في رواية الكاتب التونسي الحبيب السالمي " عواطف وزوارها " ( ٢٠١٣ ) نقرأ عن الفلسطيني رياض ما لم نقرأه في أية رواية عربية من قبل .
ولكن قبل أن نقرأ عن رياض الذي يقيم في باريس يجدر بنا أن نلم إلماما عابرا بفلسطينيين مروا بباريس وأقاموا فيها وحققوا تبعا لذلك شهرة وشيوعا .
درس في باريس الفلسطيني أحمد روحي الخالدي الذي يعد رائد الأدب المقارن في الأدب العربي ، وعادل زعيتر الذي ترجم كتبا فرنسية في الفلسفة والقانون والأدب وتركت بعض ترجماته ، مثل ترجمة رواية ( فولتير ) " كنديد " ، أثرها في الأدب الفلسطيني . ولن يغيب عن الأذهان سياسيون ومثقفون آخرون مثل عز الدين القلق ومحمود درويش وابراهيم الصوص وأفنان القاسم و ... .
وقد ترسخ قسم من هذه الأسماء في أذهان المثقفين الفرنسيين وقسم من السياسيين المناصرين للقضية الفلسطينية ، وربما في أذهان بعض المستشرقين الفرنسيين . ففي الأعوام الثلاثة الأخيرة حاضرت مرتين في فرنسيين يساريين ومتعاطفين مع الشعب الفلسطيني وكانت الأسماء الثقافية الفلسطينية التي ذكرتها على مسامع الحضور مألوفة .
أتيت ، من قبل ، على نيويورك في الرواية العربية كمنفى للفلسطينيين ، ولم يغب عن ذهني حضور باريس ، فرواية الكاتب التونسي الحبيب السالمي " عواطف وزوارها " ٢٠١٣ لا تخلو شخصياتها من فلسطيني ف " الفلسطينيون يا حبيبتي في كل مكان ... كالهواء " ( ٣٦ ) .
هل سبق وأن كتب أديب عربي عن فلسطينيين يقيمون في فرنسا في أعماله قبل الحبيب السالمي ؟
في العام ١٩٩٤ أصدر الروائي الأردني زياد قاسم الجزء الأول من خماسيته " الزوبعة " وكتب فيها عن فلسطيني يسافر في نهاية القرن التاسع عشر إلى باريس لدراسة القانون ، وهناك ينغمس في حياة اللهو والترف والانفتاح ، ثم بعد فترة من إقامته يستقيم ويعود إلى سيرته الأولى كما كانت في بلاده .
الكتابة عن فلسطينيين في باريس صدرت ، في النصف الثاني من ق ٢٠ ، عن الأدباء الفلسطينيين الذين أقاموا فيها مثل نبيل خوري ومحمود درويش وأفنان القاسم وابراهيم الصوص . إن كتابة هؤلاء هنا لا تعنيني الكثير ، فما يهمني بالدرجة الأولى هو ما كتبه الروائيون العرب .
مع ما سبق لا بأس من التعريج على بعض ما كتب الأدباء الفلسطينيون ، لأن الصورة التي ظهرت للفلسطيني في رواية السالمي لا تروق للفلسطينيين إطلاقا ، بل إنها لم ترق لبعض الشخصيات العربية في الرواية نفسها ، إذ الفلسطيني في مخيلتهم مختلف .
في قصيدته " الحوار الأخير في باريس " يكتب محمود درويش مرثية في عز الدين القلق الذي قتل في باريس ، وكان القلق مثقفا وكاتب قصة قصيرة له مجموعة قصصية عنوانها " شهداء بلا تماثيل " وقد انخرط في السياسة وحاور اليسار الإسرائيلي - هكذا يفهم من القصيدة - الذي حاول إغراءه بالمال ليعدل في الرواية قليلا ، بما يقنع اليسار الفرنسي أن الدولة العبرية لا تبني السجون على ضفة النهر ، وإنما تقيم المستشفيات ، وهو ما رفضه - كما يرد على لسانه في القصيدة :
" قد اعترفوا أنهم قتلوني
ولكنهم عانقوني طويلا
ودسوا مكان الرصاصة عشرين الف فرنك مكافأة للخطاب الذي سوف
أقنع فيه اليسار الفرنسي أن السجون على ضفة النهر مستشفيات
وأن دمي مائدة " .
" عواطف وزوارها " والفلسطيني المثلي :
يحضر الفلسطيني ، كما ذكرت ، في رواية السالمي إلى جانب شخصيات عربية من المغرب والجزائر وتونس ومصر وإلى جانب شخصيات فرنسية ، وهؤلاء جميعا يقيمون في باريس لا في المشرق العربي ، ويحيون حياتهم هناك بقدر من الحرية قد لا تتوفر لهم في الشرق إلا في العواصم الكبيرة ، أما في المدن الصغيرة فسوف تلوكهم الألسن إن لم يعاقبوا ويعتدى عليهم ، فما يمارسونه من انفتاح في العلاقات الاجتماعية يبدو في الشرق من باب المحرمات .
يروي الرواية المنصف ، وهو مدرس تونسي يقيم في باريس ومتزوج من فرنسية وله منها ابنة اسمها " لبنى " . المنصف هذا يخون زوجته ويقيم علاقة ، لمدة عامين ، مع مريم وهي متزوجة ، ثم مع عواطف المصرية طليقة الجزائري بو علام .
تقيم عواطف ، مع ابنتها سونيا ، في شقتها وتستقبل عشيقها المنصف وعربا آخرين من بينهم رياض الفلسطيني ابن مدينة بيت لحم والمقيم في عمان لفترة والمتزوج من أردنية انفصل عنها .
يبدو رياض للوهلة الأولى ، حين تراه مريم التي تعمل في مكتب طيران ، يبدو كأنه غير عربي ورصينا ، مع " أنه يميل إلى المزاح والدعابة " فيثير إعجاب النساء والرجال معا " والعيب الوحيد فيه هو بخله .
يمتاز رياض بسعة اطلاعه وبعمق ثقافته العامة ومعرفته الواسعة بتاريخ العرب قديمه وحديثه . ويروق لمريم المطلقة التي أقامت علاقة مع الفرنسي جاك ، ولكن العلاقة لا تتواصل ، فتبتعد عنه بسبب ابنها كريم الذي لا يستسيغ أن تكون أمه المسلمة على علاقة مع غير مسلم .
تعرف مريم أن الفلسطيني يقيم بمفرده ولا تفهم لماذا لا يتزوج أو لا يعاشر امرأة في مدينة تعج بالنساء الفاتنات القادمات من كل قارات العالم .
الفلسطيني رياض يبدو مزدوج الجنس ، فهو على علاقة بالمغربي ادريس .
" الفلسطينيون ليسوا ملائكة " يعقب الجزائري بو علام طليق عواطف الذي يحب الفلسطينيين ويراهم شجعانا وأذكياء ويرغب في التعرف إليهم .
على الرغم من أن مريم تعرف أن رياض مثلي وتصعق حين تسمع الخبر ، إلا أنها لا تتردد في إقامة علاقة معه والاقتران به ، وإن استاءت لأنه مثلي سلبي لا مثلي إيجابي .
الفلسطيني في الرواية لا يتدخل في السياسة ، وهذا يبدو مستغربا ، واللافت هو ما يعبر عنه الجزائري مبديا رأيه بعلاقة الجزائر بفلسطين . إنه يحب الفلسطينيين فليس هناك جزائري واحد لا يناصرهم وإخفاق الفلسطينيين في تحرير أرضهم يعود إلى جيرانهم العرب حيث تكمن المشكلة في الجيران الذين يريدون استغلال القضية الفلسطينية لصالحهم .
هل أبرز الكتاب الفلسطينيون في نصوصهم نموذجا مشابها ؟
بعد سنوات من صدور " عواطف وزوارها " ستصدر رواية عباد يحيى " جريمة في رام الله " وستثير زوبعة كبيرة .
وأنا أفكر في الكتابة عن " عواطف وزوارها " تذكرت قصيدة درويش " إن أردنا " من " أثر الفراشة " وفيها آراء جريئة يثيرها الشاعر يدعو من خلالها إلى الانعتاق من القيم والمفاهيم السائدة المحافظة التي تسود في المجتمع الفلسطيني وتجعله بناء عليها لا يتقبل وصف شاعر لبطن الراقصة ، بل وتجعله لا يتقبل شتم السلطان وحاجبه باعتبار هذا من المحرمات .
والسؤال هو :
- ماذا سيكون موقف محمود درويش من رياض المثلي في رواية " عواطف وزوارها " ؟
" الفلسطينيون ليسوا ملائكة " ومثلهم الآخرون في الرواية : المغاربة والتوانسة والجزائريون والمصريون ، ومع ذلك تنتهي الرواية بتقبل سلوك هؤلاء ، فادريس المغربي يتزوج من عواطف ورياض الفلسطيني يتزوج من التونسية مريم ، دون أن يسألا عن ماضيهما أو عن علاقتهما بالمنصف التونسي ، فكما تقبلت مريم رياض وتزوجت منه ، مع علمها بأنه مثلي سلبي ، وافق رياض على الزواج منها مع علمه بأنها مطلقة ولها ولد وكانت على علاقة بجاك الفرنسي وبالتونسي المنصف . ومثلهما عواطف التي ما إن ارتبطت بادريس حتى قطعت علاقتها بالمنصف ، فهي ترفض الخيانة والعلاقات غير المشروعة ما دامت ارتبطت .
