في ديوانه "محاولة رقم 7" (1974) كتب درويش مقطعاً أتى فيه على العرس الفلسطيني الذي لا يصل الحبيب فيه إلى الحبيب إلا شهيداً أو شريداً. العرس الفلسطيني لا ينتهي، في ساحة لا تنتهي، في ليلة لا تنتهي، وقد ظل الشاعر يكتب الشعر الوطني حتى وفاته في آب 2008، وما زال العرس قائماً والساحة يكمن تحتها بركان. وهو -درويش- لم يرد أن يكبر على جراح وطنه، ولذلك أراد لهذه الجراح أن تنتهي، حتى يتفرغ لكتابة قصائد أخرى، قصائد حب، وقصائد وصف، وقصائد يجرب فيها أشكالا شعرية، كأن يكتب قصيدة عنوانها "جملة اسمية" لا فعل فيها.
في قصيدته "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي" التي صدرت في الديوان الأخير الذي حمل عنوانه عنوانها، ولعلها من آخر القصائد التي كتبها، لا يريد درويش لها هدفاً واضحاً، ولا يريد لها أن تكون خريطة منفى أو بلد، ولا يريد لها أن تنتهي بالختام السعيد، ولا بالردي. إنه يريد لها أن تكون كما تشتهي أن تكون.
"قصيدة غيري. قصيدة ضدي. قصيدة ندّي...،
ويريد لها أن تكون صلاة أخيه وعدوه:
"كأن المخاطب فيها أنا الغائب المتكلم فيها.
كأن الصدى جسدي. وكأني أنا
أنتِ أو غيرنا. وكأني أنا آخري".
وربما ما قاله آنفا يفتح السؤال مشرعا على تنظير درويش لشعره في شعره وفي نثره: الشاعر، من خلال شعره ونثره، منظراً للشاعر. لعل ما قاله يحتاج إلى قراءة شعره والمقابلات التي أجريت معه والكلمات التي ألقاها في حفلات توقيع دواوينه، قراءة تعاقبية. وإذا كان ذلك أنجز حتى العام 2000: الشاعر، من خلال شعره، منظراً للشعر، فإن ما لم ينجز هو: في المقابلات وفي الكلمات وما بعد العام 2000 في الشعر. لقد واصل الشاعر في دواوينه الصادرة بعد العام 2000 التنظير لفن الشعر بكثرة، ولم تخل القصيدة المذكورة، بل والديوان المذكور من هذا التنظير. خذ مثلا قصيدة: "لاعب النرد"، أو خذ مثلاً قصيدة: "إلى شاعر شاب" إلى شاعر شاب في الأولى "لاعب النرد" يكتب قصيدته حرفا فحرفا، ونزفا فنزفا، وفيها أن تلك القصيدة ليس لها شاعر واحد، ولهذا كان يمكن ألا تكون غنائية، وفي إلى شاعر شاب ينصح درويش الشاعر الشاب بألا يصدق خلاصات الشعراء السابقين، وأن ينساها ويبتدئ من كلامه هو، كأنه أول من يكتب الشعر، أو آخر الشعراء، وفيها مقطع لافت يشكل مفتاحا لأشعار درويش في أثناء دراستها:
"قد تسمّي نضوب الفتوة نضج المهارة
أو حكمة
إنها حكمة، دون ريب،
ولكنها حكمة اللاغنائية الباردة"
ولهذا قال في جدارية إنه آخر الشعراء الغنائيين أو قد يكون كذلك. هكذا ينصح الشاعر المجرب الشاعر الشاب، علماً أنه ينهي قصيدته بقوله:
"لا نصيحة في الحب، لكنها التجربة
لا نصيحة في الشعر، لكنها الموهبة"
طبعاً هناك قصيدة أخرى ينظر فيها درويش للشعر/مثل قصيدة "تلال مقدسة" إذ يأتي فيها على الأنبياء، ويقول إنهم لا يطربون لشعر الحماسة، ويأتي فيها على مهارة الشعراء في اقتناء الخسارة: "قد يصدقون إذا كذبوا: فلنصدق أكاذيبهم" وكان للشاعر ذات يوم، موقف لافت من عبارة: أجمل الشعر أكذبه.
لعل اللافت في موقف درويش من القصيدة، في قصيدته: "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي" هو أنه لا يريد لها هدفاً واضحاً. وأنه أيضاً لا يريد لها أن تكون خريطة منفى أو بلداً، وأنه لا يريد لها أن تنتهي بالختام السعيد ولا بالردي". هذه العبارات الثلاث تحيلنا إلى أشعار درويش السابقة، وإلى اختلاف موقفه في آخر حياته من قصيدته التي يريد لها ألا تنتهي.
