يقول أنطوان دو سانت إيكزوبيري الأديب الشهير صاحب أشهر قصّة نجحت في أن تغدو حكايةً في القرن العشرين «الأمير الصغير»: «الطفولة هي هذا العالم الشاسع الذي خرج منه كل واحد منّا. من أين أنا؟ أقول: أنا من طفولتي مثلما أقول أنا من وطني».
تمثّل الحكاية فنّاً أدبياً شفهياً بالدرجة الأولى، وهي تمثّل- أيّما تمثيل- المجتمع الذي نشأت فيه، بمعنى أنها تمثِّله من خلال الرواة الذين تعاقبوا على روايتها، فحذفوا منها وأضافوا إليها في كلّ مرّة خانتهم الذاكرة أو أسعفتهم، وفي كلّ مرة ارتقوا درجةً في فنّ الحكي. الحكايا الشعبية أو حكايا الجنيّات وفقاً للمصطلح الغربي، هي في أصلها حكايا الشعوب مهما تباعدت وَنَأتْ، ومهما شرَّقت أو غرَّبت، إذ تشترك جميعها بنواة «الحكاية» وتخضع لسحرها الذي لا رادّ له. ينطبق هذا الوصف بصورة دقيقة، على القصّص المستقاة من كتاب «ألف ليلة وليلة»؛ فالراوية الرسمية شهرزاد هي الرواة وقد تعدَّدوا. أما المجتمع الذي تمثِّله، فهو هنديّ وفارسيّ، وعربيّ، يطال الشرق برمَّته. ومن الشرق إلى الغرب رحلت شهرزاد، وهناك فتنت حكاياتها المجتمع الغربيّ من خلال الترجمة أولاً، حيث قام أنطوان غالان بترجمتها في بداية القرن الثامن عشر، قبل أن تدخل في متن الأدب الأوروبي، عبر ترجمات أخرى ودراسات وتحليلات كثيرة، ربما كان من أشهرها كتاب أندريه ميكيل «سبع حكايات من ألف ليلة وليلة، أو ليست هناك حكايات بريئة».
وبما أن الحكي عابرٌ للزمان وللمكان، فقد رحل أيضاً من الغرب إلى الشرق، وحمل الحكايات «الغربية» نحو مجتمعات أخرى، فأحبَّها الرواة «الجُدُد» وتناقلوها، إذ وجدوا فيها صدىً وصورةً لما نُطلق عليه اليوم اصطلاحاً «القيم والمشاعر الإنسانية». وأشهر تلك الحكايات حكايا الجنيّات THE FAIRY TALES، التي دخلت إلى لغة الضاد في النصف الأوّل من القرن العشرين، فقد كان كامل الكيلاني- بحقّ- رائد أدب الأطفال عند العرب في العصر الحديث، حيث قام بتعريب طائفة منها فضلاً عن تبسيطه الشهير لبعض حكايا «ألف ليلة وليلة».
ومثلما تعرَّضَ كتاب «ألف ليلة وليلة» لأنواع مختلفة من الرقابة، تعرّضت حكايا الجنيّات- بدورها- للرقابة أيضاً، ويبدو أن «المدوِّنين» الأوائل مارسوا دور الرقيب عليها. إذ إن النصّ الأصلي لواحدة من أشهر الحكايا «ذات القبعة الحمراء» نُشِر أوّل مرة في نهاية القرن التاسع عشر. ويظهر أن «تدوين» شارل بيرو، حمل نوعاً من الرقابة، فقد حُذِفت أمورٌ بدت في نظر المُدَوِّن «غير لائقة» بل مرعبة ومخيفة بالنسبة للأطفال، مثل دعوة الذئب لذات القبّعة الحمراء إلى أكل لحم جدّتها الميتة وشرب دمها، أو خلع الطفلة لملابسها، أو خروج الذئب للتغوُّط. وفضلاً عن هذا الحذف، فإن ثمة اختلافاً كبيراً في تدوين الحكاية بين نسخة شارل بيرو ونسخة الأخوين غريم؛ وفقاً لنسخة بيرو تنتهي الحكاية حين يدخل الذئب إلى سرير الجدّة، ويلتهم الطفلة ذات القبَّعة الحمّراء، على نحوٍ حملت فيه الحكاية عبرةً «ملائمة»، وموعظة واضحة لا لبس فيها، إذ إن الطفلة التي لم تستمع لنصيحة أمّها تنتهي في بطن الذئب الذي يمثِّل استعارة واضحة للغواية والخطر. ولعلّ تدويناً مماثلاً يكاد لا يترك شيئاً لمخيِّلة الطفل، بل يحرمه فرصة أن يكتشف بنفسه المعنى الكامن وراء الحكاية، بينما يبدو تدوين الأخوين غريم مختلفاً، إذ تستمرّ الحكاية، وتدخل فيها شخصيّة مهمّة هي الصياد، الذي يفتح بطن الذئب، ويُخرِج الجدّة والطفلة سالمتَيْن.