الجمعة والسبت
٩ و ١٠ تشرين الأول ٢٠٢٠ .
ولكن قبل أن نقرأ عن رياض الذي يقيم في باريس يجدر بنا أن نلم إلماما عابرا بفلسطينيين مروا بباريس وأقاموا فيها وحققوا تبعا لذلك شهرة وشيوعا .
درس في باريس الفلسطيني أحمد روحي الخالدي الذي يعد رائد الأدب المقارن في الأدب العربي ، وعادل زعيتر الذي ترجم كتبا فرنسية في الفلسفة والقانون والأدب وتركت بعض ترجماته ، مثل ترجمة رواية ( فولتير ) " كنديد " ، أثرها في الأدب الفلسطيني . ولن يغيب عن الأذهان سياسيون ومثقفون آخرون مثل عز الدين القلق ومحمود درويش وابراهيم الصوص وأفنان القاسم و ... .
وقد ترسخ قسم من هذه الأسماء في أذهان المثقفين الفرنسيين وقسم من السياسيين المناصرين للقضية الفلسطينية ، وربما في أذهان بعض المستشرقين الفرنسيين . ففي الأعوام الثلاثة الأخيرة حاضرت مرتين في فرنسيين يساريين ومتعاطفين مع الشعب الفلسطيني وكانت الأسماء الثقافية الفلسطينية التي ذكرتها على مسامع الحضور مألوفة .
أتيت ، من قبل ، على نيويورك في الرواية العربية كمنفى للفلسطينيين ، ولم يغب عن ذهني حضور باريس ، فرواية الكاتب التونسي الحبيب السالمي " عواطف وزوارها " ٢٠١٣ لا تخلو شخصياتها من فلسطيني ف " الفلسطينيون يا حبيبتي في كل مكان ... كالهواء " ( ٣٦ ) .
هل سبق وأن كتب أديب عربي عن فلسطينيين يقيمون في فرنسا في أعماله قبل الحبيب السالمي ؟
في العام ١٩٩٤ أصدر الروائي الأردني زياد قاسم الجزء الأول من خماسيته " الزوبعة " وكتب فيها عن فلسطيني يسافر في نهاية القرن التاسع عشر إلى باريس لدراسة القانون ، وهناك ينغمس في حياة اللهو والترف والانفتاح ، ثم بعد فترة من إقامته يستقيم ويعود إلى سيرته الأولى كما كانت في بلاده .
الكتابة عن فلسطينيين في باريس صدرت ، في النصف الثاني من ق ٢٠ ، عن الأدباء الفلسطينيين الذين أقاموا فيها مثل نبيل خوري ومحمود درويش وأفنان القاسم وابراهيم الصوص . إن كتابة هؤلاء هنا لا تعنيني الكثير ، فما يهمني بالدرجة الأولى هو ما كتبه الروائيون العرب .
مع ما سبق لا بأس من التعريج على بعض ما كتب الأدباء الفلسطينيون ، لأن الصورة التي ظهرت للفلسطيني في رواية السالمي لا تروق للفلسطينيين إطلاقا ، بل إنها لم ترق لبعض الشخصيات العربية في الرواية نفسها ، إذ الفلسطيني في مخيلتهم مختلف .
في قصيدته " الحوار الأخير في باريس " يكتب محمود درويش مرثية في عز الدين القلق الذي قتل في باريس ، وكان القلق مثقفا وكاتب قصة قصيرة له مجموعة قصصية عنوانها " شهداء بلا تماثيل " وقد انخرط في السياسة وحاور اليسار الإسرائيلي - هكذا يفهم من القصيدة - الذي حاول إغراءه بالمال ليعدل في الرواية قليلا ، بما يقنع اليسار الفرنسي أن الدولة العبرية لا تبني السجون على ضفة النهر ، وإنما تقيم المستشفيات ، وهو ما رفضه - كما يرد على لسانه في القصيدة :
" قد اعترفوا أنهم قتلوني
ولكنهم عانقوني طويلا
ودسوا مكان الرصاصة عشرين الف فرنك مكافأة للخطاب الذي سوف
أقنع فيه اليسار الفرنسي أن السجون على ضفة النهر مستشفيات
وأن دمي مائدة " .
" عواطف وزوارها " والفلسطيني المثلي :
يحضر الفلسطيني ، كما ذكرت ، في رواية السالمي إلى جانب شخصيات عربية من المغرب والجزائر وتونس ومصر وإلى جانب شخصيات فرنسية ، وهؤلاء جميعا يقيمون في باريس لا في المشرق العربي ، ويحيون حياتهم هناك بقدر من الحرية قد لا تتوفر لهم في الشرق إلا في العواصم الكبيرة ، أما في المدن الصغيرة فسوف تلوكهم الألسن إن لم يعاقبوا ويعتدى عليهم ، فما يمارسونه من انفتاح في العلاقات الاجتماعية يبدو في الشرق من باب المحرمات .
