سنة 1998 دعي صديقي الأديبُ الكبير عبد السلام العجيلي إلى مدينة سراقب بمحافظة إدلب لإلقاء حديث أدبي، دون تحديد المحور الذي سيتحدث فيه. وهذه المسألة ليست صعبة على العجيلي، فهو الرائدُ الأول للقصة القصيرة السورية الخالية من العيوب الفنية، يمتلك ثقافة موسوعية كبرى، ولساناً يوقع الطائر من سماه على الأرض، ومن ثم يستطيع أن يتحدث مطولاً في أي حديث أدبي، أو علمي، أو حياتي، وأن يكون حديثه على قدر كبير من الأهمية!
سلمتُ عليه قبل المحاضرة، وسألتُه ماذا ستقدم لنا؟ فقال: إكراماً لك، ولروح صديقنا الراحل حسيب كيالي، سأتجه في بعض حديثي نحو الفكاهة.
بدأ حديثه بالقول: إن مدير المركز الثقافي بسراقب الأستاذ "زكريا الحاج علي" قد أخجل تواضعه من فرط ما اتصل به، وأكد على أهمية استضافته في سراقب، تاركاً له حرية اختيار الموضوع. وقال:
- هذا الأمر ممكنٌ بالطبع، فأجدادُنا الأوائل كانوا يكتبون أسفاراً ضخمة على مبدأ " الشيء بالشيء يُذكر". وكان من أعلام الثقافة الموسوعية القدامى رجلٌ يدعى " الحريري"، قميء المنظر، خجول، لا يحب ملاقاة الناس. وذات مرة جاءه رجلٌ، وألح في الطلب لمقابلته- مثلما فعل مدير المركز الثقافي بشأني- موضحاً لأهله أنه تجشم عناء السفر من بلاد فارس خصيصاً لكي يراه ويسمعه، فخرج إليه الحريري، وعندما قرأ آثار الصدمة على وجه الضيف أنشده:
ما أنت أولَ سـارٍ غَــرَّهُ قمـرٌ
ورائدٍ أعجبتْـه خضـرةُ الدِّمـنِ
فاختر لنفسك غيـري إنني رجلٌ
مثل المُعيديِّ اسمع بي ولا تَرَني!
إن هذا الكلام الذي افتتح به العجيلي كلامه لدليلٌ على أنه من كبار الساخرين الذين يبدأ الواحدُ منهم السخريةَ بنفسه، لئلا يبدو متعالياً على الآخرين، وله في الشاعر العربي "الحطيئة" أسوةٌ حسنة.
لم يكن العجيلي يريد أن يكون أديباً، وهو يقول صراحة:
- أصبحتُ أديباً على الرغم مني، فأنا في الأساس طبيب، لدي عيادة مكتظة بالزبائن في أغلب الأحيان، وكنت أعمل في مطلع حياتي اثنتي عشرة ساعة، وأعاين أكثر من مئة مريض، وأتعرف على ثلاثين ألف شخص في السنة، فمن أين آتي بالوقت لإنتاج الأدب؟
ولكنه لا ينكر أهمية الأدب وفضلَه، فيقول: إذا كتب الإنسان كلمة طيبة تدخل القلب، قصة أو رواية أو مقالة أو قصيدة، فإنما يعرفه من خلالها مئاتُ الألوف من البشر، إن لم أقل الملايين.
وعن موقف بعض الناس في أريافنا من الأدب، يروي العجيلي النادرة التالية، فيقول:
- لقد ارتبطت العملية الإبداعية في أذهان بعض الناس الريفيين بظهور التلفزيون، فكانوا يعتقدون أن الشخص الذي يكتب قصصاً وروايات له علاقة ما بالتلفزيون!.. بدليل أن شخصاً من أقاربي حضر إلى عيادتي ذات مرة، وكان مصاباً بمرض نادر، ولكنه مرض سهل المعالجة، وليس له إلا دواء واحد قيمةُ العلبة منه ستون قرشاً سورياً فقط. بعدما عاينتُه كتبت له اسم علبة الدواء على الوصفة، وقلت له: خذ هذا الدواء ولا تهتم.