أولاً: "لا أريد لها هدفاً واضحاً"
هل يريد درويش أن يكتب الشعر لأجل الشعر والشاعرية فقط؟ هل هذا ما توصل إليه بعد رحلة خمسين عاماً وأكثر من كتابه الشعر، إذا ما عدنا إلى قصائده التي كتبها، وهو في الأرض المحتلة، وبالتحديد يوم كان في الحزب، لاحظنا أنه كان يكتب الشعر من أجل هدف واضح: العدل والحرية. أليس هو القائل: أحد الخلان يقول: لو سرّت أشعاري أصحابي وأغاظت أعدائي، فأنا شاعر، وأنا سأقول. والأدلة على أن درويش وشعراء المقاومة كانوا يكتبون الشعر لأهداف كثيرة، وقد توقف أمامها الشهيد غسان كنفاني في دراسته لأدب المقاومة في فلسطين المحتلة. وربما تذكر المرء قصيدة درويش التي أهداها للشاعرة فدوى طوقان، يوم زارته هذه بعد هزيمة 1967، وربما تذكر سطره اللافت فيها: نحن يا أخت لا نكتب أشعاراً، ولكنا نقاوم. وحين زار درويش حيفا، قبل وفاته بفترة قصيرة، وألقى فيها قصائد، كتب قصيدة عن زيارته، وقال فيها: لم يكن الشعر بريئا، وخاطب السجن معلمه الأول.
ثانياً: " لا أريد لها أن تكون خريطة منفى/ولا بلداً"
سئم الشاعر من كتابة الشعر الذي يعبر عن تجربة المنفى، والشعر الذي يتناول بلدا بعينه؟ عاش درويش في المنفى ما بين 1970 و 1997، هذا إذا لم نر في إقامته في رام الله استمراراً للمنفى، فالأصل أن يعود إلى حيفا. وقبل العام 1970 كتب عن فلسطين ولها، ما يعني أن أشعاره أكثرها كانت أشعار خريطة منفى، وكانت أشعار مكان: فلسطين أولا: عاشق من فلسطين، ثم حيفا ثانيا، وأخيراً: البروة: طللية البروة. كتب درويش وهو في المنفى عن قسوته، وكتب أيضاً عن مدنه وبلدانه: بيروت، باريس، تونس، القاهرة... الخ. ماذا إذن يريد لقصيدته التي لا يريد لها أن تنتهي أن تكون؟ هل يريدها قصيدة كونية، فوق المكان وخارج الزمان؟ لو كان الشاعر حيا لربما حاورناه في هذا، فقد قال ذات نهار: أجمل الأشعار ما يحفظه عن ظهر قلب كل قارئ، وكانت أشعاره التي حفظها القراء الأشعار التي عبر فيها عن البلد وعن المنفى.
ثالثاً: لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي بالختام السعيد، ولا بالرديء كانت قصائد درويش التي كتبها قبل العام 1970 تحفل بالختام السعيد طبعاً علينا ألا نغفل المكان والزمان، حيث فرض عليه هذان العنصران تلك النهايات، كان درويش ينتمي إلى الحزب الشيوعي، وكان الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية، في مناطق كثيرة في العالم، في ستينيات ق 20 ينتهي بدحر الدول المستعمرة: فيتنام وكوبا وبعض الدول الإفريقية، وكان العالم العربي يتحرر من الاستعمار: الجزائر واليمن و... و... وقد يلم بفلسطين ما ألم بتلك الدول. وكانت أفكار الواقعية الاشتراكية تسود وتطغى، ولا بد للشاعر من الإيمان بالجماهير والتواصل معها، ولا بد له من أن يبث التفاؤل لا التشاؤم، فيها. من هنا من لا يحفظ أبياته بعد حرب حزيران 1967:
خسرت حلماً جميلا خسرت لسع الزنابق
وكان ليلي طويلا على سياج الحدائق
وما خسرت السبيلا
وليس هو الشاعر الوحيد الذي كان متفائلا، فزياد مثلا قال أيضاً بعد هزيمة 1967: كبوة هذا وكم يحدث أن يكبو الهمام
