مع بلوغ أواسط شهر ماي، مع تأكيد منسوب المحرار بكل حدوس الحواس، أن مراكش صارت كعادتها خلال هذه الفترة؛ وطيلة أربعة أشهر تقريبا، تحت رحمة جحيم صيف، لا يشق له غبار، يطاق على أية حال مع أنسنة الزمان والمكان إبان سياقات تلك الحقبة، عبر حوارات الصداقة المنسابة باستمرار بين المدينة وأهلها. لاحديث تتداوله الألسن سوى العطلة الصيفية؛ أو العطلة الكبيرة أو الثلاثة أشهر، بحيث اشتهر أساسا توقف الدراسة بهذين النعتين الأخيرين.
يشرع بعض المدرسين في تهيئنا لأجواء حفل نهاية السنة الدراسية، بالتحضير للأنشطة الفنية والثقافية التي ستغمر فضاء المدرسة خلال يومها الاستثنائي؛ والأهم ضمن سياق ذلك،أولا وأخيرا،وليمة الطاولة المعروضة داخل قاعة كبيرة، وقد وضعت فوقها قوارير المشروبات الغازية باختلاف ألوانها و تلاوينها، السوداء والصفراء والبرتقالية والبنية، وإبريق أو برادين كبيرين من الشاي المنعنع، ثم صحون صغيرة من قطع الحلويات.
تناط إلى تلميذ أو تلميذة مهمة جمع المساهمات وتوثيقها. ثم، يبدأ تقاطرها حسب الإمكانات المالية لأسرة كل واحد منا، مع إعفاء اليتامى وأبناء دور الإيواء والقادمين من البوادي؛ كما جرت العادة دائما، وإن كانت وضعيتنا الطبقية متقاربة جدا في عمومها، باستثناء حالات تبقى استثنائية، وأغلبنا يتنافس كي ينتقل بجلده وأسرته عبر جسر المدرسة، من وضعيته تلك صوب أخرى أفضل.
دأبنا ونحن أطفال في الطور الابتدائي وبعض السنوات من الإعدادي، أن نحضر باستمرار إلى المعلم لاسيما المفضل لدينا بامتياز ؛ عربونا عن حبنا له، بعض الفواكه حسب ما تجود به موسميا من أنواع، أعراص وجنان وحدائق مراكش. غير أن ظفرنا يتجه أكثر نحو المتوفر في وجه الجميع و بأثمنة زهيدة، لذلك ينحصر اختيارنا بين غلال البرتقال والعنب والمشمش و الإجاص والخوخ والبرقوق، بينما أخرى من نوع التفاح والموز، فيصعب جدا نيلها، أو مجرد استدعاء صورتها؛ ”ده في المشمش”على حد مزحة إخواننا المصريين، ولم يكن بوسعنا الوقوف على سرها سوى فيما ندر، بمناسبة دعوة عابرة لأعراس واحتفالات الميسورين من القوم، أو الأهم إن وجدت نفسك ذات يوم ممددا فوق سرير داخل المستشفى لسبب من الأسباب، حينئذ تتحسس فعلا هذا النوع الثمين، إضافة إلى الحليب و الأجبان، لكن المفارقة، ربما افتقد حينئذ تذوقها معنى حلاوته، نظرا للظرفية غير السعيدة التي تكتنفك. لذلك تمكث ذليلة بائرة عند رأسك،إلى أن يتكفل أهل المكان بحصدها جملة وتفصيلا؛ إما في غفلة منك أو عن طيب خاطر، حسب مقامك وفصيلتك المجتمعية.
ينتقي المعلم أحيانا عيّنة من المعروض فوق مكتبه، ويشرع في تذوقه أمامنا، وقد ألزمنا بإنجاز تمرين أو إعادة مراجعة ما كلفنا باستظهاره، ثم يشرع في بث ملاحظات عامة حول جودة الفاكهة المنتقاة من عدمها، ثم من الضروري طرحه استفسارات بخصوص هوية صاحب الهدية التي وقع عليها الاختبار، حينها يغمره بسلسلة أسئلة وتقييمات، وأحيانا يكتفي بتعابير إيمائية تتقلص خلالها ملامحه أو تتمطط،حسب طعم ما يقضمه. في نهاية الحصة، يجمع المحصول اليومي ويرسله مع أحدنا إلى منزله على وجه السرعة إن تواجد بمحاذاة المؤسسة، أو توضيبه جيدا في جيبي دراجته النارية ذات الهيكل المتين رغم قدمها المتحفي و تهالكها السيميائي.