ذهب الرجل- على حسب ما علمت لاحقاً- إلى الصيدلية، واشترى علبة الدواء، فلما عرف أن ثمنها بخس وقف يحدث نفسه فيقول: ابن عمي عبد السلام طبيب على قده، ومؤكد أنه لم يسمع بهذا المرض النادر، ولئلا يخجل أمامي، ولئلا يخسِّرَني الكثير من النقود، كتب لي على هذا الدواء من قبيل فض العتب!
وخبأ الوصفة بين أوراقه وذهب إلى دمشق، حيث راجع واحداً من أشهر أطبائها المختصين في مجال المرض الذي يشكو منه. عاينه ذلك الطبيب وكتب له اسم الدواء الوحيد نفسَه، وقيمته ستون قرشاً. وبعد أن استخدم الدواء، وشفي تماماً، حضر إليَّ في العيادة، وقال لي:
- بالله يا ابن عمي يا عبد السلام أنت خوش طبيب، وفهيم، لكن ما أحد (مخيسك) غير هالتلفزيون!
ويعود العجيلي في حديثه إلى إشكالية أن يكون المرء أديباً وطبيباً في الوقت نفسه. ويقول: لعل أشهر هؤلاء تشيخوف الذي سئل عن علاقته بالطب والأدب فقال:
- الطب زوجتي، والأدب عشيقتي!
وكأنه أراد أن يقول إن الطب كالزوجة، له الإخلاص، والواجب، ودفء الحياة العائلية، وأما اللذة والمتعة ففي الأدب.
وأذكر بهذه المناسبة موقفين طريفين، أولهما أن الأستاذ شريف العَلَمي، وهو مذيع معروف في إذاعات الخليج، أجرى معي حواراً إذاعياً لإذاعة الكويت، فذكرت له مقولة تشيخوف، فأوقف التسجيل وقال لي:
- أرجوك، في الكويت لا يقبلون استخدام كلمة "عشيقتي".
قلت: نقول: خليلتي.
قال: ولا هذه.
قلت: صديقتي.
قال: هذه مقبولة.
والثانية أن الملحق الأسبوعي لجريدة الشرق الأوسط السعودية التي تصدر في لندن، وهو ملحق يصدر على شكل مجلة مستقلة، أجرى، قبل سنوات، حواراً مطولاً معي، وسألني عن الطب والأدب فكررت مقولة تشيخوف. بعد أيام صدر العدد وعليه صورتي والعبارة التالية: عبد السلام العجيلي: الطب زوجتي والأدب صديقي!
إن عملية الكتابة لدى العجيلي سهلة جداً، فكان- على حد تعبير النقاد الأوائل- يغرف من بحر. يقول في هذا السياق:
لقد أنتجت ثلاثة وثلاثين كتاباً حتى الآن، رغم التزامي بعيادتي وأسفاري ومساهماتي الصحفية التي لم تجمع في كتب.
حينما كنت طالباً في الجامعة كنت أمر بأحد أصدقائي الصحفيين في مقر صحيفته، فما أراه إلا وهو يغلق الباب علي ويقول:
- لا تخرج من هنا إلا أن تكتب لي قصة أو مقالة أو افتتاحية.
وكنت ألبي طلبه في الحال.
ويقول: لو كنت من الطامعين بالشهرة، أو بالخلود، فيكفيني القليل مما أكتب. المتنبي مثلاً، خلده كتاب من أربعمئة صفحة فقط. في فرنسا عَلَمان أدبيان كبيران، أولُهما فيكتور هوجو الذي ملأ عشرات الكتب رواياتٍ وأشعراً رائعة، وبودلير الذي لا يقل عنه قيمة رغم أنه لم يكتب سوى ثلاثمئة صفحة من "أزهار الشر" ديوانه الوحيد.
أنا شخصياً مُكثر، ولكنني مكثر على الرغم عني. أتضايق من الطلبات والدعوات للكتابة، ولكنني في المحصلة أنتج. الكتابة تفرج همي وترضيني. لقد كنت ألهو بالكتابة وألعب، حتى انطبق علي قول الشاعر:
صار جداً ما لهوتُ به
رب جِـدٍّ جـره اللعبُ
ومن أطرف هزليات العجيلي واحدة تحكي عن مدرس مادة التربية الدينية في المدرسة الثانوية الشيخ جميل العقاد الذي كان ينظم، في كل عيد، قصيدة ويطبعها على بطاقات مزخرفة ويوزعها على زملائه المدرسين وطلابه. وذات مرة نظم قصيدة للمعايدة يقول فيها:
عادتْ عليـكـم بالصفا أعيـادُ
صرح العلا يُزهى بكم ويشـادُ
عيدي بعيد المسلمين ونصرهمْ
وفَخارُهـم يـوم الوغى يزدادُ
تلقف العجيلي القصيدة، واختلى بنفسه ونسج على منوالها قصيدة هزلية (بطريقة التخميس) يقول فيها:
عادتْ عليـكـم بالصفا أعيـادُ
وذقونُـكـم يلـهـو بها الأولادُ
يتلو عليهـا شيخُنـا العـقـادُ
صرح العلا يُزهى بكم ويشـادُ
عيدي بعيد المسلمين ونصرهمْ
وبلحم ضانٍ ناضجٍ في قدرهـم
أما التلامـذُ فالشقـاءُ بِبَرِّهـم
أدعو إلهي نجِّـني من شرهم
ففسـادُهم بيـن الورى يزدادُ
إني أرى خطـراً يحيط بقدسنا
فاهرب أخي حتى نفوز بنفسنا
ماذا يفيد ومَن نخيفُ ببأسنا؟
إن حاطـنا الشذاذُ والأوغادُ؟
وأوضح العجيلي: كتبتُ هذه القصيدة على وريقات ووزعتها من دون توقيع على الزملاء، ووصلت إحدى الوريقات إلى الشيخ جميل العقاد، وذهبت لأرى ردة فعله عليها، وبادرتُه أقول:
- هذا الطالب ذو التخميس السيء قد أساء إلى قصيدتك ذات المعاني السامية. فما رأيك؟
فقال متحسراً:
لو كان شعري شعيراً لاستحسنته الحميرُ
لكن شعري شعورٌ وهل للحمير شعور؟!
ومما يرويه في هذا المضمار أن الأستاذ أديب هندية قد أجرى للطلاب مذاكرة في الكيمياء، فيها سؤال عن الماء حينما ينقسم بالتفاعل إلى أكسجين وهيدروجين.. وكان العجيلي الأول على سورية في مادة العلوم والرياضيات. المهم أنه، بعدما كتب الإجابات الصحيحة على الورقة، أراد أن يتسلى فأخرج مسودة وكتب عليها ما يلي:
إن اتحاد الصـب بالبـخـارِ
يجري إذا أمِـرَّ بالتـيــارِ
هدروجنُ البخار يمضي هاربا
ويصبح الأكسيد جسماً غاصبا
فكل ستٍّ تكملُ التسعـيـنـا
من حجم غاز الماء قد تنبينا
بذرة تكـونـتْ أكـسـيدا
أحجـارهـا تمغـنطُ الحديدا
فليت شعري لترُ غاز منطلقْ
علامَ ينبي من حديد محترق؟
قد بان لي في آخر الحسابِ
ثلاثة غراماتْ في الجوابِ!
ويبدو أن الأمور الطريفة تأبى إلا أن تتوالد وتتكاثر، فبينما العجيلي يهم بتسليم الورقة إذ همس له زميله القريب منه، وهو من أسرة الدرعوزي بأن الوقت يكاد ينقضي وهو لم يهتد إلى حل للمسألة، فأعطاه القصيدة، والدرعوزي بدوره نقلها على دفتره كما هي.