إنها للخلف خطوة من أجل عشر للأمام
كان الشاعران يستمدان تفاؤلهما من فكرهما الذي آمنا به واعتنقاه، الفكر الذي بشر بانتصار الاشتراكية ودحر الرأسمالية، وإذا كان زياد مات وهو متفائل، فليس حال درويش كذلك. ترك الشاعر حيفا وانطوى تحت لواء م.ت.ف وعاش تجاربها ومعاركها المرة، ولاحظ أنها كلما قاتلت أكثر ابتعدت عن فلسطين أكثر. بدلا من العودة من بيروت إلى حيفا، ذهبت إلى تونس وأماكن أخرى، وأقام هو في باريس، وقد حفل شعره بالردى. كم قصيدة رثاء كتب الشاعر في أصدقائه؟ لقد قال: تعب الرثا، من الضحايا، حتى أنه كتب قصيدة عنوانها: سنة أخرى فقط، رجاهم فيها ألا يموتوا، وأن ينتظروا سنة أخرى فقط، لعله يلحق بالقافلة. وينهي درويش قصيدته بالطلب من ذاته ومن أصدقائه أن يتدربوا على حب أشياء ليست لهم، ولكنه لن يبدل أوتار جيتارته، ولن يحمّلها فوق طاقتها، ولن يقول لها غير ما تشتهي أن يقول لها، فقد حملته ليحملها، وبالتالي لن يبدل أوتارها. لم يرد الشاعر للقصيدة، ولا للنهار الخريفي، أن ينتهيا، لكنه انتهى هو فانتهت القصيدة.
محمود درويش: ترتيب القصائد والأطلال
لو كنت مكان إلياس خوري لرتبت قصائد الديوان ترتيباً آخر، ولربما استبعدت منه بعض قصائد. هذا اجتهاد له أسبابه. لماذا لم يدرج إلياس قصيدة "طللية البروة" وقصيدة "كلمات" مع قصيدة "على محطة قطار سقط عن الخريلة؟" هناك ما هو مشترك بينها: الوقوف على الأطلال. ولماذا لم يدرج قصيدة "إلى شاعر شاب" وقصيدة "تلال مقدسة" مع قصيدة "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي"؟ القصائد الثلاث فيها تنظير للشعر، ولماذا لم يدرج قصيدة "كأن الموت تسليتي" مع قصيدة " يأتي ويذهب"، حيث تقارب الإيقاع؟
ويخيل إلي أن فترة كتابة بعض القصائد كانت متقاربة، ما جعل بعض أسطرها يتشابه، ولو قدر للشاعر أن يعمر ويشرف على طباعة الديوان لربما حذف بعض قصائده ولم يدرجها في المجموعة. ربما
ما الشبه بين قصائده "على محطة قطار سقط عن الخريطة" و"طللية البروة" و"كلمات" الثلاث فيها ذكر للأطلال ورؤية ما تحت الظاهر. في الأولى يكتب الشاعر: "أقول لمن يراني عبر منظار على برج الحراسة: "لا أراك ولا أراك". ماذا يرى إذن؟ يرى مكانه كله حوله. يرى نفسه في المكان بكل أعضائه وأسمائه، ويرى شجر النخيل ينقح الفصحى من الأخطاء في لغته، ولا يرى قناصته. وفي "طللية البروة" يختار الشاعر الغياب لوصفه، وحين يطلب منه مرافقه أن يرى الطرق الحديثة فوق أنقاض البيوت، ويسأله إن كان يرى مصنع الألبان-دلالة على ما قامت به إسرائيل من تعمير-يجيبه الشاعر: كلا، لا أرى إلا الغزالة في الشباك. إنه لا يرى إلا الغياب بكامل الأدوات، يلمسه ويسمعه-أي الغياب-ويرفعه إلى الأعلى، ولا يرى المصنع والطرق الحديثة، إنما يرى الحديقة تحتها. ثمة تبديل عوالم/ عالم ظاهر وعالم خفي، قام الأول على أنقاض الثاني (هنا نتذكر قصيدته في العام 1990: خطبة الهندي الأحمر الأخير.") وفي قصيدة "كلمات" ويمشي الشاعر على الشارع وفي قلبه ثقب سماوي، وفي عينيه مرج سابق يمشي على أطلاله.
