عبد الفتاح يوسف - خطاب الإنتلجنسيا العربية حول الحداثة إشكاليات الفهم ومحنة المشروع


القسم الأول
خطاب الإنتلجنسيا العربية حول الحداثة
إشكاليات الفهم ومحنة المشروع
دكتور/ عبد الفتاح يوسف


لن تعرفوا أي شيء بواسطة المفاهيم إن لم تكونوا قد أبدعتموها أولاً

نيتشه

إن المفاهيم بحاجة إلى شخصيات مفهومية تساهم في تحديدها

جيل دولوز

مقدمة:


* هل يمكن القول بأن دخول سؤال الحداثة الفكر العربي، يُعدّ إيذانًا بخروج سؤال التراث من الفكر نفسه؟.

* هل يمكن لأحد هذين الشقين الصراعيين أن يحتل موقعه من العقل العربي بزحزحة الآخر وإحلاله محلّه؟.

* إلى متى ستظل الحداثة شبحًا يطارد التراث داخل العقل العربي؟.

* هل يعود رفض العقل العربي للحداثة إلى أنها تحدد جغرافية الفكر، وهو يعيش داخل تاريخيته؟.

* هل تود طبقة الإنتلجنسيا(*) العربية حقًا تدشين جغرافية الفكر العربي بالاعتماد على تاريخيته؟ أم أنها ترسم جغرافيته وفق حدود جديدة مغايرة لتاريخيته حددتها سلفًا الحداثة الغربية؟ * هل يمثل الصراع الفكري الجدلي بين طبقة الإنتلجنسيا العربية - ضدّ ومع قوالب التراث الفكري ودعاته- بصيصًا من الأمل نحو تجاوز العقل العربي إسقاطات الفكر الكلاسيكي، وأنظمته المعرفية المؤدلجة؟.

* ما الأطر النظرية التي تطرحها هذه الطبقة لتوظيف المعرفة العربية بما يساعد على إذابة الحدود الفاصلة بين الفكر العربي والفكر الغربي تمهيدًا لتواصل فكري بينهما؟


تهدف الدراسة الراهنة إلى الإجابة عن هذه الأسئلة لرصد النشاط الفكري العربي حول الحداثة، ومدى قدرته على تحريك المُنتج الفكري العربي تجاه الظواهر المعرفية المعاصرة إيجابًا وسلبًا، ولهذا نفتح آفاق الحوار مع أهم الدراسات العربية التي تعرضت لهذه الإشكالية، ومساءلة تأرجح الفكر العربي بين التراث والحداثة، ورصد مدى تقدُّم العقل نفسه في فهم العالم من حوله، للإجابة عن الأسئلة التقليدية التي تشير إلى إصرار العقل العربي على فهم العالم الحديث بأدواته النقدية والفكرية الكلاسيكية، لا ننكر إيجابيات الفهم التقليدي للتراث قديمًا، لكنه غير جدير الآن بالانحياز إليه؛ لأنه ليس من المقبول منطقيًًّا وبعد أربعة عشر قرنًا أن نتعامل مع الأفكار كما كان القدماء المحافطون يتعاملون معها. وبالمفهوم التقليدي للمعرفة تعاملت طائفة من المفكرين مع الحداثة كانقلاب معرفي يهدد كل تراث الإنسانية، واعتبروها شرًا مطلقًا. وجاءت ما بعد الحداثة ردًا على هذه الإشكاليات الفكرية؛ ولكن الفكر العربي لا يزال يعيش مرحلة الحداثة ذاتها ولم يتجاوزها بعد. وأطمح ألا يورط سؤال الدراسة الراهنة نفسه في تلفيظات حاسمة ونضالية، أو أخرى مراوغة اتباعية، كما أطمح أن يأتي سؤال الدراسة بجديد حول علاقة الفكر العربي بالحداثة، وطبيعة هذه العلاقة تشير إلى نقد العقل العربي لذاته، وتفكيكه لبنياته الفكرية الكلاسيكية، ونقد النقد هذا؛ يُحفز العقل العربي لفك طلاسم الأنظمة المعرفية الشمولية التي تورِّط العقل دائمًا في إضفاء خطابات من الشرعية عليها مما كان له أكبر الأثر في قوتها، وتلزم أصحابها بمعاركها الإيديولوجية الخارجية، وصراعاتها العرقية والقبلية الداخلية؛ لأن العقل الذي ينقد نفسه دائمًا لا يقع في مأزق الإغراق في المُنتج الفكري، بل يهتم دائمًا بآليات إنتاج الفكر.

كما تهدف الدراسة إلى تحليل الفكر العربي المعاصر لمعرفة طريقة استقباله لفكرة الحداثة، بعيدًا عن أي فكر ايديولوجي، أو نضالي، أو ادّعائي، يسعى لتزييف الحقائق، لأن هذه الأفكار الأخيرة تخضع للفهم التجزيئي للأشياء، الذي لا يمتلك القدرة على الخروج من عباءة القبول والرفض. فالتحليل المقترح يسعى إلى مساءلة وعي الفكر العربي بالحداثة، لمعرفة مدى إدراكه أهمية الروابط الحضارية العميقة بين الظواهر المعرفية العالمية، ووضعه الفكري الثقافي والنسقي الخاص، وكذا التعرّف على دور المفكر العربي أو الناقد العربي في إبراز أسس الحداثة، وطريقة تعامله مع المستجدات الفكرية المعاصرة، وتشخيصه لداء التراجع الدائم في مقابل تقدّم الآخر، ومناقشة طروحاته لمعالجة هذا الداء.


لقد حدث تحوّل غريب في التعامل مع مفهوم الحداثة في الفكر العربي، هذا التحوّل تمثّل في الانتقال من: السؤال عن ماهية الحداثة؟ إلى ماذا تعني الحداثة؟ مما أسهم في تحويل السؤال من الحداثة، إلى الحداثي، أي من سؤال المعرفة إلى سؤال المعرفي، وهنا حدث الالتباس، فبدلاً من توجيه الأسئلة إلى الحداثة نفسها توجّه العقل إلى اتهام الحداثيين..، وفي هذا السياق، يمكن طرح السؤال التال: هل يمكن اعتبار مشروع الحداثة في الثقافة العربية محاولة لانقلاب العقل العربي ضد ذاته محاولة تؤذن بالتفكك، والتصدّع، والانهيار؟!. أم هو مشروع نقدي جذري وشامل يحاول فهم سيرورات التشويه والبتر التي تعرّض لها مما أفضى به إلى التواطؤ مع الإيديولوجيا؟

إن الحداثة في صورتها الغربية، تشير إلى إزاحة التخمينات الفلسفية داخل العقل البشري في تفسير الكون، وإحلال العلم محلها، ليرسم العقل الإنساني واقعه ومستقبله، وتشير أيضًا إلى الاهتمام بالإنسان بوصفه محورها الأساس، ولهذا يُعدّ الإنسان – في الحداثة- هو المشرّع، فبعد أن كان الله عز وجل هو المشرع في الأديان، أصبح الإنسان هو المشرّع في مشروع الحداثة، ولكن، هل حقًا يضع الإنسان شرائعه الحداثية لسعادته ورفاهيته؟ أم يسن قوانين فنائه ودماره؟

إن الحداثة في نسختها السياسية والاقتصادية، قد تكون حقًا شرًا مطلقًا بالنسبة لعقل متقوقع ثقافيًا، يرتكز في منطلقاته على آليات دفاع انعزالية يؤمن بقدرتها على حمايته ووقايته من الشر القادم!، أما في نسختها العلمية والفكرية، فهي خير مطلق، لأنها كشفت للإنسان عن قوانين الطبيعة، والعلوم، والآداب، كما أزالت الإبهام عن كثير من مجهولات الكون، والنفس الإنسانية، وتقدم ما بعد الحداثة الآن ما يشبه المعجزات لا سيما فيما يتعلّق بعلاج الأمراض والثورة الجينية، ووسائل الاتصال والمعلوماتية، ولكن الحداثة الغربية في نسختها السياسية والاقتصادية لم تتخلّص بعد من التقاليد العتيقة التي تدعِّم فكرتي الكبرياء والقومية، فهي حداثة كاسحة بالقوة، تذكّي روح التسلّط والاستبعاد والتمييز الطبقي من جانب القوى الكبرى، بإقصاء طبقة الفقراء واستبعادها، وإلا فبماذا نفسّر الحروب الفتّاكة التي تشنها القوى السياسية العظمى في التاريخ الحديث، بدءًا من الحرب العالمية الأولى، ومرورًا بالحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة، وانتهاءً بالحرب على أفغانستان والعراق..



في ظل هذا السجال الثقافي اصطدم العقل العربي ـ الذي يراهن دائمًا على صلاحية الأدوات القديمة لكل العصور ـ بالحداثة الغربية، فحدث الصدام المعرفي بينهما، تحاول الحداثة اجتذابه بقدرتها على الإغراء المادي، والمعرفي معًا، في الوقت الذي يُبدي العقل العربي ممانعة قوية ورفضًا مُعلنًا؛ لأنه يخشى تفكيك تقاليده، فتوجه بايديولوجيته إلى فكرة الرفض، ومجادلة الحداثيين، فانشغل بالموجود عن الوجود ـ إذا جاز التعبير ـ وسمح لتفكيره في إدراك حقيقة الحداثة إلى التوقف أمام لغتها وعباراتها وإظهار عدم ملاءمتها لطبيعة تكوينه الفكرية والإيديولوجية، وكان هذا التوجّه مبررًا لفريق كبير من المفكرين للتنصّل من حمل عباءة البحث عن حقيقة الحداثة، ولهذا فشل هذا الفريق في أن يشرّع عقلانيًّا في التعامل مع الحداثة باعتبارها برهانًا على حقيقة الكون، ولكن بوصفها خطرًا داهمًا، وعدوًّا متربصًا!!

وهذا ما شجّع الفريق الآخر، وهم دعاة الحداثة إلى اتخاذ موقف مضاد للفريق الرافض، وهو الانطلاق - في غياب الوعي- إلى الترويج لفكر الحداثة، والبحث عن مفردات لها داخل التراث العربي، واستطاع أن يؤسس لفكر "التبعيّة الثقافيّة"،.. أما الفريق الثالث فراح يُمهد لمرحلة انتقال فكرية من واقع فكري تقليدي له رؤياه الإيديولوجية الرافضة لكل جديد، يحيل الفكر إلى أحكام مطلقة، إلى واقع فكري مغاير له رؤياه الحضارية، قادر على استيعاب التعددية الفكرية، وقبول الآخر. ينطلق من سؤال: كيف "أكون " في فكر الآخرين؟.

هكذا انقسم الفكر العربي حول الحداثة إلى ثلاثة اتجاهات، تشير المنطلقات المعرفية لكل فريق, إلى ماهية المرجعية الفكرية التي يتبناها. الأول: يعيش فيها وينعم بها وينكرها باستمرار. والثاني: يتصوّرها، ويصبو إليها دون أن يبلغها. والثالث: يعاني بسببها النفي والاستبعاد والعزلة، ويطمح إلى تجاوز الصراعات الذاتية كي يصبح قادرًا على إنتاج المعرفة.

في المواجهة بين العقل العربي والحداثة يصبح الصراع حتمًا ولا مفر منه، وتبدو إشكالية الاغتراب الفكري، والاختفاء المادي أكثر خطرًا، لأن الفكر العربي، سيدخل في مغامرة عجيبة، وغير محددة النتائج. الإشكالية تبدو أكثر خطورة حين تتسم الأفكار بالطابع الدفاعي، ويطغى رد الفعل على الفعل، عندئذ تتحول هذه الألعاب الفكرية إلى تاريخ للأفكار، وستجعل العقل ينشغل دائمًا بالأفكار عن الفكر، أو ينشغل بالمُنتج المعرفي عن إنتاج المعرفة. هكذا يبدو الفكر العربي أكثر ترددًا في التعامل مع المختلف، بين حاضر فكري يسعى – في جزء كبير منه- للانغلاق على ذاته من خلال وعي نرجسي متضخم، حتى يتمكن من سد الفراغ بينه وبين التراث الذي تعرّى بوجود المختلف. وطموح مستقبلي يسعى إلى الانفتاح على المختلف/ الآخر، لتعويض إخفاقه في إنتاج معرفة لها خصوصيتها. فانشغل بأفكار الآخر، ومناقشتها، وظن أنه بهذه الممارسة قد أنتج معرفة، دون أن يدري حقيقة استهلاكه للمعرفة!.

ومن ثم، تضع الدراسة جملة من الأسئلة ترتبط بصراع العقل العربي مع الحداثة: هل أصبح العقل العربي واعيًا بفكرة الانتقال التشريعي للحياة من الإلهي إلى الإنساني، أو من السماوي إلى الأرضي بعد أن خُتمت الرسالات، وانتهت المعجزات السماوية؟. هل ينظر العقل العربي للحداثة على أنها هدف يسعى إليه، أم مناخ تتم فيه حركة الفكر؟ بمعنى آخر؛ هل تمثّل الحداثة مطلبًا فكريًّا؟ أم شرطًا للفكر؟. هل ما نلاحظه من فتاوى ذاتية متضاربة لرجال الدين في العصر الحاضر، يُعدّ إرهاصًا لهذا التشريع الأرضي؟. هل هناك ثمة علاقة بين التشريع الأرضي في العصر الجاهلي، وبين التشريع الأرضي الحداثي؟ هل أدرك الخطاب الفكري العربي المعاصر الفرق الكبير بين الحداثة في نسختها السياسية والاقتصادية، وبين الحداثة في نسختها العلمية والفكرية؟ وأخيرًا، ما الذي يشغل حيّز الفراغ في الخطاب العربي الفكري الآن، إنتاج الأفكار، أم الانشغال بالأفكار؟.

