كنت في صوت هامس أردد: "أيها الطفل الذي كنت، تقدم"، كنت سأسترسل، لولا أنني سمعت خلفي صوتا هامساً يردد:
لا تظلموا الموتي وإن طال المدي
إني أخاف عليكمو أن تلتقوا
روي الرواة أن أبا العلاء المعري عندما سئل عن يوسف إدريس، وعن مصائره مع التابعين، وتابعي التابعين، أطرق وتذكر اليوم الذي رأي فيه وجه يوسف، قبل أن يعجز بصره عن الرؤية، ثم أجاب سائله بتلاوة هذا البيت، رأيت يوسف إدريس مرتين في حياتي، إحداهما عابرة، كنت أقطع شارع هدي شعراوي من أوله جهة شارع طلعت حرب بوسط القاهرة، ولم أكن أعرف أنه يكتري سائقاً خصوصياً لسيارته، وقفت السيارة، ونزل يوسف، تهادي بخطي تطأ الأرض كأنها تفعصها، كأنها تتأنّي في فعصها، تابعته بنظري حتي غاب، والمرة الثانية في أتيلييه القاهرة، كانوا فيما أذكر يحتفلون بالعدد الأول من مجلة الفكر المعاصر لصاحبها عبد السلام رضوان، وجوه اليسار تغطي حديقة الأتيلييه، وإبراهيم منصور يسرح بينهم، ويوسف إدريس يتكلم بإيجاز ويقول: المهم أن تكون لنا مجلة، نملكها ونكتب فيها، حتي ولو كانت من ورق اللحمة، يوم صدرت النداهة، مجموعته القصصية، عن سلسلة روايات الهلال 1969، شعرت بفرح شديد وأنا أشتريها، دفعت عشرة قروش مصرية، شعرت بفرح شديد وأنا أحملها تحت إبطي، شعرت بالرغبة الطاغية في الجري من أجل الوصول سريعاً إلي البيت، وجريت في داخلي، ولما وصلت شعرت بفرح شديد وأنا أغوص في نداهتي، وفي دستور يا سيدة، مازلت أذكر الرعشة التي تشبهها رعشة الجماع عندما قرأت مجموعة بيت من لحم، مازلت أحلم أن تصادفني هذه الرعشة من أحد وجهيها، أحيانا تصادفني في الحلم، إذا من وراء البحار زارتني أم البنات، النائمة مثل غيمة، اليقظة مثل فينيق، ليلة الأتيلييه سلمت علي يوسف، هل كان أطول مني، في هذه الليلة كان أطول بكثير، ارتميت في حضنه، مثلي مثل شبان آخرين، أصابعه تخللت شعر رأسي، كأنه يلاطف رأس جرو صغير، تمنيت أن أقول له يا أبي، مثلما تمنيت أن أقولها للمازني وليحيي حقي ولرسول حمزاتوف ولأدونيس ولإبراهيم ناجي ولزكي مبارك، وربما لفيروز، مازلت أذكر كيف هدأ رأسي فوق صدر بدلته، فشعرت بالحماية، لازلت أذكر الرائحة التي ملأت أنفي، في السنوات التالية تابعت وتأملت معاركه وخصوماته ومصالحاته وغضبه وجنونه ورقته ونرجسيته التي تجعله لا يغفر لنجم خطيئة أن يكون نجماً إلي جواره، مقالاته في الأهرام مع مقالات زكي نجيب محمود كانت الضوء الأخير لذلك النوع النادر المسمّي بالمقالة الأدبية، أهمية أن نتثقف يا ناس، تمجوشوا يا عرب، غنِّ يا عبد الحليم، لما قرأت روايته العيب، أحسست أنني أجدد فهمي للمرأة ككيان واحد، التاريخ الاجتماعي للرجل، وهو تاريخ طويل بطول البشرية مكّنه من أن يكون أعني الرجل مجموعة أدراج ومجموعة دواليب وبعض أرفف، وتاريخ المرأة أجبرها أن تكون نهرا أو بئرا واحدة، المرأة إذا فسد جزؤها فسدت كلها، والرجل يفسد جزؤه دون بقية أجزائه، الرجل يرتشي ويظل صالحاً في البيت والمسجد، والمرأة ترتشي فتضيع، قرأت العيب وشاهدتها فيلماً، ولهثت في المرتين، قرأت النداهة وشاهدتها، والحرام وشاهدتها، وقرأت قصة حب التي اعتبرتها بروفة روايته