القصد أنّ ثمّة معنىً كامناً وراء كل حكاية يتعرّض للتشويه أو العطب حين يقوم المدوّن بحذفٍ ما، سواء أكان الحذف مجحفاً أم لم يكن، موفقاً أم غير موفق. وليس هذا المعنى إلا حصيلة الرموز والإشارات التي تبثّها الحكاية بصورة غير مباشرة للطفل، وقد كان سيغموند فرويد أوّل من نبّه إلى الطبيعة الرمزية لحكايا الجنّيّات في كتابه الشهير «تفسير الأحلام»: «نحن نعلم أن الأساطير وحكايا الجنّيّات والأمثال والأغاني، ولغة التخييل تستخدم كلّها الترميز نفسه». وكان يرى أن هذه الحكايا تقدّم للطفل عالماً للتفكير يتناسب مع تمثيل الطفل لنفسه، أو- بصورة أدقّ - يتناسب مع صورة الطفل عن نفسه. بيد أن ذروة كشف المعاني الكامنة وراء الحكايات كانت مع المحلِّل والطبيب النفسي والكاتب النمساوي الشهير برونو بيتيلهايم في كتابه «التحليل النفسي لحكايا الجنيّات» الذي نشره عام 1976. فقد نظر بيتيلهايم إلى هذه الحكايا باعتبارها تحمل في طيّاتها معنىً خاصّاً يخوّلها معالجة الطفل إن صحّ التعبير، إذ إن خبرته الطويلة في معالجة الأطفال أتاحت له الكشف عن الجانب العلاجي لهذه الحكايا، فكلّ واحدة منها تعكس صراعاً أو قلقاً أو مخاوف تظهر خلال مراحل تطوُّر الطفل ونمّوه.
وبالعودة إلى ذات القبّعة الحمراء، فقد كشف بيتيلهايم أنها تعالج عقدة أوديب التي تعاود الظهور في فترة المراهقة. فهذه الحكاية تمثّل ثنائية متضادّة: مبدأ الواقعية، ومبدأ اللذة. تظهر هذه الأخيرة على لسان الذئب وهو يشير إلى الزهور مخاطباً الطفلة: «كلّ هذه الزهور الجميلة في الغابة، وأنت لا تلقين حتّى نظرةً واحدةً عليها، بينما الغابة كلّها جميلة؟». بينما يظهر مبدأ الواقعية في تحذير الأمّ للطفلة بألا تسلك إلا الطريق الذي دلّتها عليه، وألا تتلكَّأ في الغابة.
ويظهر المستوى الرمزي، حين تسأل الطفلة الذئب الذي ادّعى أنه جدّتها، عن الأذنين واليدين والعينين والفمّ والأنف، فهذه الأعضاء ترمز للحواس الخمس التي يفهم الطفل العالم من خلالها. ويظهر المستوى الرمزي أيضاً من خلال اللون الأحمر الذي يمثّل العواطف القوية والانفعالات العنيفة، ويزداد الرمز قوّة حين نعلم أن الطفلة حصلت على قبَّعتها الحمراء من جدّتها، وأن القَبّعة بدت لائقةً عليها إلى درجة أنها استمدّت اسمها منها، فهذه الأمور كلّها تشير من طريق الرمز إلى الانتقال من طور الطفولة إلى البلوغ والنضج.
لكن الحكاية تعالج- قبل أي شيء، وفقاً لبرونو- خوف الصغيرة من الابتلاع، إذ إنها تكون محميّة في بيت ذويها قبل أن تذهب إلى الغابة أولاً، ثم إلى بيت جدّتها حيث يكون عليها أن تواجه ما نجم عن مصادفتها الذئب في الغابة والكلام معه. والصراع بين مبدأ الواقعية (فرضته أمّها عليها) ومبدأ اللذة (رغبتها الخاصّة) يكشف صراع الطفل الداخلي، فهو صراع بين
الـ «هو» من جهة, و«الأنا» - الأنا العليا- من جهة ثانية وفقاً لمصطلحات التحليل النفسي. وهذا الصراع يمثّل الصعوبة التي يواجهها الطفل حين يتحتَّم عليه أن يطيع الكبار، لذا فإن الأطفال كلّهم يتماهون فوراً مع البطلة ذات القبَّعة الحمراء.
