1. الدرس الافتتاحي والدرس الختامي:
غالباً ما يواجه الكاتب، وأيّ منتِج في جنس من الأجناس الأدبية، موقفين في حياته الإبداعية، موقف الافتتاح وموقف الاختتام. غير أنه بالنسبة لكثير من الكتّاب فإن الموقف الافتتاحي قد يكون هو الموقف الختامي في الوقت نفسه، لأن الثاني يشكل "امتداداً دورياً في التاريخ" للموقف الأول. وعلى سبيل المثال، فإن الدرس الافتتاحي لرولان بارت (درس السيميولوجيا) الذي ألقاه بالكوليج دو فرانس في 7 يناير 1977، كان موقف الاختتام لسلسلة من المواقف البنيوية واللسانية التي طبعت كتبه الأولى. وقد أنهى بارت درس السيميولوجيا بقوله: "إنّ عليّ دورياً أن أُبعث من جديد، وأكون أصغر سنّاً مما أنا عليه". (ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، توبقال 1986، ص 29)
بحث رولان بارت عن اسم لتجربته التي تُمدِّد جسمه (وفكره أيضا) في التاريخ، فوجده في ال Sapientia)). وهذا الاسم يعني اشتقاقياً: "لا سلطة، ولا نفوذ، وقليل من المعرفة، وشيء من الحكمة، وأكثر ما يمكن من الالتذاذ". حيث تؤول الكتابة برمتها إلى تأمل أبيقوري للجسد في الزمن والمكان التاريخي، علاماتياً. أو حيث يتحلل الجسد، أو امتداداته، علاماتياً، في النص الذي أنتجه.
يبحث ميلان كونديرا من جانبه عن الاسم المقابل للSapientia فيجده في (وعي الاستمرارية) الذي يوضحه في سبع مقالات من كتابه (الستارة). يعني هذا الاسم دورة من تقاليد الفن الروائي نشأت من مغامرات سرفانتس ورابليه وفيلدينغ واستمرت في روايات القرن العشرين حتى تجاوزته.
إلا أن المواقف الختامية للرواية لا تسجل "تكراراً" سيئاً للمواقف الافتتاحية لكتّابها: "الفن ليس جوقة تتعقب التاريخ في مسيره. إنه موجود ليخلق تاريخه الخاص". (الستارة: ترجمة معن عاقل، ورد، ص 26). ويختم كونديرا درسه بتركيز معنى (وعي الاستمرارية) فيراه في الشغف والرغبة ب "الهواء والفضاء والتنفس، الرغبة بأشكال وصيغ جديدة" (الستارة: 139)
إن موافقة الدرس للموقف، أو القول للمقام، أساسية في حثّ الكتّاب جميعاً على اختيار الوقت المناسب لإشهار دروسهم الختامية. ويختار أغلبهم مواقتة الدرس مع مناسبة منحه جائزة كبرى، أو تكريسه في محفل أكاديمي رفيع، إلا أن غيرهم يستبق مثل هذين الموقفين الفخريين، فيبادر إلى إشهار مسؤوليته الأدبية والأخلاقية في منشورات (مانفستوات) عاجلة، كمنشوري (الوصايا المغدورة، والستارة) لكونديرا، و(الوصايا الست) لكالفينو، و(نزهات في غابة السرد) لإيكو، و(الكاتب وكوابيسه) لساباتو، و(رسائل إلى كاتب شاب) ليوسا، و(الملك ينحني ليقتل) لهيرتا موللر. وهل ننسى (تقرير إلى غريكو) لكازنتزاكي، الذي توج الدروس والوصايا بامتداده الحكيم، واللذيذ، واستغراقه في بحر العلامات وسلطة النص التاريخية؟
ثمة "نداء" خفيّ يدعوهم إلى كتابة وصاياهم قبل فوات الأوان، لكن أدباء "فاترين" هم في الأغلب من أتباع (زينون الأيلي) لا تعنيهم خطابات الختام، إلا بقدر ما تحثهم فترتهم وعقيدتهم على الإفضاء بشذرات وشوارد تقاوم تيار الزمن التاريخي الجارف، صاعدة من أعماق التجارب "المغدورة" كقناديل البحر المضيئة. ولعل في مقدمة هؤلاء كتّاب العرب والشرق: جبران وطاغور ونجيب محفوظ، وسواهم من أصحاب الشذرات والشطحات، المتموجة بتراخٍ وهدوء فوق لجة المانفستوات العظيمة. لقد كنت دائماً أدعو نصوصي لأن تقيم خطابها الختامي بين شذرات أولئك "الفاترين" في ثقب سرطان نهري معبأ بعلامات الزمن المطبوعة على شراع دلموني ضال. لم أشعر يوماً أني بعيد عن جانب البحر، بانتظار الرحلة إلى "مكان آخر".