وكانت النتيجة أن حصل العجيلي على العلامة التامة، والدرعوزي على صفر مكعب، مع ملاحظة من الأستاذ هندية يقول له: أنت مجنون حقيقي!
ومما رواه العجيلي في تلك الأمسية: كنت أنا ومعظم أدباء وصحفيي سورية آنذاك نلتقي يومياً في مقهى البرازيل الذي يعتبر من أهم المقاهي الأدبية في الوطن العربي. وذات يوم، كنت مسافراً في فرنسا، وكان صاحب المقهى قد أجرها لأحد الوجهاء لكي يعقد فيها قران ابنه. وكان نجاة قصاب حسن يحرر في صحيفة الرأي العام بتوقيع (فصيح)، وقد كتب قصيدة في رثاء المقهى. فور عودتي اتصل بي وسألني إن كنت قد قرأت قصيدته، فقلت: بلى. قال: أفلا تريد أن تؤاجر بقصيدة؟ فتلفنت له بعد ساعة وأمليت عليه هذه القصيدة:
قف بالطلول وقل يا دمعتي سيلي
أخنى الزمان على مقهى الرازيلِ
كأن جدرانـه لم تحـوِ ندوتـنا
ولا تضارب فيه القالُ بالقـيـلِ
ولا سقانا "خليلٌ" فـيـه قهوته
مغشوشةً بشعير الهنـد والفولِ
تلك الموائد كم حيكتْ بجـانبها
مقالبٌ وأعدتْ من أحابـيــلِ
مقلايةُ الحق في أرجائها نُصبتْ
لكل منتفـخٍ بالعرض والطـولِ
قالوا: تدسُّون؟ قلنا: ذاك ديدنُنا
لئن ساد بالناس أصحابُ الأباطيلِ
تحاربُ الظلمَ والإقطاعَُ عصبتُنا
إذا تقاعسَ كتَّـاب الجرانيــلِ
الشامتــون بنا لا در درهـمُ
من ساسة الحكمِ أو آل الرساميلِ
لا يفرحوا.. مقبل الأيام يُعلمُهم
ما الذي يتبـقى في الغرابيـلِ
أخيراً: إن ما استمعتم إليه ما هو إلا نقطة في بحر صديقي الراحل الكبير عبد السلام العجيلي.
سلمتُ عليه قبل المحاضرة، وسألتُه ماذا ستقدم لنا؟ فقال: إكراماً لك، ولروح صديقنا الراحل حسيب كيالي، سأتجه في بعض حديثي نحو الفكاهة.
بدأ حديثه بالقول: إن مدير المركز الثقافي بسراقب الأستاذ "زكريا الحاج علي" قد أخجل تواضعه من فرط ما اتصل به، وأكد على أهمية استضافته في سراقب، تاركاً له حرية اختيار الموضوع. وقال:
- هذا الأمر ممكنٌ بالطبع، فأجدادُنا الأوائل كانوا يكتبون أسفاراً ضخمة على مبدأ " الشيء بالشيء يُذكر". وكان من أعلام الثقافة الموسوعية القدامى رجلٌ يدعى " الحريري"، قميء المنظر، خجول، لا يحب ملاقاة الناس. وذات مرة جاءه رجلٌ، وألح في الطلب لمقابلته- مثلما فعل مدير المركز الثقافي بشأني- موضحاً لأهله أنه تجشم عناء السفر من بلاد فارس خصيصاً لكي يراه ويسمعه، فخرج إليه الحريري، وعندما قرأ آثار الصدمة على وجه الضيف أنشده:
ما أنت أولَ سـارٍ غَــرَّهُ قمـرٌ
ورائدٍ أعجبتْـه خضـرةُ الدِّمـنِ
فاختر لنفسك غيـري إنني رجلٌ
مثل المُعيديِّ اسمع بي ولا تَرَني!