يروي الرواية المنصف ، وهو مدرس تونسي يقيم في باريس ومتزوج من فرنسية وله منها ابنة اسمها " لبنى " . المنصف هذا يخون زوجته ويقيم علاقة ، لمدة عامين ، مع مريم وهي متزوجة ، ثم مع عواطف المصرية طليقة الجزائري بو علام .
تقيم عواطف ، مع ابنتها سونيا ، في شقتها وتستقبل عشيقها المنصف وعربا آخرين من بينهم رياض الفلسطيني ابن مدينة بيت لحم والمقيم في عمان لفترة والمتزوج من أردنية انفصل عنها .
يبدو رياض للوهلة الأولى ، حين تراه مريم التي تعمل في مكتب طيران ، يبدو كأنه غير عربي ورصينا ، مع " أنه يميل إلى المزاح والدعابة " فيثير إعجاب النساء والرجال معا " والعيب الوحيد فيه هو بخله .
يمتاز رياض بسعة اطلاعه وبعمق ثقافته العامة ومعرفته الواسعة بتاريخ العرب قديمه وحديثه . ويروق لمريم المطلقة التي أقامت علاقة مع الفرنسي جاك ، ولكن العلاقة لا تتواصل ، فتبتعد عنه بسبب ابنها كريم الذي لا يستسيغ أن تكون أمه المسلمة على علاقة مع غير مسلم .
تعرف مريم أن الفلسطيني يقيم بمفرده ولا تفهم لماذا لا يتزوج أو لا يعاشر امرأة في مدينة تعج بالنساء الفاتنات القادمات من كل قارات العالم .
الفلسطيني رياض يبدو مزدوج الجنس ، فهو على علاقة بالمغربي ادريس .
" الفلسطينيون ليسوا ملائكة " يعقب الجزائري بو علام طليق عواطف الذي يحب الفلسطينيين ويراهم شجعانا وأذكياء ويرغب في التعرف إليهم .
على الرغم من أن مريم تعرف أن رياض مثلي وتصعق حين تسمع الخبر ، إلا أنها لا تتردد في إقامة علاقة معه والاقتران به ، وإن استاءت لأنه مثلي سلبي لا مثلي إيجابي .
الفلسطيني في الرواية لا يتدخل في السياسة ، وهذا يبدو مستغربا ، واللافت هو ما يعبر عنه الجزائري مبديا رأيه بعلاقة الجزائر بفلسطين . إنه يحب الفلسطينيين فليس هناك جزائري واحد لا يناصرهم وإخفاق الفلسطينيين في تحرير أرضهم يعود إلى جيرانهم العرب حيث تكمن المشكلة في الجيران الذين يريدون استغلال القضية الفلسطينية لصالحهم .
هل أبرز الكتاب الفلسطينيون في نصوصهم نموذجا مشابها ؟
بعد سنوات من صدور " عواطف وزوارها " ستصدر رواية عباد يحيى " جريمة في رام الله " وستثير زوبعة كبيرة .
وأنا أفكر في الكتابة عن " عواطف وزوارها " تذكرت قصيدة درويش " إن أردنا " من " أثر الفراشة " وفيها آراء جريئة يثيرها الشاعر يدعو من خلالها إلى الانعتاق من القيم والمفاهيم السائدة المحافظة التي تسود في المجتمع الفلسطيني وتجعله بناء عليها لا يتقبل وصف شاعر لبطن الراقصة ، بل وتجعله لا يتقبل شتم السلطان وحاجبه باعتبار هذا من المحرمات .
والسؤال هو :
- ماذا سيكون موقف محمود درويش من رياض المثلي في رواية " عواطف وزوارها " ؟
" الفلسطينيون ليسوا ملائكة " ومثلهم الآخرون في الرواية : المغاربة والتوانسة والجزائريون والمصريون ، ومع ذلك تنتهي الرواية بتقبل سلوك هؤلاء ، فادريس المغربي يتزوج من عواطف ورياض الفلسطيني يتزوج من التونسية مريم ، دون أن يسألا عن ماضيهما أو عن علاقتهما بالمنصف التونسي ، فكما تقبلت مريم رياض وتزوجت منه ، مع علمها بأنه مثلي سلبي ، وافق رياض على الزواج منها مع علمه بأنها مطلقة ولها ولد وكانت على علاقة بجاك الفرنسي وبالتونسي المنصف . ومثلهما عواطف التي ما إن ارتبطت بادريس حتى قطعت علاقتها بالمنصف ، فهي ترفض الخيانة والعلاقات غير المشروعة ما دامت ارتبطت .
الجمعة والسبت
٩ و ١٠ تشرين الأول ٢٠٢٠ .