نحو وعي نقدي بالإشكالية



إن كل مفهوم يحيل إلى مشكلة، وإلى مشكلات لن يكون له بدونها معنى

جيل دولوز


تُعد الحداثة نمطًا حضاريًا ساد في المجتمع الغربي مع بداية القرن السادس عشر، وداهمنا نحن العرب في القرن التاسع عشر، بوصفه تيارًا فكريًّا مُبهرًا توقفنا أمامه كثيرًا، وارتبط هذا النمط بعصر النهضة والإصلاح الديني، وترسّخ في عصر الأنوار والثورة الفرنسية. وامتد هذا النمط ليشمل جميع مناحي الفكر والحياة، مما جعل الأوربيين يتبنون أساليب جديدة في الفكر تمكنهم من السيطرة على الطبيعة، فتخلوا غير آسفين عن الأنماط التقليدية في التفكير والممارسات، مما ساعدهم على التغيير في البناء الثقافي، الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي..إلخ. يقول جان بورد يار في تعريفه للحداثة: " ليست الحداثة مفهومًا سوسيولوجيًا، أو مفهومًا سياسيًّا، أو مفهومًا تاريخيًّا بحصر المعنى، وإنما صيغة مميزة للحضارة، تعارض صيغة التقليد؛ أي أنها تعارض جميع الثقافات الأخرى السابقة أو التقليدية... ومع ذلك تظل الحداثة موضوعًا غامضًا يتضمن دلالته إجمالاً، الإشارة إلى تطوّر تاريخي بأكمله، وإلى تبدّل في الذهنية".(1)

وظهور الحداثة في المجتمع الغربي، يشير إلى انتقال العقل من مرحلة الاعتقاد في الغيبيات والخرافات، إلى مرحلة الإيمان بالعقل والعلم، إنها مرحلة تجاوز المجتمع لأنماطه الاجتماعية والثقافية الثابتة والجامدة، هذا التجاوز، يؤدي حتمًا إلى تغيّر في علاقة الفرد بالأشياء، ويؤدي إلى تطوير الممارسات الجماعية حتى يتمكن الإنسان من إعادة اكتشاف نفسه. ولكن الذي حدث في الثقافة العربية، أن ظهر صدام بين تيار حداثي ناهض ووافد، ونمط ثقافي ثابت وراسخ، وحدوث مثل هذا الصدام داخل العقل العربي، أنتج فكرة (اللجوء إلى التراث) في مواجهة هذا الوافد المزعج كتعويض ابستمولوجي عن اضمحلال الفكر نفسه، والخوف من التحوّلات، والتفاعل الثقافي، لأن الحداثة –من وجهة نظرنا- لا ترفض العودة إلى التراث، لسبب بسيط وهو أن الحداثة لا تشتغل في فراغ، ولا على فراغ، فلا بد لها من مادة معرفية، لها أنظمتها الخاصة، واستراتيجياتها، ولعلّها مكوّنة من قبل، فإذا ما اشتغل عليها الفكر الجديد أنتج ما يمكن أن نسميه الحداثة. وكان كمال أبو ديب أكثر وعيًا بهذه الإشكالية حين عرّف الحداثة بأنها:" وعي الذات في الزمن. لكن هذا الوعي للذات في الزمن يتخذ شكلاً ضدّيًّا، فهو لا يعي الحاضر في عزلة، بل في علاقته بالماضي. الحداثة إذن، وعي ضديّ للزمن، ووعي ضديّ للذات في الزمن. لكن هذا لا يكفي، بل يجب أن يقيّد بأن الحداثة هي وعي الزمن لا بوصفه شيئًا رياضيًّا، بل بوصفه حاملاً للتغيير. الحداثة إذن، هي وعي الزمن بوصفه حركة تغيّر. والحداثة تعني التغيير بوصفه حركة تقدم إلى الأمام، وذلك سر مأساتها؛ فكل تقدّم إلى الأمام هو انفصام عن الماضي. ومن هنا كان وعي الحداثة لنفسها بوصفها انفصامًا. والانفصام دائمًا فعل توتر وقلق ومغامرة".(2)

فالحداثة لا تعني استحداث المعارف، بل تعني تطورها وتولّدها سواء أكان ذلك بالتواصل أم بالقطيعة، فالمعرفة سابقة على الحداثة لأنها هي التي أنتجتها، لكنها لا تتطور إلا بالاعتماد على الفكر المتغيّر والمتنامي، وكأن الحداثة فاعل شرطي لا ينشأ إلا متأخرًا عن فعله وهي المعرفة/ التراث، لكنها – أي الحداثة- مع ذلك لها تأثيرها العكسي، إذ إنها وهي تتأخر عن فعلها زمنيًا، إنما تتدخل في إعادة بنائه ليخدم مصالح الفكر المعاصر، كما خدم مصالح الفكر الكلاسيكي، وفي هذا الإطار نتصور دائمًا أن التراث لا يخدم أبناءه إلا عندما تُعاد صياغته في شكل معرفة مغايرة/ حديثة. في حين تُغرق الحداثة في فحص مادتها/ التراث. إنها تُقدّم فكرها لاختبار التراث، ولهذا فهي تكتشف مساحات من المعارف التي هي خبرات، ومن الخبرات التي هي معارف. إنها بذلك تقدم سيلاً من المعارف، يتطوّر أفقها على أفق ما سبقها.

هذه التحوّلات تؤدي إلى حدوث أزمات وإشكاليات داخل العقل لا تقوم الحداثة بدونها، ويؤكد لوفيفر هذا بقوله: "إن الحداثة لا تواصل صيرورتها بدون أزمات. إن التناقضات تعبث فيها من كل جانب، وتعمل عملها الذي لو تحقق .. سيحوّل الحياة. بل أكثر من ذلك أن الأزمات تتعدد في قلب هذه الحداثة، وتتقارب من بعضها البعض الآخر، وتعم. إنها تعدّل بعضها البعض. ولابد لكل قطاع وكل ميدان أن يدخل بدوره في أزمة من هذه الأزمات، أو أن يخرج من إحداها. وإذ تتعدد هذه الأزمات المتنوّعة الأشكال، بالرغم من الاحتجاجات المطروحة، فإنها تبدو كعناصر مؤسسة للحداثة. إنها تندمج عضويًا بوعي في هذه الحداثة، بصورتها، وبما تطرحه عن نفسها من عناصر تبريرية. وهي غالبًا ما يتم اعتبارها أزمات خصبة، حتى حينما يتم شجبها"(3).

إن أول ما تثيره الحداثة، هو فكر الأزمة، والأزمة في الحداثة، موقف ذهني، يرجع سببه في المقام الأول إلى ارتباك الذات الباحثة عن نفسها في عالم متغيّر، فهي – أي الحداثة- تقلل دائمًا من قيمة الأفكار التقليدية العتيقة، وبالتالي تقف عقبة أمام هذا الفكر التقليدي، وطبيعي في هذا السياق أن ترفض الذات التقليدية العالم الجديد تارة؛ لأنها لا تجد لها مكانًا بينه، وتقبله تارة ثانية؛ لأنها تنعم بإنجازاته، وتأمل تارة ثالثة في تجاوز الاثنين معًا، فهي في حالة الرفض، تهمل أولويات تحرير العقليات من القيود المعرفية الاسكولاستيكية، وفي حالة القبول، تعيش مهمّشة مستهلِكة، وفي حالة التجاوز لا تملك الآليات المعرفية التي تمكّنها من هذا التجاوز؛ لأن "الحداثة ترتبط بالانزياح المتسارع في المعارف وأنماط الإنتاج، والعلاقات على نحو يستتبع صراعًا مع المعتقدات ( أي المعارف القديمة التي تحوّلت بفعل ثباتها إلى معتقدات) ومع القيم التي تفرزها أنماط الإنتاج والعلاقات السائدة. وإذ ينشط الفكر التقويمي النقدي لهذا الصراع، تطرح المسائل الأساسية على بساط البحث وإعادة النظر. وهذا ما يؤدي إلى اهتزاز القيم ومنظومة المفاهيم".(4)

إن الفكر العربي لا يستطيع أن يلقي نظرة نقدية على مساره التاريخي البطولي، وتركيبه الفكري القبلي الإيديولوجي من دون الاعتراف بالحداثة - بوصفها حقيقة تاريخية ثقافية تتكئ على قدرات العقل والعلم في تجاوزها مرحلة التقليد إلى مرحلة التجديد- وبالفكر الغربي بوصفه منتِجًا للحداثة، ودورهما في النقلة الحضارية للعالم. ينبغي إدراك أن الفكر العربي/ الإسلامي في عصره الذهبي، قد استوعب الفكر اليوناني، وحضارة الرافدين، وحضارة بلاد فارس، والهند، وأثر الفكر اليوناني كان واضحًا في كتابات ابن رشد، والفارابي، وابن سينا، وابن عربي، وغيرهم، كما بدا أثر الفكر الفارسي واضحًا في تطور علوم القرآن، والفقه، واللغة..، ولكن الهجمات الإيديولوجية التي تعرّض لها العقل من الداخل آنذاك وحتى الآن!، وقفت عقبة أمام تحرره وتقدمه.

والآن، يشهد الفكر العربي صراعًا فوضويًا مع الحداثة أشد خطرًا، ويكمن في هذا الصراع بالتحديد أزمته مع الحداثة، ويبقى علينا أن نعي خطورة إيديولوجيا الكفاح الثوري ودورها في الربط بين فكر الحداثة والاستعمار، ومن الصعب علينا أن نقيس حجم التفاوت بين منتجات الحداثة الفكرية والمادية، وتهويمات الكفاح الثوري التي تفصل صاحبها غالبًا عن الواقع؛ ولكننا نلفت الانتباه إلى خطورة هذا الكفاح كاستراتيجية فكرية تهدف إلى تنقية الفكر من كل مختلِف ومغاير أكثر مما تهدف إلى حمايته من الإيديولوجيات وخطرها، لأنها استراتيجية ناتجة عن حالة من الاستلاب المعرفي والذهني.

ويؤكد لوفيفر خطورة الفكر الثوري أو النضالي بوصفه أحد أهم مسببات الأزمة في فكر الحداثة، فيقول: "وإذا كانت حداثتنا تواصل مسيرتها عبر الأزمات المتعددة، أفلن يكون من الممكن التفكير بأن هذا ما هو إلا جانب صغير من الأزمة الثوريّة نفسها؟، الأزمة الوحيدة والكليّة التي توقعها ماركس... هكذا، وفقًا لهذه الأطروحة، يظل جزء مهم من مهام الثورة وأهدافها الكليّة يتحقق عبر تواصل تجربة الحداثة، ولكن على نحو رديء وأخرق، بصورة غير مباشرة، وقطعيّة، مقنّعة، مواربة، وغالبًا بالمقلوب، أي داخل العالم المقلوب نفسه، وفي انزياح دائم عن الممكن. وبذا فإننا نعرّف الحداثة بأنها ظلّ الثورة، تجزؤها، كاريكاتوريتها، بحيث أنه لن يكون من الممكن لا رفضها كليًّا ولا الانتماء إليها تمامًا"(5).

ويرسم لوفيفر الإشكاليات التي تخلفها الحداثة في المجتمعات البورجوازية والاشتراكية فيقول: " إن الحداثة تحقق بعضًا من مهام الثورة، بتجزيئها إياها، أيّة مهام؟ نقد الحياة البورجوازية أولاً، من حيث كونها مطبوعة بالتجريد والانقسام والتمزق. ويتواصل هذا النقد ويرينا أكثر فأكثر التجريد ذا القوة الثانية( غير الواضح/ المضمر)، والانقسامات والتمزّقات المدعّمة، والقبول المزداد تصنّعًا يومًا بعد يوم. يلي ذلك اضمحلال الفن، المدفوع إلى نهاياته بفعل قوى هدمه وسلبه الداخلي، ويعقبه اضمحلال الفلسفة، بما هي، وتلاشي مصداقية الإيديولوجيات، ومن ثم نشوء فكرة إيديولوجيا للسعادة قابلة للرد. وفي النهاية إيضاح مواقف تخص التلقين والطبيعة والعفوية، وذلك بعد أخطاء وتقديرات تقريبية متتالية"(6).

هذا يعني أن أحد أهم إشكاليات الحداثة يتعلّق بالوعي بـ " فكرة الاختلاف والتعددية"، وفي هذه الممارسة يحدث صدام داخل العقل، بين النسق الثقافي، ومختلف العناصر المغايرة، لأن النسق الثقافي يتحرّك دائمًا ضد المعرفة المغايرة بأساليب شتى وطرق متعددة ومتنوّعة، والنظر إلى الحداثة بوصفها نمطًا من التفكير المختلف، يعني الكشف عن مكونات البنية الثقافية والمعرفية للعقل، ودخولها حيّز المساءلة؛ لأن انغلاق العقل داخل حدوده المعرفية والثقافية، يأتي ضمن مرحلة معينة من مراحل الفكر، يكشف عن وضعية معرفية معينة، تهدف إلى الانفلات من مواجهة التيارات الفكرية الجديدة، تستنزف الفكر في مواجهة المختلف وإلغاء الآخر، أملاً في العودة إلى السكون النسقي الذي ألفته واعتادت عليه، في حين بات العقل مطالبًا بالاستجابة إلى مختلف التحوّلات الإبستمولوجية التي تحدث أمامه، كما أنه مطالب بالإفادة من كافة الأسئلة الجديدة التي صاغها مشروع الحداثة.

في ظل هذا السياق المعرفي، بدا الأمر مشكلاً أمام العقل العربي، فاقتضت الضرورة إعادة النظر في التعامل مع ذاته، وتراثه، وواقعه الفكري، فذاته المتضخمة إيديولوجيا قد تقف عائقًا أمامه في الانتقال من مرحلة الاستهلاك إلى مرحلة الإنتاج ( استهلاك المعرفة إلى إنتاج المعرفة)، كما أصبح ضروريًّا أن يعيد العقل العربي النظر في التراث والاستغراق في الماضي، مما ساعد على تضخُّم ذاته أكثر، وجعله يركن إلى حالة من الثبات الفكري قد توفر له شروط الانتماء إلى ماضيه المجيد، أمام واقعه المأزوم الذي تَشكَّل في سياق علاقة مضطربة مع الحداثة. هل يتخذها إطارًا مرجعيًّا؟ أم يتخذ من تراثه هذا الإطار المرجعي؟ هل يمكنه التوفيق بينهما؟! أسئلة كثيرة ومتنوّعة ظل العقل العربي حائرًا في الإجابة عنها، ويبدو أن هذه الأسئلة تمثل الأزمة الحقيقية التي يعيشها العقل العربي مع الحداثة، مما جعل بعض المفكرين العرب يوجه نقدًا لاذعًا وحادًا للعقل العربي " فالإنسان العربي لم يرق، بعد، - بالرغم من كل الادعاءات- إلى صفة المواطنة، لذلك تجده يرفض حاضره لأنه لا يخوّل له إمكانية تحقيق ذاته، ولا يسمح له بممارسة حريته، الأمر الذي يولّد ردود أفعال لا تستجيب لشروط اللحظة التاريخية، سواء وطنيًّا أم قوميًّا أم عالميًّا. فتركن إلى منطق دفاعي يترجم ذاتًا مَرضيّة أو تلتجئ إلى أسلوب من الهجوم على عدو تتغير طبيعته في كل مرة، لدرجة تحوّل هذا الهجوم إلى أداة يستفاد منها في الاستهلاك الإيديولوجي اليومي بدون أدنى تفكير في المستقبل"(7).

