" قيل للدفلى: لماذا أنتِ مُـرّة؟ فقالت: بسبب موت شقيقي."
مثل كُردي
في لقاء مع الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو قال : لا أستطيع الكتابة عن الأحداث الكبيرة في حياتي الشخصية ، كموت أبي أو أمي مثلاً. وهذا ما أدركته أنا أيضاً؛ حيث أنني لم أستطع الكتابة عن شقيقي حسن مطلك بشكل مباشر أبداً على الرغم من مرور أكثر من عقد ونصف على رحيله..
وها أنا أحاول ذلك هنا، ولهذا تزدحم ذاكرتي بالكثير ويغص قلبي بالوجع.. لم أكتب عن حسن مباشرة على الرغم من أنه أحب وأعظم من عرفت، وأن موته كان أكبر كارثة في حياتي.. لكنه ظل حاضراً بأشكال متعددة في كل نصوصي قصة ومسرحاً ورواية.. بل وأن آثار تأثيراته على نصوصي واضحة من حيث اللغة والمناخ والتقنية والرؤية وحتى الشخصيات، وبمجرد قراءة عادية لنصوصنا ستبدو وجوه التشابه جلية وأحياناً إلى حد التطابق.. ذلك لأننا كنا ملتحمين ومنفتحين على بعضنا بشكل حميمي كامل إلى الحد الذي تختلط فيه عليّ الذكريات الآن ويصعب عليّ التمييز بين ما عشته أنا أو عاشه هو، أو بين ذكرياتي وما أذكره عنه لأننا قد عشنا أحداثاً وتفاصيلاً كثيرة مشتركة.
قلة هم الأشخاص الذين يجود بهم الرب أو الطبيعة أو الصدفة أو التاريخ ممن يكون وجودهم متميزاً ونموذجهم نادراً وسط الملايين من البشر، بحيث يكون من العسير الانغلاق أمام التأثر بهم أو نسيانهم.. ويالها من صدفة قدرية رائعة وموجعة في الوقت نفسه أن أكون شقيقاً لإنسان من هذا النوع.
فحال تفتح مداركي على الحياة وجدت حسن مطلك أمامي يعينني على الإبصار في ضوئها وفي ظلمتها، وبذلك يكون هو الذي فتح عيني في حياته وجدد فتحهما بشكل أوسع وأعمق في مماته.. لقد كان بالنسبة لي الأخ والصديق والمعلم والأب الروحي والقدوة، فمن طبائع حسن أنه يصادق أخوته ويؤاخي أصدقائه.
لقد كنت أتبع خطواته وأحفظ وصاياه وأسلك سلوكه.. كان بوصلتي ونموذجي؛ بدأ بالرسم فبدأت بالرسم، ومر كاتباً وممثلاً ومخرجاً في المسرح المدرسي فمررت على دربه، وتحول إلى الكتابة فتحولت إليها.. كنت أسير على خطاه في حياته وأحلم بالسير على خطاه في موته، مع أنني أدرك بأن ذلك لن يرضيه، فهل سأستطيع أن أختار موتي كما فعل هو؟ لأنه من المؤسف أن نموت ميتات عادية مادام لابد أن نموت. لقد كان يتوقع لي عمراً مديداً كعمر جدي (والد أمي) بينما يتوقع لنفسه موتاً مبكراً فيردد بين المزح والجد: نحن العباقرة هكذا، نموت مبكرين لأننا نعيش حياتنا بكثافة مضاعفة ونشعل طاقاتنا إلى أقصاها. وعلى هذا الأساس كان يستخف بأية نصيحة توجه إليه لترك التدخين على اعتبار أنه يُنقص العمر، ويسخر من الأحاديث عن فوائد الرياضة ووصفات الأطعمة التي تطيل العمر. وقد سجل نبوءته هذه في رائعته (دابادا):" قال أنه يعي وقائع موته كمن ينفذ خطة طويلة بذل في إعدادها زمناً يمتد من آشور بانيبال حتى القيامة"ص52. بل وأكد حتى على تحديد سنوات عمره حيث يقول:" سأموت في الثلاثين أو أتعرض لأزمة"ص107. وهذا ما حدث فعلاً، فقد تعرض لأزمة التعذيب الشديد ثم مات وهو على أعتاب الثلاثين من عمره.
وعلى الرغم من أن حسن قد كان يخاطبني شفاهة وفي رسائله بـ( يا شبيهي أيها النمر ) إلا أنه كان يريدني مختلفاً عنه.. بل ونداً له، مذكراً إياي بفيزياء المغناطيس حيث ما يتشابه منها يتنافر وما يتناقض منها يتجاذب، ولهذا فقد بدأ بفصلي عنه كي أكون خصوصيتي الشخصية المستقلة، مبتدئاً باختيار أسمي الكتابي (الرملي) حيث كان من بين حيثيات إقناعه لي بهذا الاسم:استناداً ؛ إلى سلاسة أسلوبي وطبيعة انسيابه الرملي، كما كان يقول، ولكي لا أتعكز على اسمه ولا على الاسم العشائري باعتبار أن عشيرة (الجبور) من أكبر عشائر العراق. واستناداً إلى أسماء جدينا العاشر والثاني عشر والذي سمي بهما (فخذنا) غير المعروف على نطاق العراق من بين أفخاذ عشيرة (الجبور) لأنه فخذ من فخذ آخر هو (البونجاد).. ووصف الشعراء الشعبيون في منطقتنا هذا الفخذ لطيبة تعامله ومعشره وليونة طبعه بـ(أسلاك الحرير) وما زال هذا الوصف منتشراً هناك في حوض قرانا بأن: (الرملي سلوك الحرير) أما عن اسمه هو فقد نشر قصصه الأولى في جريدة (الحدباء) الموصلية باسم: حسن مطلك الروضان، ومن هذه القصص قصتيه (الاكتظاظ) و(الحاجز) التي كتب عنها الدكتور محمد جلوب فرحان مقالة أطول منها في العدد اللاحق في قراءة نقدية تطري بها. لكن حسن قد سارع إلى حذف (الروضان) حال صدور رواية تتحدث عن (نضال حزب البعث) لكاتب عراقي يحمل اللقب نفسه.
لم أكن الوحيد ممن أذهلتهم وشدتهم وأثرت بهم شخصية حسن بحكم حب المعرفة، وإنما كل الذين عرفوه من أهل وأقارب وأصدقاء وجنود وفلاحين.. حتى أن أمي كانت تصفه بأنه (وليّ من الأولياء) دون أن تضيف على هذه التسمية كلمة (الصالحين) لأن هذه الكلمة تعود في مفهوم أمي التقليدي على رجال الدين وحسب.. وما كان موت أمي إلا حزناً عليه حيث كانت تسهر أمام نافذة البيت تدخن التبغ الرديء على الرغم من إصابتها بمرض الربو، منتظرة أن يطل قادماً من معتقله.. وظلت تمارس انتظارها له حتى بعد إعدامه فراحت تذبل وتشيخ يوماً بعد آخر حتى ماتت. كانت تقول بأنه الوحيد الذي لم يتعبها في ولادته ولا في تربيته، لأنه كان قليل البكاء أو التشكي، وكان دائم التأمل والشرود أو الانعزال مع ألعاب يبتكرها هو بنفسه، ولم يأتها طفل يشكو منه ولم يأتِ هو شاكياً من أحد.. كان هادئاً مسالماً ممتلئاً بذاته، يحبه معلموه لذكائه وانعدام مشاكساته في المدرسة وتفوقه في الدراسة وفي النشاطات المدرسية التي تفوقت لاحقاً على اهتمامه بالدراسة حين توجه إلى المسرح والرسم والنحت.. فبدأ الصراع القاسي مع والده (رجل الدين الفطري) الذي بنى جامع القرية بيديه على أرضه وأم المصلين فيه، حافظاً للقرآن بعد أن علم نفسه القراءة والكتابة مقابل حفنات من التمر للشيخ الملا. وتولى خطب الجمعة. كان الأب يرفض (شخابيط) ابنه ويعتبرها حرام وتماثيله أصنام، فيكسر لوحاته ويحطم تماثيله ويمزق دفاتر رسمه، واصفاً إياه بـ(الخائب) ومردداً المثل القائل( أن النار تخلف عار) قاصداً نفسه بـ(النار) بمعنى التألق الاجتماعي العشائري والديني، حيث كان قوي الشخصية، عنيداً، عصبي المزاج، حاسماً في أحكامه في فض المنازعات على الأراضي والماء والزواج والميراث والقتل وغيرها. ولهذا فلن يرضى أن يكون ابنه (فناناً) ينكس (عقاله) وهامته الشامخة أمام الناس، فماذا ستقول الناس عنه: هذا (الركاص) هو ابن ملا مطلك؟. و(الركاص) أو (الراكوص) يعني (الراقص) لأن تسمية (فنان) في مفهوم أبي، أي كان نوع هذا الفنان، هو(ركاص). هذا المفهوم هو الذي حرمنا، نحن الاثنين، من حلمنا بمواصلة دراستنا في (أكاديمية الفنون الجميلة) لأن عائلتنا قد هددتنا بقطع علاقتها بنا وبالتبرؤ منا في حال تنفيذنا لذلك. وكان حسن، ازاء هـذا، يـحتمل بتـفهم غضب وعنف والـده دون أن يتـخلى عـن احـترامه ومحبته له، ودون أن يـتخلى، في الوقت نفسه، عن ممارسة عـشقه للفن، سـراً، حتى تحول هذا الأمر إلى الـقراءة حين راح يُـغلـف الكتب بصفحات الـجرائـد وأوراق أكياس الإسمنت، فيظن الأب أنه يقرأ في كـتبه الدراسـية.. وهـكذا قاده الإدمان عـلى القراءة إلى الكتابة، وإننا لنجد وصفاً لجانب من هذه الـعلاقة في رواية (دابادا)؛ حيث الأب مسعود رجل الدين التقليدي والابن عواد المولع بفن الرسم.. هذا كما اخترع حسن لنفسه حروفاً خاصة ليكتب بحرية ما يريده دون أن يحد أحد من حريته، وأخفى قائمة الحروف في مكان خاص عثرت عليها أنا لاحقاً ورحت أفك نصوصه التي كانت تتحدث عن حبه لفتاة اسمها (ليلى) عرفها أثناء دراسته الثانوية في قضاء الشرقاط وعن أحلامه ونقده للمجتمع المحيط به مسمياً الأشخاص بأسمائهم.