لم يكن الوقوف على الأطلال يروق للشاعر في بداية حياته الشعرية، ولهذا اختلف مبكراً مع امرئ القيس، لأن شاعر الأطلال فانٍ، فأي عار ترتدي القصائد حين تقتصر على تذكر الماضي والوقوف على الأطلال". كان الشاعر يومها ينتمي إلى لحظته الحاضرة، ويومها قال: من يشتري تاريخ أجدادي بيوم حرية. كان يومها يغني للحرية، وقد اختلف الأمر، فيما بعد، وتحديداً منذ بداية تسعينيات ق 20، إذ رأى في حينه أنه خسر أجمل ما فيه يوم خسر ما فيه. وفي العام 2003 سيصدر مجموعته "لا تعتذر عما فعلت".
قبل هذا العام كتب درويش للأرض والصمود والتحدي والثورة والفدائي والمدن الثائرة والحنين إلى حيفا. وسيختلف الأمر حين يزور حيفا وأطلال البروة والجديدة ومدرسة كفر ياسيف التي تعلم فيها، وسيتذكر الماضي، وسيكتب قصائد عن صورته في بيت أمه والأشجار التي كان له فيها ذكريات، وسيستحضر قول أبي تمام: لا أنت أنت، ولا الديار ديار، كأنما يلخص من خلاله، ومن خلال قول (موركا): لا أنا أنا ولا البيت بيتي، تجربة العودة بعد ربع قرن من الغياب. وسيخص البروة في "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي" بطللية. وهكذا سينتهي من حيث بدأ امرؤ القيس وسيلتقي معه بعد أن اختلف عنه في موضوعات الشعر.
في "على محطة قطار سقط عن الخريطة" وقوف على الأطلال. لماذا لم تنل هذه القصيدة، حتى اللحظة، في صدور قراءتي، حقها من الدرس والتحليل؟ ربما تكون من أجمل قصائد درويش. فيها يكتب:
"طللية أخرى وأهلك ذكرياتي في الوقوف
على المحطة ................. لا أحب سوى
الرجوع إلى حياتي، كي تكون نهايتي سردية لبدايتي"
وستكون نهايته الشعرية سردية لبدايته. سيكتب في آخر سنواته قصائد يسترجع فيها أيام طفولته وقريته وولادته. والقصيدة عموماً ذات طابع سردي، وقد تدفع قارئها لإثارة السؤال التالي: لماذا لم يكتب درويش القصة القصيرة أو الرواية؟
ستكون نهايته سردية لبدايته، لأنه أراد أن ينتصر فيها الخيالي الخفيف-أي الشعر، على فساد الواقعي، أراد على الأقل أن يحقق انتصاراً ولو لغويا/شعرياً:
"ألا تزال بقيتي تكفي لينتصر الخيالي الخفيف
على فساد الواقعي؟"
الواقع فاسد كله، فلماذا لا نحقق انتصاراً لغوياً؟
هل كان محمود درويش حقا يشعر أنه على وشك الرحيل؟ ثمة بقية له من العمر، فهل تكفي ليحقق من خلال كتابة الواقع كما كان، فينتصر على فساد الواقعي؟
ثمة ثلاث قصائد يستشف من خلالها أن الشاعر بدأ يحس بأن الموت يقترب، وأنه على وشك الرحيل، القصيدة الأولى هي "لاعب النرد" ويختتمها بالتالي:
" ومن حسن حظي أني أنام وحيدا
فأصغي إلى جسدي
وأصدق موهبتي في اكتشاف الألم
فأنادي الطبيب، قبيل الوفاة، بعشر دقائق
عشر دقائق تكفي لأحيا مصادفة
وأخيب ظن العدم
من أنا لأخيب ظن العدم
والقصيدة الثانية هي "سيناريو جاهز" وتنتهي بالسطرين التاليين،
"وعلى شاعر آخر أن يتابع هذا السيناريو إلى آخره"
وأما القصيدة الثالثة فهي "إلى شاعر شاب"، وفيها يضع خلاصة رأيه في الشعر بعد خمسين عاما من كتابته كأنما انتهى دوره شاعراً، ولا بد من شاعر جديد يواصل:
"وأخيراً: عليك السلام"
وفي "على محطة قطار سقط عن الخريطة" شعور بالفجيعة، فقد كانت الأمور تسير في هذا الطريق منذ البداية. منذ كنا طيبين وسذجا. ومنذ قلنا: البلاد بلادنا، قلب الخريطة لن يصاب بأي داء خارجي". هل أقول إن فيها شعوراً بالموت لا بالفجيعة وحسب. لم نكن يقظين، كنا ندرب الذئاب على صداقتنا، كأننا كنا نحفر قبرنا، مبكراً، بأيدينا.