إن هذا الكلام الذي افتتح به العجيلي كلامه لدليلٌ على أنه من كبار الساخرين الذين يبدأ الواحدُ منهم السخريةَ بنفسه، لئلا يبدو متعالياً على الآخرين، وله في الشاعر العربي "الحطيئة" أسوةٌ حسنة.
لم يكن العجيلي يريد أن يكون أديباً، وهو يقول صراحة:
- أصبحتُ أديباً على الرغم مني، فأنا في الأساس طبيب، لدي عيادة مكتظة بالزبائن في أغلب الأحيان، وكنت أعمل في مطلع حياتي اثنتي عشرة ساعة، وأعاين أكثر من مئة مريض، وأتعرف على ثلاثين ألف شخص في السنة، فمن أين آتي بالوقت لإنتاج الأدب؟
ولكنه لا ينكر أهمية الأدب وفضلَه، فيقول: إذا كتب الإنسان كلمة طيبة تدخل القلب، قصة أو رواية أو مقالة أو قصيدة، فإنما يعرفه من خلالها مئاتُ الألوف من البشر، إن لم أقل الملايين.
وعن موقف بعض الناس في أريافنا من الأدب، يروي العجيلي النادرة التالية، فيقول:
- لقد ارتبطت العملية الإبداعية في أذهان بعض الناس الريفيين بظهور التلفزيون، فكانوا يعتقدون أن الشخص الذي يكتب قصصاً وروايات له علاقة ما بالتلفزيون!.. بدليل أن شخصاً من أقاربي حضر إلى عيادتي ذات مرة، وكان مصاباً بمرض نادر، ولكنه مرض سهل المعالجة، وليس له إلا دواء واحد قيمةُ العلبة منه ستون قرشاً سورياً فقط. بعدما عاينتُه كتبت له اسم علبة الدواء على الوصفة، وقلت له: خذ هذا الدواء ولا تهتم.
ذهب الرجل- على حسب ما علمت لاحقاً- إلى الصيدلية، واشترى علبة الدواء، فلما عرف أن ثمنها بخس وقف يحدث نفسه فيقول: ابن عمي عبد السلام طبيب على قده، ومؤكد أنه لم يسمع بهذا المرض النادر، ولئلا يخجل أمامي، ولئلا يخسِّرَني الكثير من النقود، كتب لي على هذا الدواء من قبيل فض العتب!
وخبأ الوصفة بين أوراقه وذهب إلى دمشق، حيث راجع واحداً من أشهر أطبائها المختصين في مجال المرض الذي يشكو منه. عاينه ذلك الطبيب وكتب له اسم الدواء الوحيد نفسَه، وقيمته ستون قرشاً. وبعد أن استخدم الدواء، وشفي تماماً، حضر إليَّ في العيادة، وقال لي:
- بالله يا ابن عمي يا عبد السلام أنت خوش طبيب، وفهيم، لكن ما أحد (مخيسك) غير هالتلفزيون!
ويعود العجيلي في حديثه إلى إشكالية أن يكون المرء أديباً وطبيباً في الوقت نفسه. ويقول: لعل أشهر هؤلاء تشيخوف الذي سئل عن علاقته بالطب والأدب فقال:
- الطب زوجتي، والأدب عشيقتي!
وكأنه أراد أن يقول إن الطب كالزوجة، له الإخلاص، والواجب، ودفء الحياة العائلية، وأما اللذة والمتعة ففي الأدب.
وأذكر بهذه المناسبة موقفين طريفين، أولهما أن الأستاذ شريف العَلَمي، وهو مذيع معروف في إذاعات الخليج، أجرى معي حواراً إذاعياً لإذاعة الكويت، فذكرت له مقولة تشيخوف، فأوقف التسجيل وقال لي:
- أرجوك، في الكويت لا يقبلون استخدام كلمة "عشيقتي".
قلت: نقول: خليلتي.
قال: ولا هذه.
قلت: صديقتي.
قال: هذه مقبولة.
