عدتُ من يوم عملي الأول قبل نصف ساعة. يومُ عمّال البناء ينتهي في الرابعة تماماً. أستحمُّ وأذهب لبيت أحمد. لا يفارقني الشعور بالرضى عن النفس؛ أنني استحققت كل فلس من السبعة دنانير التي تقبع في جيبي الآن؛ فوق القلب تماماً. ربما أكون بالغتُ في إثبات أن بإمكان فتى مصاب بشلل جزئي في إحدى ساقيه أداء أعمال البناء كأي عامل آخر.. لا، لا شأن لنقص الأيدي العاملة الحاد في حصولي على فرصة العمل هذه، ففي العطلة المدرسية الصيفية يعوِّض الطلابُ العمالَ الذين أخذتهم جبهات القتال. ومن المحتمل أن أواصل مثلهم هذا التعويض طيلة العطلة.. لِمَ لا؟
تقول لي أخته باقتضاب وللمرة العشرين أنه ما يزال في الناصرية؛ إنها لا تعلم متى يعود. عجباً!.. ثلاث أسابيع مرت على سفره الذي لا يعلم قاسم وعدنان شيئاً عنه أيضاً.. لا أشعر بالتعب؛ لكنني بدأتُ أشعر بألم في ساقي السليمة وذراعيَّ وأسفل ظهري. (شيء طبيعي) كما نبهني العمال (فجسدك لم يعتد العمل المرهق). يعاودني الإحساس بأن أحدهم يراقبني. لا أدير وجهي لأي ناحية. أواصل السير. هل سأصاب بحمى؟ فحرارة جسدي ارتفعت الآن. ربما بسبب الحر. العرق لا يكف عن الانبجاس. ربما علي الاستحمام ثانية... يعترض رجل طريقي. إنه قريب لقاسم. يهمس لي أن قاسماً وعدناناً أُلقي القبض عليهما ضحى اليوم. ينظر في عيني لثوانٍ بوجه خال من أي تعبير ويغمز لي. لا أنبس بكلمة.
عند رأس شارعنا؛ شبان يخوضون حديثاً. أسمع منهم أن رجال الأمن اقتادوا عدنان وقاسم من المدرسة. لم يمهلوهما حتى إكمال امتحانهما الأخير. أفكر في أن الأمر ما كان لينتهي، رغم كل شيء، إلا بهذا الشكل.. ها أنا أدخل البيت وأحتاج إلى الهدوء الذي يحل من تلقاء نفسه ومعه سكينة محيرة. في غرفة الضيوف يتمدد الشيخ المريض. ظهره يتكأ على الجدار، تلاعبه أختي الصغيرة. هو لا يجيد اللعب. يضع قطع الدومينو حسب مطابقتها للأرقام فحسب. أرغب في ملاعبته وجعله يفوز لكن لا وقت، لا وقت لدي.. على الرف كيس يحوي كتبي وكتاباتي. حرقها في السطح قد يجلب الأنظار والشكوك. لو خيّرتُ لفضلت البقاء في هذه الغرفة؛ أراقبهما أو ألاعبهما للأبد. أضم الصغيرة إلى صدري. أعانق أبي وأقبّل صدغه الغائر. آخذ الكيس وأخرج من الغرفة. أسير في الممر الصغير وأنعطف لأكون خلف غرفة الضيوف. أفتح غطاء البالوعة وأرمي الكتب والدفاتر واحداً إثر الآخر. أشعل سيجارة وأعود. أدخل الهول. الكل موجود: الأم والأخت الكبرى والفتيان الثلاثة الصغار. أشرع في عناق الفتية. وجها أمي وأختي شاحبان. كم عليّ التحديق فيهما؛ لأطبعهما في ذاكرتي وأحملهما معي حتى النهاية؟ تسألني أختي إن كان حدث لي شيء ما وتكتفي أمي بالتطلع إليّ بقلق. الآن، الآن بالذات عليّ الخروج. أخرج من الهول ومن البيت. وأبدأ بالسير. هل عليّ الذهاب لبيت عدنان وقاسم؟.. لا، ما الفائدة؟ هل عليّ زيارة بعض الأصدقاء لأهمس وأغمز لهم؟ ما الفائدة أيضاً. الذهاب إلى الملعب فيما الظلام بدأ يهبط ليست بالفكرة الجيدة أيضاً. لولا الشلل في ساقي لكنت لاعب كرة مبّرزاً. ليس هذا رأيي فقط؛ بل رأي كثيرين، فالإعاقة - كما قال أحدهم- تدفع أصحابها إلى التفوق واثبات الذات في مجال الإعاقة نفسه.. أنتبه لسيارة كادت تدهسني. ها هي تبتعد. لم لا يستطيع المرء الطيران أو الذوبان أو الاختفاء بكل بساطة؟!