كما يوضح بعض الباحثين خطورة صدمات الحداثة على المجتمعات التقليدية، بإحداث شروخ عميقة في الوعي التقليدي، وفي النظرة التقليدية للعالم، لقدرتها الفائقة على مداعبة الخيال، فيقول: " للحداثة استراتيجياتها الهجومية القصوى، المتمثلة في تحويل الجواهر إلى علاقات، والماهيات إلى سيرورات، والغايات إلى وسائل، مُدَهرِنةً كل ما هو مقدس ... إنها تقذف بالمجتمعات التقليدية، في أتون معركة لا مستقر فيها، وتعرضها لعواصف التاريخ الهائجة، وتخرجها من زمنيتها التكرارية الأبدية، ومن زمنيتها النرجسية إلى زمن كوني قوامه التجدد النوعي. لكن للتقليد آلياته الدفاعية، واستراتيجياته الهجومية كذلك. فردود فعله تتراوح بين الاندماج التلقائي، ورد الفعل الارتكاسي العنيف. فخطته تقوم في إجمالها لا على رفض الحداثة وإدانتها، والمطالبة بالتخلّي عنها كليًّا، بل إلى الدعوة إلى محاولة ترويضها، وتقليم أظافرها ونزع أشواكها. وغالبَا ما يجد التقليد نفسه ممزقًا بين ضرورتين: ضرورة التعامل مع الحداثة والقبول الجزئي بها، لأن أي رفض لها هو رفض للواقع... وضرورة تكييفها وتلوين بعض جوانبها للاستفادة من تقنياتها، ومنتجاتها الاقتصادية، ونظمها السياسية مع رفض لبنيتها الفوقية الثقافية والميتافيزيقية".(8)

هذه الإشكاليات الفكرية تعامل معها نخبة من طبقة الإنتلجنسيا العربية، المهتمة بمتابعة تطورات الفكر العالمي، وضرورة الاستعانة به في معرفة أسباب تراجع الفكر العربي المعاصر، وحاولوا بلورة اتجاه نقدي يقوم على مساءلة مكونات العقل العربي، ( وتمثل هذا الاتجاه في محاولات الجابري، وسيد حنفي، وعلى حرب، وهشام شرابي، وبرهان غليون، والعروي وغيرهم) ومراجعة التراث بإعادة قراءته في ضوء العلوم الإنسانية الحديثة،( وتمثل هذا الاتجاه في محاولات أركون، وطيب تيزيني، وغيرهما). وتراوحت هذه المحاولات بين التحليل المتعمق تارة، والمتسرع تارة، وتجريح الذات تارة أخرى ثالثة. وتهدف هذه المحاولات- في مجملها- إلى الكشف عن الأسس المعرفية التي انطلق منها العقل العربي في مساءلاته المعرفية، لتحديد أسباب الأزمة ومنابعها تمهيدًا لتجاوزها، ولكن للأسف اصطدمت هذه المحاولات بالتيار الفكري المحافظ، فتحوّل الحوار الفكري في الثقافة العربية، إلى صراع بين تيارين، أحدهما محافظ يبحث في أطر ومرتكزات تعود بالفكر إلى التراث، وتقديس الماضي، وهو تيار له قوته وسلطته لما يعتنقه من فكر ايديولوجي يهيمن على أدواته المعرفية وأساليبه المنهجية. أما التيار الليبرالي فما زال يعيش مرحلة المعاناة في صراعه مع التيار المحافظ، وكيفية تجاوزه، تمهيدًا لصياغة مشروعه الفكري، ولهذا فإن أزمة الفكر العربي الراهنة لا تتعلّق بكيفية تعامله مع الحداثة، بقدر ما تتعلّق بمشكلاته مع نفسه، أي في صراعه الداخلي.

مرجعيات المعنى، ومعيار التقويم


هل الآخر هو بالضرورة تالٍ بالنسبة لأنا ما؟ .............

إن الآخر لن يكون سوى الذات الأخرى كما تظهر لي أنا.

جيل دولوز


ربما تكمن معاناة الفكر العربي مع الحداثة في كونها تساعد الذات في التعرُّف على نفسها من خلال العلم، والعقل، والإنتاج، لا عن طريق الشعارات، والإحساس المُتضخّم بالذات، بل في مساءلة الذات والتعرّف عليها من خلال إنتاجها الفكري والتقني، وليس من خلال إنتاجها الإيديولوجي. أو في كونها تتجاوز التصوّرات التقليدية للفكر العربي بكل أشكاله وصوره. بالإضافة إلى أنها تضع العقل دائمًا أمام جدل التغيير المتواصل في مواجهة التقاليد، وهذا كفيل بإحداث أزمات داخل عقل يعتقد في الثوابت، لأن هذه الثوابت تحقق له الاستمرارية والتعالي، ولا يثق في التغيير الذي يتجاوز التقاليد ولا يحقق له الاستمرارية؛ لأنه من الواضح أن العقل العربي مازال يعيش تحت وطأة العقلية القبلية التي تنبهر بالتحديث، وترفض الحداثة، تنبهر بالتحديث لأنه يرتبط بالاستهلاك، و لقد لعب البترول دورًا مزدوجًا في فكر الحداثة العربي، فكان عاملاً حافزًا لزيادة الرغبة في الاستهلاك، وعائقًا يحول دون الطموح في الإنتاج. و لا زالت ترفض الحداثة، لأنها ترتبط بالإبداع، والإنتاج، والتطور، وهذه الأمور لا يطيقها عقل يركن إلى الراحة، وينشد الثبات الفكري؛ لأن التحديث عملية تتطلب توفر الإمكانات المادية التي تُمكّن الفرد من استبدال أدواته الحياتية البدائية، بأدوات أخرى أكثر تقدمًا تحقق له نوعًا من الرفاهية التي تزول بزوال سببها. أما الحداثة فهي ممارسة فكرية ذاتية تجعل كل شيء مطروح للكشف الذي لم يتحقق بعد. فالفرق بين التحديث، والحداثة، أن الأول شيء مُعطى، أما الثانية، فتعني أن يبحث الإنسان في هذا الشيء، أن يكشف عما يخفيه.

إن هذا التعارض بين التقاليد والحداثة داخل العقل العربي، يمثل محنة فكرية تواجهه، وبدلاً من أن يتجاوزها، توقّف العقل أمام ممارسة المقارنة تارة، وممارسة الاعتراض، تارة أخرى، للتقريب بين التراث والحداثة، وحقيقة لم يكن لهاتين الممارستين أية قيمة حقيقية في تجاوز المحنة، ولم يكن لتفسيراتهما جدوى عملية، وكانت النتيجة بمثابة الصدمة، فقد " تلقينا الحداثة كما لو كانت أمرًا مفروغًا منه، لا يحتاج من أجل الوصول إليه إلا إلى التخلّي عن التراث، بدل اعتبارها بالأساس ثمرة لجهد استثنائي لا يفيد فيه الاحتفاظ بالتراث أو التخلّي عنه، وتصورنا لها أخيرًا على أنها ثمار يانعة ما علينا إلا أن نقطفها ونلتهمها فنصبح حدايثين...، لقد حصل الخلط في أذهاننا بين التحديث الفعلي، وبين الانخراط التلقائي في دوّامة الحداثة، أي بين إنتاج الحداثة وبين استهلاك منتجاتها الجديدة".(9)


هاتان الممارستان " المقارنة، والاعتراض" تشيران إلى فكر ايديولوجي يرمي إلى عدم تجاوز الفكر الأصولي الرافض لكل أسباب التقدم، ولغته تقيّد كثيرًا من الفكر المتنامي، وتضعه ضمن حدود نسقية جمعية وذاتية تؤكد الثبات الفكري. لأن الصراع بين القديم والجديد داخل الفكر الإنساني، صراع أزلي، فالقديم، مجموعة من الأعراف والقواعد والتقاليد، تحوّلت إلى أنساق ثقافية، وأصبح لها سحرها وتأثيرها بعدما فرضت قوتها على العقل والفكر بفعل الزمن. والجديد، أو الحديث، هو أيضًا مجموعة من الأفكار المغايرة – بحكم تطور الفكر- تحاول إزاحة التقاليد القديمة والإحلال محلها داخل الفكر. هذا الصراع يُحسم – غالبًا- لصالح الحديث، بعد أن يستوعب القديم، وينفيه في الوقت نفسه، وبمرور الزمن يصبح الحديث قديمًا ..، وهكذا تدور دائرة الفكر، بين قديم يتجدد، وحديث يصير بمرور الزمن قديمًا. وأتوقف – ها هنا – أمام أنموذجين يوضحان ممارسات "المقارنة، والاعتراض وقبل أن أتوقف أمام هذين الأنموذجين، أشير إلى أن هناك ثمة دراسات إيجابية أنجزها الفكر العربي المعاصر تتبع منهج المقارنة، وأصحابها على وعي حقيقي، وموضوعي باستخدام منهج المقارنة، ويأتي على رأس هذه الدراسات مشروع الجابري في كتبه ( التراث والحداثة، ورباعية نقد العقل العربي التكوين، والبنية، والسياسة، والأخلاق)، ويسعى الجابري من خلال هذا المشروع إلى البحث عن مقومات تاريخية للحداثة في نسختها العربية مقارنة بنسختها الغربية، ولن أتوقف عند هذا المشروع لسبب بسيط، وهو أن هناك دراسات وبحوث كثيرة تناولت هذا المشروع بالتحليل والنقد، وأحيل القارئ إلى دراسة مهمة عن هذا المشروع وهي بعنوان (نقد العقل أم عقل التوافق، حول مواءمة الجابري بين التراث والحداثة) (10) للمفكر كمال عبد اللطيف حيث يشبه هذا المشروع بعملية حفر تبحث لمقومات الحداثة عن تاريخ آخر، عن سياق آخر مخالف لسياقها.(11). ولكن يقتضي السياق الراهن التوقف أمام دراستين مهمتين حول هذا الموضوع:

الأولى بعنوان" آباء الحداثة العربية"(12)، لـ محي الدين اللاذقاني يقول فيها: " لقد وقع حزب الحداثة العربية المعاصرة بشقيه الفرانكفوني، والأنجلوسكسوني ضحية للأوهام نفسها التي تحكمت بفكر عصر النهضة في لهاثه المستميت للتغريب دون النظر إلى المعطيات الحضارية العربية. وحاول أن يلعب دورًا ما في صراعات عالمية معقدة بين الثقافتين الفرنسية، والأمريكية، الحاضنة الجديدة للإرث الأنجلو سكسوني، ثم وجد ذلك الحزب نفسه هامشيًا، أحيانًا، ومعزولاً في إطار الثقافة الكونية والمحلية على السواء، وذلك لعجزه عن عقد أواصر تلك الصلات التي لا تنفصم ولا بالمستطاع إنكارها بين الموروث الحضاري والتطلّعات المستقبلية لكل ثقافة طموحة"(13). ويجعل اللاذقاني من الجاحظ، والحلاج، والتوحيدي، آباءً للحداثة العربية، فجعل الجاحظ الأب الحقيقي للحداثة العربية لأسلوبه البديع، وثقافته العميقة، وروحه الشفافة والطريفة(14). وجعل الحلاج من مؤسسي الحداثة العربي لاحتواء شعره على آفاق سوريالية تبشر بظهور قصيدة النثر(15). وكذلك الأمر بالنسبة للتوحيدي، حيث اعتبر بعض فقرات أحداث الليلة الأولى من كتابه الإمتاع والمؤانسة بيانًا تأسيسيًا لحداثة ذلك الزمان الفنية(16).

إيديولوجيا، حاولت هذه الدراسة إيهام القارئ بوجود حداثة عربية في مواجهة الحداثة الغربية، ولم يذكر لنا صاحبها مفهوم هذه الحداثة، ولا صيغها، ولا استراتيجياتها، بل اكتفى بوصف حزب الحداثة في الثقافة العربية بالمهمش أحيانًا، والمعزول أحيانًا أخرى!. فهو لم يفسر التراث من منطلق حداثي، بل استخدم الحداثة كبرهان على صحة منطلقات التراث، ولذلك فإن سؤال الدراسة يعود إلى نقطة البداية، لأن اللاذقاني يبحث في المغاير لتأكيد الثوابت، فعاد إلى حيث بدأ، كل ما فعله أنه قام بعملية تأويل ايديولوجي لظاهرة الحداثة، تقوم على جدلية " التجاهل والاستحضار"، تجاهل إنجازات الغرب الحداثية، واستحضار وقائع التاريخ، إذ يستحضر الفكر التراثي العربي وكأنه تاريخ للحداثة المعاصرة.

لم تعد مثل هذه الإجراءات البحثية تفي بقراءة الظواهر الثقافية والحضارية، وتوصيفها، فصاحب الدراسة يصرّ دائمًا في دراسته على مواجهة تيار الحداثة بالأدوات الفكرية، والنقدية التعصبيّة، والذاتيّة القديمة، وهذا كفيل بإعادة إنتاج الأزمة أو الإشكالية بشكل أسوأ مما كانت عليه سابقًا، وأخطر ما ترسخه مثل هذه الدراسات، استبعاد أفكار الآخر، وعدم الاعتراف به ما دام يختلف عنا، وهذا يشير إلى وجود فجوة فكرية بين ما هو بداخلنا من أفكار، وما هو أمامنا من منجزات للآخر.

وألفت الانتباه إلى أن فريقًا كبيرًا من الباحثين يتبنى هذا المنحى الفكري، وهؤلاء ينطلقون غالبًا من وعي نرجسي متضخم يرى في كل منجزات الحضارة الحديثة أصولاً في التراث العربي، ومن أبرز الدراسات التي تؤكد هذا الوعي، دراسة زكي الميلاد بعنوان " من التراث إلى الاجتهاد" (17)، يقارب فيها بين المفاهيم الحضارية الجديدة مثل مفهوم " الحداثة" و " التقدّم" ومفاهيم تراثية في تجربة المسلمين الحضارية، فيربط بين مفهوم " الحداثة" في نسخته الغربية، ومفهوم " الاجتهاد" في التراث الفكري الإسلامي، في قرن دلالي ومعرفي مشترك، وبين مفهوم "التقدّم" في نسخته الغربية، ومفهوم " العمران" عند ابن خلدون، في قرن دلالي ومعرفي مشترك أيضًا، فيقول: " ولقد وجدت أن المفهوم الذي يقارب مفهوم الحداثة عند الغرب في تجربة المسلمين الحضارية هو مفهوم الاجتهاد، والذي يقارب مفهوم التقدّم في التجربة الإسلامية هو مفهوم العمران، ويعد ابن خلدون في طليعة الذين عرّفوا بمفهوم العمران، حيث قدّمه كعلم له نسقه المعرفي وحقله الدلالي" (18).

