لايزال لم يهدأ أ ُوَار حرب قذرة ، على اللغة العربية ، تشنها جهات مجهولة وغير معروفة . جهات تنفذ أجندات على حساب اللغة العربية عريقة ؛ عراقة التاريخ الإنساني . إن الانتصار للدّارجي والعامّي ، على حساب اللغة الأم ، هو دفع المجتمع نحو أتون تقوقع وتحجّر وانغلاق مَقيت . فما كان لهؤلاء ، إلا أن يعلنوا ولاءهم السّافر للضحالة ، و فك ارتباطهم الهش مع التاريخ والتراث للبلاد العربية ، الذي شُيـِّد على مدى قرون خلت .
فالحرب الإعلاميّة ، التي بحوزتهم ، كانت واجهة و سلاحا فتـَّاكا . وبمجرد لفت الانتباه إلى هذه القضية ، حتى بزغت وجوهٌ تطالعنا في الإعلام السّمعي و البصري ، تدافع عن مشروع وهمي ، لا يمتلك الشرعية الثقافية و لا حتى السياسية . لاعتقادهم أن الانتصار سيكون حليفهم ؛ وبضربة مروحة سيتغير مشهدنا الثقافي المغربي ، وستتبدل خريطتنا اللغوية .
فهيهات ! هيهات !
إن اللغة العربية ؛ هذه العجائبية ، أكبرُ من ذلك بكثير . فهي ليلٌ لا صبح له ، بل بحرٌ لا ساحل له .
إن الحروبَ ، التي أرست دعائم العربيّة ، أسست لتقعيد بـُني بالإسمنت المُسلـَّح . فلـُهـْوة هذا الوغى ؛ لغات سابقة عن العربية ؛ كالآشورية والكلدانية و اللغة المصرية القديمة وغيرها... فالانتصار بات حليفا محلفا للغة العربية . فخوفا ووجلا على سليقة يعشقها القاصي قبل الداني ، من أن تذهب برمية نرد على طاولة الندماء ، قام المُقعِّدون ، ولم يقعدوا على وثير الأرائك في مكاتبَ تدمع مكيفاتها . بل جابوا فيافيَ و فلاة ، بأقدام حافية و بحوزتهم تين يابس ولبن، بحثا عن حفنة من كلام يضيفونه إلى لسانهم ، ويغذي سليقتهم ؛ بما يضمن تواصلهم المادي والمعنوي . فمهما حاولنا أن نبحث عن رواد هذه الفترة ، فإننا سنجد، لا محالة ، حسب المرحوم طه أحمد إبراهيم، في كتابه " تاريخ النقد الأدبي عند العرب" ، ابن سلام الجمحي الذي كان له الفضل كل الفضل في جمع شعر متناثر شرقا وغربا من شبه جزيرة العرب . فما كان لكتابه ، " طبقات الشعراء " ، إلا أن تـَهتزَّ له ، أوائل القرن الثالث الهجري ، الساحة الثقافية العربية ، وتعتبر حدثا استثنائيا . ومنه كان له كبير الأثر في تعزيز مشهد اللغة العربية ، بكلام موزون و مقفى يدل على معنى . ولا هدف من وراء ذلك ، سوى استبانة أبعادها الإيقاعية و الدلالية والجمالية أيضا ، تيسيرا للتشبث الجامد ، للناطقين و غير الناطقين ، بأهداب هذا الانتماء الرحب الوفير للغة العربية.