لست هنا بصدد خط سيرة لحسن مطلك لأن ذلك ما أتمنى القيام به مستقبلاً مدعماً بالتفاصيل والوثائق، ومنسوجة بمفاصل من كتاباته هو.. ولكن امتلائي الدائم بحضوره في ذاكرتي والقلب هو الذي يقودني للإسهاب أحياناً.. ذلك أن حسن مطلك قد كان قوياً في حضوره ـ مثلما كان قوياً في غيابه ـ جذاباً ومؤثراً بسلوكه وطروحاته وأسلوبه في الحديث. صادقاً بالكلمة والفعل حد الموت. متمرداً على التخلف والقيود العشائرية على الرغم من أن الحكومة قد كتبت في (شهادة وفاته) بأنه (أعدم شنقاً) والأسباب (تكتل عشائري) فقد كان غرضها تشويه سمعة محاولة التغيير وتبرير قتلها له ولرفاقه، مع أنها لا تحتاج إلى تبرير أفعالها بعد أن قامت أصلاً على سفك الدماء والبطش بالشعب العراقي وجيرانه ومادامت تدرك أن كل تبريراتها لا تنطلي على أحد، لا داخل العراق ولا خارجه.. ومع ذلك نقول بأن قولها في (شهادة الإعدام) أن (السبب: تكتل عشائري) لا أساس له من الصحة، فحسن مطلك ذاته رافضاً لذلك، وحين فاتحته: مجموعة (الضباط الأحرار) ، كما كانوا يسمون أنفسهم وغيّر حسن الاسم إلى: تجمع(العراقيين الأحرار).. حين فاتحوه بنيتهم بالقيام بالمحاولة الإنقلابية العسكرية ـ لما كان معروف عنه سخطه من النظام وإعلانه عن رأيه ذلك بلا مخاوف ـ اشترط عليهم أن لا تكون المحاولة هي مجرد تبديل عشيرة بعشيرة أخرى أو نظام عسكري بنظام عسكري آخر، وأن المحاولة في حال نجاحها يجب أن تكون مجرد سلطة انتقالية منقذة تتيح للشعب أن يقوم بانتخابات ديمقراطية.. أما النفس العشائري فلا بأس باستخدامه في المفاتحات وتوخي الثقة من أجل ضم العناصر التي ستقوم بالعملية، ثم لا بأس أيضاً بمحاربة السلطة بسلاحها (العشائرية) التي راحت تكرسها مؤخراً. وقد كتب له محمود جنداري بهذا الخصوص في رسالة أوصلت باليد قائلاً: إن العراق ليس عشيرة وأنت رجل مثقف لا يجب عليك التفكير بهذا الشكل أو التورط به. فذهب إليه حسن إلى بيته في كركوك ليقول له.. أنه لهذا السبب قد ضم شخصياً أصدقاء له من عشائر أخرى ليلغي فكرة العشيرة الواحدة عند القادة العسكريين للمحاولة، ومن بين من ضمهم حسن مطلك: الطبيب أحمد الغربي (عبيدي) محمود جنداري(جميلي) آواة حسن (كردي) ناصر محمود (عبادي) وآخر (شمري) لا أذكر اسمه.. وغيرهم.
وحين سألت حسن بعد اجتماع واحد لي معهم في بيت أحد الضباط (صالح جاسم): لماذا لا يتم تأجيل المحاولة مادامت الحكومة ـ وبعد انتهاء الحرب مع إيران ـ قد أخذت تتحدث عن مناقشة مسألة الدستور والتعددية الحزبية وحرية الصحافة والديمقراطية؟ قال: كله كذب في كذب.. وحتى لو كان صحيحاً فإن جرائم صدام التي ارتكبها لا تغتفر أبداً ومنها جريمة حربه مع إيران. وفي مرة أخرى سألته عن سبب اشتراكه هو في المحاولة، ولماذا لا يدع العسكريين يقومون بالمهمة فهي من صلب عملهم بينما اختصاصه هو الكلمة. قال: أذكر عبارة لـجان بول سارتر يقول فيها؛ بأن على الكاتب أن يحمل السلاح إذا صودرت حرية قلمه.
لقد كان حسن مطلك متطابقاً مع ذاته، سريع البديهة، واضح القصد والآراء والمواقف، صادقاً في سلوكه وموحداً بين أقواله وأفعاله بشكل كيخوتي يراه البعض جنوناً فيما يراه البعض الآخر شجاعة وجرأة حقيقيين كانا يثيران الخشية عليه من قبل محبيه من أهل وأصدقاء.. وأذكر من مواقفه حين كان مديراً لمدرسة قرية (الزرارية) إحدى قرى (الزاب الأسفل)، حين جاءه مفتش مبعوث من مديرية التربية، وبعد أن تفحص المفتش وضع المدرسة اجتمع بحسن وبقية المدرسين والمعلمين في نهاية الزيارة وقال لحسن: المدرسة بشكل عام رديئة. فأجابه حسن على الفور وسط دهشة الحاضرين: المدرسة رديئة لأن مديرية التربية رديئة، ومديرية التربية رديئة لأن وزارة التربية رديئة، ووزارة التربية رديئة لأن الحكومة رديئة، والحكومة رديئة لأن رئيس الحكومة رديء. فساد الصمت والذهول على الجلسة للحظات، ثم أخذ المفتش (وكان من أصل كردي) حسن مطلك جانباً وقال له: أنت على حق ولكن لا تقل هذا الكلام أمام أحد غيري.. أما عني فسوف أكتب أي شئ روتيني في سجل زيارتي. وغادر بعد أن ودع حسن معانقاً له بقوة وسط دهشة الآخرين. والموقف الآخر قد حدث أيام كان حسن مطلك جندياً مكلفاً في القاطع الجنوبي/ في جزيرة (أم الخنازير) أو (أم الرصاص). حيث قدم إلى وحدته وفد من وزارة الثقافة تحت ما يسمى، آنذاك، بالمعايشة أو تفقد جبهات القتال وكان يرأس هذا الوفد عبدالأمير معلة وكيل وزارة الثقافة وكان يعرف حسن مطلك وخاصة بعد فوزه بجائزة قصة الحرب عن قصته (عرانيس) سنة 1983 واجتمع به على انفراد في غرفة الآمر وعرض عليه أن يرسم صورة جدارية للرئيس أو أن يكتب مدحاً مباشراً له، ومقابل ذلك سيتعهد له بتزكيته ونقله إلى وظيفة في الوزارة أو في إحدى الصحف فأجابه حسن بالرفض قائلاً: آسف لا أستطيع أن أفعل ما تفعله حضرتك وأفضل أن أموت هنا مع زملائي الجنود المساكين الذين أعرفهم على أن أعيش هناك مع أناس لا أعرفهم ولا أتفق معهم.
وأيام عمل حسن مطلك كمدرس لمادة (التربية وعلم النفس) في معهد كركوك للمعلمين ربطته علاقات وثيقة بالطلبة وبعوائلهم الكردية والتركمانية، وكان الجيران منهم يجلبون له الطعام في القسم الداخلي، حيث يقيم مع طلبة المحافظات، ويغسلون ملابسه أو يدعونه للسهر في بيوتهم. وقد حضرت إحدى تلك السهرات فوجدت حسن يتحدث ويتصرف بحرية تفوق حريته حتى داخل بيتنا، وعرض عليه البعض أن يهربوه إلى خارج العراق فكان يرفض قائلاً: أن الوطن بحاجة إليه.. وأن لديه مهام هنا يريد القيام بها... ولم نكن نتوقع أن تكون إحدى مهماته هذه هي القيام بمحاولة لقلب نظام الحكم.. تلك المهمة التي قطعت أمامه الطريق لإنجاز مهماته الأخرى ومنها ما أشار إليه في يومياته من أنه يريد أن ينال جائزة نوبل، لا للجائزة بعينها، وإنما لرفعة اسم أدب وطنه.. لأنه يغار من آداب الشعوب الأخرى ولا يحتمل أن يتم تجاهل أدب شعبه الذي هو أقدم أدب في العالم.
كان حسن مطلك المثقف كثير القراءة وله خصوصيته في استخراج الرؤية من النصوص التي يقرأها وطبيعة تأويله لها ونقدها. وأكثر قراءاته كانت في الفلسفة وهو لا يتردد في مناقشة أعقد الطروحات الفلسفية مع أي شخص بمن في ذلك البسطاء من الفلاحين ممن كان بعضهم يلقبونه بين الجد والسخرية بـ(الفيلسوف الدفين) وهو ميال إلى الفلسفة المثالية أو الأصح الإنسانية أكثر من ميله إلى المادية أو الميتافيزيقية. يميل إلى إفلاطون والسفسطائين وهيغل وسارتر وهو شديد الإعجاب بالمتشائم شوبنهاور وبنيتشه الذي يحفظ الكثير من أقواله. ومن قراءاته المفضلة الأخرى كانت في الفيزياء والميثولوجيا العراقية القديمة واليونانية فقد كان يبحث في كل ما يتعلق بالحضارات العراقية القديمة وبشكل خاص الحضارة الآشورية لأن قلعة عاصمتهم تقيم أمامنا في مواجهة القرية وكنا نزورها باستمرار. لم أجد لدى حسن اهتماماً بقراءة التاريخ الحديث ولا التاريخ الإسلامي ولا السياسة ولا الاقتصاد بينما كان يقرأ بعض كتب السحر استزادة في معرفة هواجس النفس البشرية وسعة في الخيال. وكثيراً ما يقرأ في معاجم وقواميس اللغة وكأنه يقرأ عملاً روائياً، هذا إلى جانب قراءته الدائمة لكتب علم النفس الذي هو اختصاصه الأكاديمي، علماً بأنه لم تكن لديه أية طموحات أكاديمية أبداً.
مما يلفت النظر لمن يتعرف على حسن، أول مرة، هو أسلوبه أو لغته في الحديث حيث طغيان الفصحى وانتقائية الشعبي.. إنه شديد التحسس للمفردات وما كان لينهي كتاباً أدبياً إن لم يكن ذي لغة أنيقة أو خاصة. وكان يصرخ فرحاً كمن يجد شيئاً لامعاً في العتمة حين يسمع كلمة تعجبه أو تعبيراً أو وصفاً لذيذاً فيصيح: جميل.. جميييل. وهكذا جاءت لغته خاصة بفعل تعبئتها بالفكرة الفلسفية والصورة الشعرية وروح الكلمة الشعبية. وكان من عادة حسن أن يحفظ عن ظهر قلب النصوص التي تعجبه لغةً أو بناءً أو رؤية.. ومن ذلك أذكر أنه يحفظ قصة (البومة في الغرفة البعيدة) لـ غسان كنفاني والفصل الأول من رواية (الصخب والعنف) لـوليم فولكنر وهو الفصل المتعلق بشخصية المعتوه بنجي، وتأثيره واضح تماماً على حسن في دابادا في شخصية شاهين. كما يحفظ قصيدة لوركا (الزوجة الخائنة).. فهل أطلق عليه أصدقائه ألقاب (لوركا العراقي) و(كنفاني العراق) لإعجابه بهما وحفظ نصوصهما وتشابه نهاياتهم العنيفة؟. كما كان يحفظ أيضاً معظم ديوان البياتي (مملكة السنبلة) وقـصائد طـويلة لصـديقه أردال و(أنشودة المطر) للسياب ومقاطع طويلة من كلكامش وأقوال نيتشة وسوراً من القرآن. وحين كنت أسأله؛ لماذا يحفظها وهي متوفرة في الكتب كان يقول: لأجد ما أقرأه حـين لا أجد كتاباً. وبالفعل كان يقرأها أثناء ذهابنا بالسيارة إلى بـغداد أو الموصل أو كركوك، في الطريق، ويحلل لي الجُمل والبناء. لأننا كنا نذهب بلا كتب لنعود بكتب. فأقرأ عليه في العودة من الكتب التي نشتريها أو تهدى إلينا ويعلق هو على كل جملة، ومن ذلك أنه أصر، ذات مرة، أن ألقي من النافذة بمجموعة قصصية أهداني إياها صديق، لمجرد أن فيها تعابير مثل: (ودارت الأيام)و(كنت قاب قوسين أو أدنى) أو(راحت الذكريات تمر في رأسي مثل شريط سينمائي) قائلاً: أما زال هناك من يستخدم هذه العبارات؟.. ألا يقرأون؟ ألا يتذوقون اللغة ويستشعرون عذوبة الكلمات؟.ويضيف: إن الكلمات لكائنات حية، وأقسم بأنني لأشعر بنبضها عند الكتابة... كما كان يستخدم ما يحفظه حين كان جندياً حيث يعيد كتابة أو تلاوة ما يحفظه أثناء الخفارات والواجبات المملة.. ومن المؤكد أنه قد استعادها في زنزانته أيضاً.