مثل هذه الآراء يعلن أصحابها قناعاتهم بالأفكار الحداثية دون الوعي بمزالقها وتوابعها الفكرية، كأن يتحدثون مثلاً عن مبدأ الشورى في التراث الإسلامي كبديل عن الديموقراطية في الفكر العالمي الحديث، مورطين أنفسهم ومن قبلهم الفكر، في مآزق فرضتها عليهم عقولهم في استقبالها للمتغيرات الحضارية الجديدة، فراحوا يفتشون في تراثهم عن نظير لهذه الأفكار، لا لشيء إلا ليؤكدوا وعيهم النرجسي، بأنهم دائمًا وأبدًا سبّاقون للأفكار الحديثة.

هنا تختلف مهمة الفكر باختلاف النظرة إلى الفهم ذاته، فانشغال هؤلاء النقاد بالبحث عن نسخة عربية للحداثة، أو إيجاد أصول عربية للحداثة، يجعل مثل هذا الفكر منشغلاً بذاته أكثر من انشغاله بموضوعه، وبأدواته، وبمناهجه، وبذلك صار همّ البحث عن الحداثة – عند هؤلاء المفكرين- مقترنًا بالكشف عن الأنظمة المعرفية التي تتحكم بهم، وتجعلهم دائمًا مشغولين باختراع نماذج فكرية ايديولوجية، ومذهبية تعصبيّة دفاعية في مواجهة التيارات الفكرية الحديثة، وتبقى الحقيقة/ الحداثة – هاهنا- غير محددة وغير واضحة المعالم،- مثل هذا الفكر لم ينضج بعد عند الناقد العربي المعاصر، ولم ينضج مناصروه إلا في حالات فردية سوف نتوقف عندها لاحقًا.

هنا يختفي المعنى الحقيقي ويتوارى خلف معنى آخر يخضع لنظام المفسِّر المعرفي، ومن ثمة تظهر هوّة ثقافية وحضارية شاسعة بين المعنيين, فالمعنى الحقيقي، حقيقة لم يتحقق اجراؤها بعد عند هؤلاء المفكرين، في حين أن المعنى الآخر – الذي هو من انتاج المفسِّر- لانملك عنه نحن المتلقين إلا ما ننسجه حوله من عبارات وتخمينات، مما يجعل سؤال الحداثة عند هؤلاء يحوم دائمًا حول أهواء المفكر، وهنا تبدو الأزمة أكثر تعقيدًا، لأن صانعها عقل مأزوم غير قادر على استيعاب المتغيرات؛ بسبب تقديس هذا العقل لإيديولوجيته الخاصة، ويضفي على أفكاره وتصوراته هالة من التقديس المبالغ فيه، وعندما يتعرض لمتغيرات خارجية؛ يطارده هاجس الخوف والقلق، فيلجأ إلى آليات دفاعية يرتد بها إلى أفكاره في مواجهة هذه المتغيرات، ويظل حبيسًا داخل دائرة دفاعية وهمية لن يصمد فيها طويلاً، ولهذا لن نجد جوابًا حاسمًا لسؤال الحداثة عندهم. لأنه سؤال لا يهدف إلى معرفة بقدر ما يهدف إلى انخراط السائل في البحث عن كينونته وهويته، إنه يسأل نفسه عن نفسه، لا يسأل عن حقيقة. ولهذا فإن هؤلاء عندما ينخرطون في البحث عن الحقيقة؛ فإن هذا لا يعني سوى انخراطهم في البحث عن معاناتهم الفكرية والإيديولوجية والسيكولوجية.

ينبغي علينا في هذا السياق أن نقيس حجم الدور الذي مارسه الفكر الإيديولوجي التقليدي، ولا يزال يمارسه حتى الآن في تثبيت أنظمة الفكر الإيديولوجية والمحافظة عليها، وينبغي أن نعترف بفشل استراتيجيات هذا الفكر حتى الآن في تحرر العقل من التهويمات، وفي المقابل نجاحه في فصله عن الواقع، وينبغي أن نعي المسلمات الفكرية والإيديولوجية التي ترتكز على العقائد القومية المقدّسة والمفروضة من قِبل الآباء والأجداد، ينبغي أن نعي كل هذا لكي نكشف عن طرق أخرى أكثر مصداقية من التي تقودها كتيبة المدافعين عن الفكر المقدّس في الثقافة العربية، وهي تمارس حِيَلِها المختلفة بالربط بين المختلف، والحداثة، والنار، في قرن دلالي مشترك، والربط بين الموروث، والثابت، والجنة، في قرن دلالي مشترك أيضًا.

ينبغي أن نعي جيدًا أن الممارسات الفكرية – على النحو السابق- تعتمد على تصوّرات ذاتية عن الأفكار، وممارسات استدلالية عرقية متحيّزة؛ ولهذا فإننا نلاحظ بعد ظهور الحداثة والعولمة وتوسعاتهما، قد وضعتا الفكر التقليدي بين نوعين من الممارسة:

1 ـ فيما يخص الفكر التقليدي الذي يهيمن عليه إيديولوجيا الكفاح والجهاد، وهذا النمط من الفكر يتسم بسعيه إلى التقليل من منجزات الآخر وادعاءاته بأسبقيته إليها، والبحث عن مظاهر التقدم في العالم وردها إليه بوصفه مرجعية كل الأفكار الحداثية الراهنة.

2 ـ أما فيما يخص الفكر المُخترَق من قِبل الآخر، فيعمد إلى إعادة تأسيس التراث بالاعتماد على الأفكار الحديثة، وهذه المحاولة يرتبط حظها بالنجاح ضمن فرضية الإسهام الفعّال للعقل في عملية النقد والمراجعة المتكررين لجميع الأنظمة الفكرية التقليدية الجامدة، وإذا كانت الممارسة الأولى تنطبق على محاولة الللاذقاني السابقة، فإن الممارسة الثانية تنطبق على محاولة بو قربة اللاحقة.

أما الدراسة الثانية، فهي لـ "عبد المجيد بو قربة" بعنوان " الحداثة والتراث"، وهي محاولة لإعادة تأسيس التراث/الثقافة العربية، بالاعتماد على فلسفة التفكيك المعاصرة، فهو يعمد إلى تفكيك الإطار المرجعي للتراث العربي، في محاولة لإعادة بناء إطار مرجعي جديد تؤول فيه إشكالية النهضة والتراث، إلى إشكالية التقدّم وتحقيق الوعي على صعيد الفكر المعاصر، وذهب بوقربة إلى أن عملية التأسيس هذه لا بد أن تتم ضمن "رؤية نقدية جديدة، تستهدف القطيعة مع المفاهيم والآليات التي أقام عليها أجدادنا تراثهم."(19)، ويخلص بنتيجة عامة في هذا الإطار "إن محاولة تأسيس خطاب نهضوي عربي في مستوى التحدي نفسه الذي يُجابه به الظرف التاريخي المثقفين العرب لن تكون إلا بقطيعة ابستمولوجية مع هواجس التصوّر السابق الذي يفرض نفسه، إطارًا مرجعيًا للخطاب العربي المعاصر؛ قطيعة قوامها التحرر من الشروط اللامعقولة التي يفترضها هذا التصوّر كعامل رئيسي لقيام النهضة العربية."(20)

حاولت هذه الدراسة إيهام القارئ بأن القطيعة مع التراث هي طوق النجاة للفكر العربي المعاصر، وهذا التوجه يعد أحد المآزق التي يتورط فيها العقل العربي مع الأفكار، فالانقطاع عن التراث، لا يهدف بالضرورة في النهاية إلى التغيير والتطوّر والتخلّص من الرواسب القديمة، بقدر ما يستبعد التواصل مع المألوف والمعروف/ التراث؛ ولهذا فإن القطيعة على هذا النحو، تهدف إلى إقامة حوار غير متكافئ بين الحاضر بمنجزاته المعرفية، والماضي بهواجسه، وتصوراته، فالقطيعة على النحو السابق تستبعد كل إمكانية لمشاركة المُدْرَك والمعروف، لا لشيء إلا لأنه يشكّل النقيض الأبدي للمعرفة الجديدة، ومثل هذه المذاهب الفكرية تغرق دائمًا في جدل هامشي حول الإشكاليات، ولا تقدّم طرحًا جديدًا لفهم الحداثة في سياقها الغربي، بوصفه مجال إنتاجها، وانتقالها إلى مجال الفكر العربي بوصفه سياقًا آخر لتطبيقها وإعادة إنتاجها.

إن القطيعة على هذا النحو، تعني المعنى اللغوي الحرفي للقطيعة الذي يشير إلى الانفصال دون الالتفات إلى أن المفاهيم تطرح نفسها بخاصية معرفية نتعرّف عليها من خلال سياقها المعرفي الذي أنتجها، وهذا الفهم لا يتيح للعقل أن يتجاوز جاهزياته المعرفية والإيديولوجية، لأن التفكير في المغاير بالانقطاع عن المعروف والمألوف، يحصر الفكر دائمًا في دائرة التبعية للآخر، ويجعله دائمًا يسير في عالم مجهول، وكان على بو قربة وكثير من الباحثين الذين يسلكون هذا المسلك، الانتباه إلى المعنى الأبستيمي للقطيعة الذي يشير إلى فكرة الثورة على الأفكار الكلاسيكية. والفرق كبير بين المعنيين. ورأي بو قربة يتعارض مع رأي الجابري الذي يميز بين القطيعة بمعناها اللغوي الدارج، ومعناها الخاص في سياق خطابه عن التراث، فيقول: "نحن لا ندعو إلى القطيعة مع التراث بمعناها اللغوي الدارج.. كلا إن ما ندعو إليه هو التخلّي عن الفهم التراثي للتراث أي التحرر من الرواسب التراثية في عملية فهمنا للتراث ... القطيعة التي تحوّلنا من كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث"(21).

فالقطيعة، بمفهوم الجابري، تعني الانقطاع عن القطائع، وتهدف إلى تغيير جذري وشامل لأنظمة القطيع المعرفية والإيديولوجية باستحضار النقيض والمختلف، من أجل الثورة عليه ( لا بالمعنى اللغوي الدارج، ولكن بالمعنى الأبستيمي العميق)، من أجل مساءلته، لتجدد نفسها، وتحدد موقعها من المختلف، إنها الانتقال من مرحلة الفكر النرجسي إلى الفكر الواقعي، الذي يرى فيه الفكر حجمه الطبيعي، لا حجمه المتخيّل. لأن الماضي – في الحالة الأخيرة- يمثل فراغًا مرجعيًا يصدمنا دائمًا بهول حقيقته لكونها الحقيقة الوحيدة، وربما يكون كشف الجابري في مشروعه الفكري عن هذه الحقيقة، أحد الأسباب التي دعت بعض المفكرين إلى انتقاده وعلى رأسهم جورج طرابيشي الذي تعمد دحض الآراء، ورصد الأخطاء في كتابيه "مذبحة التراث"، " ونقد نقد العقل العربي"، بالإضافة إلى أسباب أخرى شخصية تتعلّق بحقيقة الصراع الفكري والإيديولوجي بين طبقة الإنتلجنسيا العربية، وهذه النقطة سوف نتعرّض لها لاحقًا.

أما بالنسبة للممارسة الثانية وهي "الاعتراض والرفض"، فلن نستطيع الإلمام بجميع الاعتراضات على الحداثة – في هذا المقام- لأن الإلمام بها – هاهنا- لن يشغل الدراسة عن هدفها الأساسي فحسب، بل لأن معظم الإنتاج الفكري المتصل بهذه القضية فيه تشهير، وتكفير، وتجريح، تمنعنا موضوعيتنا الأكاديمية من ذكره، وسأكتفي بالإشارة إلى دراستين، الأولى للناقد عبد الله الغذّامي بعنوان "حكاية الحداثة "(22)، والثانية لفادي إسماعيل بعنوان "الخطاب العربي المعاصر"(23)، لتوضيح هذه الممارسة. دراسة الغذّامي هي تجربة لناقد يرغب في ممارسة الحداثة بطرح أسئلة حول إشكاليات المعرفة ومسلمات الثقافة داخل مجتمع محافظ ثقافيًا، ونتج عن هذه الممارسة ثورة عنيفة مضادة للتيار الحداثي، وتعرض صاحب الدراسة لحملة من التشهير، والتكفير، والعمالة، وأورد الغذّامي في نهاية دراسته ملحقًا يتضمن ما تعرّض له من تجريح وتشهير، وخصّه بعنوان "نماذج من الرسائل الكيدية"(24). يقول الغذّامي: "ومن الواضح أن الذين تعاملوا مع الحداثة بالرفض لم يكونوا يملكون تعريفًا عن الحداثة يؤسسون عليه نظرتهم، وكل ما يصدرون عنه هو تصوّرات عامة، تستند على اقتباسات وإحالات شخصيّة، ولا تستند على مفاهيم يمكن الاحتكام إليها، ولو تتبعنا خطب المساجد والجوامع وأشرطة الكاسيت والمقالات والكتب التي جاهرت في الطعن بالحداثة، لكشفنا بسهولة أنهم يتصرفون بذعر أكثر مما يتصرفون بوعي معرفي، فهم يشعرون بادئ ذي بدء بأن خطرًا داهمًا يهدد الأمة، وأن أهل الشأن من الساسة والعلماء لا يدركون هذا الخطر، كما أن الوعاظ والدعاة يشعرون بمسؤولية خاصة، بما إنهم هم الذين تكشّف لهم هذا الخطر، وهذا هو ما نجده في الشريط المشهور عن الحداثة، وفي كتاب (الحداثة في ميزان الإسلام)، وفي كتب أخرى ككتاب (الحداثة من منظور إيماني) ومن قبلهم مقالات مليباري، وعبد الكريم نيازي... وفي هذه الأمثلة كلها يتكرر التحذير والتنبيه على الخطر الداهم على الأمة وعلى القيم"(25).