ـ 2 ـ
إن اللغة العربية لغة الجُموع ؛ لغة تمجدُ الذات ، نكفي أن نذكر، في هذا المقام ، المثنى والتثنية ، على إيقاع شعر معلقة امرئ القيس ؛ الملك الضليل من الطويل :
قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
إن استحضار الآخر، في بعدها التواصلي ، دليل على تمجيدها للمثنى الفاعل في التركيب اللغوي ؛ فالمثنى تثنية و ثنائية يفيد نظريات اكتشفت ، مؤخرا ، في حقل التلقي الأدبي . فكان لزاما على الخطاب أن يتمفصل بهدف التعبير الصادق عن الجوهر و الكينونة . غير أن الجموع السّالمة المعافاة ، يروق وقعها على طبلة الأذن ، ولا ينفر منها سوى جاحد عنيد و منكر في جحوده . هي هكذا سليمة من حيث إنها تجمع بين الجمع و المفرد ، وصورة هذا الأخير، لا تتغير و لا تتبدل رغم تبدل المنازل و الأمكنة . علاوة على أنه يصبح المفرد جسرا واقيا يمر عبره ، الذين عبروا و لم يعودوا . فعندما نقول :
قرأ العرّافُ صحنَ الفنجان
قرأ العرّافون صحنَ الفنجان
نمر من المفرد إلى الجمع بإضافة الواو و النون إلى مفرده ؛ فإن هذه النقلة في الدرجة لا يستقيم عودها إلا بالتعريج على علم يدرس تحولات الكلم في العربية ، ألا وهو سيد العلوم ، وبمثابة جهازها العصبي ، الذي ينقل الشحنات الكهربائية في كل أنحاء الجسد ؛ علم الصّرف . فما كان لهؤلاء أن يدركوا أن حقل اللغة العربية كله ألغام ، تتستر خلف بناء يصمد أمام عوادي الزمان . فهاكموا ـ أيها المتنطعون ـ علم الصرف الذي يدرس الأبنية العربية ، وهيئاتها في إطار الدرس اللغوي المجيد . إلا أن بعض الصرفين يوسعون من حقول ألغامهم ، فيحددون علم الصرف ؛ كل ما له صلة بالكلمة أو الجملة ، شريطة أن تغير ـ أي الصلة ـ تركيب الكلمة في مبناها و معناها . كم كنتم أشداء و جبابرة عندما تجرأتم أن تنشئوا جسورا و قناطرَ بين ما هو صرفي و ما هو نحوي ؛ ليبقى جسد اللغة العربية واقفا شامخا شموخ أبي الهول .
فعلم الصرف ، دائما ، كالشهدة التي تملؤها النحلة المطنانة بالمن و السلوى . فرائحته عطرة تجلب الموسيقيين و عشاق الطرب الأصيل ، عندما أعلن المايسترو أن يدخل ، دخول الفاتحين المنتصرين ، على علم الأصوات ، مادامت اللغة العربية و سائر اللغات عبارة عن عناصر صوتية ، تتركب توزيعاتها بحسب الجهاز الصوتي للإنسان . فما كانت لشرعية الوجود أن تعن للفاتحين ، حتى ظهر علم الصواتة ، الذي يدرس الأصوات في مدها و جزرها .
فغير بعيد عن الكلمة تنبثق الجملة ، و ينبثق معها الإطار الذي تنتظم بداخله ؛ علم النحو . فعلم الصرف و علم النحو وجهان لعملة واحدة ، وإحدى الركائز التي تشد عضد اللغة العربية ، وتقيها من النخر و السوس، و تبعدها عن هرطقات جاهلين و غافلين . فالواحد يكمل الآخر خصوصا في مواضيع كالإبدال و الإعلال ، فلا تعرف مواقع النجوم و السُّعود و المجرات إلا إذا كنت فلكيّا متمرسا .
فعندما تقول مثلا : عمر مشروبٌ لبنـُه
فإنك لن تدرك موقع كلمة " لبنـُه " إلا إذا أدركت الصيغة الصرفية لكلمة " مشروب " ، فشرعية التداخل ، بل التلاحم حاضرة بين علم النحو و الصرف في العربيّة ، فضلا عن رائحة شيء مجهول تظهر و تختفي في بناء الجملة مثل الفنك أو ثعلب الصحراء . فعلم الصرف ، إذن ، يدرس الثابت ، بينما علم النحو يدرس المتنقل . فبين الثابت و المتنقل مياه كثيرة جرت تحت الجسر .