ومن عادة حسن أيضاً أن يعيد كثيراً قراءة الكتب التي تعجبه ومن ذلك أذكر أعمال هيرمان هيسة ونيقوس كازانتزاكي وبشكل خاص مذكراته في (الطريق إلى غريكو) ورواية (قلب الظلام) لـجوزيف كونراد و(الصخب والعنف) لـفولكنر و(صورة دوريان جراي) لأوسكار وايلد و(البحث عن الزمن المفقود) لبروست و(كلكامش) و(حي ابن يقظان) لابن طفيل التي نجد تـأثيرها أيضاً في (دابادا) والتي كان يقول عنها إنها من أعـظم الروايات ولكن كان على ابن طفيل أن يكتبها بلا كلمات لأن بطلها بلا لغة وبما أن ذلك مستحيل فهنا تكمن مقدرة ابن طفيل، وكان يعيد علي إعجابه بها مراراً وتكراراً فـقلت له ذات مرة باللهجة العامية: " شكو خبصتـنا بابن طفيل؟ ـ وبما أن اسم أمي طفلة وينادونها في القرية تصغيراً (طفيلة)، وكان حسن يمازحها بحنان: أما زلت طفلة لم تكبرين؟ أو: كم أحسدك على هذا الاسم!. ـ قلت له: إذا كان هو ابن طفيل فأنا ابن طفيلة. وقد ضحك ساعتها حتى انبطح على الأرض ونهض ليقبلني صائحاً: جميل.. جميييل.. قوية. وظللنا نتذكر ذلك كلما تحدث عن ابن طفيل بعدها ونضحك.
لقد أعاد حسن قراءة جويس و(السيدة دلاوي) لفرجينيا وولف. ولكنه لم يعد قراءة ماركيز مثلاً على الرغم من اندهاشه الأول به لأنه كان يقول: أن ماركيز لا يحتاج إلى إعادة قراءة وأنه سيبقى هكذا دائراً حول عمليه العظيمين (مائة عام من العزلة)و(خريف البطريرك) ولن يأتي بجديد. ولهذا لم يهتم بمتابعة جديده.
ومن طرائف أو مواقف حسن المتعلقة بطبيعة تحسسه للغة أنه قد غضب على خطيبته المعلمة وانفصل عنها لأنها أصرت أن تكتب بالتاء المفتوحة كلمة تنتهي بالتاء المربوطة. وأنه كان يصر في المحكمة التي حكمت عليه بالإعدام أن يصحح، لغوياً، أقواله التي كان يدونها كاتب المحكمة ويصحح في لغة نص قرار إعدامه، كما ذكر ذلك بعض الشهود الذين كانوا حاضرين. ومما أذكر أيضاً أنه قد اشترك في الندوة التي عقدت في بغداد حول أدب الحرب سنة 1988 أو 1989 فقرأ شهادته وعاد ليجلس في مقعده المجاور للروائي فؤاد التكرلي فقال له التكرلي: شهادتك ممتازة ولكن فيها أخطاء لغوية. فأجابه حسن على الفور: أليس ذلك بأفضل من أن أكتب باللهجة العامية؟. فسكت التكرلي مشيحاً بوجهه عنه.
أما عن الكتابة فلم تكن لحسن مطلك طقوساً محددة ولكنه غالباً ما يكتب في الليل ويدخن كثيراً أثناء الكتابة، ويستيقظ أحياناً في منتصف الليل ليكتب سطراً.. وكم من مرة أيقظني ليقول لي: اسمع لقد أتتني هذه الجملة. ما رأيك؟. كان يكتب أحياناً مقاطع تأتيه تدفقاً دون استنادها على فكرة مسبقة أو على هيكل تخطيطي حيث يقوم لاحقاً بتطويرها أو دمجها في نصوص أخرى أو التخطيط على أساسها لعمل متكامل. وكان كثير المراجعة لكتاباته وكثير الشطب والإعادة ومن ذلك أنه قد أعاد كتابة روايته (دابادا) خمس مرات على مدى خمس سنوات. وغيّر مدخل روايته (قوة الضحك في أورا) عشرين مرة.. ومات وهو يفكر بتغييره. وكم من مرة يسهر حتى الفجر ليكتب عشرة أسطر يمزقها عند الصباح. وأحياناً يستيقظ فجراً ليدون صوراً من حلم جاءه في المنام. ومن عادة حسن أن يزداد قراءة عندما يكون يعمل في مشروع كتابي، ولكنه يقرأ ويلغي ذهنياً ما يقرأه كي لا يقع تحت تأثيره أو يقرأ في كتاب بعيد عن جنس ما يكتبه وكان يقول: إنها مجرد عملية تسخين ذهني.. كما يفعل الرياضي قبل السباق أو العازف قبل العزف. وفي كتابته التنظيرية أو الفكرية كان قليلاً ما يعتمد على المصادر مباشرة ولا ينصص، إنما يعتمد على ذاكرته وذهنه ووعيه لأنه يرى بأن الكتابة التنظيرية أو الفكرية، هي الأخرى، عملية إبداعية. وكان يعرض كتاباته على الجميع وغالباً ما يأخذ برأي الأصدقاء ويراقب ردود الفعل عند القارئ. ورأيته لأكثر من مرة يسأل حتى أمي الأمية ـ لا تقرأ ولا تكتب ـ قائلاً: لو أن شخصاً كذا فعل كذا فما مصيره في رأيك؟.
إن انشغال حسن بنص ما يجعله يعيش تحت هيمنة مناخ هذا النص ولذلك فهو يلتقط كل ما يلاقيه من كلمة أو حدث أو صورة يجدها تنسجم مع ما يشغله. وكان يقفز قائلاً: وجدتها.. وجدتها.. وأحياناً بالعامية: لكفتها.. لكفتها (لقفتها). بل أنه يعيش شخصياته أحياناً ولذلك فإن سلوكه كان طفولياً ومفاجئاً في بعض اللحظات أيام كتابته لدابادا فقد كان يتقمص شخصية شاهين ويراقب ردود فعل الآخرين عليها. لقد كانت الكتابة لديه نزفاً حقيقياً وفيها من القسوة ما يجعله، أحياناً، يهرب منها إلى جهد عضلي ما. ولا يحتمل حسن جملة أو كلمة فائضة في نصه أو خالية من تأويل، فهو يرصف الكلمات كمن يرصف حجراً قرب حجر بعناية وصدق، أو كما يقول (حصاة ترص حصاة). ..الصدق الذي كان محور سلوكه وقوله وعلاقاته ومن ذلك علاقته بالكتابة.. انه شديد الحذق في معالجته لنصوصه.. أي ما يخص النسج المنسجم بين ما هو إبداعي ومصنوع، ما هو خيالي وواقعي، ما هو فكري وشعري، الشكل والمحتوى والمعرفة والمتعة.. لديه قدرة فائقة على توحيد المتناقضات وجمع المتعدد. وقد لاحظت في قصصه الأخيرة أنها طويلة فسألته عن ذلك فقال: أشعر بأن القصة القصيرة لم تعد قادرة على احتوائي يا أخي.. إني ممتليء .. وأشعر بأن كل شئ، مهما كان صغيراً، لا يمكنني إيـصاله إلا عبر رواية. هـذا كما حـاول أن يكتب المسرحية فكتب نصين قصيرين، شـبيهين بنصوص صوموئيل بكيت. أبطالهما الضوء والصفير.
لقد كان حسن أقلنا في العائلة حرصاً على المال وأكثرنا حرصاً على الوقت. وكان فرحه بمال جائزة القصة الذي أعطاه للعائلة وبنوا به سياجاً واسعاً، إنما فرح بإثباته لهم أنه يستطيع أن يجلب المال من القراءة والكتابة أيضاً لذلك فقد كفوا عن مضايقته بل أنهم راحوا يشجعونه على الكتابة وتحولت تسمية (الفيلسوف الدفين) من نبرة السخرية إلى نبرة الجد. ولكنه في حقيقته ما كان ليرغب بالكتابة المنسجمة مع النفس (التعبوي) للحرب لذلك كان يكتب عن الإنساني ومن ثم هرب إلى (دابادا) ورفض أن يجمع قـصصه عن الحرب في مجموعة، أيام كانت الوزارة تطبع كتب أدب الحرب بكثرة.
ومن صور عدم اهتمامه بالمال أو المادي أنه كان يصرف راتبه الشهري في اليومين الأولين ولا يتردد في سد حاجة إذا كان في جيبه شيئاً وكان يمنحنا قمصانه وبنطلوناته وأحذيته.. ومن نادر كرمه؛ أذكر بأنه قد ناداني إلى غرفته، حيث كان في فراشه إثر نزلة برد، فأعطاني مغلفاً وقال: خذ هذا المظروف إلى فلانة. ـ وكانت هذه امرأة مدقعة في الفقر، أرملة ضعيفة البصر تعيل ثلاثة أطفال وليس لديها إلا بقرة واحدة وحمار، ليس لديها أرض أو مزرعة أو معيل. تسكن في أطراف قريتنا في بيت طيني من حجرتين إحداها لها ولأطفالها والأخرى للبقرة والحمار وكانت تعيش الكفاف الحقيقي، ويساعدها الناس عبر الزكاة وإيفاء النذور ـ قال لي: اعطها هذا وقل لها هذا من (أبو مروة) ولا تبق عندها إذا دعتك للطعام أو الشراب. فحملت المغلف ومضيت، وقبل أن أصل فتحته فوجدت فيه ثلاثين ديناراً، أي ما يعادل ثلث راتبه آنذاك. وحين وصلت أعطيته إياها وهممت بالخروج. لكنها أقسمت أن أجلس وأشرب الشاي بعد أن علمت بأنني شقيق (أبو مروة) وراحت تحدثني عنه بينما هي تبحث بين أوانيها المتواضعة تساعدها طفلتها.. وأذكر مما قالته لي؛ أنه كان يزورها في نهاية كل شهر وكان في البداية يعطيها المغلف ويغادر دون كلمة.. حتى أنها كانت تتصور بأنه ملاكاً يبعثه الله لها بهذا الرزق. لكن ابنها الكبير (12سنة) قد قال لها بأنه حسن ابن الحاج مطلك الروضان. فألحت عليه بأن يجلس. وأخذ يجلس معها ويجلب معه بين الحين والآخر علب الألوان والأوراق والمجلات لأطفالها ويحدثهم عن بهاء المدن البعيدة والتي لا يمكن الوصول إليها إلا بالقراءة والنجاح في الدراسة.. وكم رأيتها، بعد رحيله، جالسة إلى جوار قبره وحدها في أيام الجمعات لأن الناس هناك تزور المقابر يوم الخميس، فكنت أذهب وحيداً لأجدها هناك تحف قبره برصف الحصى الأبيض وقلع الأعشاب عنه.. تقرأ الفاتحة ثم تقبل صخرة شاهدة القبر وتغادر. لم أتحدث معه في هذا الأمر ولم أخبر أحداً به لأنه كان سيثير زوبعة عائلية وهو الذي يعمل بعد الوظيفة صباغاً وبناءً وخطاطاً لقطع الدكاكين وأبواب السيارات، وكم ترك من لوحاته في بيوت القرية وخطوطه على المسجد والمدرسة وزخارفه على واجهات وسطوح المنازل وعمل برصف الأرضيات كي يكمل بناء بيته الذي أعد خريطته بنفسه قائلاً: هذه الغرفة ستكون مكتبتي. وجعلها منعزلة. وما أن أكمل البيت ولم يبق إلا وضع الإنارة فيه حتى حدث ما حدث فبقي بيته مهجوراً وبلا ضوء حتى اليوم.