أتذكر أن درسي الافتتاحي كان العام 1977، أمام جمهور المركز الثقافي لجامعة البصرة. أشهرتُ عامذاك: ما اعتبرته (بدايات) الوعي الفني لكتابة القصة. ثم ثنّيتُ الدرس في لقاء جمهور اتحاد الأدباء ببغداد العام 1986 باسم (ذاكرة العطار)، من أسماء اخترتها لكتاب(الحكاية الجديدة). كان الدرسان الافتتاحيان بداية استشعاري فضاء الزمن الذي أتنفس فيه رغبات النص المشوقة إلى "مكان آخر" على الجانب المديد من البحر. ثم تتالت خطابات ذات طبيعة برهانية، تتنفس هواء المراجع السردية الحكائية القديمة، لكن أياً منها لم يبلغ مرتبة الخطاب الختامي.
من جهة أخرى، كانت تيارات البحر السردي العالمية تدفعني إلى إرساء "براهيني" البسيطة على شاطئ الدرس الختامي، وإلحاقها بمناسبة لا تقل أهمية عن مناسبات المانفستوات الشهيرة. ظننتُ أن محفلاً لا مجنساً بهوية سردية واحدة، وغير موطَّن بلغة متشابهة، يجمع المعرفة بالمتعة، عيّنه كونديرا بجهة "المكان الآخر"، قد يجذب خطابي إليه بقوة الدرس الافتتاحي المعيّن بمكان "النشأة الأولى".
كيف لي أن أعرف أني في هذا "المكان الآخر" الذي سيحقق رغبتي في خطاب ختامي؟
راودت ذهني صور متعددة لهذا المكان، كما راودت كتّاباً مهاجرين ومسافرين في فضاء خيالي، يجمع أرباب النوع مع صَنَعته الاعتياديين، وعيّن موقعه الكاتب العربي يوسف إدريس يومًا في (بيت الهند العالمي) الذي شيدته اليونسكو في نيودلهي. كان إدريس يشارك في ورشة للقصة انعقدت هناك العام 1982، عندما خيل إليه أن هذا "المكان الآخر" يضم مسافري النوع على اختلاف أنواعهم ومناشئهم. فهل سيقرّ ظنّي في مكانه عندما أعيّن (الملتقى الثقافي الكويتي) المجاور لملتقى السرد الخليجي، الذي أشارك فيه للمرة الأولى، لكي يحتضن خطابي الختامي؟
ذلك ما سأختبره، في برهان أخير، أو شبه أخير، اليوم أمامكم.
2.التوزع، التنوع، التخصص:
اقترح الصديق طالب الرفاعي لحديثي أمام الملتقى الثقافي مصطلح "التوزع" لعنونة الخطاب الذي يصنّف عملي السردي الأساسي. والتوزع مصطلح يدل على التفرق والتشظي والحيرة الدالة على ضعف الذات المنتجة وشعورها بعدم كفاية النوع الواحد. ولو شئت أن أركّب عنواناً بديلا للسابق لاخترتُ عنوان (التنوع) الذي يدل مصطلحه على البحث وإثبات الذات عبر الاختلاف والانفتاح على "النص الآخر". أما العنوان الثالث الذي يستبدل موقعه بين العنوانين السابقين، بإرادتي وخلافها، فيتعلق بمصطلح (التخصص) الذي سيغلق دائرة التراكيب المجاورة بدلالته على الانغلاق والمحدودية واقتصار صفة الإنتاج على البحث الخاص في حدود النوع الأدبي ولغته وتقنياته.
أعتقد أن كل مصطلح من المصطلحات الثلاثة السابقة (التوزع والتنوع والتخصص) لا يدل إلا دلالة مجردة وعمومية على عمل الأديب أو الكاتب أو المفكر في عالمنا المعاصر، الموصوف عادة بعصر التقنيات والمعلومات التخصصية، والتحول السريع من بنية إلى بنية، في مجالات الفن والأدب والعلم والسياسة والاقتصاد والحكم وغيرها من البنيات الناظمة لحياة البشر المتنوعين في ثقافاتهم وخطاباتهم الفكرية.