ـ 3 ـ
بعيدا عن الجموع السالمة ، نمر بالقرب من الجموع المتكسرة . فتطير شظاياها كالمرايا ، خصوصا عندما ندرك أن شيئا ما يعتمل بداخل هذا الضرب من الجموع تسهل تكسيرها ، تفردها في ذواتها ... و على أشكالها تقع كطيور العقعق المهاجرة ... إن لتكسير صورة المفرد في الجمع لوقعا شديدا على السَّامع ، بل يدرك مباشرة حجم هذا الجمع ؛ أهو جمع قلة أم جمع كثرة ؟
فعندما تقول : " هي ذي الأنهر التي تقطع أوصال بلادي " يكفيك الكلام أن عددها قليل محسوب على أنامل اليد . في حين إذا قلت : " أرسلنا رسلا مبشرين و منذرين " ، فهو دليل على الكثرة ، بما فيها نوع من إصرار الكافرين على الجحود و النكران . أما صيغ منتهى الجموع ؛ فإنها ظاهرة و طاهرة من كل الشوائب ، التي قد تدنس هذا جسد النوراني؛ جسد اللغة العربية ؛ إنها أكسير حياتها ، تطهرها من زوائد و طفيليات ، التي تعلق بدورتها الدموية ، وتلعب دور الكلي في جسد الإنسان . فلا يستقيم لا التنوين و لا الكسر على جسدها المدهون بالبريانطين ، إلا بعدما تنضاف رافعة الغموض ، أو مزيلة الإبهام ؛ لتنقشع الرؤية أمام قارئ حصيف ، قد يلف عينيه رذاذ.
ولكي لا تبقى اللغة العربية تنتظر من يأخذ بيدها ، حسب تعبير جبران خليل جبران ، وهي جالسة القرفصاء على قارعة الطريق ، انفتحت على لغات أخرى عن طريق الاقتراض . فجعلت من هذا الأخير ، غربالا نعيميّا ـ نسبة إلى ميخائيل نعيمة ـ ذا عيون دقيقة و مصفاة حقيقية ، توصل إلى خزانين مزودين بأحدث الوسائل التقنية . فمن بين هذه المفردات من يستحم بأحد هذه الأخزنة ؛ فيأخذ أصباغها وألوانها ، ويتأقلم مع أوردتها و شعابها ؛ ليصبح بعد ذلك معربا . ومنها من ينتظر ببطن الخزان، يتدور في مائه النمير و مغاسله ومصافيه ؛ حتى تنكشف هويته ، وتُنتزع أزلامه ، ليصيرا دخيلا محافظا على ثوابته في لغته الأم .
إن الدخيل و المعرب ، في اللغة العربية ، وسيلة من وسائل تمطيط حجمها ، وأخذ أحياز جديدة في بنائها اللغوي ، ففي تأقلم المفردات المقترضة أكبر دليل على تسامح و انفتاح ، يتم عبر جسد اللغة العربية ، ومن خلالها تصبح المفردة تتنفس و تتكلم عربيّا مثل الأرض، خاضعة و مستسلمة للأوزان الصرفية العربية ، وأحوال لسانها . وعلى غرار هذا النسق المعرفي و الثقافي ، استطاعت اللغة العربية أن تستوعب ثقافات و علوما شتى لأمم سابقة أو مجاورة . وأن تظل وفية لهذا المعجم الدخيل ، دون إكراه أو اضطهاد أو ترهيب أو توجيل . فضلا عن ذلك ، تمكنت الكلمة المقترضة من أن تعيش في مائها ـ أي ماء اللغة العربية ـ العذب النمير بسلم و سلام ؛ تسبح و تتنفس الأكسجين الذائب في مياهها .
ـ 4 ـ
غير بعيد عن المفردة في اللغة العربية ، نجد العجب العجاب من خلال تركيبة بنياتها السياقية ، المتضمنة لمعنيين أو أكثر في الكلمة الواحدة ، تجمع ما بين الماء و النار أو بين الليل و النهار ، فلا ينبلج صبح أو تظهر بعض خيوطه ، حتى ينقلب الصبح ليلا ، ولا تدري أأنت تحت رحمة الليل أم النهار ؟
فهاكموا التضاد في اللغة العربيَّة .
