د. عادل الأسطة - في رحيل القاص حنا إبراهيم

رحل حنا إبراهيم القاص والروائي والشاعر، الخميس الماضي، عن ثلاثة وتسعين عاماً، تاركاً العديد من المجموعات القصصية والدواوين الشعرية وروايتين وسيرة ذاتية عنوانها «ذكريات شاب لم يتغرب»، وعندما كتب الجزء الثاني منها صار العنوان «شجرة المعرفة».
عرف حنا بالدرجة الأولى كاتب قصة قصيرة، فقد كتب عن مجموعاته القصصية مراجعات نقدية لم تحظ بمثلها أشعاره ورواياته، وقد أنصفه أحد طلاب الدراسات العليا، وهو الأستاذ أحمد أبو بكر، فأنجز عن أعماله رسالة ماجستير لا أعرف لماذا لم تصدر في كتاب.
عرفتُ حنا في ٧٠ القرن ٢٠، فقد زرت والقاص جمال بنورة والكاتب محمد كمال جبر مكاتب «الاتحاد»، وهي جريدة الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح)، وهناك التقينا، - وكنا مشاريع كتاب - به وبعفيف سالم وسميح القاسم ومرحبنا يومها أميل حبيبي دون أن يجلس معنا.
في تلك الزيارة أهدانا حنا نسخة من مجموعته القصصية الأولى ومهرها بعبارة «إلى إخوتي في الهم»، فيما أهداه القاص بنورة مجموعته الأولى التي صدرت في ١٩٧٦ عن منشورات صلاح الدين في القدس، وتجاذبنا أطراف الحديث مع الكاتب الجاد الذي كان جاداً وجدياً وكانت كلماته تقطر حزناً.
كان حنا كاتباً ملتزماً صدر في كتابته عن فكر ماركسي يلحظ تأثيره في كثير من أعماله، ويتجسد في تصوره للذات الفردية والجماعية وللآخر أياً كان، ويحضر الآخر في أعماله حضوراً لافتاً، ولا يقتصر على اليهود، فالقاص بحكم تجربته، وسفره إلى بعض الدول الاشتراكية، تعرف إلى إنجليز وروس وآخرين، وكتب عمّن التقى بهم أو عرفهم أو سمع قصصهم.
ولأنه صدر في كتابته عن فكر ماركسي، ولأنه ظل منتمياً إلى الحزب الشيوعي حتى نهاية ٨٠ القرن ٢٠، فإنك لا تقرأ في كتابته تصورات نمطية - ستيريوتيب - وإنما تلحظ تعدداً في صور الآخر، فليس اليهود ولا الإنجليز ولا العرب كلهم سواء، وأعتقد أن هناك قيمة اجتماعية كبيرة، في هذا الجانب، لأعماله، لا تقل عن قيمتها الاجتماعية والسياسية التي صورت حياة البقية الباقية من الفلسطينيين في أرضهم إثر نكبة ١٩٤٨. صحيح أن قيمتها الأدبية والفنية قد يثار جدل حولها، ولكن جدلاً ما لن يثار أبداً حول قيمتها الاجتماعية.
في قصصه القصيرة، وهو من الأصوات البارزة، كتب عن معاناة أبناء شعبه ممن بقوا دون أن يغفل الكتابة عن الذين أجبروا على اللجوء واضطر قسم منهم إلى العودة تسللاً، فكان تارة يقتل وطوراً ينجح في البقاء وثالثة يعاد من حيث جاء متسللاً. كتب عن الصمود وحث عليه وأعطى قيمة عليا للأرض وللإنسان معاً وشعر بغربة في داخل وطنه.
الشهرة التي حققها في قصصه لم تحققها، كما ذكرت، أشعاره ورواياته، وظل يعرف قاصاً أكثر منه شاعراً وروائياً. لقد كانت أشعاره في أغلبها عمودية كلاسيكية المذهب تنهج نهج الأقدمين لغة ومفردات وصوراً، ويبدو أنه كان مغرماً بالشعر العربي القديم وحافظاً له غرامه بالتراث الشعبي الذي لم تخل منه كتاباته النثرية، فقد كان مطعماً بها، وكان لبيئته الريفية، هو ابن قرية البعنة، تأثير كبير في هذا الجانب.
ومثل أكثر كتاب القصة القصيرة في الأدب الفلسطيني، فقد أخذ يكتب الرواية، وصدرت له في ٩٠ القرن ٢٠ روايتان هما «أوجاع البلاد المقدسة» و «موسى الفلسطيني»، وقد طعمهما بالشعر العربي الفصيح وبالأدب الشعبي وأشكاله، وعبر فيهما عن الواقع الفلسطيني الذي عرفه وخبره جيداً منذ بداية الأربعينيات.
اختار حنا لسيرته في جزئها الأول «ذكريات شاب لم يتغرب» عنواناً لافتاً يتناص مع المثل الشعبي «ما أكذب من شاب تغرب إلا رجل مات أبناء جيله»، وحنا لم يتغرب وحين كتب كان بعض أبناء جيله قد مات وبقي قسم منهم على قيد الحياة.
عدا تصوير السيرة لحياة الشعب الفلسطيني تحت حكم الدولة الإسرائيلية المحتلة، فإن حنا يكتب عن علاقته بالحزب الشيوعي منذ انتمائه إلى عصبة التحرر حتى فصله من الحزب، وكان فصله جاء على خلاف مع رفاقه، وقد خاض بهذا في الصفحات الأخيرة من الجزء الثاني بالتفصيل، معبراً عن حزنه الشديد لما حدث، هو الذي أخلص للحزب وتفانى في خدمته.
هل يتذكر القراء قصيدة محمود درويش «سجل أنا عربي»؟
وأنا في الجامعة أشرفت على رسالة ماجستير عنوانها «حنا إبراهيم أدبياً»، وقد قابل الدارس أحمد أبو بكر حنا ليسأله عن حياته وأعماله، ومما قاله الكاتب للدارس: إن قصيدة «سجل أنا عربي» تعود فكرتها إليه، فالقصة حدثت معه وقصها هو بدوره على الشاعر فكتب القصيدة.
«وأعمل مع رفاق الكدح في محجر»، وكما ورد في سيرة حنا، فإنه حين ضيّقت سلطات الاحتلال فرص العمل عليه عمل بالفعل حجاراً في محجر.
وفي حنا إبراهيم عموماً ونشاطه بين الجماهير لمقاومة الحكم العسكري والوقوف في وجهه كتب الزجال الشعبي:
«حنا إبراهيم يكتب مزابط
أذناب الحكومة حولها تخابط
يا رمزي الخوري علينا ضابط
ونديم الموسى شاويش يكونا!».
ورحم الله حنا إبراهيم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى