لم يكن الزواج على "أجندة" نجيب محفوظ ولا فى قائمة أولوياته، بل ظل لسنوات طويلة يهرب منه ويخشاه ويعتبره خطرا على مستقبله الأدبى، وترسخ فى ذهنه أن الزواج يعنى أن يضيع وقته ويبدد طاقته بين زوجة وأولاد وواجبات اجتماعية، لا شك أنها ستستنزفه، وتأخذه من الكتابة وتعكر مزاجه وصفو حياته التى كان قد أوقفها على الكتابة.. والكتابة وحدها بلا شريك.
ثم لماذا يتزوج؟ إنه يعيش مع والدته، وفى كنفها يتمتع بخدمة خمسة نجوم، يعود إلى البيت فيجد طعامه جاهزا وملابسه نظيفة وحجرته مرتبة، فما الذى يطلبه أكثر من ذلك حتى يتفرغ لما هو أهم وأبقى.
وظلت الخطة تسير بنجاح كامل، إلى أن تجاوز الأربعين من عمره، هنا جدّت فى الأمور أمور ووجد نفسه يعيد التفكير فى حياته وتتقدم فكرة الزواج لتطرح نفسها على رأس الأولويات.. وبإلحاح.
حينها، مع مطلع سنوات الخمسينيات، كانت والدته قد تقدمت فى العمر، وصحتها تراجعت كثيرا، ولم تعد قادرة على "شغل البيت"، وأصبح "حديث الصباح والمساء" بينهما هو الزواج، وراحت تلح عليه أن يبحث عن زوجة، ولما رأت منه تهربا ومماطلة تكفلت هى بالمهمة وأصبح شغلها الشاغل أن تبحث له عن زوجة مناسبة.
وأخيرا جاءت له بعروس رأت أنها "لقُطة" وأصرت عليها بل فاتحت أمها وحصلت منها على موافقة مبدئية، ووجد نجيب نفسه محاصرا، ومطلوبا منه أن يستسلم ويتزوج من العروس التى اختارتها أمه.
كانت العروس قريبة له، على درجة عالية من الثراء، تعلمت فى مدارس أجنبية، صحيح أنها ليست على درجة مغرية من الجمال، لكن ثروتها وثروة أسرتها تشفعان لها وتسيلان لعاب أى رجل، خاصة وأن أسرة العروس ستتكفل بنفقات الزواج الأساسية وتكاليفه المرهقة، وهى ميزة اعتبرتها أم نجيب مناسبة جدا لظروف ابنها، الذى لم يكن "يحتكم" سوى على مرتبه الضئيل من وزارة الأوقاف، بل يصرف أغلبه على "الأدب"، الحرفة التى أدركته واللعنة التى أصابته والمهنة التى لا تفتح بيتا. ومن ثم فهى فرصة عظيمة أن يتزوج من عروس "تحتكم" على ربع مليون جنيه، وهو مبلغ خرافى بحسابات ذلك الزمان. وبمقاييس أهل العروس كان نجيب زوجا مناسبا جدا، فهو من "العيلة" ويعرفون تربيته وأخلاقه وترفعه، ومن ثم فهو الوحيد الذى لن يطمع فى ثروة ابنتهم، وهو الوحيد المؤتمن عليها.
لكن بمقاييس نجيب كان الأمر مختلفا جدا، حيث اعتبر هذه الزيجة مساسا بكرامته بل وإهانة تستوجب الهروب منها، حتى لو كان الثمن غضب أمه وضياع "العروس اللقُطة" التى طلبتها بالفعل لابنها، وأصبح رفضه أو امتناعه عن إتمامها "إهانة" لها شخصيا.. لا تغتفر !
(1)
وفى قلب هذه "المعمعة" كان نجيب وقتها يعيش "أزمة" أخرى كانت على نفسه أصعب وأخطر، فقد كان يمر بفترة عصيبة من "الجفاف الإبداعى"، توقف خلالها عن الكتابة، وأصبحت الحياة بالنسبة له مملة وكئيبة ولا تحتمل، وسيطر عليه إحساس بأن عليه أن يتخذ قرارا ثوريا يغير به مجرى حياته، وفى تلك الحالة اتخذ قراره بالزواج.. ولكن من "شريكة عمر" بمقاييسه هو.