والثانية أن الملحق الأسبوعي لجريدة الشرق الأوسط السعودية التي تصدر في لندن، وهو ملحق يصدر على شكل مجلة مستقلة، أجرى، قبل سنوات، حواراً مطولاً معي، وسألني عن الطب والأدب فكررت مقولة تشيخوف. بعد أيام صدر العدد وعليه صورتي والعبارة التالية: عبد السلام العجيلي: الطب زوجتي والأدب صديقي!
إن عملية الكتابة لدى العجيلي سهلة جداً، فكان- على حد تعبير النقاد الأوائل- يغرف من بحر. يقول في هذا السياق:
لقد أنتجت ثلاثة وثلاثين كتاباً حتى الآن، رغم التزامي بعيادتي وأسفاري ومساهماتي الصحفية التي لم تجمع في كتب.
حينما كنت طالباً في الجامعة كنت أمر بأحد أصدقائي الصحفيين في مقر صحيفته، فما أراه إلا وهو يغلق الباب علي ويقول:
- لا تخرج من هنا إلا أن تكتب لي قصة أو مقالة أو افتتاحية.
وكنت ألبي طلبه في الحال.
ويقول: لو كنت من الطامعين بالشهرة، أو بالخلود، فيكفيني القليل مما أكتب. المتنبي مثلاً، خلده كتاب من أربعمئة صفحة فقط. في فرنسا عَلَمان أدبيان كبيران، أولُهما فيكتور هوجو الذي ملأ عشرات الكتب رواياتٍ وأشعراً رائعة، وبودلير الذي لا يقل عنه قيمة رغم أنه لم يكتب سوى ثلاثمئة صفحة من "أزهار الشر" ديوانه الوحيد.
أنا شخصياً مُكثر، ولكنني مكثر على الرغم عني. أتضايق من الطلبات والدعوات للكتابة، ولكنني في المحصلة أنتج. الكتابة تفرج همي وترضيني. لقد كنت ألهو بالكتابة وألعب، حتى انطبق علي قول الشاعر:
صار جداً ما لهوتُ به
رب جِـدٍّ جـره اللعبُ
ومن أطرف هزليات العجيلي واحدة تحكي عن مدرس مادة التربية الدينية في المدرسة الثانوية الشيخ جميل العقاد الذي كان ينظم، في كل عيد، قصيدة ويطبعها على بطاقات مزخرفة ويوزعها على زملائه المدرسين وطلابه. وذات مرة نظم قصيدة للمعايدة يقول فيها:
عادتْ عليـكـم بالصفا أعيـادُ
صرح العلا يُزهى بكم ويشـادُ
عيدي بعيد المسلمين ونصرهمْ
وفَخارُهـم يـوم الوغى يزدادُ
تلقف العجيلي القصيدة، واختلى بنفسه ونسج على منوالها قصيدة هزلية (بطريقة التخميس) يقول فيها:
عادتْ عليـكـم بالصفا أعيـادُ
وذقونُـكـم يلـهـو بها الأولادُ
يتلو عليهـا شيخُنـا العـقـادُ
صرح العلا يُزهى بكم ويشـادُ
عيدي بعيد المسلمين ونصرهمْ
وبلحم ضانٍ ناضجٍ في قدرهـم
أما التلامـذُ فالشقـاءُ بِبَرِّهـم
أدعو إلهي نجِّـني من شرهم
ففسـادُهم بيـن الورى يزدادُ
إني أرى خطـراً يحيط بقدسنا
فاهرب أخي حتى نفوز بنفسنا
ماذا يفيد ومَن نخيفُ ببأسنا؟
إن حاطـنا الشذاذُ والأوغادُ؟
وأوضح العجيلي: كتبتُ هذه القصيدة على وريقات ووزعتها من دون توقيع على الزملاء، ووصلت إحدى الوريقات إلى الشيخ جميل العقاد، وذهبت لأرى ردة فعله عليها، وبادرتُه أقول:
- هذا الطالب ذو التخميس السيء قد أساء إلى قصيدتك ذات المعاني السامية. فما رأيك؟
فقال متحسراً:
لو كان شعري شعيراً لاستحسنته الحميرُ
لكن شعري شعورٌ وهل للحمير شعور؟!