وأنا أتابع ما كتب عن هذا الديوان، على قلته، تساءلت: لماذا حقاً لم يلتفت إليه، علماً بأن نصف قصائده مثل "لاعب النرد" و"على المحطة قطار سقط عن الخريطة" قصائد ذات رفعة شعرية عالية؟.
عن موقع مؤسسة فلسطين للثقافة
تاريخ النشر: 12-12-2010
في قصيدته "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي" التي صدرت في الديوان الأخير الذي حمل عنوانه عنوانها، ولعلها من آخر القصائد التي كتبها، لا يريد درويش لها هدفاً واضحاً، ولا يريد لها أن تكون خريطة منفى أو بلد، ولا يريد لها أن تنتهي بالختام السعيد، ولا بالردي. إنه يريد لها أن تكون كما تشتهي أن تكون.
"قصيدة غيري. قصيدة ضدي. قصيدة ندّي...،
ويريد لها أن تكون صلاة أخيه وعدوه:
"كأن المخاطب فيها أنا الغائب المتكلم فيها.
كأن الصدى جسدي. وكأني أنا
أنتِ أو غيرنا. وكأني أنا آخري".
وربما ما قاله آنفا يفتح السؤال مشرعا على تنظير درويش لشعره في شعره وفي نثره: الشاعر، من خلال شعره ونثره، منظراً للشاعر. لعل ما قاله يحتاج إلى قراءة شعره والمقابلات التي أجريت معه والكلمات التي ألقاها في حفلات توقيع دواوينه، قراءة تعاقبية. وإذا كان ذلك أنجز حتى العام 2000: الشاعر، من خلال شعره، منظراً للشعر، فإن ما لم ينجز هو: في المقابلات وفي الكلمات وما بعد العام 2000 في الشعر. لقد واصل الشاعر في دواوينه الصادرة بعد العام 2000 التنظير لفن الشعر بكثرة، ولم تخل القصيدة المذكورة، بل والديوان المذكور من هذا التنظير. خذ مثلا قصيدة: "لاعب النرد"، أو خذ مثلاً قصيدة: "إلى شاعر شاب" إلى شاعر شاب في الأولى "لاعب النرد" يكتب قصيدته حرفا فحرفا، ونزفا فنزفا، وفيها أن تلك القصيدة ليس لها شاعر واحد، ولهذا كان يمكن ألا تكون غنائية، وفي إلى شاعر شاب ينصح درويش الشاعر الشاب بألا يصدق خلاصات الشعراء السابقين، وأن ينساها ويبتدئ من كلامه هو، كأنه أول من يكتب الشعر، أو آخر الشعراء، وفيها مقطع لافت يشكل مفتاحا لأشعار درويش في أثناء دراستها:
"قد تسمّي نضوب الفتوة نضج المهارة
أو حكمة
إنها حكمة، دون ريب،
ولكنها حكمة اللاغنائية الباردة"
ولهذا قال في جدارية إنه آخر الشعراء الغنائيين أو قد يكون كذلك. هكذا ينصح الشاعر المجرب الشاعر الشاب، علماً أنه ينهي قصيدته بقوله:
"لا نصيحة في الحب، لكنها التجربة
لا نصيحة في الشعر، لكنها الموهبة"
طبعاً هناك قصيدة أخرى ينظر فيها درويش للشعر/مثل قصيدة "تلال مقدسة" إذ يأتي فيها على الأنبياء، ويقول إنهم لا يطربون لشعر الحماسة، ويأتي فيها على مهارة الشعراء في اقتناء الخسارة: "قد يصدقون إذا كذبوا: فلنصدق أكاذيبهم" وكان للشاعر ذات يوم، موقف لافت من عبارة: أجمل الشعر أكذبه.
لعل اللافت في موقف درويش من القصيدة، في قصيدته: "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي" هو أنه لا يريد لها هدفاً واضحاً. وأنه أيضاً لا يريد لها أن تكون خريطة منفى أو بلداً، وأنه لا يريد لها أن تنتهي بالختام السعيد ولا بالردي". هذه العبارات الثلاث تحيلنا إلى أشعار درويش السابقة، وإلى اختلاف موقفه في آخر حياته من قصيدته التي يريد لها ألا تنتهي.