ويمكننا أن نقول بلا مبالغة إن نجيب محفوظ تزوج بـ "القلم والمسطرة"، وبمواصفات عقلية بحتة، تغلب فيها عقله على عاطفته، واختار زوجة مناسبة لظروفه وشخصيته ولمهمته الكبرى فى الحياة.. وهو ما اعترف به لرجاء النقاش وهو يروى له سيرته: "كنت فى حاجة إلى زوجة توفر لى ظروفا مريحة تساعدنى على الكتابة ولا تنغص حياتى، زوجة تفهم أننى لست كائنا اجتماعيا، ولا أحب أن أزور أحدا أو يزورنى أحد، وأننى وهبت حياتى كلها للأدب".
ووجد نجيب ضالته ومبتغاه فى "عطية الله".. قابلها مصادفة، كانت شابة صغيرة ربما لم تبلغ بعد الثامنة عشرة من عمرها، كان فى زيارة لصديق له بالإسكندرية، وفى أثناء الزيارة تقابل مع أخت زوجة صديقه، أعجبه فيها هدوءها ورزانتها ورجاحة عقلها رغم سنوات عمرها القليلة، وبحساباته العقلية وجد فيها الزوجة التى يبحث عنها، وأدرك أنها فرصته الأخيرة وأنه لو ظل على تردده فلن يتزوج أبدا.. كانت العقبة الكبرى هى فارق العمر الكبير، فحينها كان قد جاوز الأربعين، أى يكبرها بنحو ربع قرن.. لكنه فوجئ بموافقتها!
وهكذا تزوج العازب الشهير من "عطية الله إبراهيم رزق" فى العام1954.
كانت المشكلة الأصعب هو أنه لن يستطيع أن يخبر أمه بأمر زواجه، إنه يدرك فداحة الموقف وتبعاته وما يمكن أن يجره من تأثير مدمر على علاقته بأمه، وكان يحبها ويقدرها ولا يقدر على إغضابها.. فكان الحل الوحيد هو أن يكون زواجه سريا وأن يتكتم خبره حتى لا يتسرب لأمه، ولذلك لم يعرف به إلا إخوته.. بل إنه دخل بعروسه فى شقة أخيه "محمد".
وظل زواج نجيب محفوظ سريا لسنوات بعدها، ولذلك تجد المعلومات المتاحة عنه فى تلك الفترة شحيحة وغامضة ومتضاربة، فمن بين المرويات المتداولة أنه استأجر لعروسه "عوامة" من العوامات التى كانت متناثرة على شط النيل، وحدث أن وقعت حادثة فى عوامة مجاورة، إذ سقطت ابنة صاحبها الطفلة فى الماء وماتت غرقا، فتشاءمت "عطية الله" وكانت حاملا فى ابنتهما الأولى "أم كلثوم"، وألحت أن ينتقلا من الماء إلى البر، ولم يبتعد نجيب كثيرا عن النيل الذى يعشقه، فقد صادفه التوفيق فى شقة "العجوزة" التى تقع على مرمى حجر من "العوامة". وحافظ نجيب على سرية زواجه لسنوات وبنجاح تام، لدرجة أنه كان يُسأل حينها فى كل حواراته الصحفية سؤالا ثابتا عن أسباب إضرابه عن الزواج، فيجيب بجدية كاملة ويوضح أن ظروفه الأسرية حرمته من تحقيق هذه الأمنية.. إلى أن انكشف ستر الزواج بعد نحو عشر سنوات من دخول نجيب "عوامة الزوجية"، وكان افتضاح أمره مصادفة رغم كل "الإجراءات الاحترازية"، وبسيناريو لم يخطر له على بال.. فقد تشاجرت "أم كلثوم" فى المدرسة الابتدائية مع زميلة لها، مشاجرة طفولية ساذجة ولكنها كانت كفيلة بالكشف عن هويتها وأنها ابنة الأديب الشهير نجيب محفوظ.. ووصل الخبر بالصدفة إلى صلاح جاهين، صديق نجيب وزميل شلة الحرافيش، فغاظه أن يخدعه نجيب كل هذه السنوات ويخفى عنه زواجه، وما هى إلا ساعات حتى كان الخبر يتصدر جلسات النميمة فى مصر كلها، ويعرف الجميع أن نجيب متزوج و"عنده أولاد كمان"!
(2)
لم يدع نجيب محفوظ أبدا أنه تزوج عن قصة حب ولو على سبيل المجاملة، لكن المؤكد أن التجربة أثبتت له أن الاختيار الموفق لا يشترط أن يكون "عن حب"، وأن ما قدره وتمناه فى زواجه تحقق له وزيادة، وأن "عطية الله" أسهمت بجدارة فى مشروعه الروائى بتوفيرها الجو الذى مكنه من الإبداع والتألق.. اسمع إلى تقييمه العملى للتجربة: "وجدت فى "عطية الله" هذا التفهم وتلك الصفات المناسبة لى، واستطاعت هذه الزوجة أن توفر لى جوا مناسبا جعلنى أتفرغ للكتابة والقراءة، حتى أن إخوتى عندما كانوا يقومون بزياراتهم المعتادة لنا، كانت زوجتى تستقبلهم وتجلس معهم وتتركنى وشأنى، حتى لا أضيع وقتى فى مثل هذه الواجبات الاجتماعية".
"ومن مزايا زوجتى أن أسرتها محدودة، حتى شقيقتها وزوجها سافرا إلى ليبيا، وكان لها خال عجوز يعيش دائما فى البلدة ولا يجىء مصر إلا نادرا، وكان ذلك بخلاف مشاريع الزواج الأخرى المعدة لى، إذ أنها كانت تقع فى بؤرة علاقات اجتماعية متشابكة، وكنت مضطرا فى حالة ارتباطى بعلاقة منها إلى تبديد وقتى فى المجاملات والزيارات، أو أن أصبح مثيرا للاستنكار، كأن يقال مثلا هذا زوج لا يزور ولا يحب الزيارة".
آمنت الزوجة برسالة زوجها فى الحياة، وأنه منذور للكتابة والأدب، وأنه ليس زوجا عاديا ولا رجلا من ذلك النوع الذى يمكن شغله فى تفاصيل وروتين الحياة اليومية، من توصيل "العيال" للمدرسة أو تغيير "أنبوبة البوتاجاز".. لأنه لا يعرف سوى أن يقرأ ويكتب!
مع طول العشرة كانت تحفظه ككف يدها، وتعرف مزاجه من مجرد نظرة ملامحه، وتدرك متى تحدثه فى شئون البيت إذا كان هناك ما يستدعى رأيه وقراره، وتحفظ متى تعلن حالة "الطوارئ" عندما يدخل فى "أيام المخاض" التى تسبق كتابة رواية جديدة، وفيها يكون شديد العصبية والتوتر، ويحتاج إلى جو مناسب يعينه على تفكير عميق فى "المولود الجديد"، فتصدر أوامرها إلى "أم كلثوم وفاطمة" بالتزام الهدوء، و"تتسحب" على أطراف أصابعها لتضع له مشروباته المفضلة على مكتبه، الينسون والكراوية فى الشتاء والماء "الساقع" فى أيام الحر، وتظل تشاركه "الولادة العسرة" إلى أن يمسك بالقلم ويشرع فى الكتابة، عندها تتنفس الصعداء وتعرف أن المرحلة الصعبة مرت بسلام.
ونظلم نجيب محفوظ إذا تصورنا أنه "طلق" الزواج ونفض يده من مسئولياته كزوج، فالحق أنه حاول مع نظام حياته الصارم أن يمارس دوره كزوج وأب ورب أسرة، خاصة بعد إنجابه لابنتيه، فقد خصص يوما فى الأسبوع لأسرته، يقضيه معهم فى "فسحة" خارج البيت، وغالبا كان "يعزمهم" على فيلم جديد فى السينما، وإذا كانت ظروفه المادية لا تسمح بدفع تذاكر السينما فإنه كان يكتفى بنزهة فى الحدائق العامة.. وفى إجازته السنوية كان غالبا يصحبهم إلى الإسكندرية.. مصيفه المفضل والدائم.