يثق هؤلاء الرافضون للحداثة في الاعتقاد بأنهم حُماة الدين، ويراهنون بقدرتهم على تغيير الواقع، بإحالة هذا الواقع الفكري إلى سجالات كلامية جوفاء، وأحكام ثنائية مطلقة تتعلق بالقبول والرفض، أو بالصواب والخطأ، فيقررون الانحياز إلى الفكر النضالي الديني في سبيل مواجهة هذا الغزو، بلغة دفاعية تخشى الحوار، تتوارى خلف الديني والتراثي في مواجهاتها مع المواقف المغايرة، بدعوى فهم شخصي وذاتي للحداثة بأنها انفصال عن الدين، وعن التراث، فيجنِّد كل منهم نفسه، ويشهر قلمه، أو يسلِّط لسانه، في وجه كل دعاة الحداثة، مجسِّدًا بذلك دور الداعية الغيور المتكلّم باسم الله عز وجل، وهؤلاء يعيشون سجناء قيودهم المعرفية وأنظمتهم الفكرية، تبدو رؤيتهم للأشياء أكثر ضبابية، فلا يقدرون على تمييز الحقيقة من الظل، مع وجود شيء أساس وهو أنها معرفة بدون وعي، ولذلك فهي تعجز عن إطلاق الحد الأدنى من السؤال حول وضعيتها الفكرية. ليت هؤلاء قد كلّفوا أنفسهم عناء البحث مثلما فعل السلفيون الأوائل، فهؤلاء لا يسعون إلى إنتاج فكر، أو تغيير واقع، وإنما يدور مشروعهم الفكري حول تطبيق التعاليم الجاهزة سلفًا، وهم في ظل التزامهم بهذا الفكر النضالي، يتبنون منطلقات فكرية تنتمي إلى الفكر الأصولي الرافض لكل أسباب التقدُّم، ومن موقع التزامهم هذا يشنون حربًا لا هوادة فيها ضد الحداثة، على الرغم من أن التجربة الأوربية للحداثة نهضت في مرحلتها الأولى " عن موقفين: الموقف تجاه الماضي (التراث) ومحاولة استرجاعه بالعودة إلى النموذج الإغريقي الروماني ( ثم نموذج القرون الوسطى في مطلع القرن التاسع عشر)، والموقف تجاه المستقبل القائم على العلوم وحتمية التقدّم الإنساني - فلسفة التنوير- "(26). وعلى هذا يمكننا القول بأن الالتزام – من قِبل هؤلاء- لم يكن التزامًا بقضايا الإسلام والمسلمين بقدر ما هو التزام وولاء لأنساق ايديولوجية وثقافية. ولذلك يمكننا القول بأن الصراع – ها هنا- لاتدور دائرته بين الإسلام والحداثة بل بين التقاليد والقيم العربية، من ناحية، ومفاهيم الحداثة، من ناحية أخرى.

إن أفكار رفض الحداثة عند هذه الفئة إنما هي امتداد لأفكار المودودي، وسيد قطب، فالمودودي، يبشّر بثورة الإسلام الكونية التي يقودها حزب الله، واعتبره الحزب الوحيد القادر على مجابهة الحضارة الغربية بوصفها حضارة مُلحدة،(27) وأن أوربا باكتشافها تحديد النسل تكون قد اخترعت ما يمكن أن يؤدي إلى انقراضها ونهايتها، فيقول: إنه قد سلِّط على الأمم الغربية شيطانان قويان، يجرانها إلى ما فيه الهلاك. أولهما شيطان قطع النسل، والآخر شيطان القومية، الشيطان الأول قد سيطر على أفرادها والآخر على أممها وحكوماتها. وأن الأول قد غلب عقول رجالها ونسائها فجعلهم يستأصلون أنسالهم بأيديهم..."(28)، وأفكار المودودي، وسيد قطب وغيرهما، هي امتداد لأفكار جمال الدين الأفغاني لا سيما المطروحة منها في " الرد على الدهريين"(29) والتي تغذّي روح التعصّب الأيديولوجي ضد الآخر، وهكذا نجد أنفسنا أمام حلقة فكرية متصلة وممتدة على مدار التاريخ، من فكر الخوارج حتى اليوم، كل جيل يسلم الأمانة للجيل التالي، هذا النمط من التفكير يُخرج الإسلام من التاريخ، ومن العالم، ويؤطره في سياق خاص يدرجه ضمن مرحلة بدائية من الفكر، وما لم يصبح المنهج العلمي التاريخي والنقدي هو رائدنا في دراسة الإسلام، فسوف يظل الحوار الإسلامي الغربي، حوار أحادي، وغير مجدٍ، والمنهج الذي أعنيه هنا دراسة الإسلام بمعزل عن الأيديولوجيات والعصبيات والنزعات والميول والأهواء والأطماع.

كيف يمكن إنتاج فكر إسلامي حقيقي يعبّر عن الإسلام كدين سماوي يقوم على التسامح ونشر العدل، وحقوق الآخر وسط هذا الصراع الأيديولوجي الداخلي الذي يتربص بالآخر ويعيش على أمل انهياره؟. إن الإسلام لن يُفهم فهمًا صحيحًا إلا بفك الارتباط بينه وبين ايديولوجيا الكفاح والجهاد، وبوضع الإسلام مقابل الأيديولوجيات، للتمييز بين ما هو إسلامي وما هو أيديولوجي، أو بين ما هو إسلامي حقيقي وما هو إسلامي بالإضافة.

تبدو الكارثة أشد خطرًا حين تصبح الأفكار هي مصدر الأزمة، فنتعامل معها بصورة منغلقة، ومتحجرة، وكما يؤكد بعض المعاصرين(30) فإن هذه الأفكار هي التي تختم على العقل لكي ينتج الأنموذج المهيمن على المشهد الفكري التقليدي السلفي والأصولي، ويحصر الباحث نفسه هذا المشهد الفكري في ثلاثة نماذج، هي:

1 ـ الداعية التراثي الذي يعتقد أن المواريث الفكرية القديمة تنطوي على أجوبة وحلول لكل الأسئلة والمشكلات الراهنة.

2 ـ الأبله الثقافي، وهو الشخص القاصر الذي يجري غسل دماغه على يد شيخه أو أميره لكي يصبح طوع أمره بحيث ينفذ بصورة آلية ما يُملى عليه، فيعتقد أن سعادته تتحقق في تقليد الماضين والتطابق معهم في كل ما قالوه.

3 ـ الأصولي الذي يدّعي امتلاك مفاتيح الحقيقة والهداية والسعادة لإنقاذ الأمة الإسلامية والبشرية جمعاء من الكفر والفساد، بمعاداة التغيير والعمل على استئصال الاختلاف والتنوّع.(31)

ومن المفارقات التي تدعو إلى الدهشة في هذا الخصوص أن نكتفي بموقف المتفرج السلبي، لأن هذا الموقف يضعنا دائمًا في موقع الهامشية، وفي موقع المتلقي السلبي، في عصر تؤكد كل ثقافة حضورها الفاعل، فهذا الموقف يضع أصحابه دائمًا موضع التبعية، واختيار ما يمليه عليهم الآخر.

أما الدراسة الثانية فتمثل النزعة القومية عند الحداثيين العرب بتجاهل إنجازات الآخر، أو التقليل من أهميتها، وتقدير الذات المبالغ فيه بحق أو بدون حق، فهي لفادي إسماعيل بعنوان " الخطاب العربي المعاصر" يقول فيها: "ليس لمفهوم الحداثة بحدّ ذاته أي محتوى حقيقي من الناحية المعرفية العلمية، ولا يقدم أجوبة تلقائية على مشاكل المجتمع، ذلك لأنه لا يحدد أهدافًا وأولويات وطرق عمل ... لقد تحولت الحداثة إلى حداثة للتأخر، وتنمية للتخلُّف، وتقدُّم للاستهلاك نحو التبعية والهلاك. إن الذين يجعلون من الحداثة خطابًا سحريًا ونظرية كونية يغطون على أصل المشكلات..."(32). ويطرح إسماعيل موضوع النهضة ( الذي لم يتحقق حتى الآن) كبديل عن مشروع الحداثة، ويثق في نتائجه، وإنجازاته فيقول: "وإذا كان الوعي بأن مشروع النهضة الشاملة هو الهدف الأسمى للمجتمع. فإن هذا الهدف يعني تحقيقًا للذات بالمعنى الحضاري. أي تحقيق أسلوب حياة متكامل ومنسق مع المثل الأعلى الذي ترسمه المبادئ الحاكمة، والقيم الأساسية لحضارة المجتمع"(33). وحاول إسماعيل في هذه الدراسة – التي هي تطوير لأطروحة الماجستير- أن يقدم بديلاً للوضع الفكري المأسوي العربي، لكن الدراسة لم تفلح في تقديم هذا البديل، ووقع صاحبها في المأزق النضالي الثقافي، فتقمص دور المصلح الاجتماعي باعتماده على تحفيز الأمة لرسم المشروع الحضاري المنشود.

يمكن إرجاع الرفض عند هؤلاء إلى سبب إيديولوجي يقف خلفه الفكر الأبوي الرافض لكل ما يخالف اتجاهاتهم فهم يدّعون دائمًا امتلاكهم المعرفة دون سواهم. فإسماعيل تعامل مع الحداثة كوصفة فكرية تم رفضها لأسباب ايديولوجية تتعّلق بإيديولوجيا الكفاح التي تغلّف فكر إسماعيل لأنها – أي الحداثة- مُنتج غربي، وفي الوقت نفسه، تعامل مع مشروع النهضة كوصفة فكرية يقبلها ويدعو لها للأسباب الإيديولوجية نفسها لأنها مُنتج قومي، على الرغم من أن مشروع النهضة قام أساسًا على نقل أفكار العقل الذي أنتج الحداثة! والفكر على هذا النحو لا يساعد على إنتاج المعرفة، لأنه ليس نتاج معرفة بل نتاج إيديولوجيات وعصبيات تحجب الواقع، وتساعد على الاغتراب، ويربط بعض المعاصرين بين هذا الفكر والذهنية الأبوية فيقول: " تتمثّل الذهنية الأبوية أوّل ما تتمثّل في نزعتها السلطويّة الشاملة التي ترفض النقد ولا تقبل بالحوار إلا أسلوبًا لفرض رأيها فرضًا. إنها ذهنية امتلاك الحقيقة الواحدة التي لا تعرف الشك ولا تقرّ بإمكانية إعادة النظر.

ومن هذا المنطلق، فإن التفاعل والحوار لا يرمي إلى التوصّل إلى تفاهم أو اتفاق بين وجهتي نظر، بل إلى إظهار الحقيقة الواحدة وتأكيد انتصارها على كل وجهات النظر الأخرى. لهذا فإن الذهنيّة الأبوية، لا تستطيع تغيير موقفها لأنها لا تعرف ولا تريد أن تعرف إلا حقيقتها، لا تريد إلا فرضها على الآخر، بالعنف والجبر إن لزم الأمر".(34)

وهؤلاء الذين يرفضون الحداثة هم نتاج ثقافة هذا المجتمع البطريركي ( أي الأبوي)، و يستهدفون دائمًا أي تغيير اجتماعي لأنه يختلف عن ميولهم واتجاهاتهم الإيديولوجية، ويصف شرابي هذه الفئة بقوله: " في المجتمع الأبوي لا يمكن للمثقف، حتى لو لم يكن راديكاليًًّا أو ثوريًًّا إلا أن يهدف بشكل أو بآخر إلى التأثير في النظام القائم".(35)

إن فكرة الرفض الإيديولوجي للحداثة على النحو السابق، تشير إلى أن صدمة الحداثة للعقل العربي، أحدثت شروخًا فكرية، وتصدعات نفسية، أفقدته الثقة في نفسه، فشعر بخيبة الأمل، وعجزه عن ملاحقة الواقع، فطفق يعيد إنتاج نفسه بشروطها الإيديولوجية الجامدة، فبدا رفضويًا، إسقاطيًا، استلابيًا، لم يتجاوز مرحلة رد الفعل إلى مرحلة الفعل. ويمكننا إدراك خطورة مصطلح الرفض في هذا السياق، إذا ما وعينا علاقته بالفكر الأبوي، وارتباط الفكر الأبوي بالقهر والإخضاع، ما الذي يُخضع المختلف للرفض ويقهره؟ إنه الفكر الذي يأبى أن يرى الصيرورة في الاختلاف، فلا يسعى إليه لأنه يعمل لصالح خصوصية الفكر، بل يراها في المؤتلف والمتطابق، ويسعى إليه، لأنه يعمل لصالح عمومية التصوّر؛ الذي يسجن الفكر داخل زنزانة الإيديولوجيا، وبحجة أنه – أي الفكر- لا يعطي وجودًا للهوية إلا الذات، فإنه – أي التصوّر- يُخضع الفكر لنظام معرفي يجعل من الحاضر صورة محصورة بالماضي والمستقبل. هذا النمط من الفكر يجعل العقل لا يدرك سوى ما بداخله، لأنه موروث وتغلّفه صفة القداسة، ولا يعي مايقع خارج حدوده المعرفية لأنه الشر، إنها المعرفة الأبوية التي تستقبل طواعية الإملاءات والتعليمات، وترفض المغاير.

رهانات الحداثة في الفكر العربي


كان لابد من ظهور حركات نقدية عربية لطبقة الإنتلجنسيا، تحاول صياغة خطاب فكري نقدي يحدد منابع الأزمة، ويطرح بدائل فكرية تفيد في حل الإشكالية، يقع عليها عبء كشف الحُجب عن المستور داخل الفكر، تمهيدًا لمساءلته، وتمزيق أقنعة المماثلات والمشابهات لفضح الأنظمة المعرفية المُقولَبة والجاهزة. ولكن بعض هؤلاء تورط – مع الأسف- في صناعة البدائل على أنه الأصل، وسقط هؤلاء في هوّة السابقين، دعاة البحث عن إيجاد بدائل في التراث والثقافة لكل جديد.

