منذ فترة أرسل لي الزميل الروائي حامد الناظر صاحب رواية «نبوءة السقا» صورة من مكان ما في مدينة طوكر، أقصى شرق السودان قريبا من الحدود الإريترية، المدينة التي عملت فيها قرابة العامين واستوحيت منها عملين هما «سيرة الوجع»، ورواية «اشتهاء»، وعشرات الشخصيات والأساطير، واللغة والمعتقدات الشعبية.
وعلى الرغم من أن المدينة نفسها كانت يابسة ومغبرة في معظم أيام العام، وتبدو بيوتها قديمة وأماكنها محدودة، إلا أنها كانت تحفل بحياة خصبة، تتراكض خلف ذلك اليباس.
كان السكان طيبين ومسالمين، ولهم تراثهم وإلفتهم وتحضرهم الذاتي الذي يدلقونه على الغريب، فلا يحس بغربة ولا ملل، ومنذ أول يوم لوصول الغريب إلى البلدة، يجد أن هناك من ينتظره، هناك من يسأل عنه، وهناك من ينحر له الذبائح فقط لأنه غريب. وفي العرف أن للغرباء القادمين للعمل سواء كانوا أطباء أو معلمين أو بيطريين، أو موظفين إداريين، مكانة ينبغي أن تكون كبيرة وسامية، لدرجة أن بعض أولئك الغرباء، يتآلفون مع البلدة وقد يتزوجون منها، ولا يبرحونها بعد ذلك أبدا.
بالنسبة لمن عشق الكتابة مثلي، كانت البلدة هدية كبرى بالفعل، الشخصيات الموحية موجودة بكثرة، والحكايات تنسج بعضها بعضا وتأتي جاهزة للكتابة، وأي جلسة في السوق أمام دكان آل الحداد، أو العم حسن، أو في مطعم عبد الحليم، تتيح مراقبة المجتمع، لأن المجتمع الصغير كله يمر أمامك، يمر الرجال الصارمون والضاحكون والأثرياء والفقراء، والمكتملون والذين يحملون العاهات، تمر النساء الجميلات وغير الجميلات، المزركشات بزينة المدن الغالية التي تجلب من بعيد، والمزركشات بالزينة المحلية المقلدة، يمر الأطفال بمختلف وجوههم وشيطنتهم، وتمر الكسور وجبائر الكسور، ويمر المعنى الذي يمكن أن يدون كمعنى أخاذ والذي لا يدون بوصفه معنى لئيم ومجحف.
تذكرت كل ذلك وأنا أتأمل الصورة، أشاهد اليباس فعلا في بيوت تبدو ساكنة ومهلهلة، أو لعل ما في الصورة كان مدرسة قضى على وجودها الزمن وتداعت، أو جزءا من المستشفى الذي عملت فيه، ولم أتعرف عليه الآن. أرى سكونا كبيرا، وعربة لتوزيع الماء يجرها حمار هزيل، ودائما ما أصف الحمير والكلاب التي تسكن البلدة حين أتحدث عنها في الكتابات بأنها هزيلة، وقلت مرة في أحد النصوص المستوحاة من هناك، أن الكلاب كانت تسند مؤخراتها إلى الحيطان، حتى تنبح بأمانة وشرف، ولم أكن مغاليا في ذلك، فقد صادف الأمر موسم جفاف معقد، جفت فيه الحياة تقريبا ونشطت الإغاثة المقبلة من كل مكان.
المهم هو أنني صنفت تلك البلدة بما وهبتني من ثراء حكائي، مدينة موحية، يستطيع من أراد كتابتها أو كتابة مكان مواز لها، أن يكتب بكل تدفق وانسياب، لا أحد في أي مكان يشبه الممرض سمبابة أوهاج، الذي يقوم بدور الممرض ورجل الأمن الذي يحمي الطبيب إن لاح خطر في الأفق، لا أحد يشبه العم سعيد، الطباخ الذي يعد الموائد الشبيهة بموائد الفنادق الكبرى، للضيوف القادمين لتفقد البلدة من وزراء ومحافظين، وزراعيين، ما زالوا يأملون في خير قد يأتي من استغلال دلتا النهر الموسمي بصورة أفضل، ولا أحد يشبه نفيسة، المرأة العجوز المغموسة في دم الأساطير، وعزيز الذي كان ممرضا يأتي للعمل لينام في أي عنبر بجوار مرضى هو موكل برعايتهم، وكثير من شخصيات سيرة الوجع التي كتبت في شكل يوميات.
ولا أنسى تاريخ البلدة التي اعتبرت ذات يوم منفى لشخصيات مصرية مثل الشاعر حافظ إبراهيم، عاشت فيها، في بيوت صغيرة، وتركت تذكاراتها وبعض تلك الشخصيات ترك سلالة أيضا، كانت واضحة بين سلالات الهنود والأتراك والأكراد الذين غزوا البلدة قديما، حين كانت أكبر سوق لبيع القطن الطويل التيلة. وأكد لي العم عبد الرحيم، عامل الكهرباء القديم، الذي يعيش في البلدة وقد غدت بلا كهرباء، إن البلدة كانت ثاني أو ثالث مكان في البلاد دخلته الكهرباء، وحقيقة لا أستطيع أن أتأكد من كلامه، فربما كانت بالفعل مهمة لدرجة أن تدخلها الكهرباء مباشرة بعد أن دخلت العاصمة.