(3)
ارتضت "عطية الله" بدور الجندى المجهول فى حياة نجيب محفوظ، وقنعت أن تبقى فى الظل، وظل هو طوال عمره يعتبر زوجته وبناته وبيته منطقة محرمة غير قابلة "للهتك".
ولذلك لن تجد زوجته حاضرة إعلاميا فى مشواره المديد سوى فى وقائع نادرة، كان منها مثلا ذلك الظهور الخاطف بعد فوزه بجائزة نوبل فى العام1988، فقد أجرى معها حوارات صحفية فرضها الحدث المدوى، كشفت فيه عن جوانب إنسانية فى حياة أديب نوبل، وتداخلها فى الحدث، فقد كانت هى التى تلقت الاتصال الأول بفوزه بأرفع جائزة أدبية فى العالم، ولما أيقظته لتزف إليه الخبر لم يصدقها فى البداية وعاد لإكمال نومه وهو يشيح بيديه: "يا شيخة بلاش تخريف".. وأمام إلحاحها اضطر لأن يقطع ساعات نومه المقدسة!.. والراجح أنها كانت صاحبة فكرة سفر بناتها لاستلام الجائزة من ملك السويد بعد أن حالت ظروف زوجها الصحية دون سفره لاستلام الجائزة بنفسه.. وبذلت جهدا فى "تجهيز" بناتها واختيار أزياء تليق بتلك المناسبة التاريخية.
وعاد اسم "عطية الله" ليطل من جديد فى محاولة اغتيال نجيب محفوظ الآثمة فى14أكتوبر1994، حيث كانت هى التى فتحت باب بيتها للجناة عندما جاءوا قبلها متنكرين فى ملابس خليجية لقتله فى بيته، لكنها اعتذرت لهم وصرفتهم، فتأجلت خطتهم الشيطانية بسببها.. ولما نُقل نجيب محفوظ إلى مستشفى الشرطة بين الحياة والموت فإنها ظلت إلى جواره فى المستشفى حتى خرج منها، وجندت نفسها لمتابعة علاجه الطبيعى المرهق.. وكانت هى سنده الأخير حتى ودع الدنيا فى العام2006، ولحقت هى به بعد ثمانى سنوات.
وقبل رحيله منحها نجيب محفوظ هذا الوسام: "إذا كان لأحد فضل فى المكانة التى وصلت إليها بعد الله سبحانه وتعالى فهى زوجتى "عطية الله".. التى كانت بالفعل عطية من الله لى".
ثم لماذا يتزوج؟ إنه يعيش مع والدته، وفى كنفها يتمتع بخدمة خمسة نجوم، يعود إلى البيت فيجد طعامه جاهزا وملابسه نظيفة وحجرته مرتبة، فما الذى يطلبه أكثر من ذلك حتى يتفرغ لما هو أهم وأبقى.
وظلت الخطة تسير بنجاح كامل، إلى أن تجاوز الأربعين من عمره، هنا جدّت فى الأمور أمور ووجد نفسه يعيد التفكير فى حياته وتتقدم فكرة الزواج لتطرح نفسها على رأس الأولويات.. وبإلحاح.
حينها، مع مطلع سنوات الخمسينيات، كانت والدته قد تقدمت فى العمر، وصحتها تراجعت كثيرا، ولم تعد قادرة على "شغل البيت"، وأصبح "حديث الصباح والمساء" بينهما هو الزواج، وراحت تلح عليه أن يبحث عن زوجة، ولما رأت منه تهربا ومماطلة تكفلت هى بالمهمة وأصبح شغلها الشاغل أن تبحث له عن زوجة مناسبة.
وأخيرا جاءت له بعروس رأت أنها "لقُطة" وأصرت عليها بل فاتحت أمها وحصلت منها على موافقة مبدئية، ووجد نجيب نفسه محاصرا، ومطلوبا منه أن يستسلم ويتزوج من العروس التى اختارتها أمه.