ولكن، قبل أن أقيم حوارًا مع بعض هذه النماذج، أشير إلى أن شريحة عريضة من المفكرين العرب كانوا على وعي كامل بمزالق الحداثة، وقدّموا لنا وصفًا معرفيًّا للحداثة أزال كثيرًا من غموض المصطلح بسبب تعدد دلالاته، كما رصدوا التحولات الفكرية العامة للحداثة على كافة المستويات في الفكر الغربي، وقدّموا اقتراحات لا بأس بها يمكن للفكر العربي أن يهتدي بها. ولتوضيح وعي المفكر العربي بإشكاليات الحداثة، أحيل القارئ إلى هذين الاقتباسين لمفكرين على وعي بهذه الإشكالية؛ الأول من دراسة لحسن صعب بعنوان " تحديث العقل العربي" يدعو فيها العقل العربي إلى " التحوّل من صناعة الكلمات إلى صناعة الأشياء، ومن اجترار المنظومات والأراجيز إلى نظم الفكر والحياة، بل نظم الكون نظمًا إبداعيًّا جديدًا. ولا أعني العقل المتحصن بالماضي بل العقل الذي يرى ويحيا حركة الصيرورة المتدفقة عبر الماضي والحاضر والمستقبل"(36). الثاني حسين مروّة، يقول: " المبشرون عندنا – إذن- بـ (نظرية الأنواع) أي الانقطاع بين ثقافتنا العربية وبين تراثنا الفكري... لا يقصدون توجيه الجيل العربي نحو التكنيك العلمي الغربي، بل نحو الإيديولوجية البرجوازية الغربية، نحو تلك الأنواع العدمية من ثقافة الغرب البرجوازي بخاصة، والغرض الأساسي الذي يرمون إليه هو إبعاد هذا الجيل عن مشكلات بلاده ذات السمات والاتجاهات التي تحددها ظروف المعركة التحررية التقدميّة الآن في بلاد العرب".(37)

على الرغم من تنامي الحس النضالي في خطاب مروّة السابق، إلا أنه يحذر من نقطة مهمة، وهي خطورة البرجوازية الغربية وتأثيرها السلبي على العقل، فهي لا تساعد على إغناء العقل بقدر ما تساعد على تفريغه وتهميشه، وإقصائه عن المعرفة الحقيقية، فمروّة على وعي كامل بهذه الممارسة الايدويولوجية في التعامل مع الحداثة، وربما يكون هذا المأزق (الانقطاع بين الثقافة العربية المعاصرة، والتراث الفكري) من أشد مآزق الحداثة خطورة على العقل العربي، لأن التراث الفكري العربي المعاصر، يجب أن يُقرأ في إطار مرجعيته الثقافية العربية، أو في ضوء المعرفة التي أنتجته قبل أن يقاس على الفكر الغربي الحديث، حتى يمكن رصد نقاط الالتقاء، والاختلاف، والتطوّر مع هذه المرجعية.

أتوقف الآن أمام خطاب الحداثة عند أحد أهم منظري الحداثة العربية وهو أدونيس، وخطاب أدونيس الفكري حول الحداثة محيّر بطبيعة الحال، لأنه يثير الكثير من علامات الاستفهام، ربما لارتباط خطابه الشعري بخطابه الفكري وتلازمهما وتكاملهما، وحركية هذين الخطابين وعدم ثباتهما، وهذا ما حدا ببعض المعاصرين بوصفه " إن ما يميّز أدونيس بين الشعراء العرب، ذلك التلازم الدائم في قصائده بين الشعر والفكر، حتى إن أشعاره ليست إجمالاّ في منأى عن أعمال الفكر بحثًا عن آفاق جديدة للثقافة والمعرفة "(38).

وإذا ما حاولنا قراءة موقف أدونيس من الحداثة، وجدنا أن مفهوم الحداثة عنده غير واضح المعالم، فهو متبدّل ومتحرّك، لأنها – أي الحداثة- تواكب التطوّر التاريخي، فهي متغيّرة تغيّر التاريخ، ومتقلّبة، مما يجعل رؤيتها ضبابية، فتارة نجده سلفيًّا وتراثيًّا في تعريفه للحداثة، وتارة نجده حداثيًّا رافضًا للتراث وخارجًا على السائد والمألوف في التراث والفكر، فالحداثة عنده قد تمتد جذورها إلى أعماق التراث العربي " إن جذور الحداثة الشعرية بخاصة والحداثة الكتابية بعامة كامنة في النص القرآني" (39). ويعرفها في موضع آخر بأنها "رؤيا تساؤل واحتجاج: تساؤل حول الممكن، واحتجاج على السائد. فلحظة الحداثة هي لحظة التوتر. أي التناقض والتصادم بين البنى السائدة في المجتمع، وما تتطلّبه حركته العميقة التغييرية من البنى التي تستجيب لها وتتلاءم معها"(40).

ويعرّفها في موضع آخر بأنها "الاختلاف في الائتلاف. الاختلاف من أجل القدرة على التكيّف وفقًا للتقدم، والائتلاف من أجل التأصيل والمقاومة والخصوصية"(41). ثم يعرّفها بأنها "الخروج من النمطية والرغبة الدائمة في خلق المغاير"(42). وتارة أخرى يعرّفها في المرجع نفسه بأنها "هدم قيم جمالية ومعرفية قديمة وإحلال قيم معرفية جديدة مكانها"(43).

وأشير إلى تعريف مهم ولافت للانتباه وهو؛ "الحداثة فعالية إبداعية، وليست كساءً، إنها حداثة الإنسان لا حداثة الشيء"(44).

تكمن أهمية هذا التعريف في أنه يمس جوهر الفكر العربي، ويمعن في تأمل الذات العربية والواقع العربي، وفيه تمييز واضح بين الحداثة التي تخص الإنسان وطريقة تفكيره، والتحديث الذي يخص الأشياء، لعل هذا ما جعل أدونيس يركز على طرح سؤال جوهري حول الحداثة في الفكر العربي "حداثة الشيء أم حداثة الإنسان"(45).

ويتطرق أدونيس في هذه الدراسة إلى تحديد أسباب التباس الحداثة في الفكر العربي في النقاط التالية:(46)

1 ـ أن الحداثة تُبحث بوصفها مسألة نظرية بحتة، ووصفها غالبًا مجرد قضية شعرية ـ فنية، إضافة إلى أن هذا البحث يتم دون الإشارة إلى نشأتها.

2 ـ النظر في الحداثة العربية ومشكلاتها بأفكار ومصطلحات لا تنبع من الواقع العربي، وإنما هي مأخوذة من معجم الحداثة الغربية.

3 ـ هي مسألة المعيار والتقويم: كيف نقوّم ما نسميه بالحداثة العربية، وبأي معيار؟ المعيار، تبعًا للالتباسين الأولين، هو بالضرورة من خارج الثقافة العربية.

كما تطرق إلى الآخر والنظر إليه في الثقافة العربية، وجعل هذه النظرة – إلى الآخر- سببًا مباشرًا من أسباب الالتباس، فيقول: " الاختلاف العميق بين العرب في النظر إلى الذات: من هي، وما هي؟ وفي النظر إلى الآخر: كيف تتصل هذه الذات به؟ وكيف تنفصل عنه؟ ومن هو؟ ماذا يعني تفرّد الذات أو أصالتها، وما الهوية؟ وما حدود الانفتاح على الآخر، والتفاعل معه، والأخذ منه؟ وقبل كل شيء: من هذا الآخر بالدلالة الحضارية العميقة؟"(47).

وانتهى أدونيس في دراسته إلى فشل مشروع الحداثة في الفكر العربي "مشروع الحداثة بكامله فشل في المجتمع العربي...وأكثر من ذلك، فإن المجتمع تفكك وتخرّب، حتى في المنجزات الأولية البسيطة التي أنجزتها السلطات البورجوازية بعد الاستقلال، كالحق في التعبير وتعدد الأحزاب والبرلمان... فالسلطة العربية تحوّلت إلى إقطاع مقنّع بألفاظ زائفة لا تعني شيئًا، وانتخابات مزيّفة تعني الكثير. بهذا المعنى لا توجد حداثة ومن المحال أن يكون هناك حداثة"(48). وهي نفس النتيجة التي انتهى إليها معظم المفكرين العرب، فيقول شرابي: " الأبوية المحدثة أو (الأبوية المستحدثة) لهي السبب وراء كل محاولة يقوم بها المجتمع لردع الحداثة وللحفاظ على الوضع القائم".(49)، ويقول حرب: " الحداثيون على اختلاف منطلقاتهم، أخفقوا في تطوير العناوين والمفاهيم التي تداولوها طوال عقود حول التقدم والاستنارة والحرية والعقلانية والحداثة... وهكذا فإن أكثر الحداثيين أحالوا علاقتهم بمنجزات الحداثة إلى شعارات خاوية، أو إلى مقولات هشّة ومشاريع فاشلة"(50). ويمكننا الاختلاف مع هؤلاء حول فكرة فشل مشروع الحداثة في الفكر العربي المعاصر، ربما يكون هذا الفشل على المستوى الديموقراطي، والسياسي، والاقتصادي، ولكن هذا المشروع لاقى نجاحات على مستوى النقد والفكر، فظهور البنيوية، والأسلوبية، يؤكد نجاح مشروع الحداثة في النقد والإبداع، أما التفكيكية، والسردية، وأخيرًا النقد الثقافي، والنقد النسوي، وقصيدة النثر فتؤكد نجاح مشروع ما بعد الحداثة في الدراسات العربية، واشتغال عدد غير قليل من النقاد والمفكرين والمبدعين العرب بهذه الاتجاهات، يشير إلى نجاح الحداثة وما بعد الحداثة معًا عند النقاد والمبدعين العرب.

ويدعو أدونيس إلى "حداثة ثانية" تثير لهب السؤال وتعتمد على "طرح الأسئلة ضمن إشكالية الرؤيا العربية ـ الإسلامية، حول كل شيء، من أجل استخراج الأجوبة من حركة الواقع نفسه لا من الأجوبة الماضية"(51).

ويقترح أدونيس جملة من الأولويات للخروج من المأزق الراهن، وهي:

1 ـ لا معنى للخروج ولا قيمة له، إذا كان مجرد معارضة للقديم. ينبغي أن يكون تغايرًا كلّيًا مع الرؤية القديمة التقليدية الدينية للطبيعة والوجود والإنسان.

2 ـ لا يتم هذا الخروج إلا بانقلاب معرفي، فيما يتعلّق بالأصول ونصوصها، بحيث ينظر إليها لا بوصفها يقينًا، بل بوصفها احتمالاً أو (حمّالة أوجه)، وبدون هذا الانقلاب سيظل المعنى مغلقًا.

3 ـ التفكير والعمل برؤية تعد التاريخ مفتوحًا بلا نهاية، ولا يعرف أحد كيف سيكون، لأنه تابع لفعالية الإنسان وحده.

4 ـ المسألة ليست إصلاح المجتمع العربي، بل إعادة تكوينه. وهذا غير ممكن إلا إذا انتهت الثقافة التي كوّنته. يتعذّر، بتعبير آخر، التأسيس لمشروع سياسي حديث من دون الاستناد إلى مشروع فكري حديث.

وبناء على ذلك لا تكون الحداثة في هذا المستوى محاكاة للآخر، ولا نبذًا له، وإنما تكون نوعًا من تكوين الذات ومن فهم الآخر، وبناء علاقات معه في ضوء هذا التكوين. ولا تكون الهوية معطى جاهزًا، مسبقًا، نتطابق معه. وإنما تكون ابتكارًا دائمًا. فالإنسان يبتكر هويته، فيما يبتكر فكره وعمله.(52)

إن ظهور الحداثة كفكر مختلف في مواجهة الرؤية التقليدية القديمة للتراث وطبيعة الوجود الإنساني، هو الذي يساعد على تصحيح المنطلقات الفكرية لهذه الرؤى، ولهذا يعتبر أدونيس أنه إذا كان من الممكن تصوُّر وعي تقليدي يرغب في التطور، ينبغي تصوره وكأنه منغمس تمامًا في معرفته المتاحة له، ولا قدرة له على امتلاك أي معرفة غير الموجودة. لأن سوء الفهم الأساسي الذي يسيطر على النظرة التقليدية للتراث، أو للوجود الإنساني يتمثل في الخلط الواضح بين التصوّر الذاتي عن الأشياء، والمعنى الحقيقي لهذه الأشياء، لأن التصوّر عن الأشياء يتم بشكل اعتباطي في بعض الأحيان، وبشكل ايديولوجي في البعض الآخر، إن التصوّر يحمل معنى لا يمكن البحث عنه خارج الحدود الذاتية الإيديولوجية، ومن هنا نشأ الصدام بين التقليد والحداثة داخل العقل العربي.

هكذا نلاحظ كيف أن أدونيس أدخل الفكر الحداثي الغربي، في مواجهة مع الفكر التقليدي العربي، وأعطاه أهميته ودوره الفاعل في عملية التطور التي تنشدها المجتمعات العربية مؤخرًا، فالتطور لم يعد مجرد إعادة إنتاج للأفكار الموجودة، بل هو عملية " انقلاب معرفي" في طبيعة التعامل مع النصوص القديمة، لأن الحداثة تتجاوز دائمًا الموجود وتتخطاه، وبالتالي فهي في المقابل لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال عقل تداولي تواصلي، يجمع بين القدرة على الإبداع، والرغبة في التحوّل، والتوسّط، والتعدد، والتواصل.

وفي هذا السياق يمكننا قراءة دراسة مهمة بعنوان " فلسفة الحداثة"(53) تبحث في المعنى الأساسي للحداثة والتحديث، وتستنطق المفهوم من خلال بنيته ونمط عمله ومستتبعاته الفكرية، ويؤكد صاحبا الدراسة أن الحداثة لم تعد خيارًا مازال مطروحًا أمامنا، بل أصبحت "مصيرنا، وعلينا فتح كياننا على تاريخيتنا لا من حيث إنها تربط حاضرنا بجذورها وبالحضارات التي تعاقبت علينا، بل وأيضًا من حيث إنها انفتاح على الإقبال والمصير، ولهذا فنحن لم نعد بحاجة إلى تأصيل كياننا بقدر ما نحن بحاجة إلى فتحه على الحداثة ومسارها في تمظهرات الفكر العالمي. يعني ذلك أن نخرج من الارتكاس ومن الوقوف على الأطلال ومن البكاء على الماضي"(54).