البيضاء، الماركسيون يهرشون أقفيتهم وبطونهم ويلوون أعناقهم، إذا ذكرت الروايتين، وقد يطردونك إذا استطردت وذكرت عنقاء لويس عوض، في أزمنة مجد يوسف إدريس كنت أري فيه بعض ما رآه صلاح عبد الصبور فيه، وفي فن القصة القصيرة عموماً، التي استطاعت أن تستنبت لشجرتها جذوراً في بيئتنا المصرية، وتميزت لها أفرع أو مدارس أو اتجاهات، بدأت القصة مع أمثال محمود تيمور بقصة المفاجأة ولحظة التنوير، كأنها تتسلل وراء موباسان وتتبع خطواته وأسلوبه، فيما حمل توفيق الحكيم عصاه وقلمه وأخذ ينخر بطن الشجرة ويغرس فيها فكرته التي سيغطيها بأوراق وغصون وثمار، لتخرج حكايته متناسقة محكمة ذات فكرة، وفي مكان آخر كان يحيي حقي يعمل عملاً آخر، ينخر الشجرة وبدلاً من الفكرة يغرس كشوفه الروحية والنفسية العميقة المعجونة في أسلوب غنائي مقتصد، ولا يغطي ما نخره، يتركه معروضاً في الهواء، فيما سيمشي إدوار الخراط قريبا من يحيي وإن بحسية أكثر وبشهوانية طاغية، بعد الحكيم وحقي سيلجأ يوسف الشاروني إلي الرمز والسرد الغائم والروح التي شاعت في العالم، وأطلقوا عليها الاسم الحركي: روح كافكا، بهاء طاهر سيرث هذه الروح لفترة، يوسف إدريس سينتبه إلي كل ما سبقه، سيتجاسر ويخلط هذا الكل ويهرسه، وبهريسته سيصل إلي الملكوت الأعلي للقصة القصيرة، اللهجة بسيطة مثل لهجة حدوته، اللحظة مكثفة، او مفتوحة علي صراع نشهده، الأبطال رجال عاديون نعرفهم ونعايشهم، التقدم هاجس يقف وراء كل هذا، لما سئلت عن الإثنين نجيب محفوظ ويوسف إدريس، قلت: والله لو كان نجيب محفوظ خبيراً في التنقيب عن البترول وكان مطالباً بالكشف عنه تحت رمال الصحراء التي أمامنا، فإنه سيحفر الصحراء كلها حتي يبلغ غايته، عبقريته هي العمل، هي عبقرية المصري القديم، الذي يصل عن طريق إصراره ودأبه إلي ربما أبعد مما يبلغه غيره من العباقرة الأفذاذ، أما يوسف فسوف يتجول بالصحراء، مأخوذاً، متوتراً، عنيفاً، ثم فجأة يقف ويأمر عماله: احفروا هنا، إنها عبقرية الفجاءة، العبقرية الأولي، العمل، لا تخون صاحبها إلا إذا خانها، لأنها الأبد، والثانية، الفجاءة، لا قانون لها، إنها اللحظة، ويوسف يمشي علي ذلك السلك الذي لا قانون له، كل الذين عرفوه، عرفوا أنهم يمكن أن يورطوه في كل أمر، يكفي أن تجاوره علي منصة إحدي الندوات، وأن تهاجم رئيس حكومتك مثلا، لتحصل علي تصفيق شديد، بالغ في هجومك، سيشتد التصفيق، لن يحتمل يوسف، سيهاجم الشخص الأعلي، رئيس الدولة مثلا، وسوف يشط ويشتط ويبالغ، هو طفل نزق، في السودان كادوا يسجنونه، لأن رفيقه الشاعر فعلها وورطه، لما أعلنت الأكاديمية السويدية منح نجيب محفوظ جائزة نوبل، لم يستطع يوسف أن يربط طرف لسانه في حلقه، تهور وأخرج لسانه فامتد اللسان من شرفة شقته بكورنيش شيراتون، إلي شرفة شقة نجيب بكورنيش العجوزة، رأيت السيدة رجاء تحاول أن تسحب اللسان، رأيتها بعيني، كان صالح جودت يقول اليواسف الأربعة: السباعي وجوهر والشاروني وإدريس، وكان إدريس ينفر من هذه الرباعية ويقول عن نفسه: أنا يوسف الرابع، الثلاثة الآخرون، إدجار آلان بو، أنطون تشيكوف، جي دي موباسان، والأربعة معاً هم بناة القصة