الطبعة العربية الأولى من رواية عاطف أبو سيف الجديدة "مشاة لا يعبرون الطريق" صدرت في عمان هذا العام - ٢٠١٩.
وربما يتساءل القارئ عن دلالات العنوان، فمن هم المشاةُ الذين لا يعبرون الطريق؟ ولماذا لا يعبرونها، فما العائق؟ وأي طريق هي هذه الطريق؟ وهل هي طريق ذات دال رمزي؟ وهل تحيل إلى رواية "الطريق" لنجيب محفوظ التي فسرها جورج طرابيشي في كتابه "الله في رحلة نجيب محفوظ" تفسيراً رمزياً؟
من خلال قراءة أولى كنت ألتفت إلى العنوان وأنا أقرأ في المتن، وقد أشرت إليه-أي العنوان في الصفحات ٨٩و٩٣و١٤٣و١٦٢و١٧٠و١٩٢و١٩٤و١٩٦و١٩٨و٢٠٢ .
في ص ١٤٣ حديث عن حكاية يكتبها صحافي عن عالمين؛ افتراضي وواقعي، وهما عالمان مختلفان "أحدهما ليس إلا من نسج خيال صحافي أراد أن يستجيب لمطالب محرر صحيفته بالبحث عن عالم الغائبين، والآخر عالَم أشخاص كانوا يعبرون الطريق صدفة حين دهست الشاحنة الرجل، ولسبب أو لآخر فإن كل هؤلاء أيضاً يفترضون أنهم كانوا يعبرون صدفة، إذ إن كل واحد منهم يشك في تلك "الصدفة" التي يدعيها كل واحد منهم".
وفي ص٢٠٢ نعرف أن لا أحد عبر الطريق:
"بدا السائق مرحاً وهو يتحدث عن طفولته وعن أبناء عمه في لبنان. هاجر نصفهم إلى شمال أوروبا، أما عمه الذي قاتل في حصار بيروت عام ١٩٨٢ فظل في مخيم الرشيدية ولم يغادر. كل منا ينتظر شيئاً. القدر الذي رمى العائلة في جهات الأرض الأربع لا يزال يغلق عليها كل طرق اللقاء، لكن دائماً ثمة مفاتيح علينا أن نكتشفها حتى ندفع الأبواب الموصدة ونسير في الدرب. قرر الصحافي أن يجد مفتاحاً...".
والحكاية هي حكاية الرجل الثمانيني الذي ولد في يافا وتعلم قبل ١٩٤٨ في القدس وخطب في العام ١٩٤٦ سلوى ابنة مدينته، ثم وقعت النكبة فتفرق الفلسطينيون "طشاري" أو أيدي سبأ، ولم يعرف الرجل أين استقر المقام بخطيبته سلوى وأخذ يبحث عنها رافضاً النسيان أو الإذعان للواقع المرير والارتباط بغيرها.
رفض الشاب المتعلم العمل معلماً كما اقترح عليه صديقه حبيب، وآثر في النهاية أن يعمل ساعي بريد عله يعثر على اسمها وعنوانها فيهتدي إليها، ويساعده صديقه ويقف إلى جانبه، ويخبره بعد ستة عقود أنه أمسك بخيط يدله عليها، وحين يذهب إليه على دراجته، ليعرف شيئاً عن عنوانها تدهسه سيارة أو يقع، وينقل إلى المشفى في حالة أقرب إلى الموت السريري، وخلال أسبوعين، هما تقريباً الزمن الروائي، يلتف حوله في المشفى السائق الذي أقله،لا الذي دهسه فقد هرب، وبائع الفواكه والخضار الذي وقع الحادث قرب دكانه، والطالبة الجامعية التي كانت عائدة من الجامعة بالصدفة، ويحضر صحافي ليكتب إلى صحيفته تقريراً وشرطي ليقدم تقريراً في الحادث، ويشك الكل في الكل ولا يعود أحد يثق في الآخر. وتفصح الرواية عن العلاقات السيئة والقائمة على النفاق بين الصحافي والمحرر وبين الشرطي والضابط ونبدو أمام عالم مرعب.
كما في روايتيه السابقتين "حياة معلقة" ٢٠١٥، و"الحاجة كريستينا" ٢٠١٦، فإن عالم عاطف أبو سيف هو المخيم ومدينة يافا التي غدا أبناؤها لاجئين يقيمون في مخيمات الشتات.