وفقاً لبرونو فإن الحكاية تساعد الطفل على اكتشاف حقائق الحياة من خلال تسليته، وإيقاظ فضوله، فالحكاية تحثّ الطفل على التخييل، وتساعده على رؤية انفعالاته وعواطفه بوضوح، وتعينه على أن يعي الصعوبات التي تواجهه، لكن الأهم أنها تقترح له الحلول الممكنة لمواجهة المشاكل التي تعصف به.
من الممكن أن يقع المرء على حكايا شعبية عربية تشبه إلى حدّ كبير حكاية ذات القبعة الحمراء الأوروبية، خاصّة أنه وُجدت تنويعات آسيوية عليها (في الصين، وفي اليابان، وفي كوريا)، يكون الذئب فيها نمراً، وقد تتعدّد الطفلة فتغدو اثنتين أو ثلاث، وقد يتنكّر النمر على صورة الأمّ أو الخالة أو الجدّة، وبدلاً من ذهاب البطلة إلى الغابة يأتي النمر إلي بيتها متنكِّراً ويطلب منها أن تفتح له الباب مخالفة بذلك نصيحة أمّها في ألا تفتح الباب لأحد. في كلّ التنويعات يبقى جوهر الحكاية واحداً إذ يقوم على الثنائية المضادّة (مبدأ الواقعية، ومبدأ اللذة)، ويبدو أن هذه الأخيرة تسرّبت بصورة غير مباشرة إلى كامل الكيلاني، إذ لعلّ مبدأ اللذة الذي حكم- إلى حدّ كبير- طفلة الحكاية، دفعه إلى تعريب العنوان بدلاً من ترجمته حرفيّاً، فالنسخة العربية مُعَنْوَنة بـ «ليلى والذئب»، وهذا الاسـم يـحــمـــل فــــــي طـيّــاتـــه صورة المحبوبة والمعشوقة، إذ لا أشهرَ من ليلى التي أحبّها المجنون.
تمثّل الحكاية فنّاً أدبياً شفهياً بالدرجة الأولى، وهي تمثّل- أيّما تمثيل- المجتمع الذي نشأت فيه، بمعنى أنها تمثِّله من خلال الرواة الذين تعاقبوا على روايتها، فحذفوا منها وأضافوا إليها في كلّ مرّة خانتهم الذاكرة أو أسعفتهم، وفي كلّ مرة ارتقوا درجةً في فنّ الحكي. الحكايا الشعبية أو حكايا الجنيّات وفقاً للمصطلح الغربي، هي في أصلها حكايا الشعوب مهما تباعدت وَنَأتْ، ومهما شرَّقت أو غرَّبت، إذ تشترك جميعها بنواة «الحكاية» وتخضع لسحرها الذي لا رادّ له. ينطبق هذا الوصف بصورة دقيقة، على القصّص المستقاة من كتاب «ألف ليلة وليلة»؛ فالراوية الرسمية شهرزاد هي الرواة وقد تعدَّدوا. أما المجتمع الذي تمثِّله، فهو هنديّ وفارسيّ، وعربيّ، يطال الشرق برمَّته. ومن الشرق إلى الغرب رحلت شهرزاد، وهناك فتنت حكاياتها المجتمع الغربيّ من خلال الترجمة أولاً، حيث قام أنطوان غالان بترجمتها في بداية القرن الثامن عشر، قبل أن تدخل في متن الأدب الأوروبي، عبر ترجمات أخرى ودراسات وتحليلات كثيرة، ربما كان من أشهرها كتاب أندريه ميكيل «سبع حكايات من ألف ليلة وليلة، أو ليست هناك حكايات بريئة».