هذا التنظير النقدي يعدّ دعوة لاحتواء الاختلاف، وليس بكبته لخلق فراغات فكرية تشغلها القيم الثقافية الإيديولوجية، والاحتواء –ها هنا – يشير إلى وعي نقدي بالذات وبالآخر معًا، ويرصد التحولات الفكرية للآخر، بالإضافة إلى وعية بالتوترات داخل العقل العربي نتيجة التقاء التقاليد/ اللاعقل، والعقل، فالعقل يمثل قوة معارضة في مواجهة هيمنة الأنساق الثقافية على السلوك الجمعي، كما يربط التنظير السابق بين تأصيل الكيان والانفتاح على الحداثة في قرن ثقافي وحضاري مشترك، لأن التعرّف على الكينونة يتم عن طريق العقل، والعلم، واليقين، لا عن تصوّرات ذاتية مسبقة.

وتتطرّق الدراسة نفسها إلى مسألة الهوية، وهي المسألة التي تشغل العقل العربي دائمًا في مواجهة كل متغيّر، " فالهوية لا تكمن في التعبير التراثي عن تجربة الشعوب العربية فحسب، بل تكمن أيضًا في التغيير المستمر والحركية الدائمة اللذين يصبغان التجربة الحياتية على الصعيد الثقافي والسياسي والاجتماعي للشعب. يعني ذلك أن الهوية مفهوم يربط حضور الشعب بماضيه طبعًا، ولكن في الآن نفسه يؤكد هذا الحضور بالنسبة إلى شبكة علائقية معقدة تربطه بتجليّات حضارته وتمظهرات الحضارات الأخرى ثقافة، واجتماعًا، وسياسة...لأن الحداثة تعني حضور الذات في العالم، أي الحضور الدينامي والفاعل علميًا وسياسيًا، فهوية الشعب لا تتأكد إلا من خلال هذا الحضور في العالم"(55).

هذا الفهم الواعي لمفهوم الهوية، يغلِّب العلم على الاعتبارات الإيديولوجية، فيدعو إلى التعامل مع الخصوصيات الثقافية بفهم عميق، ووعي دون التباس، أو سوء فهم، أو سوء نيّة، لأن الإشكالية لا تكمن في مصطلحات مثل الحداثة، أو الهوية، أو العولمة..، بقدر ما تكمن في استراتيجية فهم المصطلح وتفسيره وطريقة تداوله.


ومن الدراسات النظرية المهمة التي تكشف عن إشكالية فهم الحداثة في الفكر العربي، دراسة( الحداثة وما بعد الحداثة) (56) لمحمد سبيلا، وتعتمد هذه الدراسة على التقصّي المنهجي لمفهوم الحداثة كمفهوم حضاري عام يشمل جميع مناحي الفكر الإنساني، كما ترصد التحولات الفكرية العامة للحداثة على كافة المستويات، وتنتهي في هذا المحور إلى أن الحداثة تعدّ تحوّلاً جذريًا على كافة المستويات: على مستوى المعرفة، حيث تتميز بتطوير طرائق وأساليب جديدة في المعرفة قوامها الانتقال التدريجي من المعرفة التأمليّة إلى المعرفة التقنية(57). وعلى مستوى الطبيعة، حيث التحول المفصلي في تاريخ علم الطبيعة تمثّل في الانتقال من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس، أو من العالم المغلق إلى الكون اللانهائي (58). وعلى مستوى التاريخ، فأصبح التاريخ مسارًا حتميًا تحدده وتفسره عوامل ملموسة كالمناخ والحاجات الاقتصادية للناس، ,ساعد هذا على تطوّر النزعة التاريخانية التي ترجع كل شيء للتاريخ وتشرطه به (59). وعلى مستوى الإنسان، فتميز فكر الحداثة بإيلاء الإنسان قيمة مركزية نظرية وعملية، وتم إرجاع كل معرفة إلى الذات المفكرة، وجعلت الإنسان مركزًا مرجعيًا للنظر والعمل (60). وألمح توافقًا واضحًا بين نظرة سبيلا للحداثة ونظرة أدونيس الذي يقسّمها إلى ثلاثة أقسام:

1 ـ الحداثة العلمية: وتعني إعادة النظر المستمر في معرفة الطبيعة والسيطرة عليها.

2 ـ حداثة التغييرات الثورية: وتعني نشوء حركات ونظريات وأفكار، ومؤسسات، وأنظمة جديدة تؤدي إلى زوال البُنى التقليدية القديمة في المجتمع وقيام بُنى جديدة.

3 ـ الحداثة الفنية: وهي التي تهتم بإثارة تساؤلات جذريّة تستكشف اللغة الشعرية وتستقصيها، لفتح آفاق تجريبية جديدة تؤدي إلى زوال البُني التقليدية في المجتمع وقيام بُنى جديدة.(61) ويتوقف سبيلا أمام نقطة مهمة وهي علاقة الحداثة بالتقاليد، فيقول: " وعندما تصطدم الحداثة بمنظومة تقليدية فإنها تولّد تمزقات وتخلق تشوّهات ذهنية ومعرفية وسلوكية ومؤسسية كبيرة، وتخلق حالة فصام وجداني ومعرفي ووجودي معمم، وذلك بسبب اختلاف وصلابة المنظومتين معًا. فللتقليد صلابته وأساليبه في المقاومة والصمود أمام الانتشار الكاسح للحداثة، وطرائقه في التكيّف معها ومحاولة احتوائها، كما أن للحداثة قدرتها الخاصة على اكتساح وتفكيك المنظومات التقليدية، وأساليبها في ترويض التقليد، ومحاولة احتوائه أو استدماجه أو إفراغه من محتواه، فالصراع بين المنظومتين صراع معقد وشرس بل وقاتل". (62) ويلفت سبيلا انتباهنا إلى وجود علاقة استعارية بين التقليد والحداثة فيقول: "كثيرًا ما يتلبّس التقليد لبوس الحداثة ليتمكن من التكيّف والاستمرار، بينما تتلبّس الحداثة بالتقليد أحيانًا لتتمكن من أن تنفذ وتفرض نفسها". (63)

ويرسم سبيلا خارطة الحداثة، فيقترح الحداثة الأوربية كمرجع للحداثة العالمية، ويحدد نبتتها الأولى في إيطاليا زمن عصر النهضة، حيث ازدهرت الفنون والعلوم والآداب، ولهذا تعد روما هي المفرخ الأول للحداثة، وبحكم طبيعتها الانتشارية سرت بالتدريج إلى ألمانيا وفرنسا وانجلترا، ويربط محطتها الثانية بفلسفة الأنوار التي انطلقت من فرنسا على يد مونتسكيو وفولتير، ثم انتشارها إلى ألمانيا (كنت)، وانجلترا (هيوم ولوك)، مبلورة اتجاهًا فكريًا كان بمثابة المنظومة الفكرية المؤسسة للحداثة (64).

هذه المراجعة المعرفية، والتساؤل المُربك عن فكرة الحداثة، سمحت لـ "سبيلا" بفهمها واستعراض نزعاتها ورصد تحولاتها، كظاهرة حضارية تُحدث أشكالاً غريبة من التلاحقات والتفاعلات والامتزاجات الهجينة بين ثقافات العالم، وهذا الفهم يكشف لنا عن إشكاليات الحداثة بوصفها ظاهرة فكرية تتعارض مع التقاليد، تبدو كإرادة تقدم وتنامٍ، لا تقبل الحياة إلا في شكلها المتطور والمتنامي، وهذا الفهم يكشف ملازمة التقليد للثبات، وفهمه على أنه موقف ضد الحياة، وداعيًا إلى توقفها وثبوتها عند فكر بعينه لا يتجاوزه.

إن سبيلا يعرض الحداثة كمسار تطوري، ويتحوّل هذا التوجه الفاعل للحداثة إلى رغبة في تفكيك التقليد، غير أن هذا التربص بالتقليد يصطدم دائمًا بالإيديولوجيا النشطة، مما يكشف عن صراع ايديولوجي معقّد، يؤدي غالبًا – في نسخته العربية- إلى الحفاظ على التقليد وازدياد قوته في مواجهة الحداثة، لأن تجاوز التقليد بهذا المنطق يعني الرغبة في تدميره والتخلّص منه، فالتقليديون ينظرون إلى الحداثة بوصفها خطرًا يهدد القيم والتقاليد التراثية، لا على أنها فكر ينفتح نحو المستقبل، يبدي رغبة حقيقية في التحرر من ثقل القيم والأفكار التراثية القديمة. وهنا تصبح الحداثة بمثابة الحد الفاصل بين مرحلتين.

ويطالعنا سبيلا محذرًا من الحداثة وكأنه أحد الثوريين الجدد الذين ينادون بالتحرر من الآخر المستعمر الذي نهب أفكار الأمة ثرواتها، فيقول في موضع آخر: " إن الحداثة التي داهمتنا فجأة وأخذتنا على حين غرة هي أولاً حداثة برانية، وليست جوانية، بمعنى أنها لم تنشأ في بيئتنا العربية، حتى وإن كانت الحضارة العربية في أوج ازدهارها إلى حدود القرن العاشر الميلادي، قد ساهمت في الإعداد لها، بل هي حداثة دخلت مع الاستعمار، ومن ثم غربتُها وغرابتها، وغربيتها واغترابها. وهي ثانيًا حداثة عنيفة في طريقة حلولها وحصولها، وفي الفعل التفكيكي الذي مارسته على كل البنيات الاجتماعية والفكرية التقليدية، محدثة شروخًا في الوعي، والذاكرة، واللغة، وطرق الإدراك. وهي ثالثًا حداثة يختلط فيها بشكل رفيع التحرر بالسيطرة؛ فهي تحرر من ثقل التراث، ومن صور العالم القديمة، تحرر الفرد من ربقة التقليد ومن ثقل الماضي، وتزودة بحسِّ الاختيار وبقسط أكبر من الحرية... وهي رابعًا حداثة كاسحة لا تستأذن. فهي تنتشر عبر كافة أشكال الوجود الاجتماعي بأساليب متنوعة، مدخلة المجتمع في صراع بين القديم والجديد".(65)

هكذا يسيطر الفكر الثوري على خطاب سبيلا السابق، فيصف الحداثة بالبرانية، والعنيفة بفعلها التفكيكي التدميري للبنيات الاجتماعية، بالسيطرة والهيمنة، وأخيرًا بالكاسحة، وهذا النوع من الفكر لا يجد سوى الرفض والإقصاء لفكر الآخر بدلاً من السعي لتحليله ونقده، وهو في هذا الخطاب يجد في الحداثة كل أشكال التحرر الإنساني الذي يساعده على الخلق والإبداع، ويُلمِّح سبيلا إلى عجز الخطاب التقليدي أمام انتشار الخطاب الحداثي الكاسح. والخطاب يحفل بوجود الأنا في مقابل الآخر ليؤكد عقدة المضاهاة في الفكر العربي عند قراءته لفكر الآخر، إثبات الأنا عن طريق اختراق الآخر، وهذا النمط من التفكير يختلق حروبًا كلامية وجدالية لا نهائية مع الآخر، فـ "سبيلا" يستهل عرض فكر الآخر/الحداثة بالحديث عن الاستعمار، ويربط دخول الحداثة إلى الوطن العربي بفكرة الاستعمار، فمعرفة الحداثة ترتبط بمعرفة الاستعمار، وكان على سبيلا باعتباره أحد الذين ينتمون إلى طبقة الإنتلجنسيا العربية أن يتجاوز هذا الجدل العقيم الذي تفترضه إيديولوجيا الكفاح، ويبحث في الوسائل التي تكفل للفكر العربي استيعاب فكر الآخر، ففكر سبيلا عن الحداثة – ها هنا- يقع في مأزق الفكر النضالي، الذي يعتبر إنتاجه المعرفي، أو تراثه، أساسًا لكل الفكر الإنساني، وعلى أي فكر أن ينطلق من هذا الموقع.

الإسلام وسؤال والحداثة


إن مساءلة العلاقة بين الإسلام كفكر سماوي، والحداثة كفكر أرضي، تثير جدلاً واسع النطاق حول ثنائية "الإسلام/ الحداثة"، وهي ثنائية كثيرًا ما شغلت العقل العربي، ودارت معارك كلامية، ارتجالية، ونضالية بين جمهور غير قليل من المفكرين العرب حول هذه الثنائية، والمعجم اللغوي عند هؤلاء المفكرين، يجعل الإسلام مقدّسًا بوصفه عقيدة سماوية، وينظر إلى كلمة الحداثة بوصفها بدعة تؤدي إلى ضلالة. ويبدو أن العقل العربي عمومًا ( خاصة قبل الإسلام) كان يرفض تمامًا فكرة التحديث، وربما يكون رفض العرب للإسلام وصعوبة تقبّله لاسيما في بداية الدعوة، ومحاربة الرسول والمسلمين، هو اعتراض مباشر على الفكر الجديد غير المألوف بالنسبة لهم آنذاك، لأن العقل الجاهلي عقل أداتي وذاتي، لا يلتفت – غالبًا- إلى ما يقع خارج حدوده المعرفية، لأنه منشغل بذاته دائمًا، وثمة آيات في القرآن الكريم تتحدث عن مفهوم التحديث بأسلوب شيّق يوضح إعراض الجاهليين دومًا عن تقبّل كل حديث يأتي مخالفًا لحياتهم التي ألفوها، وارتكنوا إليها، يقول عز وجل في سورة الأنبياء: ( ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إلاّ اسْتَمَعُوه وهُمْ يَلْعَبُون لا هِيَةً قُلُوبُهمْ وأسَرّوا النَجْوى الّذينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلكمْ أَفَتَأْتُون السِّحرَ وأنْتُمْ تُبْصرون) ( الآيات 1/3).

ويقول عز وجل في سورة الشعراء: ( وما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ الرّحْمن مُحْدَثٍ إلاّ كانُوا عَنْه مُعْرِضين فَقَدْ كَذّبُوا فَسَيأْتِيهم أنْبَاءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءِون) ( الآيات 3/5).