ويخيل إلي أن الروايات الثلاث التي صدرت للكاتب خلال أربع سنوات تتقاطع فيما بينها، فهي تتكئ على بيئة المخيم ومدينة يافا، وتشكل النكبة وتداعياتها جزءاً كبيراً من مادتها، بل إن بعض الشخصيات تحضر هنا وهناك، مثل شخصية خميس ابن المخيم الفقير الذي غدا، بسبب تجارة الأنفاق، مليونيراً. إن خميس والحاجة كريستينا يحضران بـ "مشاة لا يعبرون الطريق" و"الحاجة كريستينا" وإن بدا أسلوب القص والبناء الفني في الأخيرة مختلفاً عن الأولى والثانية.
في الرواية لسنا أمام راوٍ واحد، وإنما نحن أمام رواة متعددين، وثمة أكثر من كاتب ضمني/مؤلف ضمني. يكتب الصحافي التقرير الصحافي للجريدة التي يعمل فيها، ويكتب الشرطي تقريره للضابط المسؤول عنه، ونصغي إلى شخصيات أخرى تروي وجهة نظرها.
ثمة حدث واحد هو ما حدث مع الرجل الثمانيني، وثمة وجهات نظر حول ما جرى. وهكذا فإن طريقة عرض الرواية تتم من خلال أسلوب وجهات النظر، وهذا أسلوب عرفته الرواية العالمية والرواية العربية والرواية والقصة الفلسطينية، وهو مناسب جدا لرواية "مشاة لا يعبرون الطريق".
عرفت الرواية العربية هذه الطريقة في رواية نجيب محفوظ "ميرامار" ورواية يوسف القعيد "الحرب في بر مصر" ، وعرفته الرواية الفلسطينية في رواية جبرا ابراهيم جبرا "السفينة"، وقبلها قرأنا تعدد الأصوات في الرواية لدى كنفاني في "ما تبقى لكم"، ولاحقاً في قصص مصطفى مرار القصيرة، وبعض قصص أكرم هنية ومنها "شهادة واقعية حول موت المواطنة منى. ل" وقصة "عندما أضيء ليل القدس"، وأعتقد أن ثمة تشابها في البناء الفني، إلى حد ما، بين قصة هنية "شهادة.." ورواية عاطف "مشاة.." وإن اختلف المضمون اختلافاً كلياً، ولا أعرف إن كانت قصة هنية من قراءات عاطف.
تبنى قصة هنية على خبر انتحار المواطنة منى. ل، وهذا الخبر يلفت نظر رئيس تحرير الجريدة فيتقصاه ويتابعه متابعة حثيثة ليعرف حقيقة ما حدث مع منى .ل. هل انتحرت أم ماتت موتاً طبيعياً؟ وفي رواية أبو سيف نظل نقرأ عن حادث دهس الرجل الثمانيني، ولكننا في الجزء الأخير من الرواية نصغي إلى رأي صديق الطالبة الجامعية يقول لنا إن الرجل لم تدهسه الشاحنة وإنه وقع عن دراجته فقط.
إن تقصي الحقيقة لهو ما يقوم به رئيس التحرير في القصة، وهو ما يسعى إليه الصحافي في الرواية وتتعدد الآراء في النصين. وتقترب الرواية من قصة "عندما أضيء ليل القدس" في جانبي الحقيقة والخيال، فهل رجل الضوء في القصة حقيقة أم أنه خيال؟ وهل ما يكتبه الصحافي والشرطي في تقريرهما حدث حقاً وواقعاً أم أنه قصة افتراضية؟
بقي أن أشير إلى بعض ما أورده بعض شخوص رواية أبو سيف كان ورد على لسان شخصيات أخرى في روايته "الحاجة كريستينا" وهذا بدوره يجعلنا نفكر جيداً في أن كلام كثير من شخصيات العمل الروائي إنما هي في النهاية صادرة عن الروائي نفسه.