أولاً: "لا أريد لها هدفاً واضحاً"
هل يريد درويش أن يكتب الشعر لأجل الشعر والشاعرية فقط؟ هل هذا ما توصل إليه بعد رحلة خمسين عاماً وأكثر من كتابه الشعر، إذا ما عدنا إلى قصائده التي كتبها، وهو في الأرض المحتلة، وبالتحديد يوم كان في الحزب، لاحظنا أنه كان يكتب الشعر من أجل هدف واضح: العدل والحرية. أليس هو القائل: أحد الخلان يقول: لو سرّت أشعاري أصحابي وأغاظت أعدائي، فأنا شاعر، وأنا سأقول. والأدلة على أن درويش وشعراء المقاومة كانوا يكتبون الشعر لأهداف كثيرة، وقد توقف أمامها الشهيد غسان كنفاني في دراسته لأدب المقاومة في فلسطين المحتلة. وربما تذكر المرء قصيدة درويش التي أهداها للشاعرة فدوى طوقان، يوم زارته هذه بعد هزيمة 1967، وربما تذكر سطره اللافت فيها: نحن يا أخت لا نكتب أشعاراً، ولكنا نقاوم. وحين زار درويش حيفا، قبل وفاته بفترة قصيرة، وألقى فيها قصائد، كتب قصيدة عن زيارته، وقال فيها: لم يكن الشعر بريئا، وخاطب السجن معلمه الأول.
ثانياً: " لا أريد لها أن تكون خريطة منفى/ولا بلداً"
سئم الشاعر من كتابة الشعر الذي يعبر عن تجربة المنفى، والشعر الذي يتناول بلدا بعينه؟ عاش درويش في المنفى ما بين 1970 و 1997، هذا إذا لم نر في إقامته في رام الله استمراراً للمنفى، فالأصل أن يعود إلى حيفا. وقبل العام 1970 كتب عن فلسطين ولها، ما يعني أن أشعاره أكثرها كانت أشعار خريطة منفى، وكانت أشعار مكان: فلسطين أولا: عاشق من فلسطين، ثم حيفا ثانيا، وأخيراً: البروة: طللية البروة. كتب درويش وهو في المنفى عن قسوته، وكتب أيضاً عن مدنه وبلدانه: بيروت، باريس، تونس، القاهرة... الخ. ماذا إذن يريد لقصيدته التي لا يريد لها أن تنتهي أن تكون؟ هل يريدها قصيدة كونية، فوق المكان وخارج الزمان؟ لو كان الشاعر حيا لربما حاورناه في هذا، فقد قال ذات نهار: أجمل الأشعار ما يحفظه عن ظهر قلب كل قارئ، وكانت أشعاره التي حفظها القراء الأشعار التي عبر فيها عن البلد وعن المنفى.
ثالثاً: لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي بالختام السعيد، ولا بالرديء كانت قصائد درويش التي كتبها قبل العام 1970 تحفل بالختام السعيد طبعاً علينا ألا نغفل المكان والزمان، حيث فرض عليه هذان العنصران تلك النهايات، كان درويش ينتمي إلى الحزب الشيوعي، وكان الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية، في مناطق كثيرة في العالم، في ستينيات ق 20 ينتهي بدحر الدول المستعمرة: فيتنام وكوبا وبعض الدول الإفريقية، وكان العالم العربي يتحرر من الاستعمار: الجزائر واليمن و... و... وقد يلم بفلسطين ما ألم بتلك الدول. وكانت أفكار الواقعية الاشتراكية تسود وتطغى، ولا بد للشاعر من الإيمان بالجماهير والتواصل معها، ولا بد له من أن يبث التفاؤل لا التشاؤم، فيها. من هنا من لا يحفظ أبياته بعد حرب حزيران 1967:
خسرت حلماً جميلا خسرت لسع الزنابق
وكان ليلي طويلا على سياج الحدائق
وما خسرت السبيلا
وليس هو الشاعر الوحيد الذي كان متفائلا، فزياد مثلا قال أيضاً بعد هزيمة 1967: كبوة هذا وكم يحدث أن يكبو الهمام
إنها للخلف خطوة من أجل عشر للأمام
كان الشاعران يستمدان تفاؤلهما من فكرهما الذي آمنا به واعتنقاه، الفكر الذي بشر بانتصار الاشتراكية ودحر الرأسمالية، وإذا كان زياد مات وهو متفائل، فليس حال درويش كذلك. ترك الشاعر حيفا وانطوى تحت لواء م.ت.ف وعاش تجاربها ومعاركها المرة، ولاحظ أنها كلما قاتلت أكثر ابتعدت عن فلسطين أكثر. بدلا من العودة من بيروت إلى حيفا، ذهبت إلى تونس وأماكن أخرى، وأقام هو في باريس، وقد حفل شعره بالردى. كم قصيدة رثاء كتب الشاعر في أصدقائه؟ لقد قال: تعب الرثا، من الضحايا، حتى أنه كتب قصيدة عنوانها: سنة أخرى فقط، رجاهم فيها ألا يموتوا، وأن ينتظروا سنة أخرى فقط، لعله يلحق بالقافلة. وينهي درويش قصيدته بالطلب من ذاته ومن أصدقائه أن يتدربوا على حب أشياء ليست لهم، ولكنه لن يبدل أوتار جيتارته، ولن يحمّلها فوق طاقتها، ولن يقول لها غير ما تشتهي أن يقول لها، فقد حملته ليحملها، وبالتالي لن يبدل أوتارها. لم يرد الشاعر للقصيدة، ولا للنهار الخريفي، أن ينتهيا، لكنه انتهى هو فانتهت القصيدة.