إذن، ما الصفة الجامعة الدالة بدقة على عمل الأديب بوجهيه التخصصي والتعددي، المجرد والموضوعي، الشعري والثقافي؟ أهي "الكلانية" أم "التفاعلية" أم غيرهما من البنيات الفضائية المشتركة؟
لا أؤيد أياً من البنيات الوصفية الظاهرية لطبيعة الإنتاج الفكري العقلي والخيالي، المحدودة بلغة أو مكان أو موضوع. والحقيقة باعتقادي، أن المنتَج النصي الذي تحكمه بنية سيميولوجية تعددية لا يقتصر على أدبية الخطاب الأدبي الشعريةPoetic ، إنما يشتمل على تطبيقات خطابية ثقافية متعاضدة Cultural، كما إنه يتعدى آلية الكتابة Writing إلى آلية التفكير Thinking أو التخليق Creating. أعتقد أن التصنيف الأخير، المركب من عمليتي التفكير والتخليق، ينطبق على الصفة الدقيقة لخطابي الأدب والثقافة معاً، وبمختلف الآليات والأساليب والوسائط النوعية والتفاعلية.
تصدى فلاسفة ومفكرون معاصرون لزحزحة التصنيفات المحددة لكل نوع خطابي مترابط، فأشار فوكو وديريدا إلى وهمية الحدود بين الخطابين الفلسفي والأدبي، كما عالج غيرهما (دولوز وبورديو وإدوارد سعيد) مشكلة العلاقة بين النص وآلياته الرمزية والنفسية، وتمثلاته السيميائية في فضاءات ومجالات متقاربة. وعموما، فإن الاستناد النظري المفهومي لتعدد الأنواع النصية لا يبتعد كثيراً عن التحليل الذاتي للرغبة الدفينة بالتحقق في "المكان الآخر" الذي دلّ عليه كونديرا في كتابه (الستارة). ذلك أن سلطة النص التي ترغمنا على القول بواسطة اللغة أو اللسان، تعكس موقفاً تحليلياً ذاتياً لمنتج النص من نصه ومن السلطة التاريخية بشكل عام (بارت).
بعد هذه المقاربات النظرية الضرورية، يصبح اختيار الصفة الدالة على عملي الأدبي يسيراً ومقبولاً، في نظري بالأقل. إذا اخترت كتابة القصة القصيرة مرة، والمقالة مرة، وسيرة المكان ثالثة، فذلك لأني أبحث عن صفتي االتخليقية البسيطة، بآليات أوتوماتية جوهرية، عبر انعكاسها في "المكان الآخر" والزمن الممتد في جسد التاريخ، أو جسد النص. وما أكتبه بصيغ نوعية متعددة يعكس "دورة" التقاليد الكبرى في نوع جوهري بسيط، هو على حد ظني "برهان" أخير.
كنت وصفتُ القصة القصيرة بأنها برهان بسيط على عظمة الوجود المركب. أما المقالة فأصفها بأنها الشكل المتدرج من "مقولات" التفكير والتخليق الكبرى. وبين القصة والمقالة تتدرج صور شتى توصف بأنها جوهر العلامات، أو دال المقولات. ولا عجب بعد هذا أن نعتبر المقالة والصورة ركني القول الروائي الطويل، وأنّ تتابعهما في مقاطع قصيرة داخل الزمن الروائي يعكس رغبة الذات المنتِجة لتحليل شعورها المترافق، لا على أساس المنطق اللساني التتابعي، والنسق الحدثي السببي، إنما على أساس الإزاحة والتخليق المتبادل لسلطات النص (فواعله السردية بحسب غريماس) مع لسانه.
أدركتُ منذ وقت مبكر أن الغاية الأساسية من تأليف القصص هي الوصول إلى الطبقة التحتية لكتاب الأعمار، بعد إزالة الأقنعة المستعارة منها، ونزع المظاهر المتبدلة عنها، لكي يظهر للعيان الجوهر الأصلي للكتابة. عند هذه الطبقة المختفية يتولى المؤلف توضيب حقيبة أعماره قبل أن تضيع فصولها أدراج الرياح، أو قبل أن يتولى المتطفلون جمع شتات هذه الأعمار، كل من جانب وكل في مكان.