ما سبق لا يقلل من جماليات الرواية، وأرى أن "مشاة لا يعبرون الطريق" واحدة من الروايات الجميلة التي قرأتها في السنوات الأخيرة في الأدب الفلسطيني، فهي تشد القارئ وتدفعه إلى متابعة قراءتها بشغف.
http://www.al-ayyam.ps/ar_page.php…
وربما يتساءل القارئ عن دلالات العنوان، فمن هم المشاةُ الذين لا يعبرون الطريق؟ ولماذا لا يعبرونها، فما العائق؟ وأي طريق هي هذه الطريق؟ وهل هي طريق ذات دال رمزي؟ وهل تحيل إلى رواية "الطريق" لنجيب محفوظ التي فسرها جورج طرابيشي في كتابه "الله في رحلة نجيب محفوظ" تفسيراً رمزياً؟
من خلال قراءة أولى كنت ألتفت إلى العنوان وأنا أقرأ في المتن، وقد أشرت إليه-أي العنوان في الصفحات ٨٩و٩٣و١٤٣و١٦٢و١٧٠و١٩٢و١٩٤و١٩٦و١٩٨و٢٠٢ .
في ص ١٤٣ حديث عن حكاية يكتبها صحافي عن عالمين؛ افتراضي وواقعي، وهما عالمان مختلفان "أحدهما ليس إلا من نسج خيال صحافي أراد أن يستجيب لمطالب محرر صحيفته بالبحث عن عالم الغائبين، والآخر عالَم أشخاص كانوا يعبرون الطريق صدفة حين دهست الشاحنة الرجل، ولسبب أو لآخر فإن كل هؤلاء أيضاً يفترضون أنهم كانوا يعبرون صدفة، إذ إن كل واحد منهم يشك في تلك "الصدفة" التي يدعيها كل واحد منهم".
وفي ص٢٠٢ نعرف أن لا أحد عبر الطريق:
"بدا السائق مرحاً وهو يتحدث عن طفولته وعن أبناء عمه في لبنان. هاجر نصفهم إلى شمال أوروبا، أما عمه الذي قاتل في حصار بيروت عام ١٩٨٢ فظل في مخيم الرشيدية ولم يغادر. كل منا ينتظر شيئاً. القدر الذي رمى العائلة في جهات الأرض الأربع لا يزال يغلق عليها كل طرق اللقاء، لكن دائماً ثمة مفاتيح علينا أن نكتشفها حتى ندفع الأبواب الموصدة ونسير في الدرب. قرر الصحافي أن يجد مفتاحاً...".
والحكاية هي حكاية الرجل الثمانيني الذي ولد في يافا وتعلم قبل ١٩٤٨ في القدس وخطب في العام ١٩٤٦ سلوى ابنة مدينته، ثم وقعت النكبة فتفرق الفلسطينيون "طشاري" أو أيدي سبأ، ولم يعرف الرجل أين استقر المقام بخطيبته سلوى وأخذ يبحث عنها رافضاً النسيان أو الإذعان للواقع المرير والارتباط بغيرها.
رفض الشاب المتعلم العمل معلماً كما اقترح عليه صديقه حبيب، وآثر في النهاية أن يعمل ساعي بريد عله يعثر على اسمها وعنوانها فيهتدي إليها، ويساعده صديقه ويقف إلى جانبه، ويخبره بعد ستة عقود أنه أمسك بخيط يدله عليها، وحين يذهب إليه على دراجته، ليعرف شيئاً عن عنوانها تدهسه سيارة أو يقع، وينقل إلى المشفى في حالة أقرب إلى الموت السريري، وخلال أسبوعين، هما تقريباً الزمن الروائي، يلتف حوله في المشفى السائق الذي أقله،لا الذي دهسه فقد هرب، وبائع الفواكه والخضار الذي وقع الحادث قرب دكانه، والطالبة الجامعية التي كانت عائدة من الجامعة بالصدفة، ويحضر صحافي ليكتب إلى صحيفته تقريراً وشرطي ليقدم تقريراً في الحادث، ويشك الكل في الكل ولا يعود أحد يثق في الآخر. وتفصح الرواية عن العلاقات السيئة والقائمة على النفاق بين الصحافي والمحرر وبين الشرطي والضابط ونبدو أمام عالم مرعب.
كما في روايتيه السابقتين "حياة معلقة" ٢٠١٥، و"الحاجة كريستينا" ٢٠١٦، فإن عالم عاطف أبو سيف هو المخيم ومدينة يافا التي غدا أبناؤها لاجئين يقيمون في مخيمات الشتات.