محمود درويش: ترتيب القصائد والأطلال
لو كنت مكان إلياس خوري لرتبت قصائد الديوان ترتيباً آخر، ولربما استبعدت منه بعض قصائد. هذا اجتهاد له أسبابه. لماذا لم يدرج إلياس قصيدة "طللية البروة" وقصيدة "كلمات" مع قصيدة "على محطة قطار سقط عن الخريلة؟" هناك ما هو مشترك بينها: الوقوف على الأطلال. ولماذا لم يدرج قصيدة "إلى شاعر شاب" وقصيدة "تلال مقدسة" مع قصيدة "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي"؟ القصائد الثلاث فيها تنظير للشعر، ولماذا لم يدرج قصيدة "كأن الموت تسليتي" مع قصيدة " يأتي ويذهب"، حيث تقارب الإيقاع؟
ويخيل إلي أن فترة كتابة بعض القصائد كانت متقاربة، ما جعل بعض أسطرها يتشابه، ولو قدر للشاعر أن يعمر ويشرف على طباعة الديوان لربما حذف بعض قصائده ولم يدرجها في المجموعة. ربما
ما الشبه بين قصائده "على محطة قطار سقط عن الخريطة" و"طللية البروة" و"كلمات" الثلاث فيها ذكر للأطلال ورؤية ما تحت الظاهر. في الأولى يكتب الشاعر: "أقول لمن يراني عبر منظار على برج الحراسة: "لا أراك ولا أراك". ماذا يرى إذن؟ يرى مكانه كله حوله. يرى نفسه في المكان بكل أعضائه وأسمائه، ويرى شجر النخيل ينقح الفصحى من الأخطاء في لغته، ولا يرى قناصته. وفي "طللية البروة" يختار الشاعر الغياب لوصفه، وحين يطلب منه مرافقه أن يرى الطرق الحديثة فوق أنقاض البيوت، ويسأله إن كان يرى مصنع الألبان-دلالة على ما قامت به إسرائيل من تعمير-يجيبه الشاعر: كلا، لا أرى إلا الغزالة في الشباك. إنه لا يرى إلا الغياب بكامل الأدوات، يلمسه ويسمعه-أي الغياب-ويرفعه إلى الأعلى، ولا يرى المصنع والطرق الحديثة، إنما يرى الحديقة تحتها. ثمة تبديل عوالم/ عالم ظاهر وعالم خفي، قام الأول على أنقاض الثاني (هنا نتذكر قصيدته في العام 1990: خطبة الهندي الأحمر الأخير.") وفي قصيدة "كلمات" ويمشي الشاعر على الشارع وفي قلبه ثقب سماوي، وفي عينيه مرج سابق يمشي على أطلاله.
لم يكن الوقوف على الأطلال يروق للشاعر في بداية حياته الشعرية، ولهذا اختلف مبكراً مع امرئ القيس، لأن شاعر الأطلال فانٍ، فأي عار ترتدي القصائد حين تقتصر على تذكر الماضي والوقوف على الأطلال". كان الشاعر يومها ينتمي إلى لحظته الحاضرة، ويومها قال: من يشتري تاريخ أجدادي بيوم حرية. كان يومها يغني للحرية، وقد اختلف الأمر، فيما بعد، وتحديداً منذ بداية تسعينيات ق 20، إذ رأى في حينه أنه خسر أجمل ما فيه يوم خسر ما فيه. وفي العام 2003 سيصدر مجموعته "لا تعتذر عما فعلت".