تزدهر أساسا عطايانا للمعلم، بفضل ازدهار نتاج الفاكهة المقدور على أمرها، خلال فصل الصيف حيث العطلة على الأبواب، وتراجعت حدة أجواء الفصل الدراسي، لأن القيظ الشديد من جهة بدأ يفعل مفعوله المسرنم في الأجساد، ولأن تعامل المعلم معنا صار أكثر ليونة من ذي قبل؛ربما ساعة الفراق لمدة ليست قصيرة قد دقت، واستشراف اللحظة بحمولة حنينها، يتيح مجالا أوسع للسكينة.
إنها العطلة الصيفية، إذن، يختلف وقع مفهومها باختلاف طبيعة علاقة كل تلميذ بمرجعية المدرسة وما تعنيه له حمولة هذا الفضاء. فئة، تعتبرها نعمة لأنها تحررت أخيرا من رتابة التزامات عسكرية طيلة شهور، وبالتالي، تعني العطلة استعادة الحرية. في حين تضمر بالنسبة لجماعة أخرى نقمة، لأنها تحرمهم من مباهج كثيرة في طليعتها متعة الجلوس إلى المعلمين والتعلم والتنافس وتحقيق نتائج جيدة. على ضوء هذين المعيارين، تتحدد طبيعة المشاريع الممكنة، بحيث يحضر بقوة، أو يغيب بما يكفي محور العودة إلى المدرسة خلال بداية فصل الخريف.
ارتبطت العطلة عموما والصيفية خاصة، في المخيال الجماعي بالاستجمام وأساسا السفر ومغادرة المكان. لكن هاجس السفر، بمعنى حزم الحقائب لمجرد الموضة والإسراع نحو امتطاء وسائل النقل في إطار الحروب الرمزية للرياء، لم يكن بالنسبة للحقبة التي أستعيد ذكرها، متداولا بأي شكل من أشكال ذات التباهي والتفاخر والعبء المادي الثقيل كما حال الراهن. اكتفت هواجس سكان مراكش، بالانتقال صوب مياه بحر مدينة الجديدة، فاستمرت الرحلات العكسية ربيعا وصيفا بين المدينتين، غاية حدوث جفاء طويل جراء اشتعال أحداث شغب بين شباب الطرفين عقب مباراة في كرة القدم حادة التنافس، حينها دشن الطرفان لمدة ليست بالهينة سلسلة لامتناهية من استحضار المنظومة الحربية لداحس والغبراء.
عموما لم تكن قضية مغادرة مدينتنا حتى في عز الصيف، بالمطلب المستعجل، بل تكيف الناس مع تلك الأجواء بالتحصن نهارا داخل رحابة منازل بنيت أساسا على مر العصور بكيفية تبعث كثيرا من الرحمة، ثم التدفق مع أولى بداية انقشاع الشمس خارجيا؛ نحو ليل مراكش بكل آفاقه الشاعرية، فيستعيدون ثانية أنفاسهم، وتتطهّر دواخلهم من أجل استقبال صبيحة اليوم التالي.
يوم الحفل، من الضروري التقاط صورة جماعية وسط ساحة المدرسة. يتوسطنا تلميذ اختير بعناية كي يشهر لوحة صغيرة؛ تكشف عن التاريخ والمكان والمستوى. قبل أن يتفرق الجمع، يسرع المدير إلى تناول الكلمة، قصد إخبارنا بأن بيانات نتائجنا ستصلنا إلى منازلنا عن طريق البريد، متمنيا لنا عطلة سعيدة مع تنبيهه إلى عدم التغافل عن الاستعداد منذئذ للدخول المقبل، مع تخصيص ساعات يومية للقراءة الحرة وكذا الاطلاع على محاور السنة المقبلة.
وصية رغم جدتها؛ لم تكن بالاكتشاف العظيم، لأننا أساسا دأبنا منذ زمان ضمن جماعة أبناء الحي على سن أعراف توارث تراتبي لإصدارات أحمد بوكماخ في أجزائها الأربعة (التحضيري، الابتدائي الأول، المتوسط الأول، المتوسط الثاني )، ثم سلسلة هنري ترانشار لتعليم اللغة الفرنسية. فالسابق يعبِّد الطريق أمام اللاحق، من ثمة لاخشية تذكر فيما يتعلق بخريطة خطوات التوجه المدرسي. كنا نتبادل بشغف وتلقائية كل شيء، مادمنا قد تآلفنا وجعلنا الحياة أبسط مما كانت بسيطة، ضمن إطار وحدة أسروية كبيرة جامعة وحامية لعرى أواصر الناس وعريهم من الطوارئ والنوازل غير الرحيمة، لاتفصل بين خاصة خصوصياتنا؛ سوى هيكل أسوار وجدران صورية.