حين بدأت ابنته مروة تردد ما تسمع وتحاول نطق كلماتها الأولى. كانت أمها تعلمها أولاً كلمتي بابا وماما بينما كنا حسن وأنا نتسلى بتعليمها أسماء غريبة وصعبة عليها مثل: مارسيل بروست، جيمس جويس، كلكامش، ديستوفسكي، ميسو بوتاميا.. فكانت تردد صدى الكلمات بتلعثم حلو ونحن نضحك. تلفظ كلكامش (آمش) ودستستوفسكي (فسكي) وإيتماتوف (أوف) ومسوبوتاميا(باميا) فعلق حسن حينها:إنـها بنت عراقية أصـيلة فالعراقيين هـم أكثر شـعوب الأرض حباً للبامياء. فـكانـت أمي تـقول لنا:عـلموها اسمها واسم أبيها وأسماء أعمامها وأسـماء أجـدادها بـدل هذه (الخرابيط). وكان من عادة أبي أن يحفظنا أسماء جدودنا حتى الجد الحادي والخمسين. فأجابها حسن: أنا مجموع هؤلاء وهؤلاء هم جدودي فإن لم تعرفهم لن تعرفني. وحين كانت أمي تقص على مروة حكاياتها الشعبية عن السعلوة والحنفيش والطنطل وغيرها. تأتي مروة إلى والدها لتسأله عن هؤلاء فيشير لها حسن إلى التلفزيون حيث الرئيس في أحاديثه وزياراته الطويلة المملة: هذا هو كل هؤلاء.. انه تجسيد لكل كائنات الشر التي تصورتها المخيلة العراقية.
كان يخاطبها بهذه اللغة تماماً مثلما كان يخاطب أمي والجميع. فتنادي أمي على مروة: تعالي يا ابنتي أبوك (مخبل)..وننفجر نحن بالضحك بينما تروح أمي تفسر لحفيدتها: أن السعلوة كائن قبيح بأرجل خيطية وأن الطنطل كائن طويل وما إلى ذلك. وتنهرنا أمي قائلة: ان الطفلة ستردد ما تعلمانها أمام الناس وسوف تعدمكم الحكومة. فيجيب حسن: أكثر مما نحن معدومين؟!.
كنا نذهب في نهايات الأسابيع إلى شاطيء دجلة على دراجته النارية وهناك نتحدث طويلاً عن الأدب والأصدقاء ونتدارس معاً جوانب التنظير لـ(الواقعية المطلقة) حيث كتب هو فيها خمسين صفحة وأنا عشر صفحات. أو نقترح فكرة قصة ليكتبها كل منا بأسلوبه ونناقش بعدها نصينا وكيفية تناولنا للفكرة وأسباب التناول بهذا الشكل أو ذاك. وفي البداية كان حسن يخترع مكافأة لي على كل نص يعجبه من نصوصي. وظلت أول قصة كتبتها (العصر الطبشوري) هي أحب قصصي إليه… كان حسن سعيداً بدراجته النارية، مفلسفاً حبه لها بأنها بلا نوافذ وتجعله ملتحماً بالطبيعة وتتطلب منه اليقظة لا الاسترخاء كالسيارة، إضافة إلى أنها آلة فردية ولذلك فهي كالكتابة عملية إبداعية فردية.. وتأتيه الكثير من الأفكار والصور وهو على ظهر الدراجة.
أما عن حسن مطلك والمرأة فهذا أمر يطول الحديث عنه ودراسته، وربما يحتاج إلى كتاب شبيه بالكتاب الذي صدر عن لوركا بعنوان (نساء الشاعر). إلا أن ما تجدر الإشارة إليه هو أن حسن كان يعشق النساء القويات والمتمردات في الحياة والأدب، ومن بين أبرز علاقاته كانت بنماذج من هذا النوع: (ليلى) في الثانوية و(ميسلون) في الجامعة، وتلك التي أسماها (هدى) في الفترة الأخيرة من حياته. وكتب عنها مخطوطه (كتاب الحب: ظل القمر على الأرض). ونلاحظ بوضوح أن كل الشخصيات النسائية في قصصه القصيرة ورواياته هي شخصيات قوية.
لقد اعتقلوا حسن صبيحة يوم 7/1/1990 في قرية (صبيح) عندما كان متوجهاً إلى مدرستها حيث كان مديراً. لم يقاوم لأنه لم يكن يحمل معه إلا الكتب والقلم وحين أصعدوه في سيارة (الاندكروز) كان يلوح للقريبين من أهل القرية وطلابه مودعاً. دام اعتقاله ستة أشهر في الشعبة الخامسة من مديرية الأمن العامة، لم يسمح خلالها لنا بالسؤال عنه أو زيارته.. لقد عشنا أياماً مروعة ومريرة، وبعد التقصي من قبل عوائل المعتقلين الآخرين عرفنا اليوم والساعة التي ستتم فيها محاكمتهم في محكمة (الثورة) المعروفة بلا عدالتها وبخلوها من المحامين والقانون ووحشية قراراتها اللامسؤولة، فذهبنا عدد من العوائل لنرابط هناك خلف الأشجار خفية على طريق يؤدي إلى المحكمة علنا نحظى برؤيتهم من نافذة سيارة أو في حوض شاحنة.. ولكننا لم نر إلا رتلاً من السيارات العسكرية والمدنية ومدرعات محملة بالعساكر وطائرة مروحية تحوم في السماء. طافت في ذهني لحظتها أمنيات أن أكون بطلاً من أبطال الأفلام الأمريكية الذي ينقذ من يشاء بقدرته العجيبة على التحارب. نظر إلى أخي الكبير واحتضنني باكياً بعد أن مر الرتل.. شعرت بالغصة تغرقني وبسواد العالم من حولي وبقهر مميت يهتكني.. ثم وقعت مغشياً عليّ. وقد وصف محمود جنداري تلك اللحظات من داخلها في قصته (وليمة الدم) بالقول:( من أين يأتي الكلام يا حيّ وأنت دخلت بي عصر الرصاصة وغادرت عصر الكلمة/ لا تقل أن الكلمة الحق اختفت/ موجودة/ لكن أين الكلام؟ ومن أين يأتي؟/ تراصف معي وتعال لنتطلع من كوة واحدة/ لترى كيف ينبعث الموت من هذه المائة شئ/ كيف تتبدد الرهبة ويفيض الإحساس بالخوف اللذين يتوفران فيك بكميات كبيرة/ الخوف والرهبة اللذين شعرنا بهما بشكل حقيقي ونحن في الطريق إلى المحكمة في تلك السيارات المغلقة/ تحف بها سيارات أخرى، مصفحة ودبابات وطائرات مروحية/ سبعة وعشرون رجلاً لا يعرف أحدنا الآخر/ لكننا نعرف أننا نساق إلى المحكمة).ص136من مجموعته(مصاطب الآلهة)دار أزمنة/الأردن1996.
لقد كانت النماذج المفضلة من الشهداء في تصور حسن مطلك، هم: سقراط، الحسين(ع)، المسيح(ع) وجيفارا... ولكل من أنواع شهادة هؤلاء رؤية ومفهوماً عنده.
.. قيل: أن حسن مطلك كان يتحدث معهم (رفاقه في المعتقل) عبر أنابيب الماء الفارغة التي كانت تربط بين زنزاناتهم. كان يقويهم ويقص عليهم الطرائف(النكات) كي يبتسموا بعد وجبات التعذيب.
.. وقيل: أن حسن قد اعترف في التحقيق صراحة برغبته في تغيير النظام وبيّن الأسباب وكان طليق اللسان وكأنه مسروراً بالحرية في أن يقول ما يريد أمام قاتليه لأنه كان متأكداً من إعدامه.
.. وقيل: أن صاحبه أواة كان يقول: أقوالي لكم هي ما يقوله حسن مطلك. دون أن يعرف ما قاله حسن في التحقيق.
.. وقيل: أن حسن قد أصر على التصحيح اللغوي لنص إفادته في المحكمة وقرار الحكم.
لقد أعدموه شنقاً لأنه مدني بينما أعدموا العسكريين من رفاقه بالرصاص ولم يسلموا جثثهم إلى أهلهم إلا بعد أن دفعوا ثمن الرصاصات التي قتلوهم بها، كما لم يسلموا بعض الجثث لأنهم شوهوها.
قالت زوجة حسن التي رأته في التابوت: لقد حاولت إيقاظه لأنه كان.. وكأنه نائم ووجه مفعماً بالرضى. منعت علينا السلطات إقامة مأتم له وحذرت الناس من تعزيتنا فيه. فكان أهل القرية يتقاطرون علينا سراً، في الليل، كي يعزوننا. ومن ذلك أيضاً أن ما يقارب العشرة أطفال ممن ولدوا بعد إعدامه قد حملوا اسم (حسن) كنوع من المحبة والاعتزاز والذكرى..
ترى هل قلتُ كل ما أعرفه، وما أريد، وما أستطيع ، وما يجب قوله عن حسن مطلك؟؟. بالتأكيد: كلا. فسوف أبقى نازفاً عليه وعنه دمعاً وحزناً وحبراً ما حيـيت.
ولأن حسن مطلك هو أروع روح عرفتها شخصياً من بين جميع الأرواح التي عرفتها وقطفها عزرائيل لذلك غالباً ما يحضرني وصف صديقه أردال له في قصيدة عنه. حيث يشعر بما أشعر فوصفه بـ(زهرة عزرائيل).. لقد بكينا حينها بمرارة (بكينا أكثر من كل أطفال العالم) كما يقول حسن مطلك في صـرخـته (دابادا).
.. بكينا في البيت والقرية وكركوك والموصل وبغداد والبصرة.
.. بكينا في الشمال والجنوب والوسط .
.. بكينا في كل العراق على حسن مطلك وعلى الشهداء وعلى العراق..
