.
ولعلّ من أهمّ الفروق بين المنهجين؛ الاجتماعي والبنيوي، أن الأوّل كان يركز على أولوية المحتوى، فيم يركّز الثاني على أولوية الشكل. وهذا الخلاف تلخصه المفردتان: ماذا وكيف؟ ماذا تريد أن تقول؟ وكيف تقول ما تقول؟ هل الأهم هو الحكاية أم كيف تروى الحكاية؟ إنه سؤال قديم جديد، سؤال ما زال يُثار في الأعمال الصادرة في العام 2016.
مؤخراً كنت في عمّان، وبينا أنا جالس على الرصيف مع صاحب (كشك) بيع كتب حدّثني عن ظاهرة لافتة لاحظها وهي أن هناك كتاباً عادياً وزّع، خلال أسبوعين، عشرة آلاف نسخة، وتسابقت دور نشر معينة إليه لتزوره، وهذا ما تم، ما دفع مؤلفه علي نجم، وهو كويتي، إلى رفع قضية ضد المزوّرين.
صاحب الكشك قال لي: لم يحدث أن باع محمود درويش أو نزار قباني أو أحلام مستغانمي عشرة آلاف نسخة في أسبوعين، وهذه ظاهرة تستحق أن تكتب عنها.
وقد عزّز صاحب دار نشر أخرى هذا الكلام حين أتى على ظاهرة توقيع الكتب في معارض الكتب، فذكر أسماء روائيين معروفين لا يوقّعون عشرين نسخة من كتابهم.
الموضوع سيلفت نظري وسأكتب عنه على صفحتي في الـ(فيس بوك)، لأرى ردود الفعل وآراء القرّاء، وكان بعض الردود تقول إنه كتاب يعالج مؤلفه فيه موضوعات تهمّ الشباب بلغة بسيطة مفهومة، لا بلغة معقّدة، مثل لغة بعض الشعراء.
لن أخوض في قصة كتاب "زحمة حكي" للمذيع الكويتي، فقد اطلعت على صفحتين منه ولاحظت أنه مكتوب بلهجة عامية كويتية، ذهب بعض القرّاء إلى أن بساطتها هي ما حبّبهم بالكتاب. وسؤال المعنى واللغة في النص هو ما شغلني وأنا اقرأ كتاب الشاعر وليد سيف "الشاهد المشهود: سيرة ومراجعات فكرية"، ومن قبل رواية "أولاد الغيتو: اسمي آدم".
في مقدمة سيرته يكتب وليد سيف حول المعنى والشكل، ويرى أن "السير العظيمة المدوّنة لم تخلقها الوقائع الفعلية في حياة الإنسان، بقدر ما خلقتها الكتابة نفسها، وقيمة السيرة تتمثل في قيمة النص نفسه لا في الواقع الخارجي الذي يفترض أن النص يسعى إلى تسجيله.."(ص6).
ويتابع الكاتب:
"كشأن أي عمل فني أو أدبي، فإن السؤال في مقاربته وتقويمه وتذوُّقه ليس: ماذا؟ وإنما هو: كيف؟ وفي كيفية القول تتشكل القيمة والمعاني" (ص6)". "It IS not the tale, but the teller" "ليست الحكاية، بل الرّاوي".
مرّة سمعت العبارة من أحمد حرب الذي شغل نفسه بكتابة رواية جمالية هي "الجانب الآخر لأرض المعاد"(1990) وهو دارس للأدب المقارن.
ما يذهب إليه وليد سيف وأحمد حرب وأيضاً إلياس خوري لا يذهب إليه دارسون آخرون مثل عبد العزيزي الأهواني في كتابه "ابن سناء الملك ومشكلة العقم والابتكار في الشعر" فابن سناء شغل نفسه بالابتكار حتى نسي المعنى، ولم يعد أحد يذكره إلاّ دارسوه.
والسؤال عموماً قديم جديد، أثير وما زال يُثار، وقد أثاره، أيضاً، الناقد عبد الملك مرتاض في كتابه "في نظرية الرواية: بحث في تقنيات السرد" (1998) وميز بين كاتب وأديب، فالأول يهتمّ بالمعنى، والثاني يهتم باللغة ـ إلى جانب المعنى ـ ورأى أن أكثر روائيّينا كتّاب، لا أدباء.