الآن؛ أجلس في مقهى (عباس الشچخ). هل علي أن أنفق أجري كله في عشاء مبكر دسم؛ أعبُّ أنواعاً من المشروبات وأدخن بشراهة؟.. لابد لي من أن أحسد هؤلاء الناس حولي. إنهم يلعبون الدومينو خلفي بحماس هائج. يحللون مباراة كرة قدم على يميني. أمامي – أسفل التلفزيون- يخوض هواة تربية الحمام نقاشاً، يقف فيه الأولاد على قدم المساواة مع الشيوخ، ستزداد حدته ليفضي لعقد رهان. سيهز المتراهنان يديّ بعضهما بقوة؛ تأكيداً لنيتهما، ثم لا يلبثون أن يلغيا الرهان لسبب ما. أحقاً لا ينتبهون لعبث ما يفعلون؟! يكررون الأمر كل يوم، كل يوم. هؤلاء الأطفال أحسدهم أكثر من غيرهم. هؤلاء الأطفال، هؤلاء الأطفال، هؤلاء الـ.... وعلى كل حال؛ ما الذي أفعله هنا فيما الوقت ينفذ؟.. وأدرك أن ليس أمامي غير الانتظار.. سيطول انتظار العمال لي صباح الغد. أرفع رأسي لأتابع المسلسل العربي السخيف.. يلمس أحدهم كتفي. إنه ولد من جيراني. يخبرني أن رجلين يسألان عني. الرجلان لا تخطئهما العين، ببدلتيهما السفاري وشاربيهما الكثان وتلك الثقة الغبية التي تنبعث منهما. يبتعدان عن سيارة ( الفوكس- واجن) الحمراء مقتربين مني. لقد كنتُ نسيت كل شيء حقاً.
ينطق أحدهما اسمي الثلاثي. أهز رأسي مؤكداً. يقول الآخر إنهم في الفرقة الحزبية يودون التأكد من أن أخي التحق بالجبهة. ولأنني الكبير الآن فلا أرضى بالتأكيد أن يذهب أبي المسن.
عذر ملفق؛ لكنه أفضل من غيره.
(ولكنه التحق فعلاً) أقول (كان هارباً وسلّم نفسه)
( ليس أكثر من ربع ساعة) يقول الأول، ويرسم الثاني ابتسامة عريضة ويضيف ( حتى أنك ستعود لتكمل مشاهدة مسلسلك)
طالما على شفتيك تلك القبلة؛ وعلى صدرك دفء العناقات. طالما تحمل في رأسك تلك الوجوه الشاحبة وتطوف حولك هذه الثرثرة الفارغة اللذيذة؛ فأنت لن تغادر إلى أي مكان. ولأن ليس بإمكاني الطيران أو الذوبان أو الاختفاء؛ أنهض وأذهب مع هذين الرجلين.
تقول لي أخته باقتضاب وللمرة العشرين أنه ما يزال في الناصرية؛ إنها لا تعلم متى يعود. عجباً!.. ثلاث أسابيع مرت على سفره الذي لا يعلم قاسم وعدنان شيئاً عنه أيضاً.. لا أشعر بالتعب؛ لكنني بدأتُ أشعر بألم في ساقي السليمة وذراعيَّ وأسفل ظهري. (شيء طبيعي) كما نبهني العمال (فجسدك لم يعتد العمل المرهق). يعاودني الإحساس بأن أحدهم يراقبني. لا أدير وجهي لأي ناحية. أواصل السير. هل سأصاب بحمى؟ فحرارة جسدي ارتفعت الآن. ربما بسبب الحر. العرق لا يكف عن الانبجاس. ربما علي الاستحمام ثانية... يعترض رجل طريقي. إنه قريب لقاسم. يهمس لي أن قاسماً وعدناناً أُلقي القبض عليهما ضحى اليوم. ينظر في عيني لثوانٍ بوجه خال من أي تعبير ويغمز لي. لا أنبس بكلمة.