القصيرة في العالم، اضطرب أبو العلاء المعري عندما أصر مشرفو جائزة نجيب محفوظ بالجامعة الأمريكية علي تعذيب يوسف بعد موته، بمنحه جائزة كان سيرفضها بالتأكيد، سامح الله أرملته وابنته، لأنهما قبلتا، سمع أصحابي أبو العلاء وهو يقول: سامحك الله يا رجاء، لما مات يحيي الطاهر عبد الله ورثاه الجميع، توقف الجميع أمام مرثية يوسف له، ولما أطالوا الكلام عن يحيي، لاحظوا تململ يوسف، وسمعوا صراخه: كفي كفي، نحن الذين عشنا في زمن يوسف، اعتدنا شطحاته، وافتقدناها لما غاب، لم تكن شطحات عمياء، كانت شطحات تري بعمق، لما مات يحيي، تذكرنا أن يوسف مثل كل الكبار، يعرف أن صراع الأجيال ضرورة، ويسهم في إعلان وجود الآخرين، في سنة 1925 كتب أحمد شوقي عن الشاعر اللبناني الشاب أمين نخلة أبياتاً صدر بها الأمين ديوانه الأول: "هذا ولي لعهدي، وقيم الشعر بعدي، فكل من قال شعراً، في الناس عبداً لعبدي" وأدونيس قدّم محمد الماغوط في خميس شعر، وقدم سعدي يوسف وسنية صالح في سلسلة الينابيع، وعبد الفتاح الجمل قدم جيل الستينيات كله، وعلاء الديب قدم الجميع في عصير الكتب، وشوقي بغدادي قدم شعراء سوريا، وفؤاد حداد قدّم شعراء العامية، ويوسف الخال قدّم شعراء لبنان، وأنسي الحاج مازال يقدم، وأحمد عبد المعطي حجازي منذ قابلته في مطالع السبعينيات وهو يقدم، عفيفي مطر قبض يده، أما يوسف إدريس فقد كان يشرف علي باب القصة بمجلة الكاتب أيام أحمد عباس صالح، وهناك قدم بسخاء كل كتاب القصة، أذكر أنني قرأت إلياس خوري بسبب ما كتبه يوسف عن روايته علاقات الدائرة، وقرأت مئة عام من العزلة بإيعاز منه، يوسف إدريس قدم صالح مرسي وبهاء طاهر وصنع الله إبراهيم وكتاباً عربا كثيرين، ولو لم يكن قدّم أحداً غير ذلك الفاتن محمد المخزنجي لكفاه ذلك، وكفانا، فالمخزنجي بلدة نشوانة، تدخلها ولا ترغب في الخروج، في سنة 1966 كتب يوسف إدريس مقدمة لرواية كاتب شاب لا يملك ماضياً أدبياً، يملك ذكريات السجن فقط، الرواية هي تلك الرائحة، والكاتب هو صنع الله إبراهيم، والمقدمة هي (ليست مجرد قصة)، قال يوسف: "أعترف بأني شديد الضعف تجاه المواهب، وليس أسهل من الكتابة وسيلة تخدعك عن الموهبة، والكتابة موهبة كل إنسان، مثلها مثل الكلام، ولكن قليلون أولئك الذين باستطاعتهم أن يخلقوا من الكلام فنا، إن تلك الرائحة، ليست مجرد قصة، ولكنها ثورة، وأولها ثورة فنان لأنها أيضاً موهبة ناضجة" كان يوسف يبرع في القصة القصيرة، وفي المقالة الأدبية، وفي المسرح، وفي أن يكون رسول التقدم، ولكن شموس القصة القصيرة والمقالة الأدبية والمسرح والتقدم غابت عن سمائنا، وطبعا شمس الشعر غائبة، الشمس الوحيدة الآن هي الشمس البيضاء، وأصبحنا بدلا من أن نتذكر يوسف، أصبحنا نغتابه ميتا، ونردد عنه شائعات أخف من دخان الشيشة والسجائر، ليت السيدة رجاء تسمح لي أن اطالع وجهها وأقبل يدها وأرجوها الصفح عن هؤلاء، وليت السيد أبا العلاء المعري لا يحتاج إذا سألناه عن يوسف أن يقول لنا:
لا تظلموا الموتي وإن طال المدي
إني أخاف عليكمو أن تلتقوا
ليت أبا العلاء ينشد: أيها الطفل الذي كنت تقدم، ما الذي يجمعنا الآن وماذا سنقول.
لا تظلموا الموتي وإن طال المدي
إني أخاف عليكمو أن تلتقوا
روي الرواة أن أبا العلاء المعري عندما سئل عن يوسف إدريس، وعن مصائره مع التابعين، وتابعي التابعين، أطرق وتذكر اليوم الذي رأي فيه وجه يوسف، قبل أن يعجز بصره عن الرؤية، ثم أجاب سائله بتلاوة هذا البيت، رأيت يوسف إدريس مرتين في حياتي، إحداهما عابرة، كنت أقطع شارع هدي شعراوي من أوله جهة شارع طلعت حرب بوسط القاهرة، ولم أكن أعرف أنه يكتري سائقاً خصوصياً لسيارته، وقفت السيارة، ونزل يوسف، تهادي بخطي تطأ الأرض كأنها تفعصها، كأنها تتأنّي في فعصها، تابعته بنظري حتي غاب، والمرة الثانية في أتيلييه القاهرة، كانوا فيما أذكر يحتفلون بالعدد الأول من مجلة الفكر المعاصر لصاحبها عبد السلام رضوان، وجوه اليسار تغطي حديقة الأتيلييه، وإبراهيم منصور يسرح بينهم، ويوسف إدريس يتكلم بإيجاز ويقول: المهم أن تكون لنا مجلة، نملكها ونكتب فيها، حتي ولو كانت من ورق اللحمة، يوم صدرت النداهة، مجموعته القصصية، عن سلسلة روايات الهلال 1969، شعرت بفرح شديد وأنا أشتريها، دفعت عشرة قروش مصرية، شعرت بفرح شديد وأنا أحملها تحت إبطي، شعرت بالرغبة الطاغية في الجري من أجل الوصول سريعاً إلي البيت، وجريت في داخلي، ولما وصلت شعرت بفرح شديد وأنا أغوص في نداهتي، وفي دستور يا سيدة، مازلت أذكر الرعشة التي تشبهها رعشة الجماع عندما قرأت مجموعة بيت من لحم، مازلت أحلم أن تصادفني هذه الرعشة من أحد وجهيها، أحيانا تصادفني في الحلم، إذا من وراء البحار زارتني أم البنات، النائمة مثل غيمة، اليقظة مثل فينيق، ليلة الأتيلييه سلمت علي يوسف، هل كان أطول مني، في هذه الليلة كان أطول بكثير، ارتميت في حضنه، مثلي مثل شبان آخرين، أصابعه تخللت شعر رأسي، كأنه يلاطف رأس جرو صغير، تمنيت أن أقول له يا أبي، مثلما تمنيت أن أقولها للمازني وليحيي حقي ولرسول حمزاتوف ولأدونيس ولإبراهيم ناجي ولزكي مبارك، وربما لفيروز، مازلت أذكر كيف هدأ رأسي فوق صدر بدلته، فشعرت بالحماية، لازلت أذكر الرائحة التي ملأت أنفي، في السنوات التالية تابعت وتأملت معاركه وخصوماته ومصالحاته وغضبه وجنونه ورقته ونرجسيته التي تجعله لا يغفر لنجم خطيئة أن يكون نجماً إلي جواره، مقالاته في الأهرام مع مقالات زكي نجيب محمود كانت الضوء الأخير لذلك النوع النادر المسمّي بالمقالة الأدبية، أهمية أن نتثقف يا ناس، تمجوشوا يا عرب، غنِّ يا عبد الحليم، لما قرأت روايته العيب، أحسست أنني أجدد فهمي للمرأة ككيان واحد، التاريخ الاجتماعي للرجل، وهو تاريخ طويل بطول البشرية مكّنه من أن يكون أعني الرجل مجموعة أدراج ومجموعة دواليب وبعض أرفف، وتاريخ المرأة أجبرها أن تكون نهرا أو بئرا واحدة، المرأة إذا فسد جزؤها فسدت كلها، والرجل يفسد جزؤه دون بقية أجزائه، الرجل يرتشي ويظل صالحاً في البيت والمسجد، والمرأة ترتشي فتضيع، قرأت العيب وشاهدتها فيلماً، ولهثت في المرتين، قرأت النداهة وشاهدتها، والحرام وشاهدتها، وقرأت قصة حب التي اعتبرتها بروفة روايته البيضاء، الماركسيون يهرشون أقفيتهم وبطونهم ويلوون أعناقهم، إذا ذكرت