--------------------------
(*) الورقة التي قُدمت في (الملتقى الثقافي) بالكويت في 11 مايو2014
غالباً ما يواجه الكاتب، وأيّ منتِج في جنس من الأجناس الأدبية، موقفين في حياته الإبداعية، موقف الافتتاح وموقف الاختتام. غير أنه بالنسبة لكثير من الكتّاب فإن الموقف الافتتاحي قد يكون هو الموقف الختامي في الوقت نفسه، لأن الثاني يشكل "امتداداً دورياً في التاريخ" للموقف الأول. وعلى سبيل المثال، فإن الدرس الافتتاحي لرولان بارت (درس السيميولوجيا) الذي ألقاه بالكوليج دو فرانس في 7 يناير 1977، كان موقف الاختتام لسلسلة من المواقف البنيوية واللسانية التي طبعت كتبه الأولى. وقد أنهى بارت درس السيميولوجيا بقوله: "إنّ عليّ دورياً أن أُبعث من جديد، وأكون أصغر سنّاً مما أنا عليه". (ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، توبقال 1986، ص 29)
بحث رولان بارت عن اسم لتجربته التي تُمدِّد جسمه (وفكره أيضا) في التاريخ، فوجده في ال Sapientia)). وهذا الاسم يعني اشتقاقياً: "لا سلطة، ولا نفوذ، وقليل من المعرفة، وشيء من الحكمة، وأكثر ما يمكن من الالتذاذ". حيث تؤول الكتابة برمتها إلى تأمل أبيقوري للجسد في الزمن والمكان التاريخي، علاماتياً. أو حيث يتحلل الجسد، أو امتداداته، علاماتياً، في النص الذي أنتجه.
يبحث ميلان كونديرا من جانبه عن الاسم المقابل للSapientia فيجده في (وعي الاستمرارية) الذي يوضحه في سبع مقالات من كتابه (الستارة). يعني هذا الاسم دورة من تقاليد الفن الروائي نشأت من مغامرات سرفانتس ورابليه وفيلدينغ واستمرت في روايات القرن العشرين حتى تجاوزته.
إلا أن المواقف الختامية للرواية لا تسجل "تكراراً" سيئاً للمواقف الافتتاحية لكتّابها: "الفن ليس جوقة تتعقب التاريخ في مسيره. إنه موجود ليخلق تاريخه الخاص". (الستارة: ترجمة معن عاقل، ورد، ص 26). ويختم كونديرا درسه بتركيز معنى (وعي الاستمرارية) فيراه في الشغف والرغبة ب "الهواء والفضاء والتنفس، الرغبة بأشكال وصيغ جديدة" (الستارة: 139)
إن موافقة الدرس للموقف، أو القول للمقام، أساسية في حثّ الكتّاب جميعاً على اختيار الوقت المناسب لإشهار دروسهم الختامية. ويختار أغلبهم مواقتة الدرس مع مناسبة منحه جائزة كبرى، أو تكريسه في محفل أكاديمي رفيع، إلا أن غيرهم يستبق مثل هذين الموقفين الفخريين، فيبادر إلى إشهار مسؤوليته الأدبية والأخلاقية في منشورات (مانفستوات) عاجلة، كمنشوري (الوصايا المغدورة، والستارة) لكونديرا، و(الوصايا الست) لكالفينو، و(نزهات في غابة السرد) لإيكو، و(الكاتب وكوابيسه) لساباتو، و(رسائل إلى كاتب شاب) ليوسا، و(الملك ينحني ليقتل) لهيرتا موللر. وهل ننسى (تقرير إلى غريكو) لكازنتزاكي، الذي توج الدروس والوصايا بامتداده الحكيم، واللذيذ، واستغراقه في بحر العلامات وسلطة النص التاريخية؟
ثمة "نداء" خفيّ يدعوهم إلى كتابة وصاياهم قبل فوات الأوان، لكن أدباء "فاترين" هم في الأغلب من أتباع (زينون الأيلي) لا تعنيهم خطابات الختام، إلا بقدر ما تحثهم فترتهم وعقيدتهم على الإفضاء بشذرات وشوارد تقاوم تيار الزمن التاريخي الجارف، صاعدة من أعماق التجارب "المغدورة" كقناديل البحر المضيئة. ولعل في مقدمة هؤلاء كتّاب العرب والشرق: جبران وطاغور ونجيب محفوظ، وسواهم من أصحاب الشذرات والشطحات، المتموجة بتراخٍ وهدوء فوق لجة المانفستوات العظيمة. لقد كنت دائماً أدعو نصوصي لأن تقيم خطابها الختامي بين شذرات أولئك "الفاترين" في ثقب سرطان نهري معبأ بعلامات الزمن المطبوعة على شراع دلموني ضال. لم أشعر يوماً أني بعيد عن جانب البحر، بانتظار الرحلة إلى "مكان آخر".
