ما تكاد بنات الشّمس تلتصق بالجدرانِ ، وتفيضُ الحياة في جنباتِ الزقاق ، حتى ينساب صوت راديو الأفندي العتيق ، تتماوج أنغامه ، وتجلجل موسيقاه في صخبٍ لا يُقاوم ، وفي داخلِ البيتِ ينشط الأفندي يستقبل في همةٍ ؛ بوادر النّهار الجديد بحيويتهِ المعهودة ، وكأنّ الحياة اهتاجته ، فشرعَ يعافرها كشابٍ في شرخِ الشّباب ، يضطرم فيهِ حماس موفور ، هكذا الرجل مُنذ عهدته ، تُغرِد أماني قلبه بالحبِّ ، لتمحو منه كُلّ أثرٍ للكُرهِ.
شغلني طويلا أمر الرّاديو الخشبي الرّابض فوقَ طاولتهِ القديمة ، يتوزّع فكري ويشتعل خاطري بعشراتِ الأسئلة البريئة ، ارخيت في كُلّ مرةٍ العنان لخيالي السّاذج يمرح كيفما شاء .
منذ زيارتي الأولى لبيتِ صاحبنا ، رشقت الراديو المُزعج بعيني الباردة، استغربت مشدوها لمنظرهِ ، سألت الافندي في عمايةٍ : لماذا تضع الكوب النحاسي فوق سطحِ الراديو .؟!
انغمس صاحبي فجأةً في لذتهِ ، يكاد شغاف قلبه يتمزّق فرِحا ، علت وجهه الشّاحب ابتسامة عريضة ، ذابت بين ثناياه في صمتٍ ، اطرقَ برأسهِ المُدبب ؛ يتسمّع خفيف النّسيم الواني البليل ، وكأنّه يُثير في نفسهِ الاعجاب ، امسكَ يد "الطولمبة " في تصابي مرذول ، ثم بدأت جلجلة كجلجلةِ الرّعدِ ، وعادَ الماء يتدفق بقوةٍ ، فتتّفتح فيهِ روح الثّقة ، مرّر يده فوقَ جبهتهِ ، وفي نهنهتهِ المعتادة ، أجاب : لازم علشان العفريت الموجود في قلبه يسكت ، وإلا مش هيدور..
ثم عادَ لعملهِ جادا ، لا يلوي على شيءٍ المرة ، حرّكت كلماتهِ أغوارَ نفسي ، وعبثت بخواطري سريعا ، وعادت اسئلتي تُلِح في إزعاجٍ ..
لم يكن أمامي إلا التلصّص بين أعوادِ الذرة المُشرعة، التي اتخذتها أمي ستارا لنا عن بيتهِ ، يهجيني صوت الرّاديو المدوي ، والفرح يدور في عينيّ الرّجل ، وقد اتخذ مجلسه المعتاد في أجملِ هندام ، يحتسي في سكينةٍ كوب الشّاي ، يسحب عينيه كالعادةِ بين زروع حديقتهِ الخضراء ، وكأنّه يسير بين الأطلالِ الشّاحبة ، وبينَ الحينِ والآخر يُردّد في انشراحٍ : الله .. كمان يا سيدي .. قول كمان.
قلبل ما أراه منحرف المزاج _ هذا وإن حدث _ يتبدى وجهه باردا حجريّا ، يُلقي ما في يدهِ ساخطا يُبرطم ، ترتسم على وجههِ قشعريرة مخيفة ، وتتلون سحنته بوهجِ الغضب والنفور ، يدلف للداخلِ ؛ يسبّ ويلعن الراديو ، عندها ينقطع الصّوت قليلا ، تدور نغمته في حشرجةٍ غير واضحة ، تدوم ثورة الأفندي وغمغمته ، لا يكف عن السّبابِ في اهتياجٍ ، اظل في مكاني فرِحا مسرورا ، اطالعُ في تشفي ما يدور أمامي ، ولسان حالي يُردّد : أخيرا طاش فأله ، وتعكّر صفو عفريته ، واظهر تمرده .
دقائق ويعود الأفندي لمكانهِ ، مصحوبا بأنغامِ الراديو وكأنّ شيئا لم يكن ، اهبط في أسفٍ وحسرة ، تعود كلماته سريعا عن عفريتِ الرّاديو ، والكوب النحاسي الكبير المُستقر فوق ظهرهِ ..
في الآونةِ الأخيرة سارت الأمور على ما يُرام ، ها أنا اشاهد صاحبي وهو يهزّ رأسه في انبساطٍ ، والرّاديو يعمل دون انقطاعٍ ، لابدّ أن سحر الكوب تغلّب على العفريتِ ، فلا يُمكنه التمرّد عليهِ.
ذاتَ مرةٍ وأنا اربع بحماري البني الصّغير ، وسط الزراعات ساعة المغربية ، مددت عيني نحو السّماءِ ارتجيها أن تبطل أثر الكوب النحاسي ، وأن تهب العفريت القوة كي يتحرّر من سطوةِ عزيمتهِ.
عدت يوما من الجامعةِ ، كان عليّ المرور على بيتِ الأفندي ، فقد طلب مني أن اجلب له بذور الخسّ ، ألقيتُ ببصري داخلَ الصّالة ، كان صوت المذياع يتهادى بأغنيةِ للعندليب الأسمر ، وبجوارهِ ألقى الرّجل كوبه النحاسي العتيق بلا اكتراثٍ ، بعدَ أن علته طبقة خضراء من الجنزارِ ..