كانت العروس قريبة له، على درجة عالية من الثراء، تعلمت فى مدارس أجنبية، صحيح أنها ليست على درجة مغرية من الجمال، لكن ثروتها وثروة أسرتها تشفعان لها وتسيلان لعاب أى رجل، خاصة وأن أسرة العروس ستتكفل بنفقات الزواج الأساسية وتكاليفه المرهقة، وهى ميزة اعتبرتها أم نجيب مناسبة جدا لظروف ابنها، الذى لم يكن "يحتكم" سوى على مرتبه الضئيل من وزارة الأوقاف، بل يصرف أغلبه على "الأدب"، الحرفة التى أدركته واللعنة التى أصابته والمهنة التى لا تفتح بيتا. ومن ثم فهى فرصة عظيمة أن يتزوج من عروس "تحتكم" على ربع مليون جنيه، وهو مبلغ خرافى بحسابات ذلك الزمان. وبمقاييس أهل العروس كان نجيب زوجا مناسبا جدا، فهو من "العيلة" ويعرفون تربيته وأخلاقه وترفعه، ومن ثم فهو الوحيد الذى لن يطمع فى ثروة ابنتهم، وهو الوحيد المؤتمن عليها.
لكن بمقاييس نجيب كان الأمر مختلفا جدا، حيث اعتبر هذه الزيجة مساسا بكرامته بل وإهانة تستوجب الهروب منها، حتى لو كان الثمن غضب أمه وضياع "العروس اللقُطة" التى طلبتها بالفعل لابنها، وأصبح رفضه أو امتناعه عن إتمامها "إهانة" لها شخصيا.. لا تغتفر !
(1)
وفى قلب هذه "المعمعة" كان نجيب وقتها يعيش "أزمة" أخرى كانت على نفسه أصعب وأخطر، فقد كان يمر بفترة عصيبة من "الجفاف الإبداعى"، توقف خلالها عن الكتابة، وأصبحت الحياة بالنسبة له مملة وكئيبة ولا تحتمل، وسيطر عليه إحساس بأن عليه أن يتخذ قرارا ثوريا يغير به مجرى حياته، وفى تلك الحالة اتخذ قراره بالزواج.. ولكن من "شريكة عمر" بمقاييسه هو.
ويمكننا أن نقول بلا مبالغة إن نجيب محفوظ تزوج بـ "القلم والمسطرة"، وبمواصفات عقلية بحتة، تغلب فيها عقله على عاطفته، واختار زوجة مناسبة لظروفه وشخصيته ولمهمته الكبرى فى الحياة.. وهو ما اعترف به لرجاء النقاش وهو يروى له سيرته: "كنت فى حاجة إلى زوجة توفر لى ظروفا مريحة تساعدنى على الكتابة ولا تنغص حياتى، زوجة تفهم أننى لست كائنا اجتماعيا، ولا أحب أن أزور أحدا أو يزورنى أحد، وأننى وهبت حياتى كلها للأدب".
ووجد نجيب ضالته ومبتغاه فى "عطية الله".. قابلها مصادفة، كانت شابة صغيرة ربما لم تبلغ بعد الثامنة عشرة من عمرها، كان فى زيارة لصديق له بالإسكندرية، وفى أثناء الزيارة تقابل مع أخت زوجة صديقه، أعجبه فيها هدوءها ورزانتها ورجاحة عقلها رغم سنوات عمرها القليلة، وبحساباته العقلية وجد فيها الزوجة التى يبحث عنها، وأدرك أنها فرصته الأخيرة وأنه لو ظل على تردده فلن يتزوج أبدا.. كانت العقبة الكبرى هى فارق العمر الكبير، فحينها كان قد جاوز الأربعين، أى يكبرها بنحو ربع قرن.. لكنه فوجئ بموافقتها!
وهكذا تزوج العازب الشهير من "عطية الله إبراهيم رزق" فى العام1954.
كانت المشكلة الأصعب هو أنه لن يستطيع أن يخبر أمه بأمر زواجه، إنه يدرك فداحة الموقف وتبعاته وما يمكن أن يجره من تأثير مدمر على علاقته بأمه، وكان يحبها ويقدرها ولا يقدر على إغضابها.. فكان الحل الوحيد هو أن يكون زواجه سريا وأن يتكتم خبره حتى لا يتسرب لأمه، ولذلك لم يعرف به إلا إخوته.. بل إنه دخل بعروسه فى شقة أخيه "محمد".