.. ومازلنا نـبكيهم في منافـينا.
مثل كُردي
في لقاء مع الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو قال : لا أستطيع الكتابة عن الأحداث الكبيرة في حياتي الشخصية ، كموت أبي أو أمي مثلاً. وهذا ما أدركته أنا أيضاً؛ حيث أنني لم أستطع الكتابة عن شقيقي حسن مطلك بشكل مباشر أبداً على الرغم من مرور أكثر من عقد ونصف على رحيله..
وها أنا أحاول ذلك هنا، ولهذا تزدحم ذاكرتي بالكثير ويغص قلبي بالوجع.. لم أكتب عن حسن مباشرة على الرغم من أنه أحب وأعظم من عرفت، وأن موته كان أكبر كارثة في حياتي.. لكنه ظل حاضراً بأشكال متعددة في كل نصوصي قصة ومسرحاً ورواية.. بل وأن آثار تأثيراته على نصوصي واضحة من حيث اللغة والمناخ والتقنية والرؤية وحتى الشخصيات، وبمجرد قراءة عادية لنصوصنا ستبدو وجوه التشابه جلية وأحياناً إلى حد التطابق.. ذلك لأننا كنا ملتحمين ومنفتحين على بعضنا بشكل حميمي كامل إلى الحد الذي تختلط فيه عليّ الذكريات الآن ويصعب عليّ التمييز بين ما عشته أنا أو عاشه هو، أو بين ذكرياتي وما أذكره عنه لأننا قد عشنا أحداثاً وتفاصيلاً كثيرة مشتركة.
قلة هم الأشخاص الذين يجود بهم الرب أو الطبيعة أو الصدفة أو التاريخ ممن يكون وجودهم متميزاً ونموذجهم نادراً وسط الملايين من البشر، بحيث يكون من العسير الانغلاق أمام التأثر بهم أو نسيانهم.. ويالها من صدفة قدرية رائعة وموجعة في الوقت نفسه أن أكون شقيقاً لإنسان من هذا النوع.
فحال تفتح مداركي على الحياة وجدت حسن مطلك أمامي يعينني على الإبصار في ضوئها وفي ظلمتها، وبذلك يكون هو الذي فتح عيني في حياته وجدد فتحهما بشكل أوسع وأعمق في مماته.. لقد كان بالنسبة لي الأخ والصديق والمعلم والأب الروحي والقدوة، فمن طبائع حسن أنه يصادق أخوته ويؤاخي أصدقائه.
لقد كنت أتبع خطواته وأحفظ وصاياه وأسلك سلوكه.. كان بوصلتي ونموذجي؛ بدأ بالرسم فبدأت بالرسم، ومر كاتباً وممثلاً ومخرجاً في المسرح المدرسي فمررت على دربه، وتحول إلى الكتابة فتحولت إليها.. كنت أسير على خطاه في حياته وأحلم بالسير على خطاه في موته، مع أنني أدرك بأن ذلك لن يرضيه، فهل سأستطيع أن أختار موتي كما فعل هو؟ لأنه من المؤسف أن نموت ميتات عادية مادام لابد أن نموت. لقد كان يتوقع لي عمراً مديداً كعمر جدي (والد أمي) بينما يتوقع لنفسه موتاً مبكراً فيردد بين المزح والجد: نحن العباقرة هكذا، نموت مبكرين لأننا نعيش حياتنا بكثافة مضاعفة ونشعل طاقاتنا إلى أقصاها. وعلى هذا الأساس كان يستخف بأية نصيحة توجه إليه لترك التدخين على اعتبار أنه يُنقص العمر، ويسخر من الأحاديث عن فوائد الرياضة ووصفات الأطعمة التي تطيل العمر. وقد سجل نبوءته هذه في رائعته (دابادا):" قال أنه يعي وقائع موته كمن ينفذ خطة طويلة بذل في إعدادها زمناً يمتد من آشور بانيبال حتى القيامة"ص52. بل وأكد حتى على تحديد سنوات عمره حيث يقول:" سأموت في الثلاثين أو أتعرض لأزمة"ص107. وهذا ما حدث فعلاً، فقد تعرض لأزمة التعذيب الشديد ثم مات وهو على أعتاب الثلاثين من عمره.
وعلى الرغم من أن حسن قد كان يخاطبني شفاهة وفي رسائله بـ( يا شبيهي أيها النمر ) إلا أنه كان يريدني مختلفاً عنه.. بل ونداً له، مذكراً إياي بفيزياء المغناطيس حيث ما يتشابه منها يتنافر وما يتناقض منها يتجاذب، ولهذا فقد بدأ بفصلي عنه كي أكون خصوصيتي الشخصية المستقلة، مبتدئاً باختيار أسمي الكتابي (الرملي) حيث كان من بين حيثيات إقناعه لي بهذا الاسم:استناداً ؛ إلى سلاسة أسلوبي وطبيعة انسيابه الرملي، كما كان يقول، ولكي لا أتعكز على اسمه ولا على الاسم العشائري باعتبار أن عشيرة (الجبور) من أكبر عشائر العراق. واستناداً إلى أسماء جدينا العاشر والثاني عشر والذي سمي بهما (فخذنا) غير المعروف على نطاق العراق من بين أفخاذ عشيرة (الجبور) لأنه فخذ من فخذ آخر هو (البونجاد).. ووصف الشعراء الشعبيون في منطقتنا هذا الفخذ لطيبة تعامله ومعشره وليونة طبعه بـ(أسلاك الحرير) وما زال هذا الوصف منتشراً هناك في حوض قرانا بأن: (الرملي سلوك الحرير) أما عن اسمه هو فقد نشر قصصه الأولى في جريدة (الحدباء) الموصلية باسم: حسن مطلك الروضان، ومن هذه القصص قصتيه (الاكتظاظ) و(الحاجز) التي كتب عنها الدكتور محمد جلوب فرحان مقالة أطول منها في العدد اللاحق في قراءة نقدية تطري بها. لكن حسن قد سارع إلى حذف (الروضان) حال صدور رواية تتحدث عن (نضال حزب البعث) لكاتب عراقي يحمل اللقب نفسه.
لم أكن الوحيد ممن أذهلتهم وشدتهم وأثرت بهم شخصية حسن بحكم حب المعرفة، وإنما كل الذين عرفوه من أهل وأقارب وأصدقاء وجنود وفلاحين.. حتى أن أمي كانت تصفه بأنه (وليّ من الأولياء) دون أن تضيف على هذه التسمية كلمة (الصالحين) لأن هذه الكلمة تعود في مفهوم أمي التقليدي على رجال الدين وحسب.. وما كان موت أمي إلا حزناً عليه حيث كانت تسهر أمام نافذة البيت تدخن التبغ الرديء على الرغم من إصابتها بمرض الربو، منتظرة أن يطل قادماً من معتقله.. وظلت تمارس انتظارها له حتى بعد إعدامه فراحت تذبل وتشيخ يوماً بعد آخر حتى ماتت. كانت تقول بأنه الوحيد الذي لم يتعبها في ولادته ولا في تربيته، لأنه كان قليل البكاء أو التشكي، وكان دائم التأمل والشرود أو الانعزال مع ألعاب يبتكرها هو بنفسه، ولم يأتها طفل يشكو منه ولم يأتِ هو شاكياً من أحد.. كان هادئاً مسالماً ممتلئاً بذاته، يحبه معلموه لذكائه وانعدام مشاكساته في المدرسة وتفوقه في الدراسة وفي النشاطات المدرسية التي تفوقت لاحقاً على اهتمامه بالدراسة حين توجه إلى المسرح والرسم والنحت.. فبدأ الصراع القاسي مع والده (رجل الدين الفطري) الذي بنى جامع القرية بيديه على أرضه وأم المصلين فيه، حافظاً للقرآن بعد أن علم نفسه القراءة والكتابة مقابل حفنات من التمر للشيخ الملا. وتولى خطب الجمعة. كان الأب يرفض (شخابيط) ابنه ويعتبرها حرام وتماثيله أصنام، فيكسر لوحاته ويحطم تماثيله ويمزق دفاتر رسمه، واصفاً إياه بـ(الخائب) ومردداً المثل القائل( أن النار تخلف عار) قاصداً نفسه بـ(النار) بمعنى التألق الاجتماعي العشائري والديني، حيث كان قوي الشخصية، عنيداً، عصبي المزاج، حاسماً في أحكامه في فض المنازعات على الأراضي والماء والزواج والميراث والقتل وغيرها. ولهذا فلن يرضى أن يكون ابنه (فناناً) ينكس (عقاله) وهامته الشامخة أمام الناس، فماذا ستقول الناس عنه: هذا (الركاص) هو ابن ملا مطلك؟. و(الركاص) أو (الراكوص) يعني (الراقص) لأن تسمية (فنان) في مفهوم أبي، أي كان نوع هذا الفنان، هو(ركاص). هذا المفهوم هو الذي حرمنا، نحن الاثنين، من حلمنا بمواصلة دراستنا في (أكاديمية الفنون الجميلة) لأن عائلتنا قد هددتنا بقطع علاقتها بنا وبالتبرؤ منا في حال تنفيذنا لذلك. وكان حسن، ازاء هـذا، يـحتمل بتـفهم غضب وعنف والـده دون أن يتـخلى عـن احـترامه ومحبته له، ودون أن يـتخلى، في الوقت نفسه، عن ممارسة عـشقه للفن، سـراً، حتى تحول هذا الأمر إلى الـقراءة حين راح يُـغلـف الكتب بصفحات الـجرائـد وأوراق أكياس الإسمنت، فيظن الأب أنه يقرأ في كـتبه الدراسـية.. وهـكذا قاده الإدمان عـلى القراءة إلى الكتابة، وإننا لنجد وصفاً لجانب من هذه الـعلاقة في رواية (دابادا)؛ حيث الأب مسعود رجل الدين التقليدي والابن عواد المولع بفن الرسم.. هذا كما اخترع حسن لنفسه حروفاً خاصة ليكتب بحرية ما يريده دون أن يحد أحد من حريته، وأخفى قائمة الحروف في مكان خاص عثرت عليها أنا لاحقاً ورحت أفك نصوصه التي كانت تتحدث عن حبه لفتاة اسمها (ليلى) عرفها أثناء دراسته الثانوية في قضاء الشرقاط وعن أحلامه ونقده للمجتمع المحيط به مسمياً الأشخاص بأسمائهم.