يسكن الكلم الصَّهدَ و القر ، بل الشيء و ضده في جسدها ، فلا يصيبها لا بالحمى و لا بالوجع ولا بصداع الرأس . تقف أمام مثيلاتها بهمة و شأن كبيرين ، إمضاؤها بحد السَّيف من الجانبين ، كرمح شاعر جاهلي ألفته فيافي البيداء و وحوشها ، ولا يستكين أبدا إلا عند فرسه اللاغب النافر المنجرد . فالتضاد في العربية يطلق على المفردة الحمَّالة لمعنيين متضادين غير منسجمين ، فالفاصل بينهما ؛ المعنى المراد من الجملة استنادا إلى القرائن اللفظية و المعنوية .
فعندما ينصح الوالد ولده في رسالة ، وهو بعيد عنه في بلاد الغربة ، يقول فيها :
" أي بُني :
... إنك في بلاد الغربة ، لا أهل لك و لا حَميّة ، فأنت مسْجُورٌ ، دائما و أبدا ، بالشوق والحنين الدافقين لوطن تنفست هواءَه الرَّطب تحت عرائشه الظليلة . وكي تعيش ـ أي بُني ـ في وئام و تواد و رحمة ، فما على نفسك إلا أن تكون مسْجُورة من كل حقد و ضغينة ؛ فأدّبها بالعلم والمعرفة . فتلك بلاد الغربة ... يا بُني ."
فكلمة " مسْجُور " دالة على الفارغ و الممتلئ بحسب السّياق ، الذي وردت فيه . ناهيك عن مفردات لها أوزان صرفية عربية تليق بالمذكر كما المؤنث . يتوحد المذكر بالمؤنث في جسد الكلمة الواحدة ، وهي خصيصة تتفرد بها العربيّة عن سائر اللغات الأخرى .
لقد استطال بنا الحديث في حارة اللغة العربية ، فهل لهذه الأخيرة وجه تطالع به الناطقين بها ؟ أكيد أن للغة العربية وجه مشرق ، يكفي أن تخرج سليمة و معافاة ؛ فهي شكل من أشكال التداوي و العلاج حسب عبد الفتاح كيليطو . تطمئن ما بداخلك ؛ لأنها تعود بك إلى جذور و أصول لطالما تجاهلتها عن قصد أو عن غير قصد
فالحرب الإعلاميّة ، التي بحوزتهم ، كانت واجهة و سلاحا فتـَّاكا . وبمجرد لفت الانتباه إلى هذه القضية ، حتى بزغت وجوهٌ تطالعنا في الإعلام السّمعي و البصري ، تدافع عن مشروع وهمي ، لا يمتلك الشرعية الثقافية و لا حتى السياسية . لاعتقادهم أن الانتصار سيكون حليفهم ؛ وبضربة مروحة سيتغير مشهدنا الثقافي المغربي ، وستتبدل خريطتنا اللغوية .
فهيهات ! هيهات !
إن اللغة العربية ؛ هذه العجائبية ، أكبرُ من ذلك بكثير . فهي ليلٌ لا صبح له ، بل بحرٌ لا ساحل له .