أتذكر أن درسي الافتتاحي كان العام 1977، أمام جمهور المركز الثقافي لجامعة البصرة. أشهرتُ عامذاك: ما اعتبرته (بدايات) الوعي الفني لكتابة القصة. ثم ثنّيتُ الدرس في لقاء جمهور اتحاد الأدباء ببغداد العام 1986 باسم (ذاكرة العطار)، من أسماء اخترتها لكتاب(الحكاية الجديدة). كان الدرسان الافتتاحيان بداية استشعاري فضاء الزمن الذي أتنفس فيه رغبات النص المشوقة إلى "مكان آخر" على الجانب المديد من البحر. ثم تتالت خطابات ذات طبيعة برهانية، تتنفس هواء المراجع السردية الحكائية القديمة، لكن أياً منها لم يبلغ مرتبة الخطاب الختامي.
من جهة أخرى، كانت تيارات البحر السردي العالمية تدفعني إلى إرساء "براهيني" البسيطة على شاطئ الدرس الختامي، وإلحاقها بمناسبة لا تقل أهمية عن مناسبات المانفستوات الشهيرة. ظننتُ أن محفلاً لا مجنساً بهوية سردية واحدة، وغير موطَّن بلغة متشابهة، يجمع المعرفة بالمتعة، عيّنه كونديرا بجهة "المكان الآخر"، قد يجذب خطابي إليه بقوة الدرس الافتتاحي المعيّن بمكان "النشأة الأولى".
كيف لي أن أعرف أني في هذا "المكان الآخر" الذي سيحقق رغبتي في خطاب ختامي؟
راودت ذهني صور متعددة لهذا المكان، كما راودت كتّاباً مهاجرين ومسافرين في فضاء خيالي، يجمع أرباب النوع مع صَنَعته الاعتياديين، وعيّن موقعه الكاتب العربي يوسف إدريس يومًا في (بيت الهند العالمي) الذي شيدته اليونسكو في نيودلهي. كان إدريس يشارك في ورشة للقصة انعقدت هناك العام 1982، عندما خيل إليه أن هذا "المكان الآخر" يضم مسافري النوع على اختلاف أنواعهم ومناشئهم. فهل سيقرّ ظنّي في مكانه عندما أعيّن (الملتقى الثقافي الكويتي) المجاور لملتقى السرد الخليجي، الذي أشارك فيه للمرة الأولى، لكي يحتضن خطابي الختامي؟
ذلك ما سأختبره، في برهان أخير، أو شبه أخير، اليوم أمامكم.
2.التوزع، التنوع، التخصص:
اقترح الصديق طالب الرفاعي لحديثي أمام الملتقى الثقافي مصطلح "التوزع" لعنونة الخطاب الذي يصنّف عملي السردي الأساسي. والتوزع مصطلح يدل على التفرق والتشظي والحيرة الدالة على ضعف الذات المنتجة وشعورها بعدم كفاية النوع الواحد. ولو شئت أن أركّب عنواناً بديلا للسابق لاخترتُ عنوان (التنوع) الذي يدل مصطلحه على البحث وإثبات الذات عبر الاختلاف والانفتاح على "النص الآخر". أما العنوان الثالث الذي يستبدل موقعه بين العنوانين السابقين، بإرادتي وخلافها، فيتعلق بمصطلح (التخصص) الذي سيغلق دائرة التراكيب المجاورة بدلالته على الانغلاق والمحدودية واقتصار صفة الإنتاج على البحث الخاص في حدود النوع الأدبي ولغته وتقنياته.
أعتقد أن كل مصطلح من المصطلحات الثلاثة السابقة (التوزع والتنوع والتخصص) لا يدل إلا دلالة مجردة وعمومية على عمل الأديب أو الكاتب أو المفكر في عالمنا المعاصر، الموصوف عادة بعصر التقنيات والمعلومات التخصصية، والتحول السريع من بنية إلى بنية، في مجالات الفن والأدب والعلم والسياسة والاقتصاد والحكم وغيرها من البنيات الناظمة لحياة البشر المتنوعين في ثقافاتهم وخطاباتهم الفكرية.