الروايتين، وقد يطردونك إذا استطردت وذكرت عنقاء لويس عوض، في أزمنة مجد يوسف إدريس كنت أري فيه بعض ما رآه صلاح عبد الصبور فيه، وفي فن القصة القصيرة عموماً، التي استطاعت أن تستنبت لشجرتها جذوراً في بيئتنا المصرية، وتميزت لها أفرع أو مدارس أو اتجاهات، بدأت القصة مع أمثال محمود تيمور بقصة المفاجأة ولحظة التنوير، كأنها تتسلل وراء موباسان وتتبع خطواته وأسلوبه، فيما حمل توفيق الحكيم عصاه وقلمه وأخذ ينخر بطن الشجرة ويغرس فيها فكرته التي سيغطيها بأوراق وغصون وثمار، لتخرج حكايته متناسقة محكمة ذات فكرة، وفي مكان آخر كان يحيي حقي يعمل عملاً آخر، ينخر الشجرة وبدلاً من الفكرة يغرس كشوفه الروحية والنفسية العميقة المعجونة في أسلوب غنائي مقتصد، ولا يغطي ما نخره، يتركه معروضاً في الهواء، فيما سيمشي إدوار الخراط قريبا من يحيي وإن بحسية أكثر وبشهوانية طاغية، بعد الحكيم وحقي سيلجأ يوسف الشاروني إلي الرمز والسرد الغائم والروح التي شاعت في العالم، وأطلقوا عليها الاسم الحركي: روح كافكا، بهاء طاهر سيرث هذه الروح لفترة، يوسف إدريس سينتبه إلي كل ما سبقه، سيتجاسر ويخلط هذا الكل ويهرسه، وبهريسته سيصل إلي الملكوت الأعلي للقصة القصيرة، اللهجة بسيطة مثل لهجة حدوته، اللحظة مكثفة، او مفتوحة علي صراع نشهده، الأبطال رجال عاديون نعرفهم ونعايشهم، التقدم هاجس يقف وراء كل هذا، لما سئلت عن الإثنين نجيب محفوظ ويوسف إدريس، قلت: والله لو كان نجيب محفوظ خبيراً في التنقيب عن البترول وكان مطالباً بالكشف عنه تحت رمال الصحراء التي أمامنا، فإنه سيحفر الصحراء كلها حتي يبلغ غايته، عبقريته هي العمل، هي عبقرية المصري القديم، الذي يصل عن طريق إصراره ودأبه إلي ربما أبعد مما يبلغه غيره من العباقرة الأفذاذ، أما يوسف فسوف يتجول بالصحراء، مأخوذاً، متوتراً، عنيفاً، ثم فجأة يقف ويأمر عماله: احفروا هنا، إنها عبقرية الفجاءة، العبقرية الأولي، العمل، لا تخون صاحبها إلا إذا خانها، لأنها الأبد، والثانية، الفجاءة، لا قانون لها، إنها اللحظة، ويوسف يمشي علي ذلك السلك الذي لا قانون له، كل الذين عرفوه، عرفوا أنهم يمكن أن يورطوه في كل أمر، يكفي أن تجاوره علي منصة إحدي الندوات، وأن تهاجم رئيس حكومتك مثلا، لتحصل علي تصفيق شديد، بالغ في هجومك، سيشتد التصفيق، لن يحتمل يوسف، سيهاجم الشخص الأعلي، رئيس الدولة مثلا، وسوف يشط ويشتط ويبالغ، هو طفل نزق، في السودان كادوا يسجنونه، لأن رفيقه الشاعر فعلها وورطه، لما أعلنت الأكاديمية السويدية منح نجيب محفوظ جائزة نوبل، لم يستطع يوسف أن يربط طرف لسانه في حلقه، تهور وأخرج لسانه فامتد اللسان من شرفة شقته بكورنيش شيراتون، إلي شرفة شقة نجيب بكورنيش العجوزة، رأيت السيدة رجاء تحاول أن تسحب اللسان، رأيتها بعيني، كان صالح جودت يقول اليواسف الأربعة: السباعي وجوهر والشاروني وإدريس، وكان إدريس ينفر من هذه الرباعية ويقول عن نفسه: أنا يوسف الرابع، الثلاثة الآخرون، إدجار آلان بو، أنطون تشيكوف، جي دي موباسان، والأربعة معاً هم بناة القصة القصيرة في العالم، اضطرب أبو