نشرع في التبادل والمقايضة بعد التأكيد الرسمي للنتائج النهائية، بل غالبا قبل ذلك، بناء على التقديرات والتخمينات المنطقية حدسيا، لأن مآلات الاستحقاق تكون معلومة ضمنيا حسب معرفة كل واحد من أبناء الحي بنوعية وطبيعة ما راكمه طيلة السنة، اجتهادا أو إهمالا.
بعد هذه الخطوة الأساسية بخصوص تحقيق جانب كبير من الاستعداد اللوجيستيكي للدخول المقبل، يلزمني أن أتدبر عملا موسميا، حتى أوفر إيرادات اقتناء ثياب جديدة ومستلزمات أخرى، وربما أيضا إتمام بعض العناوين المتبقية من كراسات المقرر الدراسي، بشرائها من سوق الكتب في ساحة جامع الفنا بداية، قبل أن تكتسحها مرضيا شراهة البطن اكتساحا مع جل تبعاته؛ وتفقد حسها الفني العميق لصالح البهرجة الفارغة، ثم حديقة ”عرصة البيلك” ثانيا، وأمام مسجد الكتبية في مرحلة ثالثة،انتهاء برحبة باب دكالة.
قد يستغرق إيجاد عمل، أياما عدة. يصعب الانتظار، لذلك أبادر إلى ممارسة تجارة صغيرة جدا، في أقرب سوق يتاخم حينا، فأنوّع المعروض كل صباح من البيض المسلوق إلى الثوم والحلويات أو قوارير الشامبو … لا يساورني الحظ بالكيفية المطلوبة، مادام هامش الربح لا يشجع كثيرا؛على مواصلة الرهان، لذلك أمنح نفسي استراحة يومين أخصصهما لإعادة اكتشاف متعة القاعات السينمائية أو الذهاب إلى أحد المسابح العمومية.
رغم كل المجالات التي طرقتها، ومختلف الحرف التي امتهنتها خلال عقود طويلة من العطل الصيفية، آثرت دائما الاشتغال في المقاهي أو المطاعم الشعبية، لاسيما الأولى. صحيح، طيلة اليوم وأنت جلمود صخر أمام صنبور وحوض صغير لغسل الكؤوس والأواني، غير أن الجلوس بين الفينة والأخرى للاستراحة من أجل ارتشاف فنجان قهوة مقطرة جدا، أو تلك اللذة التي لا تقاوم حين إضافة حليب دسم على الطريقة الإيطالية، يجعل من تعب السابق مجرد طاقة كامنة تتربص سرا بمكامن الإفصاح عن هويتها.
يشرع بعض المدرسين في تهيئنا لأجواء حفل نهاية السنة الدراسية، بالتحضير للأنشطة الفنية والثقافية التي ستغمر فضاء المدرسة خلال يومها الاستثنائي؛ والأهم ضمن سياق ذلك،أولا وأخيرا،وليمة الطاولة المعروضة داخل قاعة كبيرة، وقد وضعت فوقها قوارير المشروبات الغازية باختلاف ألوانها و تلاوينها، السوداء والصفراء والبرتقالية والبنية، وإبريق أو برادين كبيرين من الشاي المنعنع، ثم صحون صغيرة من قطع الحلويات.
تناط إلى تلميذ أو تلميذة مهمة جمع المساهمات وتوثيقها. ثم، يبدأ تقاطرها حسب الإمكانات المالية لأسرة كل واحد منا، مع إعفاء اليتامى وأبناء دور الإيواء والقادمين من البوادي؛ كما جرت العادة دائما، وإن كانت وضعيتنا الطبقية متقاربة جدا في عمومها، باستثناء حالات تبقى استثنائية، وأغلبنا يتنافس كي ينتقل بجلده وأسرته عبر جسر المدرسة، من وضعيته تلك صوب أخرى أفضل.