لا أريد أن أشبه طوكر بأي بلدة أو مدينة أخرى، وفقط أود العثور على رابط بينها وبين المدن الأخرى التي تشد الكتاب والشعراء، وتمنحهم الكثير، مثل مدينة طنجة الساحلية التي عاش فيها عدد من الكتاب الغربيين مثل بول بولز، وتينسي وليامز، وجان جينيه، وبعضهم مات ودفن فيها.
طنجة موحية فعلا، لكنها ليست يابسة، والذي يقرأ قصة «السماء الواقية» التي تدور في طنجة والصحراء، يوقن بسحر تلك البقعة، وأنها بالفعل من الأماكن الملائمة لكتابة النصوص المدهشة، طنجة ألهمت الكثيرين لأن كثيرين عاشوا فيها، ولأن لها جاذبية العيش، في الوقت نفسه لها جاذبية منح الحكايات حتى لمن يزورها عابرا، كذلك مدن أخرى في المغرب، لها تلك الخاصية. وكنت قد قرأت كتابا للألماني إلياس كانيتي، هو «أصوات مراكش»، ويبدو أدب رحلات، وفيه تحس بروائح المكان وروحه وأصواته، لقد صور كانيتي الحياة الساحرة بطريقة لم تمس من سحرها أبدا.
أعتقد أن الأماكن التي تمنح سحر الحكاية كثيرة، وقد أوردت مكانا خشنا في صحراء خشنة، ومكانا يطل على البحر، ويبدو جاذبا للسياحة والحياة، وفي عرف الكتاب، لا فرق بين هذا وذاك في منح الخامات التي يمكن أن تصاغ رواية أو أدب رحلات، ولطالما كانت الصحارى بكل ما فيها من جدب وتوهان وسراب، ملجأ لنصوص ناجحة مثل نصوص الليبي إبراهيم الكوني.
الكاتب لا يبقى في السطح، يرتجف أو يتوجس مما يراه، لكنه يغوص في العمق، ويخرج بالكثير. وبالنسبة لبلدة طوكر، أقول بصراحة إنني ما زلت أملك خاماتها القابلة للتوظيف في النصوص، وعلى الرغم من أنني زرت مدنا كثيرة فيها من الجمال والغرابة أيضا، إلا أن ذلك المنبع، يظل صافيا إلى الآن، وقابلا لانتشال ماء حكايات جديدة.
وعلى الرغم من أن المدينة نفسها كانت يابسة ومغبرة في معظم أيام العام، وتبدو بيوتها قديمة وأماكنها محدودة، إلا أنها كانت تحفل بحياة خصبة، تتراكض خلف ذلك اليباس.
كان السكان طيبين ومسالمين، ولهم تراثهم وإلفتهم وتحضرهم الذاتي الذي يدلقونه على الغريب، فلا يحس بغربة ولا ملل، ومنذ أول يوم لوصول الغريب إلى البلدة، يجد أن هناك من ينتظره، هناك من يسأل عنه، وهناك من ينحر له الذبائح فقط لأنه غريب. وفي العرف أن للغرباء القادمين للعمل سواء كانوا أطباء أو معلمين أو بيطريين، أو موظفين إداريين، مكانة ينبغي أن تكون كبيرة وسامية، لدرجة أن بعض أولئك الغرباء، يتآلفون مع البلدة وقد يتزوجون منها، ولا يبرحونها بعد ذلك أبدا.
بالنسبة لمن عشق الكتابة مثلي، كانت البلدة هدية كبرى بالفعل، الشخصيات الموحية موجودة بكثرة، والحكايات تنسج بعضها بعضا وتأتي جاهزة للكتابة، وأي جلسة في السوق أمام دكان آل الحداد، أو العم حسن، أو في مطعم عبد الحليم، تتيح مراقبة المجتمع، لأن المجتمع الصغير كله يمر أمامك، يمر الرجال الصارمون والضاحكون والأثرياء والفقراء، والمكتملون والذين يحملون العاهات، تمر النساء الجميلات وغير الجميلات، المزركشات بزينة المدن الغالية التي تجلب من بعيد، والمزركشات بالزينة المحلية المقلدة، يمر الأطفال بمختلف وجوههم وشيطنتهم، وتمر الكسور وجبائر الكسور، ويمر المعنى الذي يمكن أن يدون كمعنى أخاذ والذي لا يدون بوصفه معنى لئيم ومجحف.