إن الحروبَ ، التي أرست دعائم العربيّة ، أسست لتقعيد بـُني بالإسمنت المُسلـَّح . فلـُهـْوة هذا الوغى ؛ لغات سابقة عن العربية ؛ كالآشورية والكلدانية و اللغة المصرية القديمة وغيرها... فالانتصار بات حليفا محلفا للغة العربية . فخوفا ووجلا على سليقة يعشقها القاصي قبل الداني ، من أن تذهب برمية نرد على طاولة الندماء ، قام المُقعِّدون ، ولم يقعدوا على وثير الأرائك في مكاتبَ تدمع مكيفاتها . بل جابوا فيافيَ و فلاة ، بأقدام حافية و بحوزتهم تين يابس ولبن، بحثا عن حفنة من كلام يضيفونه إلى لسانهم ، ويغذي سليقتهم ؛ بما يضمن تواصلهم المادي والمعنوي . فمهما حاولنا أن نبحث عن رواد هذه الفترة ، فإننا سنجد، لا محالة ، حسب المرحوم طه أحمد إبراهيم، في كتابه " تاريخ النقد الأدبي عند العرب" ، ابن سلام الجمحي الذي كان له الفضل كل الفضل في جمع شعر متناثر شرقا وغربا من شبه جزيرة العرب . فما كان لكتابه ، " طبقات الشعراء " ، إلا أن تـَهتزَّ له ، أوائل القرن الثالث الهجري ، الساحة الثقافية العربية ، وتعتبر حدثا استثنائيا . ومنه كان له كبير الأثر في تعزيز مشهد اللغة العربية ، بكلام موزون و مقفى يدل على معنى . ولا هدف من وراء ذلك ، سوى استبانة أبعادها الإيقاعية و الدلالية والجمالية أيضا ، تيسيرا للتشبث الجامد ، للناطقين و غير الناطقين ، بأهداب هذا الانتماء الرحب الوفير للغة العربية.
ـ 2 ـ
إن اللغة العربية لغة الجُموع ؛ لغة تمجدُ الذات ، نكفي أن نذكر، في هذا المقام ، المثنى والتثنية ، على إيقاع شعر معلقة امرئ القيس ؛ الملك الضليل من الطويل :
قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
إن استحضار الآخر، في بعدها التواصلي ، دليل على تمجيدها للمثنى الفاعل في التركيب اللغوي ؛ فالمثنى تثنية و ثنائية يفيد نظريات اكتشفت ، مؤخرا ، في حقل التلقي الأدبي . فكان لزاما على الخطاب أن يتمفصل بهدف التعبير الصادق عن الجوهر و الكينونة . غير أن الجموع السّالمة المعافاة ، يروق وقعها على طبلة الأذن ، ولا ينفر منها سوى جاحد عنيد و منكر في جحوده . هي هكذا سليمة من حيث إنها تجمع بين الجمع و المفرد ، وصورة هذا الأخير، لا تتغير و لا تتبدل رغم تبدل المنازل و الأمكنة . علاوة على أنه يصبح المفرد جسرا واقيا يمر عبره ، الذين عبروا و لم يعودوا . فعندما نقول :
قرأ العرّافُ صحنَ الفنجان
قرأ العرّافون صحنَ الفنجان
نمر من المفرد إلى الجمع بإضافة الواو و النون إلى مفرده ؛ فإن هذه النقلة في الدرجة لا يستقيم عودها إلا بالتعريج على علم يدرس تحولات الكلم في العربية ، ألا وهو سيد العلوم ، وبمثابة جهازها العصبي ، الذي ينقل الشحنات الكهربائية في كل أنحاء الجسد ؛ علم الصّرف . فما كان لهؤلاء أن يدركوا أن حقل اللغة العربية كله ألغام ، تتستر خلف بناء يصمد أمام عوادي الزمان . فهاكموا ـ أيها المتنطعون ـ علم الصرف الذي يدرس الأبنية العربية ، وهيئاتها في إطار الدرس اللغوي المجيد . إلا أن بعض الصرفين يوسعون من حقول ألغامهم ، فيحددون علم الصرف ؛ كل ما له صلة بالكلمة أو الجملة ، شريطة أن تغير ـ أي الصلة ـ تركيب الكلمة في مبناها و معناها . كم كنتم أشداء و جبابرة عندما تجرأتم أن تنشئوا جسورا و قناطرَ بين ما هو صرفي و ما هو نحوي ؛ ليبقى جسد اللغة العربية واقفا شامخا شموخ أبي الهول .
فعلم الصرف ، دائما ، كالشهدة التي تملؤها النحلة المطنانة بالمن و السلوى . فرائحته عطرة تجلب الموسيقيين و عشاق الطرب الأصيل ، عندما أعلن المايسترو أن يدخل ، دخول الفاتحين المنتصرين ، على علم الأصوات ، مادامت اللغة العربية و سائر اللغات عبارة عن عناصر صوتية ، تتركب توزيعاتها بحسب الجهاز الصوتي للإنسان . فما كانت لشرعية الوجود أن تعن للفاتحين ، حتى ظهر علم الصواتة ، الذي يدرس الأصوات في مدها و جزرها .