دأبنا ونحن أطفال في الطور الابتدائي وبعض السنوات من الإعدادي، أن نحضر باستمرار إلى المعلم لاسيما المفضل لدينا بامتياز ؛ عربونا عن حبنا له، بعض الفواكه حسب ما تجود به موسميا من أنواع، أعراص وجنان وحدائق مراكش. غير أن ظفرنا يتجه أكثر نحو المتوفر في وجه الجميع و بأثمنة زهيدة، لذلك ينحصر اختيارنا بين غلال البرتقال والعنب والمشمش و الإجاص والخوخ والبرقوق، بينما أخرى من نوع التفاح والموز، فيصعب جدا نيلها، أو مجرد استدعاء صورتها؛ ”ده في المشمش”على حد مزحة إخواننا المصريين، ولم يكن بوسعنا الوقوف على سرها سوى فيما ندر، بمناسبة دعوة عابرة لأعراس واحتفالات الميسورين من القوم، أو الأهم إن وجدت نفسك ذات يوم ممددا فوق سرير داخل المستشفى لسبب من الأسباب، حينئذ تتحسس فعلا هذا النوع الثمين، إضافة إلى الحليب و الأجبان، لكن المفارقة، ربما افتقد حينئذ تذوقها معنى حلاوته، نظرا للظرفية غير السعيدة التي تكتنفك. لذلك تمكث ذليلة بائرة عند رأسك،إلى أن يتكفل أهل المكان بحصدها جملة وتفصيلا؛ إما في غفلة منك أو عن طيب خاطر، حسب مقامك وفصيلتك المجتمعية.
ينتقي المعلم أحيانا عيّنة من المعروض فوق مكتبه، ويشرع في تذوقه أمامنا، وقد ألزمنا بإنجاز تمرين أو إعادة مراجعة ما كلفنا باستظهاره، ثم يشرع في بث ملاحظات عامة حول جودة الفاكهة المنتقاة من عدمها، ثم من الضروري طرحه استفسارات بخصوص هوية صاحب الهدية التي وقع عليها الاختبار، حينها يغمره بسلسلة أسئلة وتقييمات، وأحيانا يكتفي بتعابير إيمائية تتقلص خلالها ملامحه أو تتمطط،حسب طعم ما يقضمه. في نهاية الحصة، يجمع المحصول اليومي ويرسله مع أحدنا إلى منزله على وجه السرعة إن تواجد بمحاذاة المؤسسة، أو توضيبه جيدا في جيبي دراجته النارية ذات الهيكل المتين رغم قدمها المتحفي و تهالكها السيميائي.
تزدهر أساسا عطايانا للمعلم، بفضل ازدهار نتاج الفاكهة المقدور على أمرها، خلال فصل الصيف حيث العطلة على الأبواب، وتراجعت حدة أجواء الفصل الدراسي، لأن القيظ الشديد من جهة بدأ يفعل مفعوله المسرنم في الأجساد، ولأن تعامل المعلم معنا صار أكثر ليونة من ذي قبل؛ربما ساعة الفراق لمدة ليست قصيرة قد دقت، واستشراف اللحظة بحمولة حنينها، يتيح مجالا أوسع للسكينة.
إنها العطلة الصيفية، إذن، يختلف وقع مفهومها باختلاف طبيعة علاقة كل تلميذ بمرجعية المدرسة وما تعنيه له حمولة هذا الفضاء. فئة، تعتبرها نعمة لأنها تحررت أخيرا من رتابة التزامات عسكرية طيلة شهور، وبالتالي، تعني العطلة استعادة الحرية. في حين تضمر بالنسبة لجماعة أخرى نقمة، لأنها تحرمهم من مباهج كثيرة في طليعتها متعة الجلوس إلى المعلمين والتعلم والتنافس وتحقيق نتائج جيدة. على ضوء هذين المعيارين، تتحدد طبيعة المشاريع الممكنة، بحيث يحضر بقوة، أو يغيب بما يكفي محور العودة إلى المدرسة خلال بداية فصل الخريف.
ارتبطت العطلة عموما والصيفية خاصة، في المخيال الجماعي بالاستجمام وأساسا السفر ومغادرة المكان. لكن هاجس السفر، بمعنى حزم الحقائب لمجرد الموضة والإسراع نحو امتطاء وسائل النقل في إطار الحروب الرمزية للرياء، لم يكن بالنسبة للحقبة التي أستعيد ذكرها، متداولا بأي شكل من أشكال ذات التباهي والتفاخر والعبء المادي الثقيل كما حال الراهن. اكتفت هواجس سكان مراكش، بالانتقال صوب مياه بحر مدينة الجديدة، فاستمرت الرحلات العكسية ربيعا وصيفا بين المدينتين، غاية حدوث جفاء طويل جراء اشتعال أحداث شغب بين شباب الطرفين عقب مباراة في كرة القدم حادة التنافس، حينها دشن الطرفان لمدة ليست بالهينة سلسلة لامتناهية من استحضار المنظومة الحربية لداحس والغبراء.