سؤال المعنى: ماذا، وسؤال الشكل: كيف أرّقا بطل رواية إلياس خوري وأخال أنهما أرّقا المؤلف الذي اخترع البطل واختفى وراءه في هاجسه وأسئلته ومواقفه.
"المعنى هو الخطأ" (ص418) يقول آدم وهو يتحدث عن حكاياته رابطاً بينها وبين كتاب "ألف ليلة وليلة".
إن شهرزاد لم تكن تغوي شهريار بالحكاية كي لا يقتل على يديه، كما هو شائع، بل كانت تروي لترتوي فيزداد عطشها من جديد و"أعتقد أن شخصية الملك ورغباته المجنونة مجرد ذريعة تحولت إلى حقيقة في تركيبة إطار الحكايات التي لا بدّ أنّ كاتبا أضافها في وقت متأخّر، معتقداً بذلك أنه يعطي معنى للحكايات". (ص418).
يكتب إلياس على لسان آدم، كما لو أنه يناقش سؤالي المعنى والشكل، وينحاز، بالتأكيد، إلى: كيف؟ لا إلى: ماذا؟ ويتساءل آدم/ إلياس: "من قال إننا نحتاج إلى المعنى كي نروي؟" ويتابع: "فحلمي الدائم هو الوصول إلى نص بلا معنى، مثل الموسيقى، معناه يأتي من إيقاعات الروح التي فيه، وهو خاضع لتأويلات شتّى" (ص418) ويدرك هو شخصياً أن "هذا مستحيل". لماذا؟ لأن اللغة منذ أن صارت وسيلة تخاطب الآلهة مع البشر، انحشرت في المعاني، وصار على من يستخدمها الاتّكاء على المعنى كي يصل إلى اللب المجّاني للأدب.
هل انحاز آدم/ إلياس إلى المعنى، كما أفهم؟ إن سؤال المعنى سؤالٌ قديم جديد ما زلنا نثيره حتى الآن.
هذا ما قاله الجاحظ في القرن الثالث الهجري، وهو ما عزّزه آخرون كثر.
أما ابن قتيبة في كتابه "الشعر والشعراء" فقد ذهب إلى أن الكلام على أربعة أضرب: ما حسن لفظه وحسن معناه، وما ساء لفظه وساء معناه، وما حسن لفظه وساء معناه، وما ساء لفظه وحسن معناه.
ولعلّ من أهمّ الفروق بين المنهجين؛ الاجتماعي والبنيوي، أن الأوّل كان يركز على أولوية المحتوى، فيم يركّز الثاني على أولوية الشكل. وهذا الخلاف تلخصه المفردتان: ماذا وكيف؟ ماذا تريد أن تقول؟ وكيف تقول ما تقول؟ هل الأهم هو الحكاية أم كيف تروى الحكاية؟ إنه سؤال قديم جديد، سؤال ما زال يُثار في الأعمال الصادرة في العام 2016.
مؤخراً كنت في عمّان، وبينا أنا جالس على الرصيف مع صاحب (كشك) بيع كتب حدّثني عن ظاهرة لافتة لاحظها وهي أن هناك كتاباً عادياً وزّع، خلال أسبوعين، عشرة آلاف نسخة، وتسابقت دور نشر معينة إليه لتزوره، وهذا ما تم، ما دفع مؤلفه علي نجم، وهو كويتي، إلى رفع قضية ضد المزوّرين.
صاحب الكشك قال لي: لم يحدث أن باع محمود درويش أو نزار قباني أو أحلام مستغانمي عشرة آلاف نسخة في أسبوعين، وهذه ظاهرة تستحق أن تكتب عنها.
وقد عزّز صاحب دار نشر أخرى هذا الكلام حين أتى على ظاهرة توقيع الكتب في معارض الكتب، فذكر أسماء روائيين معروفين لا يوقّعون عشرين نسخة من كتابهم.
الموضوع سيلفت نظري وسأكتب عنه على صفحتي في الـ(فيس بوك)، لأرى ردود الفعل وآراء القرّاء، وكان بعض الردود تقول إنه كتاب يعالج مؤلفه فيه موضوعات تهمّ الشباب بلغة بسيطة مفهومة، لا بلغة معقّدة، مثل لغة بعض الشعراء.