هرولت دون وعيٍ ، مددت يدي ووضعت بإحكامٍ الكوب فوقَ ظهرهِ ، رماني الأفندي بابتسامتهِ الزابلة ، ثم سحب بصره بعيدا في هدوء...
شغلني طويلا أمر الرّاديو الخشبي الرّابض فوقَ طاولتهِ القديمة ، يتوزّع فكري ويشتعل خاطري بعشراتِ الأسئلة البريئة ، ارخيت في كُلّ مرةٍ العنان لخيالي السّاذج يمرح كيفما شاء .
منذ زيارتي الأولى لبيتِ صاحبنا ، رشقت الراديو المُزعج بعيني الباردة، استغربت مشدوها لمنظرهِ ، سألت الافندي في عمايةٍ : لماذا تضع الكوب النحاسي فوق سطحِ الراديو .؟!
انغمس صاحبي فجأةً في لذتهِ ، يكاد شغاف قلبه يتمزّق فرِحا ، علت وجهه الشّاحب ابتسامة عريضة ، ذابت بين ثناياه في صمتٍ ، اطرقَ برأسهِ المُدبب ؛ يتسمّع خفيف النّسيم الواني البليل ، وكأنّه يُثير في نفسهِ الاعجاب ، امسكَ يد "الطولمبة " في تصابي مرذول ، ثم بدأت جلجلة كجلجلةِ الرّعدِ ، وعادَ الماء يتدفق بقوةٍ ، فتتّفتح فيهِ روح الثّقة ، مرّر يده فوقَ جبهتهِ ، وفي نهنهتهِ المعتادة ، أجاب : لازم علشان العفريت الموجود في قلبه يسكت ، وإلا مش هيدور..
ثم عادَ لعملهِ جادا ، لا يلوي على شيءٍ المرة ، حرّكت كلماتهِ أغوارَ نفسي ، وعبثت بخواطري سريعا ، وعادت اسئلتي تُلِح في إزعاجٍ ..
لم يكن أمامي إلا التلصّص بين أعوادِ الذرة المُشرعة، التي اتخذتها أمي ستارا لنا عن بيتهِ ، يهجيني صوت الرّاديو المدوي ، والفرح يدور في عينيّ الرّجل ، وقد اتخذ مجلسه المعتاد في أجملِ هندام ، يحتسي في سكينةٍ كوب الشّاي ، يسحب عينيه كالعادةِ بين زروع حديقتهِ الخضراء ، وكأنّه يسير بين الأطلالِ الشّاحبة ، وبينَ الحينِ والآخر يُردّد في انشراحٍ : الله .. كمان يا سيدي .. قول كمان.
قلبل ما أراه منحرف المزاج _ هذا وإن حدث _ يتبدى وجهه باردا حجريّا ، يُلقي ما في يدهِ ساخطا يُبرطم ، ترتسم على وجههِ قشعريرة مخيفة ، وتتلون سحنته بوهجِ الغضب والنفور ، يدلف للداخلِ ؛ يسبّ ويلعن الراديو ، عندها ينقطع الصّوت قليلا ، تدور نغمته في حشرجةٍ غير واضحة ، تدوم ثورة الأفندي وغمغمته ، لا يكف عن السّبابِ في اهتياجٍ ، اظل في مكاني فرِحا مسرورا ، اطالعُ في تشفي ما يدور أمامي ، ولسان حالي يُردّد : أخيرا طاش فأله ، وتعكّر صفو عفريته ، واظهر تمرده .
دقائق ويعود الأفندي لمكانهِ ، مصحوبا بأنغامِ الراديو وكأنّ شيئا لم يكن ، اهبط في أسفٍ وحسرة ، تعود كلماته سريعا عن عفريتِ الرّاديو ، والكوب النحاسي الكبير المُستقر فوق ظهرهِ ..
في الآونةِ الأخيرة سارت الأمور على ما يُرام ، ها أنا اشاهد صاحبي وهو يهزّ رأسه في انبساطٍ ، والرّاديو يعمل دون انقطاعٍ ، لابدّ أن سحر الكوب تغلّب على العفريتِ ، فلا يُمكنه التمرّد عليهِ.
ذاتَ مرةٍ وأنا اربع بحماري البني الصّغير ، وسط الزراعات ساعة المغربية ، مددت عيني نحو السّماءِ ارتجيها أن تبطل أثر الكوب النحاسي ، وأن تهب العفريت القوة كي يتحرّر من سطوةِ عزيمتهِ.
عدت يوما من الجامعةِ ، كان عليّ المرور على بيتِ الأفندي ، فقد طلب مني أن اجلب له بذور الخسّ ، ألقيتُ ببصري داخلَ الصّالة ، كان صوت المذياع يتهادى بأغنيةِ للعندليب الأسمر ، وبجوارهِ ألقى الرّجل كوبه النحاسي العتيق بلا اكتراثٍ ، بعدَ أن علته طبقة خضراء من الجنزارِ ..
هرولت دون وعيٍ ، مددت يدي ووضعت بإحكامٍ الكوب فوقَ ظهرهِ ، رماني الأفندي بابتسامتهِ الزابلة ، ثم سحب بصره بعيدا في هدوء...
محمد فيض خالد
محمد فيض خالد ist bei Facebook. Tritt Facebook bei, um dich mit محمد فيض خالد und anderen Nutzern, die du kennst, zu vernetzen. Facebook gibt Menschen die Möglichkeit, Inhalte zu teilen und die...
www.facebook.com