عموما لم تكن قضية مغادرة مدينتنا حتى في عز الصيف، بالمطلب المستعجل، بل تكيف الناس مع تلك الأجواء بالتحصن نهارا داخل رحابة منازل بنيت أساسا على مر العصور بكيفية تبعث كثيرا من الرحمة، ثم التدفق مع أولى بداية انقشاع الشمس خارجيا؛ نحو ليل مراكش بكل آفاقه الشاعرية، فيستعيدون ثانية أنفاسهم، وتتطهّر دواخلهم من أجل استقبال صبيحة اليوم التالي.
يوم الحفل، من الضروري التقاط صورة جماعية وسط ساحة المدرسة. يتوسطنا تلميذ اختير بعناية كي يشهر لوحة صغيرة؛ تكشف عن التاريخ والمكان والمستوى. قبل أن يتفرق الجمع، يسرع المدير إلى تناول الكلمة، قصد إخبارنا بأن بيانات نتائجنا ستصلنا إلى منازلنا عن طريق البريد، متمنيا لنا عطلة سعيدة مع تنبيهه إلى عدم التغافل عن الاستعداد منذئذ للدخول المقبل، مع تخصيص ساعات يومية للقراءة الحرة وكذا الاطلاع على محاور السنة المقبلة.
وصية رغم جدتها؛ لم تكن بالاكتشاف العظيم، لأننا أساسا دأبنا منذ زمان ضمن جماعة أبناء الحي على سن أعراف توارث تراتبي لإصدارات أحمد بوكماخ في أجزائها الأربعة (التحضيري، الابتدائي الأول، المتوسط الأول، المتوسط الثاني )، ثم سلسلة هنري ترانشار لتعليم اللغة الفرنسية. فالسابق يعبِّد الطريق أمام اللاحق، من ثمة لاخشية تذكر فيما يتعلق بخريطة خطوات التوجه المدرسي. كنا نتبادل بشغف وتلقائية كل شيء، مادمنا قد تآلفنا وجعلنا الحياة أبسط مما كانت بسيطة، ضمن إطار وحدة أسروية كبيرة جامعة وحامية لعرى أواصر الناس وعريهم من الطوارئ والنوازل غير الرحيمة، لاتفصل بين خاصة خصوصياتنا؛ سوى هيكل أسوار وجدران صورية.
نشرع في التبادل والمقايضة بعد التأكيد الرسمي للنتائج النهائية، بل غالبا قبل ذلك، بناء على التقديرات والتخمينات المنطقية حدسيا، لأن مآلات الاستحقاق تكون معلومة ضمنيا حسب معرفة كل واحد من أبناء الحي بنوعية وطبيعة ما راكمه طيلة السنة، اجتهادا أو إهمالا.
بعد هذه الخطوة الأساسية بخصوص تحقيق جانب كبير من الاستعداد اللوجيستيكي للدخول المقبل، يلزمني أن أتدبر عملا موسميا، حتى أوفر إيرادات اقتناء ثياب جديدة ومستلزمات أخرى، وربما أيضا إتمام بعض العناوين المتبقية من كراسات المقرر الدراسي، بشرائها من سوق الكتب في ساحة جامع الفنا بداية، قبل أن تكتسحها مرضيا شراهة البطن اكتساحا مع جل تبعاته؛ وتفقد حسها الفني العميق لصالح البهرجة الفارغة، ثم حديقة ”عرصة البيلك” ثانيا، وأمام مسجد الكتبية في مرحلة ثالثة،انتهاء برحبة باب دكالة.
قد يستغرق إيجاد عمل، أياما عدة. يصعب الانتظار، لذلك أبادر إلى ممارسة تجارة صغيرة جدا، في أقرب سوق يتاخم حينا، فأنوّع المعروض كل صباح من البيض المسلوق إلى الثوم والحلويات أو قوارير الشامبو … لا يساورني الحظ بالكيفية المطلوبة، مادام هامش الربح لا يشجع كثيرا؛على مواصلة الرهان، لذلك أمنح نفسي استراحة يومين أخصصهما لإعادة اكتشاف متعة القاعات السينمائية أو الذهاب إلى أحد المسابح العمومية.
رغم كل المجالات التي طرقتها، ومختلف الحرف التي امتهنتها خلال عقود طويلة من العطل الصيفية، آثرت دائما الاشتغال في المقاهي أو المطاعم الشعبية، لاسيما الأولى. صحيح، طيلة اليوم وأنت جلمود صخر أمام صنبور وحوض صغير لغسل الكؤوس والأواني، غير أن الجلوس بين الفينة والأخرى للاستراحة من أجل ارتشاف فنجان قهوة مقطرة جدا، أو تلك اللذة التي لا تقاوم حين إضافة حليب دسم على الطريقة الإيطالية، يجعل من تعب السابق مجرد طاقة كامنة تتربص سرا بمكامن الإفصاح عن هويتها.