لن أخوض في قصة كتاب "زحمة حكي" للمذيع الكويتي، فقد اطلعت على صفحتين منه ولاحظت أنه مكتوب بلهجة عامية كويتية، ذهب بعض القرّاء إلى أن بساطتها هي ما حبّبهم بالكتاب. وسؤال المعنى واللغة في النص هو ما شغلني وأنا اقرأ كتاب الشاعر وليد سيف "الشاهد المشهود: سيرة ومراجعات فكرية"، ومن قبل رواية "أولاد الغيتو: اسمي آدم".
في مقدمة سيرته يكتب وليد سيف حول المعنى والشكل، ويرى أن "السير العظيمة المدوّنة لم تخلقها الوقائع الفعلية في حياة الإنسان، بقدر ما خلقتها الكتابة نفسها، وقيمة السيرة تتمثل في قيمة النص نفسه لا في الواقع الخارجي الذي يفترض أن النص يسعى إلى تسجيله.."(ص6).
ويتابع الكاتب:
"كشأن أي عمل فني أو أدبي، فإن السؤال في مقاربته وتقويمه وتذوُّقه ليس: ماذا؟ وإنما هو: كيف؟ وفي كيفية القول تتشكل القيمة والمعاني" (ص6)". "It IS not the tale, but the teller" "ليست الحكاية، بل الرّاوي".
مرّة سمعت العبارة من أحمد حرب الذي شغل نفسه بكتابة رواية جمالية هي "الجانب الآخر لأرض المعاد"(1990) وهو دارس للأدب المقارن.
ما يذهب إليه وليد سيف وأحمد حرب وأيضاً إلياس خوري لا يذهب إليه دارسون آخرون مثل عبد العزيزي الأهواني في كتابه "ابن سناء الملك ومشكلة العقم والابتكار في الشعر" فابن سناء شغل نفسه بالابتكار حتى نسي المعنى، ولم يعد أحد يذكره إلاّ دارسوه.
والسؤال عموماً قديم جديد، أثير وما زال يُثار، وقد أثاره، أيضاً، الناقد عبد الملك مرتاض في كتابه "في نظرية الرواية: بحث في تقنيات السرد" (1998) وميز بين كاتب وأديب، فالأول يهتمّ بالمعنى، والثاني يهتم باللغة ـ إلى جانب المعنى ـ ورأى أن أكثر روائيّينا كتّاب، لا أدباء.
سؤال المعنى: ماذا، وسؤال الشكل: كيف أرّقا بطل رواية إلياس خوري وأخال أنهما أرّقا المؤلف الذي اخترع البطل واختفى وراءه في هاجسه وأسئلته ومواقفه.
"المعنى هو الخطأ" (ص418) يقول آدم وهو يتحدث عن حكاياته رابطاً بينها وبين كتاب "ألف ليلة وليلة".
إن شهرزاد لم تكن تغوي شهريار بالحكاية كي لا يقتل على يديه، كما هو شائع، بل كانت تروي لترتوي فيزداد عطشها من جديد و"أعتقد أن شخصية الملك ورغباته المجنونة مجرد ذريعة تحولت إلى حقيقة في تركيبة إطار الحكايات التي لا بدّ أنّ كاتبا أضافها في وقت متأخّر، معتقداً بذلك أنه يعطي معنى للحكايات". (ص418).
يكتب إلياس على لسان آدم، كما لو أنه يناقش سؤالي المعنى والشكل، وينحاز، بالتأكيد، إلى: كيف؟ لا إلى: ماذا؟ ويتساءل آدم/ إلياس: "من قال إننا نحتاج إلى المعنى كي نروي؟" ويتابع: "فحلمي الدائم هو الوصول إلى نص بلا معنى، مثل الموسيقى، معناه يأتي من إيقاعات الروح التي فيه، وهو خاضع لتأويلات شتّى" (ص418) ويدرك هو شخصياً أن "هذا مستحيل". لماذا؟ لأن اللغة منذ أن صارت وسيلة تخاطب الآلهة مع البشر، انحشرت في المعاني، وصار على من يستخدمها الاتّكاء على المعنى كي يصل إلى اللب المجّاني للأدب.
هل انحاز آدم/ إلياس إلى المعنى، كما أفهم؟ إن سؤال المعنى سؤالٌ قديم جديد ما زلنا نثيره حتى الآن.