فالخطاب في الآيتين موجّه إلى الناس كافة، بهدف الدعوة إلى الإيمان بما أنزله الله تعالى من تعاليم تنير لهم طريقهم في الحياة الدنيا والآخرة، ففي الآية الأولى يربط بين الإعراض عن اتباع هذه التعاليم والظلم، أما الآية الثانية، فتضمن دعوة إلى عدم الإعراض عن تعاليم الرحمن، وربط بين الإعراض عن اتباع هذه التعاليم والكذب. والظلم في الثقافة الإسلامية يشير إلى البطش والاعتداء على حقوق الآخرين من الضعفاء. أما الكذب فيشير إلى ضعف الشخصية والتضليل، وهاتان الصفتان محرمتان على المسلمين. وتطرقت العديد من الدراسات إلى هذه الثنائية، منها الدراسات المتعصبة للإسلام على حساب الحداثة، ومنها المتعصبة للحداثة على حساب الإسلام، ولا نستطيع – بطبيعة الحال- الإلمام بهذه الدراسات جميعًا، ولهذا سنكتفي بعرض واحدة من أهم الدراسات الموضوعية حول هذه الثنائية، وهي دراسة عبد المجيد الشرفي، بعنوان "الإسلام/الحداثة"، فبدأ دراسته بتعريف الإسلام، والحداثة، فعرّف الإسلام من خلال سؤال تقليدي "ما هو الإسلام؟". وهي محاولة جريئة ومحفوفة بالمخاطر في الوقت نفسه، حاول فيها سدّ الفراغ بين المصطلحين دون حرج، ووضع الإسلام التاريخي موضع المساءلة فيقول: " لا حرج من إخضاع الممارسة التاريخية للإسلام للنقد والمراجعة والتقييم، وأن القداسة التي أضفاها عليها الزمن، ينبغي ألاّ تحجب طبيعتها البشرية، وبالتالي ما تتسم به، بحكم بشريتها من نقص ومحدودية ... وهكذا يتسنى وضع الإسلام التاريخي بأكمله موضع التساؤل من حيث هو جملة من المؤسسات التي عرفتها الدول المتعاقبة التي حكمت الأمة الإسلامية"(66).

والإسلام التاريخي هو المستوى الثاني من مستويات الإسلام الثلاثة التي حددها الشرفي في دراسته، وهي: (67)

1 ـ المستوى القرآني، وهو ذو وظيفة مرجعية مهمة جدًا، وطريقة فهمه وتأويله تكيّف إلى مدى بعيد السلوك الذي يسعى إلى الوفاء للتعاليم الإسلامية.

2 ـ مستوى الممارسة التاريخية، ويقصد به المرحلة التي أعقبت مرحلة انقطاع الوحي، ويسميها " بالوضع التأويلي"، وهذا الوضع أدى إلى قيام مؤسسات غايتها تطبيق الدين في مختلف أوجه الحياة، وهذا أدى إلى ظهور ما يُعرف بالعلوم الإسلامية.

3 ـ البُعد الفردي في الإيمان، يرده إلى عملية الاستبطان للقيم والمبادئ الإسلامية، وهي عملية تتأثر بالشخصية الأساسية والشخصية الفردية معًا، ولذا تختلف عقيدة المتصوفة عن عقيدة الفلاسفة أو الفقهاء مثلاً، ثم انتقل إلى تعريف الحداثة فعرّفها بأنها " نمط حضاري يختلف جذريًا عن الأنماط التقليدية"(68). وأن أهم ما يميز الحداثة – بخلاف المجتمعات التقليدية- " قدرتها على الابتكار، والتغيير، وتوفيرها مناخًا ملائمًا لتراكم الخبرات والمعارف معًا، مما يُحدث بدوره تولّدها بعضها عن بعض"(69). وتعرّض أخيرًا في مقدمته المطوّلة إلى العلاقة بين الإسلام والحداثة، واعترف بأن الحداثة في البلاد العربية لم تقتحم الفكر والمجتمع والمؤسسات بفضل عدم وجود تطوّر ذاتي مماثل للتطور الذي أدى إليها في الغرب"(70).

وأُبدي تحفظًا شديدًا على هذه العلاقة - أقصد تطرّقه لعلاقة الإسلام بالحداثة- وهذا التحفظ يتعلق بكونه – أي الشرفي- يتحدث عن علاقة العقل العربي بالحداثة، لا عن علاقة الإسلام بالحداثة، فالإسلام لا يقتصر على الدول العربية فقط، فهناك إسلام ومسلمون في شرق آسيا، أضف إلى ذلك الإسلام في بلاد الغرب، وهؤلاء حققوا نجاحات وطفرات على كافة المستويات، ، غير الإخفاقات العربية، فأي علاقة هو يقصد، هل علاقة العقل العربي بالحداثة، أم علاقة الإسلام بالحداثة؟ وهنا يبدو الفرق شاسعًا بين الإسلام في صورته العربية الخاصة، وصورته العالمية العامة. وما يؤكد تحفّظي قوله: " لقد عرف العرب الحداثة في شكل صدمة حين أفاقوا على بونابرت يغزو مصر ثم على القوي الإمبريالية التي تحتل البلاد العربية الواحدة تلو الأخرى"(71). ولأن طبيعة علاقة الإسلام بالحداثة تختلف عن باقي المجالات الأخرى، لذلك كان ينبغي على الشرفي أن يوضح ما يقصد، هل يقصد علاقة العرب بالحداثة؟ أم علاقة الإسلام بالحداثة؟، ولكن من الواضح أن الشرفي ينطلق من رؤية ضبابية للموضوع، تخلط بين الإسلام كفكر ودين سماوي منظّم لسلوك البشر، والفكر العربي، كفكر طقوسي شعائري، وعشائري، يخضع لأهواء البشر، يقيّد من حريّاتهم، ويقولب حياتهم.

هذا الخلط يتضح أكثر حين يقول في الصفحة نفسها: " لكن ما دور الإسلام في هذه القضية؟ إنه دور مزدوج: دور العائق دون تبني الحداثة ودور الحافز على رفع التحدّي الذي يمثله الغرب الغازي في نفس الوقت. لقد مثّل الإسلام عنصر مقاومة للحداثة لأن كل تغيير يطرأ على بنية المجتمع يبدو وكأنه تنكّر للإسلام".(72)

وهنا نتساءل: هل الإسلام هو العائق دون تبنّي مشروع الحداثة في العالم العربي؟ أم أن الأيديولوجيا العربية هي العائق دون تبنّي هذا المشروع؟! مثل هذا الخلط، والضبابية في رؤية الأشياء تؤدي إلى الخلط بين الدين والأيديولوجيا داخل الوعي، ومن ثم وجود علاقة قوية بينهما، وتكرارها بين الباحثين يؤدي إلى استمرار حضور الأيديولوجيا داخل العقل العربي بالصورة التي تجعله لا يستطيع التمييز بين ما هو ايديولوجي، وما هو ديني، وذلك في إطار نزعات تأكيد الهوية، وهذه المحاولات تجتهد في تقديم أكثر من توصيف لتبرير العودة إلى الموروث الثقافي، والنظر إليه كملاذ يمكنه من مقاومة كل مُحدث.

فكيف يمكن وسط هذا الخلط أن يقتحم الشرفي ثنائية " الإسلام والحداثة"؟ وكيف يمكن التغلّب على مثل هذه المحاولات التي تحول دون الرؤى الواضحة للأشياء؟.

لا يمكننا التقدم في فهم العلاقة بين الإسلام والحداثة، إلا من خلال فك الخلط بين الإسلام كدين، وكعقيدة، والأيديولوجيا كثقافة اجتماعية. لأن الإسلام كفكر، يمكّن أصحابه من إقامة حوار يمهّد لثقافة جديدة ترتكز على مبدأ استيعاب فكر الاختلاف - اختلاف الفكر الإسلامي عن الثقافة الجاهلية- من أجل تدعيم فكر متنامٍ قادر على استيعاب التطورات التاريخية، دون عُقَد الدونية، والتخلّي عن النظريات الدوجمائية، وفكر الإقصاء الذي يتربّص بالآخر دائمًا.

ولعلي أجد في طروحات بعض المحدثين الذين حاولوا فيها تصحيح بعض المفاهيم، ما يعينني على مناقشة هذه الثنائية، وأشير إلى مفهوم غاية في الأهمية وهو: "القطيعة المعرفية" وموقف الإسلام منها، لإزالة الالتباس وسوء الفهم المتوفر لدى عدد غير قليل من الباحثين حول هذا المصطلح، فيقول: " إن القطيعة المعرفية، وما يترتب عليها من آثار ثقافية واجتماعية، تعني إعادة فتح النص الذي كان مغلقًا... فعندما جاء الإسلام، بصفته قطيعة معرفية واجتماعية مع الماضي، لم تكن هذه القطيعة نفيًا مطلقًا للماضي، بقدر ما كانت وضعه في إطار تنظيمي جديد ( معرفيًا واجتماعيًا). ففي مجال العقيدة كان الإسلام نوعًا من العودة إلى حنيفية إبراهيم الصافية، التي تشوهت بالوثنية المرتبطة بمصالح تجارية، ... فالإسلام، هو الحنيفية الحنيفية الإبراهيمية المُختفية تحت ركام من المصالح البشرية التي اتخذت شكلاً عقيديًا في الوثنية العربية عامة، والقرشية خاصة. ولإعادة اكتشاف هذه الحنيفية، كان لابد من قطيعة عقيدية معرفية مع النمط العقيدي السائد، بناء على إعادة النظر في ذلك النمط".(73)

ثم انتقل إلى إيضاح تطبيق النظام الإسلامي لهذه القطيعة فقال: " ففي كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم تُلغَ القبيلة مثلاً، وعاداتها وأعرافها ونظمها، ولكنها وضعت في إطار سياسي واجتماعي جديد هو الأمة، بصفتها كيانًا مرجعيًا حل محل الكيانات المرجعية السابقة. فالإسلام ألغى القبلية، ولكنه لم يُلغِ القبيلة، وهنا الجدة في الموضوع... وفي مجال الشريعة، كانت أكثر التشريعات الإسلامية موجودة قبل الإسلام، ولكن ما فعله الإسلام هو وضعها في إطار عقيدي جديد، هو وحدانية الإله. فالصلاة والصوم والحج كانت موجودة بالكامل تقريبًا قبل الإسلام، ولكنها تحولت بعد الإسلام من شعائر موجهة إلى أرباب متعددة، إلى رب واحد، وهذا هو لب القطيعة. وفي مجال العقوبات، أقر الإسلام بعض الأعراف السائدة قبله، وتبنى بعض العقوبات التي كانت سائدة. فقطع يد السارق كانت عقوبة تأخذ بها قريش، وتحريم الخمر كان سائدًا بين بعض وجهاء قريش، والرجم في الزنا لم يكن تشريعًا إسلاميًا صرفًا، فقد كان ربيعة بن حدار الأسدي أول من رجم في الزنا".(74)

لم يقف الإسلام – إذن- عائقًا أمام تحقيق مشروع الحداثة في العقل العربي؛ لأن الإسلام يجعل من الفكر والعقل شرطًا للحياة؛ ولكن العائق هو العقل نفسه الذي يقف ضد نفسه، الذي يغلق نفسه على معطياته ونماذجه ومنظوماته الفكرية والقيمية، فيعرّف بالأشياء وفق فهمه الحرفي الخاص، وهذا الفكر غالبًا لا تتوفر لديه فكرة التغيّر أو التطوّر، لأنه يتعايش مع بضاعته الفكرية الجاهزة مسبقًا، والتي يظنّها الأفضل على الإطلاق، وهذا الفكر يمتلك أكبر جهاز لإعادة اجترار الأفكار ليضخها ضمن أنظمة فكرية مدرسية تكرر نفسها، ولا تقدّم جديدًا على السابق. لأنه لم يستوعب بعد أن التاريخ يمر بسلسلة من المنعطفات، وأن التراث/ المُنتج الفكري ينتقل من عقل سابق لعقل لاحق، والمعرفة إذا ما أُنتجَتْ بالقطيعة (كالقطيعة الإسلامية مع الفكر العربي الجاهلى) " كانت تنويرًا. لذلك لم يكن التنوير وقفًا على مرحلة تاريخية محددة بعينها، بل كانت تَمْثُلُ دائمًا في تلك اللحظة الحرجة والدقيقة التي يتقاطع فيها التراث مع الميراث، تلك اللحظة التي يستطيع فيها التراث التحرر من ميراث محدد يحاول أن يتلبسه".(75)

على الرغم من كل القفزات التي حققتها بعض الدراسات العربية في تعرّضها لثنائية الإسلام/ الحداثة، إلا أن المرجعية في النظام المعرفي لدى أصحاب دراسات أخرى كثيرة، تقف عائقًا أمام تحقيق مشروع الحداثة في الفكر العربي المعاصر، لأن هذه المرجعية تتبنى النسق المعرفي كمعرفة خالصة يمكن الاكتفاء بها، في حين أن هذه المعرفة لم تتجاوز المعنى الحرفي للشيء المُعرّف، وتقدمها على أنها كذلك، ولذا فمثل هذه المعارف لا تمتلك القدرة على الاكتشاف، بل تمتلك القدرة على التكرار.

هذا التلازم العجيب بين تأثير خطاب التراث القامع في المجال الأيديولوجي العام، وسيادة خطاب الحداثة في مجال النشاط الفكري الخاص بطبقة الإنتلجنسيا، يشير إلى القطيعة المعرفية- بمعناها الضيّق- بين الخاص والعام في الفكر العربي الراهن، والخطر الحقيقي يتمثل الآن في استخدام بعض من طبقة الانتلجنسيا الأصوليين الثقافة الجمعية وخطابها العشائري في قمع خطابات طبقة الانتلجنسيا الليبرالية، وإدانة هذا الخطاب على المستوى الديني بالتكفير، والسياسي بالعمالة للغرب، وهذا يعبّر عن مأزق خطير لا ينتج سوى مزيد من التراجع، والتهميش، والهزائم، لأنه باختصار، يدعو إلى الخروج من العالم، ورفض الواقع. وربما يكون هذا أحد أهم الأسباب التي أدت إلى عدم قدرة طبقة الإنتلجنسيا العربية على تقديم بديل فكري ومعرفي ينهض بالفكر، فأنتجت خطابًا "حداثيًا بالإضافة" يتصارع مع الخطاب الأيديولوجي الأصولي أكثر مما يُقدّم من أفكار، فاختلطت الأمر لديه، وأصبح مطالبًا بالدفاع عن نفسه – كمتهم – قبل الدفاع عن أفكاره، وتورّط في هذا المأزق مما ساعد على ظهور رؤى مضطربة، وضبابية في الأفكار لكلا الخطابين، فساعد الخطاب الأول (الأصولي) على إذعان الفكر لسلطة التراث، وووقع العقل في مأزق العبودية الفكرية، والأسر المعرفي، نتيجة استخدام التراث كأداة للقهر الفكري، والكبت المعرفي، وعجز الخطاب الثاني (الحداثي) عن الانتقال بالفكر العربي من مرحلة السلفية التراثية المنغلقة داخل سجونها المعرفية الخاصة، إلى مرحلة العقلانية الدينية المنفتحة على الآخر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...