وبما أن الحكي عابرٌ للزمان وللمكان، فقد رحل أيضاً من الغرب إلى الشرق، وحمل الحكايات «الغربية» نحو مجتمعات أخرى، فأحبَّها الرواة «الجُدُد» وتناقلوها، إذ وجدوا فيها صدىً وصورةً لما نُطلق عليه اليوم اصطلاحاً «القيم والمشاعر الإنسانية». وأشهر تلك الحكايات حكايا الجنيّات THE FAIRY TALES، التي دخلت إلى لغة الضاد في النصف الأوّل من القرن العشرين، فقد كان كامل الكيلاني- بحقّ- رائد أدب الأطفال عند العرب في العصر الحديث، حيث قام بتعريب طائفة منها فضلاً عن تبسيطه الشهير لبعض حكايا «ألف ليلة وليلة».
ومثلما تعرَّضَ كتاب «ألف ليلة وليلة» لأنواع مختلفة من الرقابة، تعرّضت حكايا الجنيّات- بدورها- للرقابة أيضاً، ويبدو أن «المدوِّنين» الأوائل مارسوا دور الرقيب عليها. إذ إن النصّ الأصلي لواحدة من أشهر الحكايا «ذات القبعة الحمراء» نُشِر أوّل مرة في نهاية القرن التاسع عشر. ويظهر أن «تدوين» شارل بيرو، حمل نوعاً من الرقابة، فقد حُذِفت أمورٌ بدت في نظر المُدَوِّن «غير لائقة» بل مرعبة ومخيفة بالنسبة للأطفال، مثل دعوة الذئب لذات القبّعة الحمراء إلى أكل لحم جدّتها الميتة وشرب دمها، أو خلع الطفلة لملابسها، أو خروج الذئب للتغوُّط. وفضلاً عن هذا الحذف، فإن ثمة اختلافاً كبيراً في تدوين الحكاية بين نسخة شارل بيرو ونسخة الأخوين غريم؛ وفقاً لنسخة بيرو تنتهي الحكاية حين يدخل الذئب إلى سرير الجدّة، ويلتهم الطفلة ذات القبَّعة الحمّراء، على نحوٍ حملت فيه الحكاية عبرةً «ملائمة»، وموعظة واضحة لا لبس فيها، إذ إن الطفلة التي لم تستمع لنصيحة أمّها تنتهي في بطن الذئب الذي يمثِّل استعارة واضحة للغواية والخطر. ولعلّ تدويناً مماثلاً يكاد لا يترك شيئاً لمخيِّلة الطفل، بل يحرمه فرصة أن يكتشف بنفسه المعنى الكامن وراء الحكاية، بينما يبدو تدوين الأخوين غريم مختلفاً، إذ تستمرّ الحكاية، وتدخل فيها شخصيّة مهمّة هي الصياد، الذي يفتح بطن الذئب، ويُخرِج الجدّة والطفلة سالمتَيْن.
القصد أنّ ثمّة معنىً كامناً وراء كل حكاية يتعرّض للتشويه أو العطب حين يقوم المدوّن بحذفٍ ما، سواء أكان الحذف مجحفاً أم لم يكن، موفقاً أم غير موفق. وليس هذا المعنى إلا حصيلة الرموز والإشارات التي تبثّها الحكاية بصورة غير مباشرة للطفل، وقد كان سيغموند فرويد أوّل من نبّه إلى الطبيعة الرمزية لحكايا الجنّيّات في كتابه الشهير «تفسير الأحلام»: «نحن نعلم أن الأساطير وحكايا الجنّيّات والأمثال والأغاني، ولغة التخييل تستخدم كلّها الترميز نفسه». وكان يرى أن هذه الحكايا تقدّم للطفل عالماً للتفكير يتناسب مع تمثيل الطفل لنفسه، أو- بصورة أدقّ - يتناسب مع صورة الطفل عن نفسه. بيد أن ذروة كشف المعاني الكامنة وراء الحكايات كانت مع المحلِّل والطبيب النفسي والكاتب النمساوي الشهير برونو بيتيلهايم في كتابه «التحليل النفسي لحكايا الجنيّات» الذي نشره عام 1976. فقد نظر بيتيلهايم إلى هذه الحكايا باعتبارها تحمل في طيّاتها معنىً خاصّاً يخوّلها معالجة الطفل إن صحّ التعبير، إذ إن خبرته الطويلة في معالجة الأطفال أتاحت له الكشف عن الجانب العلاجي لهذه الحكايا، فكلّ واحدة منها تعكس صراعاً أو قلقاً أو مخاوف تظهر خلال مراحل تطوُّر الطفل ونمّوه.