تذكرت كل ذلك وأنا أتأمل الصورة، أشاهد اليباس فعلا في بيوت تبدو ساكنة ومهلهلة، أو لعل ما في الصورة كان مدرسة قضى على وجودها الزمن وتداعت، أو جزءا من المستشفى الذي عملت فيه، ولم أتعرف عليه الآن. أرى سكونا كبيرا، وعربة لتوزيع الماء يجرها حمار هزيل، ودائما ما أصف الحمير والكلاب التي تسكن البلدة حين أتحدث عنها في الكتابات بأنها هزيلة، وقلت مرة في أحد النصوص المستوحاة من هناك، أن الكلاب كانت تسند مؤخراتها إلى الحيطان، حتى تنبح بأمانة وشرف، ولم أكن مغاليا في ذلك، فقد صادف الأمر موسم جفاف معقد، جفت فيه الحياة تقريبا ونشطت الإغاثة المقبلة من كل مكان.
المهم هو أنني صنفت تلك البلدة بما وهبتني من ثراء حكائي، مدينة موحية، يستطيع من أراد كتابتها أو كتابة مكان مواز لها، أن يكتب بكل تدفق وانسياب، لا أحد في أي مكان يشبه الممرض سمبابة أوهاج، الذي يقوم بدور الممرض ورجل الأمن الذي يحمي الطبيب إن لاح خطر في الأفق، لا أحد يشبه العم سعيد، الطباخ الذي يعد الموائد الشبيهة بموائد الفنادق الكبرى، للضيوف القادمين لتفقد البلدة من وزراء ومحافظين، وزراعيين، ما زالوا يأملون في خير قد يأتي من استغلال دلتا النهر الموسمي بصورة أفضل، ولا أحد يشبه نفيسة، المرأة العجوز المغموسة في دم الأساطير، وعزيز الذي كان ممرضا يأتي للعمل لينام في أي عنبر بجوار مرضى هو موكل برعايتهم، وكثير من شخصيات سيرة الوجع التي كتبت في شكل يوميات.
ولا أنسى تاريخ البلدة التي اعتبرت ذات يوم منفى لشخصيات مصرية مثل الشاعر حافظ إبراهيم، عاشت فيها، في بيوت صغيرة، وتركت تذكاراتها وبعض تلك الشخصيات ترك سلالة أيضا، كانت واضحة بين سلالات الهنود والأتراك والأكراد الذين غزوا البلدة قديما، حين كانت أكبر سوق لبيع القطن الطويل التيلة. وأكد لي العم عبد الرحيم، عامل الكهرباء القديم، الذي يعيش في البلدة وقد غدت بلا كهرباء، إن البلدة كانت ثاني أو ثالث مكان في البلاد دخلته الكهرباء، وحقيقة لا أستطيع أن أتأكد من كلامه، فربما كانت بالفعل مهمة لدرجة أن تدخلها الكهرباء مباشرة بعد أن دخلت العاصمة.
لا أريد أن أشبه طوكر بأي بلدة أو مدينة أخرى، وفقط أود العثور على رابط بينها وبين المدن الأخرى التي تشد الكتاب والشعراء، وتمنحهم الكثير، مثل مدينة طنجة الساحلية التي عاش فيها عدد من الكتاب الغربيين مثل بول بولز، وتينسي وليامز، وجان جينيه، وبعضهم مات ودفن فيها.
طنجة موحية فعلا، لكنها ليست يابسة، والذي يقرأ قصة «السماء الواقية» التي تدور في طنجة والصحراء، يوقن بسحر تلك البقعة، وأنها بالفعل من الأماكن الملائمة لكتابة النصوص المدهشة، طنجة ألهمت الكثيرين لأن كثيرين عاشوا فيها، ولأن لها جاذبية العيش، في الوقت نفسه لها جاذبية منح الحكايات حتى لمن يزورها عابرا، كذلك مدن أخرى في المغرب، لها تلك الخاصية. وكنت قد قرأت كتابا للألماني إلياس كانيتي، هو «أصوات مراكش»، ويبدو أدب رحلات، وفيه تحس بروائح المكان وروحه وأصواته، لقد صور كانيتي الحياة الساحرة بطريقة لم تمس من سحرها أبدا.
أعتقد أن الأماكن التي تمنح سحر الحكاية كثيرة، وقد أوردت مكانا خشنا في صحراء خشنة، ومكانا يطل على البحر، ويبدو جاذبا للسياحة والحياة، وفي عرف الكتاب، لا فرق بين هذا وذاك في منح الخامات التي يمكن أن تصاغ رواية أو أدب رحلات، ولطالما كانت الصحارى بكل ما فيها من جدب وتوهان وسراب، ملجأ لنصوص ناجحة مثل نصوص الليبي إبراهيم الكوني.
الكاتب لا يبقى في السطح، يرتجف أو يتوجس مما يراه، لكنه يغوص في العمق، ويخرج بالكثير. وبالنسبة لبلدة طوكر، أقول بصراحة إنني ما زلت أملك خاماتها القابلة للتوظيف في النصوص، وعلى الرغم من أنني زرت مدنا كثيرة فيها من الجمال والغرابة أيضا، إلا أن ذلك المنبع، يظل صافيا إلى الآن، وقابلا لانتشال ماء حكايات جديدة.