لست هنا بصدد خط سيرة لحسن مطلك لأن ذلك ما أتمنى القيام به مستقبلاً مدعماً بالتفاصيل والوثائق، ومنسوجة بمفاصل من كتاباته هو.. ولكن امتلائي الدائم بحضوره في ذاكرتي والقلب هو الذي يقودني للإسهاب أحياناً.. ذلك أن حسن مطلك قد كان قوياً في حضوره ـ مثلما كان قوياً في غيابه ـ جذاباً ومؤثراً بسلوكه وطروحاته وأسلوبه في الحديث. صادقاً بالكلمة والفعل حد الموت. متمرداً على التخلف والقيود العشائرية على الرغم من أن الحكومة قد كتبت في (شهادة وفاته) بأنه (أعدم شنقاً) والأسباب (تكتل عشائري) فقد كان غرضها تشويه سمعة محاولة التغيير وتبرير قتلها له ولرفاقه، مع أنها لا تحتاج إلى تبرير أفعالها بعد أن قامت أصلاً على سفك الدماء والبطش بالشعب العراقي وجيرانه ومادامت تدرك أن كل تبريراتها لا تنطلي على أحد، لا داخل العراق ولا خارجه.. ومع ذلك نقول بأن قولها في (شهادة الإعدام) أن (السبب: تكتل عشائري) لا أساس له من الصحة، فحسن مطلك ذاته رافضاً لذلك، وحين فاتحته: مجموعة (الضباط الأحرار) ، كما كانوا يسمون أنفسهم وغيّر حسن الاسم إلى: تجمع(العراقيين الأحرار).. حين فاتحوه بنيتهم بالقيام بالمحاولة الإنقلابية العسكرية ـ لما كان معروف عنه سخطه من النظام وإعلانه عن رأيه ذلك بلا مخاوف ـ اشترط عليهم أن لا تكون المحاولة هي مجرد تبديل عشيرة بعشيرة أخرى أو نظام عسكري بنظام عسكري آخر، وأن المحاولة في حال نجاحها يجب أن تكون مجرد سلطة انتقالية منقذة تتيح للشعب أن يقوم بانتخابات ديمقراطية.. أما النفس العشائري فلا بأس باستخدامه في المفاتحات وتوخي الثقة من أجل ضم العناصر التي ستقوم بالعملية، ثم لا بأس أيضاً بمحاربة السلطة بسلاحها (العشائرية) التي راحت تكرسها مؤخراً. وقد كتب له محمود جنداري بهذا الخصوص في رسالة أوصلت باليد قائلاً: إن العراق ليس عشيرة وأنت رجل مثقف لا يجب عليك التفكير بهذا الشكل أو التورط به. فذهب إليه حسن إلى بيته في كركوك ليقول له.. أنه لهذا السبب قد ضم شخصياً أصدقاء له من عشائر أخرى ليلغي فكرة العشيرة الواحدة عند القادة العسكريين للمحاولة، ومن بين من ضمهم حسن مطلك: الطبيب أحمد الغربي (عبيدي) محمود جنداري(جميلي) آواة حسن (كردي) ناصر محمود (عبادي) وآخر (شمري) لا أذكر اسمه.. وغيرهم.
وحين سألت حسن بعد اجتماع واحد لي معهم في بيت أحد الضباط (صالح جاسم): لماذا لا يتم تأجيل المحاولة مادامت الحكومة ـ وبعد انتهاء الحرب مع إيران ـ قد أخذت تتحدث عن مناقشة مسألة الدستور والتعددية الحزبية وحرية الصحافة والديمقراطية؟ قال: كله كذب في كذب.. وحتى لو كان صحيحاً فإن جرائم صدام التي ارتكبها لا تغتفر أبداً ومنها جريمة حربه مع إيران. وفي مرة أخرى سألته عن سبب اشتراكه هو في المحاولة، ولماذا لا يدع العسكريين يقومون بالمهمة فهي من صلب عملهم بينما اختصاصه هو الكلمة. قال: أذكر عبارة لـجان بول سارتر يقول فيها؛ بأن على الكاتب أن يحمل السلاح إذا صودرت حرية قلمه.
لقد كان حسن مطلك متطابقاً مع ذاته، سريع البديهة، واضح القصد والآراء والمواقف، صادقاً في سلوكه وموحداً بين أقواله وأفعاله بشكل كيخوتي يراه البعض جنوناً فيما يراه البعض الآخر شجاعة وجرأة حقيقيين كانا يثيران الخشية عليه من قبل محبيه من أهل وأصدقاء.. وأذكر من مواقفه حين كان مديراً لمدرسة قرية (الزرارية) إحدى قرى (الزاب الأسفل)، حين جاءه مفتش مبعوث من مديرية التربية، وبعد أن تفحص المفتش وضع المدرسة اجتمع بحسن وبقية المدرسين والمعلمين في نهاية الزيارة وقال لحسن: المدرسة بشكل عام رديئة. فأجابه حسن على الفور وسط دهشة الحاضرين: المدرسة رديئة لأن مديرية التربية رديئة، ومديرية التربية رديئة لأن وزارة التربية رديئة، ووزارة التربية رديئة لأن الحكومة رديئة، والحكومة رديئة لأن رئيس الحكومة رديء. فساد الصمت والذهول على الجلسة للحظات، ثم أخذ المفتش (وكان من أصل كردي) حسن مطلك جانباً وقال له: أنت على حق ولكن لا تقل هذا الكلام أمام أحد غيري.. أما عني فسوف أكتب أي شئ روتيني في سجل زيارتي. وغادر بعد أن ودع حسن معانقاً له بقوة وسط دهشة الآخرين. والموقف الآخر قد حدث أيام كان حسن مطلك جندياً مكلفاً في القاطع الجنوبي/ في جزيرة (أم الخنازير) أو (أم الرصاص). حيث قدم إلى وحدته وفد من وزارة الثقافة تحت ما يسمى، آنذاك، بالمعايشة أو تفقد جبهات القتال وكان يرأس هذا الوفد عبدالأمير معلة وكيل وزارة الثقافة وكان يعرف حسن مطلك وخاصة بعد فوزه بجائزة قصة الحرب عن قصته (عرانيس) سنة 1983 واجتمع به على انفراد في غرفة الآمر وعرض عليه أن يرسم صورة جدارية للرئيس أو أن يكتب مدحاً مباشراً له، ومقابل ذلك سيتعهد له بتزكيته ونقله إلى وظيفة في الوزارة أو في إحدى الصحف فأجابه حسن بالرفض قائلاً: آسف لا أستطيع أن أفعل ما تفعله حضرتك وأفضل أن أموت هنا مع زملائي الجنود المساكين الذين أعرفهم على أن أعيش هناك مع أناس لا أعرفهم ولا أتفق معهم.
وأيام عمل حسن مطلك كمدرس لمادة (التربية وعلم النفس) في معهد كركوك للمعلمين ربطته علاقات وثيقة بالطلبة وبعوائلهم الكردية والتركمانية، وكان الجيران منهم يجلبون له الطعام في القسم الداخلي، حيث يقيم مع طلبة المحافظات، ويغسلون ملابسه أو يدعونه للسهر في بيوتهم. وقد حضرت إحدى تلك السهرات فوجدت حسن يتحدث ويتصرف بحرية تفوق حريته حتى داخل بيتنا، وعرض عليه البعض أن يهربوه إلى خارج العراق فكان يرفض قائلاً: أن الوطن بحاجة إليه.. وأن لديه مهام هنا يريد القيام بها... ولم نكن نتوقع أن تكون إحدى مهماته هذه هي القيام بمحاولة لقلب نظام الحكم.. تلك المهمة التي قطعت أمامه الطريق لإنجاز مهماته الأخرى ومنها ما أشار إليه في يومياته من أنه يريد أن ينال جائزة نوبل، لا للجائزة بعينها، وإنما لرفعة اسم أدب وطنه.. لأنه يغار من آداب الشعوب الأخرى ولا يحتمل أن يتم تجاهل أدب شعبه الذي هو أقدم أدب في العالم.
كان حسن مطلك المثقف كثير القراءة وله خصوصيته في استخراج الرؤية من النصوص التي يقرأها وطبيعة تأويله لها ونقدها. وأكثر قراءاته كانت في الفلسفة وهو لا يتردد في مناقشة أعقد الطروحات الفلسفية مع أي شخص بمن في ذلك البسطاء من الفلاحين ممن كان بعضهم يلقبونه بين الجد والسخرية بـ(الفيلسوف الدفين) وهو ميال إلى الفلسفة المثالية أو الأصح الإنسانية أكثر من ميله إلى المادية أو الميتافيزيقية. يميل إلى إفلاطون والسفسطائين وهيغل وسارتر وهو شديد الإعجاب بالمتشائم شوبنهاور وبنيتشه الذي يحفظ الكثير من أقواله. ومن قراءاته المفضلة الأخرى كانت في الفيزياء والميثولوجيا العراقية القديمة واليونانية فقد كان يبحث في كل ما يتعلق بالحضارات العراقية القديمة وبشكل خاص الحضارة الآشورية لأن قلعة عاصمتهم تقيم أمامنا في مواجهة القرية وكنا نزورها باستمرار. لم أجد لدى حسن اهتماماً بقراءة التاريخ الحديث ولا التاريخ الإسلامي ولا السياسة ولا الاقتصاد بينما كان يقرأ بعض كتب السحر استزادة في معرفة هواجس النفس البشرية وسعة في الخيال. وكثيراً ما يقرأ في معاجم وقواميس اللغة وكأنه يقرأ عملاً روائياً، هذا إلى جانب قراءته الدائمة لكتب علم النفس الذي هو اختصاصه الأكاديمي، علماً بأنه لم تكن لديه أية طموحات أكاديمية أبداً.
مما يلفت النظر لمن يتعرف على حسن، أول مرة، هو أسلوبه أو لغته في الحديث حيث طغيان الفصحى وانتقائية الشعبي.. إنه شديد التحسس للمفردات وما كان لينهي كتاباً أدبياً إن لم يكن ذي لغة أنيقة أو خاصة. وكان يصرخ فرحاً كمن يجد شيئاً لامعاً في العتمة حين يسمع كلمة تعجبه أو تعبيراً أو وصفاً لذيذاً فيصيح: جميل.. جميييل. وهكذا جاءت لغته خاصة بفعل تعبئتها بالفكرة الفلسفية والصورة الشعرية وروح الكلمة الشعبية. وكان من عادة حسن أن يحفظ عن ظهر قلب النصوص التي تعجبه لغةً أو بناءً أو رؤية.. ومن ذلك أذكر أنه يحفظ قصة (البومة في الغرفة البعيدة) لـ غسان كنفاني والفصل الأول من رواية (الصخب والعنف) لـوليم فولكنر وهو الفصل المتعلق بشخصية المعتوه بنجي، وتأثيره واضح تماماً على حسن في دابادا في شخصية شاهين. كما يحفظ قصيدة لوركا (الزوجة الخائنة).. فهل أطلق عليه أصدقائه ألقاب (لوركا العراقي) و(كنفاني العراق) لإعجابه بهما وحفظ نصوصهما وتشابه نهاياتهم العنيفة؟. كما كان يحفظ أيضاً معظم ديوان البياتي (مملكة السنبلة) وقـصائد طـويلة لصـديقه أردال و(أنشودة المطر) للسياب ومقاطع طويلة من كلكامش وأقوال نيتشة وسوراً من القرآن. وحين كنت أسأله؛ لماذا يحفظها وهي متوفرة في الكتب كان يقول: لأجد ما أقرأه حـين لا أجد كتاباً. وبالفعل كان يقرأها أثناء ذهابنا بالسيارة إلى بـغداد أو الموصل أو كركوك، في الطريق، ويحلل لي الجُمل والبناء. لأننا كنا نذهب بلا كتب لنعود بكتب. فأقرأ عليه في العودة من الكتب التي نشتريها أو تهدى إلينا ويعلق هو على كل جملة، ومن ذلك أنه أصر، ذات مرة، أن ألقي من النافذة بمجموعة قصصية أهداني إياها صديق، لمجرد أن فيها تعابير مثل: (ودارت الأيام)و(كنت قاب قوسين أو أدنى) أو(راحت الذكريات تمر في رأسي مثل شريط سينمائي) قائلاً: أما زال هناك من يستخدم هذه العبارات؟.. ألا يقرأون؟ ألا يتذوقون اللغة ويستشعرون عذوبة الكلمات؟.ويضيف: إن الكلمات لكائنات حية، وأقسم بأنني لأشعر بنبضها عند الكتابة... كما كان يستخدم ما يحفظه حين كان جندياً حيث يعيد كتابة أو تلاوة ما يحفظه أثناء الخفارات والواجبات المملة.. ومن المؤكد أنه قد استعادها في زنزانته أيضاً.
ومن عادة حسن أيضاً أن يعيد كثيراً قراءة الكتب التي تعجبه ومن ذلك أذكر أعمال هيرمان هيسة ونيقوس كازانتزاكي وبشكل خاص مذكراته في (الطريق إلى غريكو) ورواية (قلب الظلام) لـجوزيف كونراد و(الصخب والعنف) لـفولكنر و(صورة دوريان جراي) لأوسكار وايلد و(البحث عن الزمن المفقود) لبروست و(كلكامش) و(حي ابن يقظان) لابن طفيل التي نجد تـأثيرها أيضاً في (دابادا) والتي كان يقول عنها إنها من أعـظم الروايات ولكن كان على ابن طفيل أن يكتبها بلا كلمات لأن بطلها بلا لغة وبما أن ذلك مستحيل فهنا تكمن مقدرة ابن طفيل، وكان يعيد علي إعجابه بها مراراً وتكراراً فـقلت له ذات مرة باللهجة العامية: " شكو خبصتـنا بابن طفيل؟ ـ وبما أن اسم أمي طفلة وينادونها في القرية تصغيراً (طفيلة)، وكان حسن يمازحها بحنان: أما زلت طفلة لم تكبرين؟ أو: كم أحسدك على هذا الاسم!. ـ قلت له: إذا كان هو ابن طفيل فأنا ابن طفيلة. وقد ضحك ساعتها حتى انبطح على الأرض ونهض ليقبلني صائحاً: جميل.. جميييل.. قوية. وظللنا نتذكر ذلك كلما تحدث عن ابن طفيل بعدها ونضحك.
لقد أعاد حسن قراءة جويس و(السيدة دلاوي) لفرجينيا وولف. ولكنه لم يعد قراءة ماركيز مثلاً على الرغم من اندهاشه الأول به لأنه كان يقول: أن ماركيز لا يحتاج إلى إعادة قراءة وأنه سيبقى هكذا دائراً حول عمليه العظيمين (مائة عام من العزلة)و(خريف البطريرك) ولن يأتي بجديد. ولهذا لم يهتم بمتابعة جديده.
ومن طرائف أو مواقف حسن المتعلقة بطبيعة تحسسه للغة أنه قد غضب على خطيبته المعلمة وانفصل عنها لأنها أصرت أن تكتب بالتاء المفتوحة كلمة تنتهي بالتاء المربوطة. وأنه كان يصر في المحكمة التي حكمت عليه بالإعدام أن يصحح، لغوياً، أقواله التي كان يدونها كاتب المحكمة ويصحح في لغة نص قرار إعدامه، كما ذكر ذلك بعض الشهود الذين كانوا حاضرين. ومما أذكر أيضاً أنه قد اشترك في الندوة التي عقدت في بغداد حول أدب الحرب سنة 1988 أو 1989 فقرأ شهادته وعاد ليجلس في مقعده المجاور للروائي فؤاد التكرلي فقال له التكرلي: شهادتك ممتازة ولكن فيها أخطاء لغوية. فأجابه حسن على الفور: أليس ذلك بأفضل من أن أكتب باللهجة العامية؟. فسكت التكرلي مشيحاً بوجهه عنه.
أما عن الكتابة فلم تكن لحسن مطلك طقوساً محددة ولكنه غالباً ما يكتب في الليل ويدخن كثيراً أثناء الكتابة، ويستيقظ أحياناً في منتصف الليل ليكتب سطراً.. وكم من مرة أيقظني ليقول لي: اسمع لقد أتتني هذه الجملة. ما رأيك؟. كان يكتب أحياناً مقاطع تأتيه تدفقاً دون استنادها على فكرة مسبقة أو على هيكل تخطيطي حيث يقوم لاحقاً بتطويرها أو دمجها في نصوص أخرى أو التخطيط على أساسها لعمل متكامل. وكان كثير المراجعة لكتاباته وكثير الشطب والإعادة ومن ذلك أنه قد أعاد كتابة روايته (دابادا) خمس مرات على مدى خمس سنوات. وغيّر مدخل روايته (قوة الضحك في أورا) عشرين مرة.. ومات وهو يفكر بتغييره. وكم من مرة يسهر حتى الفجر ليكتب عشرة أسطر يمزقها عند الصباح. وأحياناً يستيقظ فجراً ليدون صوراً من حلم جاءه في المنام. ومن عادة حسن أن يزداد قراءة عندما يكون يعمل في مشروع كتابي، ولكنه يقرأ ويلغي ذهنياً ما يقرأه كي لا يقع تحت تأثيره أو يقرأ في كتاب بعيد عن جنس ما يكتبه وكان يقول: إنها مجرد عملية تسخين ذهني.. كما يفعل الرياضي قبل السباق أو العازف قبل العزف. وفي كتابته التنظيرية أو الفكرية كان قليلاً ما يعتمد على المصادر مباشرة ولا ينصص، إنما يعتمد على ذاكرته وذهنه ووعيه لأنه يرى بأن الكتابة التنظيرية أو الفكرية، هي الأخرى، عملية إبداعية. وكان يعرض كتاباته على الجميع وغالباً ما يأخذ برأي الأصدقاء ويراقب ردود الفعل عند القارئ. ورأيته لأكثر من مرة يسأل حتى أمي الأمية ـ لا تقرأ ولا تكتب ـ قائلاً: لو أن شخصاً كذا فعل كذا فما مصيره في رأيك؟.
إن انشغال حسن بنص ما يجعله يعيش تحت هيمنة مناخ هذا النص ولذلك فهو يلتقط كل ما يلاقيه من كلمة أو حدث أو صورة يجدها تنسجم مع ما يشغله. وكان يقفز قائلاً: وجدتها.. وجدتها.. وأحياناً بالعامية: لكفتها.. لكفتها (لقفتها). بل أنه يعيش شخصياته أحياناً ولذلك فإن سلوكه كان طفولياً ومفاجئاً في بعض اللحظات أيام كتابته لدابادا فقد كان يتقمص شخصية شاهين ويراقب ردود فعل الآخرين عليها. لقد كانت الكتابة لديه نزفاً حقيقياً وفيها من القسوة ما يجعله، أحياناً، يهرب منها إلى جهد عضلي ما. ولا يحتمل حسن جملة أو كلمة فائضة في نصه أو خالية من تأويل، فهو يرصف الكلمات كمن يرصف حجراً قرب حجر بعناية وصدق، أو كما يقول (حصاة ترص حصاة). ..الصدق الذي كان محور سلوكه وقوله وعلاقاته ومن ذلك علاقته بالكتابة.. انه شديد الحذق في معالجته لنصوصه.. أي ما يخص النسج المنسجم بين ما هو إبداعي ومصنوع، ما هو خيالي وواقعي، ما هو فكري وشعري، الشكل والمحتوى والمعرفة والمتعة.. لديه قدرة فائقة على توحيد المتناقضات وجمع المتعدد. وقد لاحظت في قصصه الأخيرة أنها طويلة فسألته عن ذلك فقال: أشعر بأن القصة القصيرة لم تعد قادرة على احتوائي يا أخي.. إني ممتليء .. وأشعر بأن كل شئ، مهما كان صغيراً، لا يمكنني إيـصاله إلا عبر رواية. هـذا كما حـاول أن يكتب المسرحية فكتب نصين قصيرين، شـبيهين بنصوص صوموئيل بكيت. أبطالهما الضوء والصفير.
لقد كان حسن أقلنا في العائلة حرصاً على المال وأكثرنا حرصاً على الوقت. وكان فرحه بمال جائزة القصة الذي أعطاه للعائلة وبنوا به سياجاً واسعاً، إنما فرح بإثباته لهم أنه يستطيع أن يجلب المال من القراءة والكتابة أيضاً لذلك فقد كفوا عن مضايقته بل أنهم راحوا يشجعونه على الكتابة وتحولت تسمية (الفيلسوف الدفين) من نبرة السخرية إلى نبرة الجد. ولكنه في حقيقته ما كان ليرغب بالكتابة المنسجمة مع النفس (التعبوي) للحرب لذلك كان يكتب عن الإنساني ومن ثم هرب إلى (دابادا) ورفض أن يجمع قـصصه عن الحرب في مجموعة، أيام كانت الوزارة تطبع كتب أدب الحرب بكثرة.
ومن صور عدم اهتمامه بالمال أو المادي أنه كان يصرف راتبه الشهري في اليومين الأولين ولا يتردد في سد حاجة إذا كان في جيبه شيئاً وكان يمنحنا قمصانه وبنطلوناته وأحذيته.. ومن نادر كرمه؛ أذكر بأنه قد ناداني إلى غرفته، حيث كان في فراشه إثر نزلة برد، فأعطاني مغلفاً وقال: خذ هذا المظروف إلى فلانة. ـ وكانت هذه امرأة مدقعة في الفقر، أرملة ضعيفة البصر تعيل ثلاثة أطفال وليس لديها إلا بقرة واحدة وحمار، ليس لديها أرض أو مزرعة أو معيل. تسكن في أطراف قريتنا في بيت طيني من حجرتين إحداها لها ولأطفالها والأخرى للبقرة والحمار وكانت تعيش الكفاف الحقيقي، ويساعدها الناس عبر الزكاة وإيفاء النذور ـ قال لي: اعطها هذا وقل لها هذا من (أبو مروة) ولا تبق عندها إذا دعتك للطعام أو الشراب. فحملت المغلف ومضيت، وقبل أن أصل فتحته فوجدت فيه ثلاثين ديناراً، أي ما يعادل ثلث راتبه آنذاك. وحين وصلت أعطيته إياها وهممت بالخروج. لكنها أقسمت أن أجلس وأشرب الشاي بعد أن علمت بأنني شقيق (أبو مروة) وراحت تحدثني عنه بينما هي تبحث بين أوانيها المتواضعة تساعدها طفلتها.. وأذكر مما قالته لي؛ أنه كان يزورها في نهاية كل شهر وكان في البداية يعطيها المغلف ويغادر دون كلمة.. حتى أنها كانت تتصور بأنه ملاكاً يبعثه الله لها بهذا الرزق. لكن ابنها الكبير (12سنة) قد قال لها بأنه حسن ابن الحاج مطلك الروضان. فألحت عليه بأن يجلس. وأخذ يجلس معها ويجلب معه بين الحين والآخر علب الألوان والأوراق والمجلات لأطفالها ويحدثهم عن بهاء المدن البعيدة والتي لا يمكن الوصول إليها إلا بالقراءة والنجاح في الدراسة.. وكم رأيتها، بعد رحيله، جالسة إلى جوار قبره وحدها في أيام الجمعات لأن الناس هناك تزور المقابر يوم الخميس، فكنت أذهب وحيداً لأجدها هناك تحف قبره برصف الحصى الأبيض وقلع الأعشاب عنه.. تقرأ الفاتحة ثم تقبل صخرة شاهدة القبر وتغادر. لم أتحدث معه في هذا الأمر ولم أخبر أحداً به لأنه كان سيثير زوبعة عائلية وهو الذي يعمل بعد الوظيفة صباغاً وبناءً وخطاطاً لقطع الدكاكين وأبواب السيارات، وكم ترك من لوحاته في بيوت القرية وخطوطه على المسجد والمدرسة وزخارفه على واجهات وسطوح المنازل وعمل برصف الأرضيات كي يكمل بناء بيته الذي أعد خريطته بنفسه قائلاً: هذه الغرفة ستكون مكتبتي. وجعلها منعزلة. وما أن أكمل البيت ولم يبق إلا وضع الإنارة فيه حتى حدث ما حدث فبقي بيته مهجوراً وبلا ضوء حتى اليوم.