فغير بعيد عن الكلمة تنبثق الجملة ، و ينبثق معها الإطار الذي تنتظم بداخله ؛ علم النحو . فعلم الصرف و علم النحو وجهان لعملة واحدة ، وإحدى الركائز التي تشد عضد اللغة العربية ، وتقيها من النخر و السوس، و تبعدها عن هرطقات جاهلين و غافلين . فالواحد يكمل الآخر خصوصا في مواضيع كالإبدال و الإعلال ، فلا تعرف مواقع النجوم و السُّعود و المجرات إلا إذا كنت فلكيّا متمرسا .
فعندما تقول مثلا : عمر مشروبٌ لبنـُه
فإنك لن تدرك موقع كلمة " لبنـُه " إلا إذا أدركت الصيغة الصرفية لكلمة " مشروب " ، فشرعية التداخل ، بل التلاحم حاضرة بين علم النحو و الصرف في العربيّة ، فضلا عن رائحة شيء مجهول تظهر و تختفي في بناء الجملة مثل الفنك أو ثعلب الصحراء . فعلم الصرف ، إذن ، يدرس الثابت ، بينما علم النحو يدرس المتنقل . فبين الثابت و المتنقل مياه كثيرة جرت تحت الجسر .
ـ 3 ـ
بعيدا عن الجموع السالمة ، نمر بالقرب من الجموع المتكسرة . فتطير شظاياها كالمرايا ، خصوصا عندما ندرك أن شيئا ما يعتمل بداخل هذا الضرب من الجموع تسهل تكسيرها ، تفردها في ذواتها ... و على أشكالها تقع كطيور العقعق المهاجرة ... إن لتكسير صورة المفرد في الجمع لوقعا شديدا على السَّامع ، بل يدرك مباشرة حجم هذا الجمع ؛ أهو جمع قلة أم جمع كثرة ؟
فعندما تقول : " هي ذي الأنهر التي تقطع أوصال بلادي " يكفيك الكلام أن عددها قليل محسوب على أنامل اليد . في حين إذا قلت : " أرسلنا رسلا مبشرين و منذرين " ، فهو دليل على الكثرة ، بما فيها نوع من إصرار الكافرين على الجحود و النكران . أما صيغ منتهى الجموع ؛ فإنها ظاهرة و طاهرة من كل الشوائب ، التي قد تدنس هذا جسد النوراني؛ جسد اللغة العربية ؛ إنها أكسير حياتها ، تطهرها من زوائد و طفيليات ، التي تعلق بدورتها الدموية ، وتلعب دور الكلي في جسد الإنسان . فلا يستقيم لا التنوين و لا الكسر على جسدها المدهون بالبريانطين ، إلا بعدما تنضاف رافعة الغموض ، أو مزيلة الإبهام ؛ لتنقشع الرؤية أمام قارئ حصيف ، قد يلف عينيه رذاذ.
ولكي لا تبقى اللغة العربية تنتظر من يأخذ بيدها ، حسب تعبير جبران خليل جبران ، وهي جالسة القرفصاء على قارعة الطريق ، انفتحت على لغات أخرى عن طريق الاقتراض . فجعلت من هذا الأخير ، غربالا نعيميّا ـ نسبة إلى ميخائيل نعيمة ـ ذا عيون دقيقة و مصفاة حقيقية ، توصل إلى خزانين مزودين بأحدث الوسائل التقنية . فمن بين هذه المفردات من يستحم بأحد هذه الأخزنة ؛ فيأخذ أصباغها وألوانها ، ويتأقلم مع أوردتها و شعابها ؛ ليصبح بعد ذلك معربا . ومنها من ينتظر ببطن الخزان، يتدور في مائه النمير و مغاسله ومصافيه ؛ حتى تنكشف هويته ، وتُنتزع أزلامه ، ليصيرا دخيلا محافظا على ثوابته في لغته الأم .