وظل زواج نجيب محفوظ سريا لسنوات بعدها، ولذلك تجد المعلومات المتاحة عنه فى تلك الفترة شحيحة وغامضة ومتضاربة، فمن بين المرويات المتداولة أنه استأجر لعروسه "عوامة" من العوامات التى كانت متناثرة على شط النيل، وحدث أن وقعت حادثة فى عوامة مجاورة، إذ سقطت ابنة صاحبها الطفلة فى الماء وماتت غرقا، فتشاءمت "عطية الله" وكانت حاملا فى ابنتهما الأولى "أم كلثوم"، وألحت أن ينتقلا من الماء إلى البر، ولم يبتعد نجيب كثيرا عن النيل الذى يعشقه، فقد صادفه التوفيق فى شقة "العجوزة" التى تقع على مرمى حجر من "العوامة". وحافظ نجيب على سرية زواجه لسنوات وبنجاح تام، لدرجة أنه كان يُسأل حينها فى كل حواراته الصحفية سؤالا ثابتا عن أسباب إضرابه عن الزواج، فيجيب بجدية كاملة ويوضح أن ظروفه الأسرية حرمته من تحقيق هذه الأمنية.. إلى أن انكشف ستر الزواج بعد نحو عشر سنوات من دخول نجيب "عوامة الزوجية"، وكان افتضاح أمره مصادفة رغم كل "الإجراءات الاحترازية"، وبسيناريو لم يخطر له على بال.. فقد تشاجرت "أم كلثوم" فى المدرسة الابتدائية مع زميلة لها، مشاجرة طفولية ساذجة ولكنها كانت كفيلة بالكشف عن هويتها وأنها ابنة الأديب الشهير نجيب محفوظ.. ووصل الخبر بالصدفة إلى صلاح جاهين، صديق نجيب وزميل شلة الحرافيش، فغاظه أن يخدعه نجيب كل هذه السنوات ويخفى عنه زواجه، وما هى إلا ساعات حتى كان الخبر يتصدر جلسات النميمة فى مصر كلها، ويعرف الجميع أن نجيب متزوج و"عنده أولاد كمان"!
(2)
لم يدع نجيب محفوظ أبدا أنه تزوج عن قصة حب ولو على سبيل المجاملة، لكن المؤكد أن التجربة أثبتت له أن الاختيار الموفق لا يشترط أن يكون "عن حب"، وأن ما قدره وتمناه فى زواجه تحقق له وزيادة، وأن "عطية الله" أسهمت بجدارة فى مشروعه الروائى بتوفيرها الجو الذى مكنه من الإبداع والتألق.. اسمع إلى تقييمه العملى للتجربة: "وجدت فى "عطية الله" هذا التفهم وتلك الصفات المناسبة لى، واستطاعت هذه الزوجة أن توفر لى جوا مناسبا جعلنى أتفرغ للكتابة والقراءة، حتى أن إخوتى عندما كانوا يقومون بزياراتهم المعتادة لنا، كانت زوجتى تستقبلهم وتجلس معهم وتتركنى وشأنى، حتى لا أضيع وقتى فى مثل هذه الواجبات الاجتماعية".
"ومن مزايا زوجتى أن أسرتها محدودة، حتى شقيقتها وزوجها سافرا إلى ليبيا، وكان لها خال عجوز يعيش دائما فى البلدة ولا يجىء مصر إلا نادرا، وكان ذلك بخلاف مشاريع الزواج الأخرى المعدة لى، إذ أنها كانت تقع فى بؤرة علاقات اجتماعية متشابكة، وكنت مضطرا فى حالة ارتباطى بعلاقة منها إلى تبديد وقتى فى المجاملات والزيارات، أو أن أصبح مثيرا للاستنكار، كأن يقال مثلا هذا زوج لا يزور ولا يحب الزيارة".
آمنت الزوجة برسالة زوجها فى الحياة، وأنه منذور للكتابة والأدب، وأنه ليس زوجا عاديا ولا رجلا من ذلك النوع الذى يمكن شغله فى تفاصيل وروتين الحياة اليومية، من توصيل "العيال" للمدرسة أو تغيير "أنبوبة البوتاجاز".. لأنه لا يعرف سوى أن يقرأ ويكتب!