العلاء المعري عندما أصر مشرفو جائزة نجيب محفوظ بالجامعة الأمريكية علي تعذيب يوسف بعد موته، بمنحه جائزة كان سيرفضها بالتأكيد، سامح الله أرملته وابنته، لأنهما قبلتا، سمع أصحابي أبو العلاء وهو يقول: سامحك الله يا رجاء، لما مات يحيي الطاهر عبد الله ورثاه الجميع، توقف الجميع أمام مرثية يوسف له، ولما أطالوا الكلام عن يحيي، لاحظوا تململ يوسف، وسمعوا صراخه: كفي كفي، نحن الذين عشنا في زمن يوسف، اعتدنا شطحاته، وافتقدناها لما غاب، لم تكن شطحات عمياء، كانت شطحات تري بعمق، لما مات يحيي، تذكرنا أن يوسف مثل كل الكبار، يعرف أن صراع الأجيال ضرورة، ويسهم في إعلان وجود الآخرين، في سنة 1925 كتب أحمد شوقي عن الشاعر اللبناني الشاب أمين نخلة أبياتاً صدر بها الأمين ديوانه الأول: "هذا ولي لعهدي، وقيم الشعر بعدي، فكل من قال شعراً، في الناس عبداً لعبدي" وأدونيس قدّم محمد الماغوط في خميس شعر، وقدم سعدي يوسف وسنية صالح في سلسلة الينابيع، وعبد الفتاح الجمل قدم جيل الستينيات كله، وعلاء الديب قدم الجميع في عصير الكتب، وشوقي بغدادي قدم شعراء سوريا، وفؤاد حداد قدّم شعراء العامية، ويوسف الخال قدّم شعراء لبنان، وأنسي الحاج مازال يقدم، وأحمد عبد المعطي حجازي منذ قابلته في مطالع السبعينيات وهو يقدم، عفيفي مطر قبض يده، أما يوسف إدريس فقد كان يشرف علي باب القصة بمجلة الكاتب أيام أحمد عباس صالح، وهناك قدم بسخاء كل كتاب القصة، أذكر أنني قرأت إلياس خوري بسبب ما كتبه يوسف عن روايته علاقات الدائرة، وقرأت مئة عام من العزلة بإيعاز منه، يوسف إدريس قدم صالح مرسي وبهاء طاهر وصنع الله إبراهيم وكتاباً عربا كثيرين، ولو لم يكن قدّم أحداً غير ذلك الفاتن محمد المخزنجي لكفاه ذلك، وكفانا، فالمخزنجي بلدة نشوانة، تدخلها ولا ترغب في الخروج، في سنة 1966 كتب يوسف إدريس مقدمة لرواية كاتب شاب لا يملك ماضياً أدبياً، يملك ذكريات السجن فقط، الرواية هي تلك الرائحة، والكاتب هو صنع الله إبراهيم، والمقدمة هي (ليست مجرد قصة)، قال يوسف: "أعترف بأني شديد الضعف تجاه المواهب، وليس أسهل من الكتابة وسيلة تخدعك عن الموهبة، والكتابة موهبة كل إنسان، مثلها مثل الكلام، ولكن قليلون أولئك الذين باستطاعتهم أن يخلقوا من الكلام فنا، إن تلك الرائحة، ليست مجرد قصة، ولكنها ثورة، وأولها ثورة فنان لأنها أيضاً موهبة ناضجة" كان يوسف يبرع في القصة القصيرة، وفي المقالة الأدبية، وفي المسرح، وفي أن يكون رسول التقدم، ولكن شموس القصة القصيرة والمقالة الأدبية والمسرح والتقدم غابت عن سمائنا، وطبعا شمس الشعر غائبة، الشمس الوحيدة الآن هي الشمس البيضاء، وأصبحنا بدلا من أن نتذكر يوسف، أصبحنا نغتابه ميتا، ونردد عنه شائعات أخف من دخان الشيشة والسجائر، ليت السيدة رجاء تسمح لي أن اطالع وجهها وأقبل يدها وأرجوها الصفح عن هؤلاء، وليت السيد أبا العلاء المعري لا يحتاج إذا سألناه عن يوسف أن يقول لنا:
لا تظلموا الموتي وإن طال المدي
إني أخاف عليكمو أن تلتقوا
ليت أبا العلاء ينشد: أيها الطفل الذي كنت تقدم، ما الذي يجمعنا الآن وماذا سنقول.