حين بدأت ابنته مروة تردد ما تسمع وتحاول نطق كلماتها الأولى. كانت أمها تعلمها أولاً كلمتي بابا وماما بينما كنا حسن وأنا نتسلى بتعليمها أسماء غريبة وصعبة عليها مثل: مارسيل بروست، جيمس جويس، كلكامش، ديستوفسكي، ميسو بوتاميا.. فكانت تردد صدى الكلمات بتلعثم حلو ونحن نضحك. تلفظ كلكامش (آمش) ودستستوفسكي (فسكي) وإيتماتوف (أوف) ومسوبوتاميا(باميا) فعلق حسن حينها:إنـها بنت عراقية أصـيلة فالعراقيين هـم أكثر شـعوب الأرض حباً للبامياء. فـكانـت أمي تـقول لنا:عـلموها اسمها واسم أبيها وأسماء أعمامها وأسـماء أجـدادها بـدل هذه (الخرابيط). وكان من عادة أبي أن يحفظنا أسماء جدودنا حتى الجد الحادي والخمسين. فأجابها حسن: أنا مجموع هؤلاء وهؤلاء هم جدودي فإن لم تعرفهم لن تعرفني. وحين كانت أمي تقص على مروة حكاياتها الشعبية عن السعلوة والحنفيش والطنطل وغيرها. تأتي مروة إلى والدها لتسأله عن هؤلاء فيشير لها حسن إلى التلفزيون حيث الرئيس في أحاديثه وزياراته الطويلة المملة: هذا هو كل هؤلاء.. انه تجسيد لكل كائنات الشر التي تصورتها المخيلة العراقية.
كان يخاطبها بهذه اللغة تماماً مثلما كان يخاطب أمي والجميع. فتنادي أمي على مروة: تعالي يا ابنتي أبوك (مخبل)..وننفجر نحن بالضحك بينما تروح أمي تفسر لحفيدتها: أن السعلوة كائن قبيح بأرجل خيطية وأن الطنطل كائن طويل وما إلى ذلك. وتنهرنا أمي قائلة: ان الطفلة ستردد ما تعلمانها أمام الناس وسوف تعدمكم الحكومة. فيجيب حسن: أكثر مما نحن معدومين؟!.
كنا نذهب في نهايات الأسابيع إلى شاطيء دجلة على دراجته النارية وهناك نتحدث طويلاً عن الأدب والأصدقاء ونتدارس معاً جوانب التنظير لـ(الواقعية المطلقة) حيث كتب هو فيها خمسين صفحة وأنا عشر صفحات. أو نقترح فكرة قصة ليكتبها كل منا بأسلوبه ونناقش بعدها نصينا وكيفية تناولنا للفكرة وأسباب التناول بهذا الشكل أو ذاك. وفي البداية كان حسن يخترع مكافأة لي على كل نص يعجبه من نصوصي. وظلت أول قصة كتبتها (العصر الطبشوري) هي أحب قصصي إليه… كان حسن سعيداً بدراجته النارية، مفلسفاً حبه لها بأنها بلا نوافذ وتجعله ملتحماً بالطبيعة وتتطلب منه اليقظة لا الاسترخاء كالسيارة، إضافة إلى أنها آلة فردية ولذلك فهي كالكتابة عملية إبداعية فردية.. وتأتيه الكثير من الأفكار والصور وهو على ظهر الدراجة.
أما عن حسن مطلك والمرأة فهذا أمر يطول الحديث عنه ودراسته، وربما يحتاج إلى كتاب شبيه بالكتاب الذي صدر عن لوركا بعنوان (نساء الشاعر). إلا أن ما تجدر الإشارة إليه هو أن حسن كان يعشق النساء القويات والمتمردات في الحياة والأدب، ومن بين أبرز علاقاته كانت بنماذج من هذا النوع: (ليلى) في الثانوية و(ميسلون) في الجامعة، وتلك التي أسماها (هدى) في الفترة الأخيرة من حياته. وكتب عنها مخطوطه (كتاب الحب: ظل القمر على الأرض). ونلاحظ بوضوح أن كل الشخصيات النسائية في قصصه القصيرة ورواياته هي شخصيات قوية.
لقد اعتقلوا حسن صبيحة يوم 7/1/1990 في قرية (صبيح) عندما كان متوجهاً إلى مدرستها حيث كان مديراً. لم يقاوم لأنه لم يكن يحمل معه إلا الكتب والقلم وحين أصعدوه في سيارة (الاندكروز) كان يلوح للقريبين من أهل القرية وطلابه مودعاً. دام اعتقاله ستة أشهر في الشعبة الخامسة من مديرية الأمن العامة، لم يسمح خلالها لنا بالسؤال عنه أو زيارته.. لقد عشنا أياماً مروعة ومريرة، وبعد التقصي من قبل عوائل المعتقلين الآخرين عرفنا اليوم والساعة التي ستتم فيها محاكمتهم في محكمة (الثورة) المعروفة بلا عدالتها وبخلوها من المحامين والقانون ووحشية قراراتها اللامسؤولة، فذهبنا عدد من العوائل لنرابط هناك خلف الأشجار خفية على طريق يؤدي إلى المحكمة علنا نحظى برؤيتهم من نافذة سيارة أو في حوض شاحنة.. ولكننا لم نر إلا رتلاً من السيارات العسكرية والمدنية ومدرعات محملة بالعساكر وطائرة مروحية تحوم في السماء. طافت في ذهني لحظتها أمنيات أن أكون بطلاً من أبطال الأفلام الأمريكية الذي ينقذ من يشاء بقدرته العجيبة على التحارب. نظر إلى أخي الكبير واحتضنني باكياً بعد أن مر الرتل.. شعرت بالغصة تغرقني وبسواد العالم من حولي وبقهر مميت يهتكني.. ثم وقعت مغشياً عليّ. وقد وصف محمود جنداري تلك اللحظات من داخلها في قصته (وليمة الدم) بالقول:( من أين يأتي الكلام يا حيّ وأنت دخلت بي عصر الرصاصة وغادرت عصر الكلمة/ لا تقل أن الكلمة الحق اختفت/ موجودة/ لكن أين الكلام؟ ومن أين يأتي؟/ تراصف معي وتعال لنتطلع من كوة واحدة/ لترى كيف ينبعث الموت من هذه المائة شئ/ كيف تتبدد الرهبة ويفيض الإحساس بالخوف اللذين يتوفران فيك بكميات كبيرة/ الخوف والرهبة اللذين شعرنا بهما بشكل حقيقي ونحن في الطريق إلى المحكمة في تلك السيارات المغلقة/ تحف بها سيارات أخرى، مصفحة ودبابات وطائرات مروحية/ سبعة وعشرون رجلاً لا يعرف أحدنا الآخر/ لكننا نعرف أننا نساق إلى المحكمة).ص136من مجموعته(مصاطب الآلهة)دار أزمنة/الأردن1996.
لقد كانت النماذج المفضلة من الشهداء في تصور حسن مطلك، هم: سقراط، الحسين(ع)، المسيح(ع) وجيفارا... ولكل من أنواع شهادة هؤلاء رؤية ومفهوماً عنده.
.. قيل: أن حسن مطلك كان يتحدث معهم (رفاقه في المعتقل) عبر أنابيب الماء الفارغة التي كانت تربط بين زنزاناتهم. كان يقويهم ويقص عليهم الطرائف(النكات) كي يبتسموا بعد وجبات التعذيب.
.. وقيل: أن حسن قد اعترف في التحقيق صراحة برغبته في تغيير النظام وبيّن الأسباب وكان طليق اللسان وكأنه مسروراً بالحرية في أن يقول ما يريد أمام قاتليه لأنه كان متأكداً من إعدامه.
.. وقيل: أن صاحبه أواة كان يقول: أقوالي لكم هي ما يقوله حسن مطلك. دون أن يعرف ما قاله حسن في التحقيق.
.. وقيل: أن حسن قد أصر على التصحيح اللغوي لنص إفادته في المحكمة وقرار الحكم.
لقد أعدموه شنقاً لأنه مدني بينما أعدموا العسكريين من رفاقه بالرصاص ولم يسلموا جثثهم إلى أهلهم إلا بعد أن دفعوا ثمن الرصاصات التي قتلوهم بها، كما لم يسلموا بعض الجثث لأنهم شوهوها.
قالت زوجة حسن التي رأته في التابوت: لقد حاولت إيقاظه لأنه كان.. وكأنه نائم ووجه مفعماً بالرضى. منعت علينا السلطات إقامة مأتم له وحذرت الناس من تعزيتنا فيه. فكان أهل القرية يتقاطرون علينا سراً، في الليل، كي يعزوننا. ومن ذلك أيضاً أن ما يقارب العشرة أطفال ممن ولدوا بعد إعدامه قد حملوا اسم (حسن) كنوع من المحبة والاعتزاز والذكرى..
ترى هل قلتُ كل ما أعرفه، وما أريد، وما أستطيع ، وما يجب قوله عن حسن مطلك؟؟. بالتأكيد: كلا. فسوف أبقى نازفاً عليه وعنه دمعاً وحزناً وحبراً ما حيـيت.
ولأن حسن مطلك هو أروع روح عرفتها شخصياً من بين جميع الأرواح التي عرفتها وقطفها عزرائيل لذلك غالباً ما يحضرني وصف صديقه أردال له في قصيدة عنه. حيث يشعر بما أشعر فوصفه بـ(زهرة عزرائيل).. لقد بكينا حينها بمرارة (بكينا أكثر من كل أطفال العالم) كما يقول حسن مطلك في صـرخـته (دابادا).
.. بكينا في البيت والقرية وكركوك والموصل وبغداد والبصرة.
.. بكينا في الشمال والجنوب والوسط .
.. بكينا في كل العراق على حسن مطلك وعلى الشهداء وعلى العراق..
.. ومازلنا نـبكيهم في منافـينا.