مع طول العشرة كانت تحفظه ككف يدها، وتعرف مزاجه من مجرد نظرة ملامحه، وتدرك متى تحدثه فى شئون البيت إذا كان هناك ما يستدعى رأيه وقراره، وتحفظ متى تعلن حالة "الطوارئ" عندما يدخل فى "أيام المخاض" التى تسبق كتابة رواية جديدة، وفيها يكون شديد العصبية والتوتر، ويحتاج إلى جو مناسب يعينه على تفكير عميق فى "المولود الجديد"، فتصدر أوامرها إلى "أم كلثوم وفاطمة" بالتزام الهدوء، و"تتسحب" على أطراف أصابعها لتضع له مشروباته المفضلة على مكتبه، الينسون والكراوية فى الشتاء والماء "الساقع" فى أيام الحر، وتظل تشاركه "الولادة العسرة" إلى أن يمسك بالقلم ويشرع فى الكتابة، عندها تتنفس الصعداء وتعرف أن المرحلة الصعبة مرت بسلام.
ونظلم نجيب محفوظ إذا تصورنا أنه "طلق" الزواج ونفض يده من مسئولياته كزوج، فالحق أنه حاول مع نظام حياته الصارم أن يمارس دوره كزوج وأب ورب أسرة، خاصة بعد إنجابه لابنتيه، فقد خصص يوما فى الأسبوع لأسرته، يقضيه معهم فى "فسحة" خارج البيت، وغالبا كان "يعزمهم" على فيلم جديد فى السينما، وإذا كانت ظروفه المادية لا تسمح بدفع تذاكر السينما فإنه كان يكتفى بنزهة فى الحدائق العامة.. وفى إجازته السنوية كان غالبا يصحبهم إلى الإسكندرية.. مصيفه المفضل والدائم.
(3)
ارتضت "عطية الله" بدور الجندى المجهول فى حياة نجيب محفوظ، وقنعت أن تبقى فى الظل، وظل هو طوال عمره يعتبر زوجته وبناته وبيته منطقة محرمة غير قابلة "للهتك".
ولذلك لن تجد زوجته حاضرة إعلاميا فى مشواره المديد سوى فى وقائع نادرة، كان منها مثلا ذلك الظهور الخاطف بعد فوزه بجائزة نوبل فى العام1988، فقد أجرى معها حوارات صحفية فرضها الحدث المدوى، كشفت فيه عن جوانب إنسانية فى حياة أديب نوبل، وتداخلها فى الحدث، فقد كانت هى التى تلقت الاتصال الأول بفوزه بأرفع جائزة أدبية فى العالم، ولما أيقظته لتزف إليه الخبر لم يصدقها فى البداية وعاد لإكمال نومه وهو يشيح بيديه: "يا شيخة بلاش تخريف".. وأمام إلحاحها اضطر لأن يقطع ساعات نومه المقدسة!.. والراجح أنها كانت صاحبة فكرة سفر بناتها لاستلام الجائزة من ملك السويد بعد أن حالت ظروف زوجها الصحية دون سفره لاستلام الجائزة بنفسه.. وبذلت جهدا فى "تجهيز" بناتها واختيار أزياء تليق بتلك المناسبة التاريخية.
وعاد اسم "عطية الله" ليطل من جديد فى محاولة اغتيال نجيب محفوظ الآثمة فى14أكتوبر1994، حيث كانت هى التى فتحت باب بيتها للجناة عندما جاءوا قبلها متنكرين فى ملابس خليجية لقتله فى بيته، لكنها اعتذرت لهم وصرفتهم، فتأجلت خطتهم الشيطانية بسببها.. ولما نُقل نجيب محفوظ إلى مستشفى الشرطة بين الحياة والموت فإنها ظلت إلى جواره فى المستشفى حتى خرج منها، وجندت نفسها لمتابعة علاجه الطبيعى المرهق.. وكانت هى سنده الأخير حتى ودع الدنيا فى العام2006، ولحقت هى به بعد ثمانى سنوات.
وقبل رحيله منحها نجيب محفوظ هذا الوسام: "إذا كان لأحد فضل فى المكانة التى وصلت إليها بعد الله سبحانه وتعالى فهى زوجتى "عطية الله".. التى كانت بالفعل عطية من الله لى".