قبل هذا العام كتب درويش للأرض والصمود والتحدي والثورة والفدائي والمدن الثائرة والحنين إلى حيفا. وسيختلف الأمر حين يزور حيفا وأطلال البروة والجديدة ومدرسة كفر ياسيف التي تعلم فيها، وسيتذكر الماضي، وسيكتب قصائد عن صورته في بيت أمه والأشجار التي كان له فيها ذكريات، وسيستحضر قول أبي تمام: لا أنت أنت، ولا الديار ديار، كأنما يلخص من خلاله، ومن خلال قول (موركا): لا أنا أنا ولا البيت بيتي، تجربة العودة بعد ربع قرن من الغياب. وسيخص البروة في "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي" بطللية. وهكذا سينتهي من حيث بدأ امرؤ القيس وسيلتقي معه بعد أن اختلف عنه في موضوعات الشعر.
في "على محطة قطار سقط عن الخريطة" وقوف على الأطلال. لماذا لم تنل هذه القصيدة، حتى اللحظة، في صدور قراءتي، حقها من الدرس والتحليل؟ ربما تكون من أجمل قصائد درويش. فيها يكتب:
"طللية أخرى وأهلك ذكرياتي في الوقوف
على المحطة ................. لا أحب سوى
الرجوع إلى حياتي، كي تكون نهايتي سردية لبدايتي"
وستكون نهايته الشعرية سردية لبدايته. سيكتب في آخر سنواته قصائد يسترجع فيها أيام طفولته وقريته وولادته. والقصيدة عموماً ذات طابع سردي، وقد تدفع قارئها لإثارة السؤال التالي: لماذا لم يكتب درويش القصة القصيرة أو الرواية؟
ستكون نهايته سردية لبدايته، لأنه أراد أن ينتصر فيها الخيالي الخفيف-أي الشعر، على فساد الواقعي، أراد على الأقل أن يحقق انتصاراً ولو لغويا/شعرياً:
"ألا تزال بقيتي تكفي لينتصر الخيالي الخفيف
على فساد الواقعي؟"
الواقع فاسد كله، فلماذا لا نحقق انتصاراً لغوياً؟
هل كان محمود درويش حقا يشعر أنه على وشك الرحيل؟ ثمة بقية له من العمر، فهل تكفي ليحقق من خلال كتابة الواقع كما كان، فينتصر على فساد الواقعي؟
ثمة ثلاث قصائد يستشف من خلالها أن الشاعر بدأ يحس بأن الموت يقترب، وأنه على وشك الرحيل، القصيدة الأولى هي "لاعب النرد" ويختتمها بالتالي:
" ومن حسن حظي أني أنام وحيدا
فأصغي إلى جسدي
وأصدق موهبتي في اكتشاف الألم
فأنادي الطبيب، قبيل الوفاة، بعشر دقائق
عشر دقائق تكفي لأحيا مصادفة
وأخيب ظن العدم
من أنا لأخيب ظن العدم
والقصيدة الثانية هي "سيناريو جاهز" وتنتهي بالسطرين التاليين،
"وعلى شاعر آخر أن يتابع هذا السيناريو إلى آخره"
وأما القصيدة الثالثة فهي "إلى شاعر شاب"، وفيها يضع خلاصة رأيه في الشعر بعد خمسين عاما من كتابته كأنما انتهى دوره شاعراً، ولا بد من شاعر جديد يواصل:
"وأخيراً: عليك السلام"
وفي "على محطة قطار سقط عن الخريطة" شعور بالفجيعة، فقد كانت الأمور تسير في هذا الطريق منذ البداية. منذ كنا طيبين وسذجا. ومنذ قلنا: البلاد بلادنا، قلب الخريطة لن يصاب بأي داء خارجي". هل أقول إن فيها شعوراً بالموت لا بالفجيعة وحسب. لم نكن يقظين، كنا ندرب الذئاب على صداقتنا، كأننا كنا نحفر قبرنا، مبكراً، بأيدينا.
وأنا أتابع ما كتب عن هذا الديوان، على قلته، تساءلت: لماذا حقاً لم يلتفت إليه، علماً بأن نصف قصائده مثل "لاعب النرد" و"على المحطة قطار سقط عن الخريطة" قصائد ذات رفعة شعرية عالية؟.
عن موقع مؤسسة فلسطين للثقافة
تاريخ النشر: 12-12-2010