إن الدخيل و المعرب ، في اللغة العربية ، وسيلة من وسائل تمطيط حجمها ، وأخذ أحياز جديدة في بنائها اللغوي ، ففي تأقلم المفردات المقترضة أكبر دليل على تسامح و انفتاح ، يتم عبر جسد اللغة العربية ، ومن خلالها تصبح المفردة تتنفس و تتكلم عربيّا مثل الأرض، خاضعة و مستسلمة للأوزان الصرفية العربية ، وأحوال لسانها . وعلى غرار هذا النسق المعرفي و الثقافي ، استطاعت اللغة العربية أن تستوعب ثقافات و علوما شتى لأمم سابقة أو مجاورة . وأن تظل وفية لهذا المعجم الدخيل ، دون إكراه أو اضطهاد أو ترهيب أو توجيل . فضلا عن ذلك ، تمكنت الكلمة المقترضة من أن تعيش في مائها ـ أي ماء اللغة العربية ـ العذب النمير بسلم و سلام ؛ تسبح و تتنفس الأكسجين الذائب في مياهها .
ـ 4 ـ
غير بعيد عن المفردة في اللغة العربية ، نجد العجب العجاب من خلال تركيبة بنياتها السياقية ، المتضمنة لمعنيين أو أكثر في الكلمة الواحدة ، تجمع ما بين الماء و النار أو بين الليل و النهار ، فلا ينبلج صبح أو تظهر بعض خيوطه ، حتى ينقلب الصبح ليلا ، ولا تدري أأنت تحت رحمة الليل أم النهار ؟
فهاكموا التضاد في اللغة العربيَّة .
يسكن الكلم الصَّهدَ و القر ، بل الشيء و ضده في جسدها ، فلا يصيبها لا بالحمى و لا بالوجع ولا بصداع الرأس . تقف أمام مثيلاتها بهمة و شأن كبيرين ، إمضاؤها بحد السَّيف من الجانبين ، كرمح شاعر جاهلي ألفته فيافي البيداء و وحوشها ، ولا يستكين أبدا إلا عند فرسه اللاغب النافر المنجرد . فالتضاد في العربية يطلق على المفردة الحمَّالة لمعنيين متضادين غير منسجمين ، فالفاصل بينهما ؛ المعنى المراد من الجملة استنادا إلى القرائن اللفظية و المعنوية .
فعندما ينصح الوالد ولده في رسالة ، وهو بعيد عنه في بلاد الغربة ، يقول فيها :
" أي بُني :
... إنك في بلاد الغربة ، لا أهل لك و لا حَميّة ، فأنت مسْجُورٌ ، دائما و أبدا ، بالشوق والحنين الدافقين لوطن تنفست هواءَه الرَّطب تحت عرائشه الظليلة . وكي تعيش ـ أي بُني ـ في وئام و تواد و رحمة ، فما على نفسك إلا أن تكون مسْجُورة من كل حقد و ضغينة ؛ فأدّبها بالعلم والمعرفة . فتلك بلاد الغربة ... يا بُني ."
فكلمة " مسْجُور " دالة على الفارغ و الممتلئ بحسب السّياق ، الذي وردت فيه . ناهيك عن مفردات لها أوزان صرفية عربية تليق بالمذكر كما المؤنث . يتوحد المذكر بالمؤنث في جسد الكلمة الواحدة ، وهي خصيصة تتفرد بها العربيّة عن سائر اللغات الأخرى .
لقد استطال بنا الحديث في حارة اللغة العربية ، فهل لهذه الأخيرة وجه تطالع به الناطقين بها ؟ أكيد أن للغة العربية وجه مشرق ، يكفي أن تخرج سليمة و معافاة ؛ فهي شكل من أشكال التداوي و العلاج حسب عبد الفتاح كيليطو . تطمئن ما بداخلك ؛ لأنها تعود بك إلى جذور و أصول لطالما تجاهلتها عن قصد أو عن غير قصد