ومما يرويه في هذا المضمار أن الأستاذ أديب هندية قد أجرى للطلاب مذاكرة في الكيمياء، فيها سؤال عن الماء حينما ينقسم بالتفاعل إلى أكسجين وهيدروجين.. وكان العجيلي الأول على سورية في مادة العلوم والرياضيات. المهم أنه، بعدما كتب الإجابات الصحيحة على الورقة، أراد أن يتسلى فأخرج مسودة وكتب عليها ما يلي:
إن اتحاد الصـب بالبـخـارِ
يجري إذا أمِـرَّ بالتـيــارِ
هدروجنُ البخار يمضي هاربا
ويصبح الأكسيد جسماً غاصبا
فكل ستٍّ تكملُ التسعـيـنـا
من حجم غاز الماء قد تنبينا
بذرة تكـونـتْ أكـسـيدا
أحجـارهـا تمغـنطُ الحديدا
فليت شعري لترُ غاز منطلقْ
علامَ ينبي من حديد محترق؟
قد بان لي في آخر الحسابِ
ثلاثة غراماتْ في الجوابِ!
ويبدو أن الأمور الطريفة تأبى إلا أن تتوالد وتتكاثر، فبينما العجيلي يهم بتسليم الورقة إذ همس له زميله القريب منه، وهو من أسرة الدرعوزي بأن الوقت يكاد ينقضي وهو لم يهتد إلى حل للمسألة، فأعطاه القصيدة، والدرعوزي بدوره نقلها على دفتره كما هي.
وكانت النتيجة أن حصل العجيلي على العلامة التامة، والدرعوزي على صفر مكعب، مع ملاحظة من الأستاذ هندية يقول له: أنت مجنون حقيقي!
ومما رواه العجيلي في تلك الأمسية: كنت أنا ومعظم أدباء وصحفيي سورية آنذاك نلتقي يومياً في مقهى البرازيل الذي يعتبر من أهم المقاهي الأدبية في الوطن العربي. وذات يوم، كنت مسافراً في فرنسا، وكان صاحب المقهى قد أجرها لأحد الوجهاء لكي يعقد فيها قران ابنه. وكان نجاة قصاب حسن يحرر في صحيفة الرأي العام بتوقيع (فصيح)، وقد كتب قصيدة في رثاء المقهى. فور عودتي اتصل بي وسألني إن كنت قد قرأت قصيدته، فقلت: بلى. قال: أفلا تريد أن تؤاجر بقصيدة؟ فتلفنت له بعد ساعة وأمليت عليه هذه القصيدة:
قف بالطلول وقل يا دمعتي سيلي
أخنى الزمان على مقهى الرازيلِ
كأن جدرانـه لم تحـوِ ندوتـنا
ولا تضارب فيه القالُ بالقـيـلِ
ولا سقانا "خليلٌ" فـيـه قهوته
مغشوشةً بشعير الهنـد والفولِ
تلك الموائد كم حيكتْ بجـانبها
مقالبٌ وأعدتْ من أحابـيــلِ
مقلايةُ الحق في أرجائها نُصبتْ
لكل منتفـخٍ بالعرض والطـولِ
قالوا: تدسُّون؟ قلنا: ذاك ديدنُنا
لئن ساد بالناس أصحابُ الأباطيلِ
تحاربُ الظلمَ والإقطاعَُ عصبتُنا
إذا تقاعسَ كتَّـاب الجرانيــلِ
الشامتــون بنا لا در درهـمُ
من ساسة الحكمِ أو آل الرساميلِ
لا يفرحوا.. مقبل الأيام يُعلمُهم
ما الذي يتبـقى في الغرابيـلِ
أخيراً: إن ما استمعتم إليه ما هو إلا نقطة في بحر صديقي الراحل الكبير عبد السلام العجيلي.