وبالعودة إلى ذات القبّعة الحمراء، فقد كشف بيتيلهايم أنها تعالج عقدة أوديب التي تعاود الظهور في فترة المراهقة. فهذه الحكاية تمثّل ثنائية متضادّة: مبدأ الواقعية، ومبدأ اللذة. تظهر هذه الأخيرة على لسان الذئب وهو يشير إلى الزهور مخاطباً الطفلة: «كلّ هذه الزهور الجميلة في الغابة، وأنت لا تلقين حتّى نظرةً واحدةً عليها، بينما الغابة كلّها جميلة؟». بينما يظهر مبدأ الواقعية في تحذير الأمّ للطفلة بألا تسلك إلا الطريق الذي دلّتها عليه، وألا تتلكَّأ في الغابة.
ويظهر المستوى الرمزي، حين تسأل الطفلة الذئب الذي ادّعى أنه جدّتها، عن الأذنين واليدين والعينين والفمّ والأنف، فهذه الأعضاء ترمز للحواس الخمس التي يفهم الطفل العالم من خلالها. ويظهر المستوى الرمزي أيضاً من خلال اللون الأحمر الذي يمثّل العواطف القوية والانفعالات العنيفة، ويزداد الرمز قوّة حين نعلم أن الطفلة حصلت على قبَّعتها الحمراء من جدّتها، وأن القَبّعة بدت لائقةً عليها إلى درجة أنها استمدّت اسمها منها، فهذه الأمور كلّها تشير من طريق الرمز إلى الانتقال من طور الطفولة إلى البلوغ والنضج.
لكن الحكاية تعالج- قبل أي شيء، وفقاً لبرونو- خوف الصغيرة من الابتلاع، إذ إنها تكون محميّة في بيت ذويها قبل أن تذهب إلى الغابة أولاً، ثم إلى بيت جدّتها حيث يكون عليها أن تواجه ما نجم عن مصادفتها الذئب في الغابة والكلام معه. والصراع بين مبدأ الواقعية (فرضته أمّها عليها) ومبدأ اللذة (رغبتها الخاصّة) يكشف صراع الطفل الداخلي، فهو صراع بين
الـ «هو» من جهة, و«الأنا» - الأنا العليا- من جهة ثانية وفقاً لمصطلحات التحليل النفسي. وهذا الصراع يمثّل الصعوبة التي يواجهها الطفل حين يتحتَّم عليه أن يطيع الكبار، لذا فإن الأطفال كلّهم يتماهون فوراً مع البطلة ذات القبَّعة الحمراء.
وفقاً لبرونو فإن الحكاية تساعد الطفل على اكتشاف حقائق الحياة من خلال تسليته، وإيقاظ فضوله، فالحكاية تحثّ الطفل على التخييل، وتساعده على رؤية انفعالاته وعواطفه بوضوح، وتعينه على أن يعي الصعوبات التي تواجهه، لكن الأهم أنها تقترح له الحلول الممكنة لمواجهة المشاكل التي تعصف به.
من الممكن أن يقع المرء على حكايا شعبية عربية تشبه إلى حدّ كبير حكاية ذات القبعة الحمراء الأوروبية، خاصّة أنه وُجدت تنويعات آسيوية عليها (في الصين، وفي اليابان، وفي كوريا)، يكون الذئب فيها نمراً، وقد تتعدّد الطفلة فتغدو اثنتين أو ثلاث، وقد يتنكّر النمر على صورة الأمّ أو الخالة أو الجدّة، وبدلاً من ذهاب البطلة إلى الغابة يأتي النمر إلي بيتها متنكِّراً ويطلب منها أن تفتح له الباب مخالفة بذلك نصيحة أمّها في ألا تفتح الباب لأحد. في كلّ التنويعات يبقى جوهر الحكاية واحداً إذ يقوم على الثنائية المضادّة (مبدأ الواقعية، ومبدأ اللذة)، ويبدو أن هذه الأخيرة تسرّبت بصورة غير مباشرة إلى كامل الكيلاني، إذ لعلّ مبدأ اللذة الذي حكم- إلى حدّ كبير- طفلة الحكاية، دفعه إلى تعريب العنوان بدلاً من ترجمته حرفيّاً، فالنسخة العربية مُعَنْوَنة بـ «ليلى والذئب»، وهذا الاسـم يـحــمـــل فــــــي طـيّــاتـــه صورة المحبوبة والمعشوقة، إذ لا أشهرَ من ليلى التي أحبّها المجنون.