ويخيل إلي أن الروايات الثلاث التي صدرت للكاتب خلال أربع سنوات تتقاطع فيما بينها، فهي تتكئ على بيئة المخيم ومدينة يافا، وتشكل النكبة وتداعياتها جزءاً كبيراً من مادتها، بل إن بعض الشخصيات تحضر هنا وهناك، مثل شخصية خميس ابن المخيم الفقير الذي غدا، بسبب تجارة الأنفاق، مليونيراً. إن خميس والحاجة كريستينا يحضران بـ "مشاة لا يعبرون الطريق" و"الحاجة كريستينا" وإن بدا أسلوب القص والبناء الفني في الأخيرة مختلفاً عن الأولى والثانية.
في الرواية لسنا أمام راوٍ واحد، وإنما نحن أمام رواة متعددين، وثمة أكثر من كاتب ضمني/مؤلف ضمني. يكتب الصحافي التقرير الصحافي للجريدة التي يعمل فيها، ويكتب الشرطي تقريره للضابط المسؤول عنه، ونصغي إلى شخصيات أخرى تروي وجهة نظرها.
ثمة حدث واحد هو ما حدث مع الرجل الثمانيني، وثمة وجهات نظر حول ما جرى. وهكذا فإن طريقة عرض الرواية تتم من خلال أسلوب وجهات النظر، وهذا أسلوب عرفته الرواية العالمية والرواية العربية والرواية والقصة الفلسطينية، وهو مناسب جدا لرواية "مشاة لا يعبرون الطريق".
عرفت الرواية العربية هذه الطريقة في رواية نجيب محفوظ "ميرامار" ورواية يوسف القعيد "الحرب في بر مصر" ، وعرفته الرواية الفلسطينية في رواية جبرا ابراهيم جبرا "السفينة"، وقبلها قرأنا تعدد الأصوات في الرواية لدى كنفاني في "ما تبقى لكم"، ولاحقاً في قصص مصطفى مرار القصيرة، وبعض قصص أكرم هنية ومنها "شهادة واقعية حول موت المواطنة منى. ل" وقصة "عندما أضيء ليل القدس"، وأعتقد أن ثمة تشابها في البناء الفني، إلى حد ما، بين قصة هنية "شهادة.." ورواية عاطف "مشاة.." وإن اختلف المضمون اختلافاً كلياً، ولا أعرف إن كانت قصة هنية من قراءات عاطف.
تبنى قصة هنية على خبر انتحار المواطنة منى. ل، وهذا الخبر يلفت نظر رئيس تحرير الجريدة فيتقصاه ويتابعه متابعة حثيثة ليعرف حقيقة ما حدث مع منى .ل. هل انتحرت أم ماتت موتاً طبيعياً؟ وفي رواية أبو سيف نظل نقرأ عن حادث دهس الرجل الثمانيني، ولكننا في الجزء الأخير من الرواية نصغي إلى رأي صديق الطالبة الجامعية يقول لنا إن الرجل لم تدهسه الشاحنة وإنه وقع عن دراجته فقط.
إن تقصي الحقيقة لهو ما يقوم به رئيس التحرير في القصة، وهو ما يسعى إليه الصحافي في الرواية وتتعدد الآراء في النصين. وتقترب الرواية من قصة "عندما أضيء ليل القدس" في جانبي الحقيقة والخيال، فهل رجل الضوء في القصة حقيقة أم أنه خيال؟ وهل ما يكتبه الصحافي والشرطي في تقريرهما حدث حقاً وواقعاً أم أنه قصة افتراضية؟
بقي أن أشير إلى بعض ما أورده بعض شخوص رواية أبو سيف كان ورد على لسان شخصيات أخرى في روايته "الحاجة كريستينا" وهذا بدوره يجعلنا نفكر جيداً في أن كلام كثير من شخصيات العمل الروائي إنما هي في النهاية صادرة عن الروائي نفسه.
ما سبق لا يقلل من جماليات الرواية، وأرى أن "مشاة لا يعبرون الطريق" واحدة من الروايات الجميلة التي قرأتها في السنوات الأخيرة في الأدب الفلسطيني، فهي تشد القارئ وتدفعه إلى متابعة قراءتها بشغف.
http://www.al-ayyam.ps/ar_page.php…