إذن، ما الصفة الجامعة الدالة بدقة على عمل الأديب بوجهيه التخصصي والتعددي، المجرد والموضوعي، الشعري والثقافي؟ أهي "الكلانية" أم "التفاعلية" أم غيرهما من البنيات الفضائية المشتركة؟
لا أؤيد أياً من البنيات الوصفية الظاهرية لطبيعة الإنتاج الفكري العقلي والخيالي، المحدودة بلغة أو مكان أو موضوع. والحقيقة باعتقادي، أن المنتَج النصي الذي تحكمه بنية سيميولوجية تعددية لا يقتصر على أدبية الخطاب الأدبي الشعريةPoetic ، إنما يشتمل على تطبيقات خطابية ثقافية متعاضدة Cultural، كما إنه يتعدى آلية الكتابة Writing إلى آلية التفكير Thinking أو التخليق Creating. أعتقد أن التصنيف الأخير، المركب من عمليتي التفكير والتخليق، ينطبق على الصفة الدقيقة لخطابي الأدب والثقافة معاً، وبمختلف الآليات والأساليب والوسائط النوعية والتفاعلية.
تصدى فلاسفة ومفكرون معاصرون لزحزحة التصنيفات المحددة لكل نوع خطابي مترابط، فأشار فوكو وديريدا إلى وهمية الحدود بين الخطابين الفلسفي والأدبي، كما عالج غيرهما (دولوز وبورديو وإدوارد سعيد) مشكلة العلاقة بين النص وآلياته الرمزية والنفسية، وتمثلاته السيميائية في فضاءات ومجالات متقاربة. وعموما، فإن الاستناد النظري المفهومي لتعدد الأنواع النصية لا يبتعد كثيراً عن التحليل الذاتي للرغبة الدفينة بالتحقق في "المكان الآخر" الذي دلّ عليه كونديرا في كتابه (الستارة). ذلك أن سلطة النص التي ترغمنا على القول بواسطة اللغة أو اللسان، تعكس موقفاً تحليلياً ذاتياً لمنتج النص من نصه ومن السلطة التاريخية بشكل عام (بارت).
بعد هذه المقاربات النظرية الضرورية، يصبح اختيار الصفة الدالة على عملي الأدبي يسيراً ومقبولاً، في نظري بالأقل. إذا اخترت كتابة القصة القصيرة مرة، والمقالة مرة، وسيرة المكان ثالثة، فذلك لأني أبحث عن صفتي االتخليقية البسيطة، بآليات أوتوماتية جوهرية، عبر انعكاسها في "المكان الآخر" والزمن الممتد في جسد التاريخ، أو جسد النص. وما أكتبه بصيغ نوعية متعددة يعكس "دورة" التقاليد الكبرى في نوع جوهري بسيط، هو على حد ظني "برهان" أخير.
كنت وصفتُ القصة القصيرة بأنها برهان بسيط على عظمة الوجود المركب. أما المقالة فأصفها بأنها الشكل المتدرج من "مقولات" التفكير والتخليق الكبرى. وبين القصة والمقالة تتدرج صور شتى توصف بأنها جوهر العلامات، أو دال المقولات. ولا عجب بعد هذا أن نعتبر المقالة والصورة ركني القول الروائي الطويل، وأنّ تتابعهما في مقاطع قصيرة داخل الزمن الروائي يعكس رغبة الذات المنتِجة لتحليل شعورها المترافق، لا على أساس المنطق اللساني التتابعي، والنسق الحدثي السببي، إنما على أساس الإزاحة والتخليق المتبادل لسلطات النص (فواعله السردية بحسب غريماس) مع لسانه.
أدركتُ منذ وقت مبكر أن الغاية الأساسية من تأليف القصص هي الوصول إلى الطبقة التحتية لكتاب الأعمار، بعد إزالة الأقنعة المستعارة منها، ونزع المظاهر المتبدلة عنها، لكي يظهر للعيان الجوهر الأصلي للكتابة. عند هذه الطبقة المختفية يتولى المؤلف توضيب حقيبة أعماره قبل أن تضيع فصولها أدراج الرياح، أو قبل أن يتولى المتطفلون جمع شتات هذه الأعمار، كل من جانب وكل في مكان.
--------------------------
(*) الورقة التي قُدمت في (الملتقى الثقافي) بالكويت في 11 مايو2014