عند رأس شارعنا؛ شبان يخوضون حديثاً. أسمع منهم أن رجال الأمن اقتادوا عدنان وقاسم من المدرسة. لم يمهلوهما حتى إكمال امتحانهما الأخير. أفكر في أن الأمر ما كان لينتهي، رغم كل شيء، إلا بهذا الشكل.. ها أنا أدخل البيت وأحتاج إلى الهدوء الذي يحل من تلقاء نفسه ومعه سكينة محيرة. في غرفة الضيوف يتمدد الشيخ المريض. ظهره يتكأ على الجدار، تلاعبه أختي الصغيرة. هو لا يجيد اللعب. يضع قطع الدومينو حسب مطابقتها للأرقام فحسب. أرغب في ملاعبته وجعله يفوز لكن لا وقت، لا وقت لدي.. على الرف كيس يحوي كتبي وكتاباتي. حرقها في السطح قد يجلب الأنظار والشكوك. لو خيّرتُ لفضلت البقاء في هذه الغرفة؛ أراقبهما أو ألاعبهما للأبد. أضم الصغيرة إلى صدري. أعانق أبي وأقبّل صدغه الغائر. آخذ الكيس وأخرج من الغرفة. أسير في الممر الصغير وأنعطف لأكون خلف غرفة الضيوف. أفتح غطاء البالوعة وأرمي الكتب والدفاتر واحداً إثر الآخر. أشعل سيجارة وأعود. أدخل الهول. الكل موجود: الأم والأخت الكبرى والفتيان الثلاثة الصغار. أشرع في عناق الفتية. وجها أمي وأختي شاحبان. كم عليّ التحديق فيهما؛ لأطبعهما في ذاكرتي وأحملهما معي حتى النهاية؟ تسألني أختي إن كان حدث لي شيء ما وتكتفي أمي بالتطلع إليّ بقلق. الآن، الآن بالذات عليّ الخروج. أخرج من الهول ومن البيت. وأبدأ بالسير. هل عليّ الذهاب لبيت عدنان وقاسم؟.. لا، ما الفائدة؟ هل عليّ زيارة بعض الأصدقاء لأهمس وأغمز لهم؟ ما الفائدة أيضاً. الذهاب إلى الملعب فيما الظلام بدأ يهبط ليست بالفكرة الجيدة أيضاً. لولا الشلل في ساقي لكنت لاعب كرة مبّرزاً. ليس هذا رأيي فقط؛ بل رأي كثيرين، فالإعاقة - كما قال أحدهم- تدفع أصحابها إلى التفوق واثبات الذات في مجال الإعاقة نفسه.. أنتبه لسيارة كادت تدهسني. ها هي تبتعد. لم لا يستطيع المرء الطيران أو الذوبان أو الاختفاء بكل بساطة؟!
الآن؛ أجلس في مقهى (عباس الشچخ). هل علي أن أنفق أجري كله في عشاء مبكر دسم؛ أعبُّ أنواعاً من المشروبات وأدخن بشراهة؟.. لابد لي من أن أحسد هؤلاء الناس حولي. إنهم يلعبون الدومينو خلفي بحماس هائج. يحللون مباراة كرة قدم على يميني. أمامي – أسفل التلفزيون- يخوض هواة تربية الحمام نقاشاً، يقف فيه الأولاد على قدم المساواة مع الشيوخ، ستزداد حدته ليفضي لعقد رهان. سيهز المتراهنان يديّ بعضهما بقوة؛ تأكيداً لنيتهما، ثم لا يلبثون أن يلغيا الرهان لسبب ما. أحقاً لا ينتبهون لعبث ما يفعلون؟! يكررون الأمر كل يوم، كل يوم. هؤلاء الأطفال أحسدهم أكثر من غيرهم. هؤلاء الأطفال، هؤلاء الأطفال، هؤلاء الـ.... وعلى كل حال؛ ما الذي أفعله هنا فيما الوقت ينفذ؟.. وأدرك أن ليس أمامي غير الانتظار.. سيطول انتظار العمال لي صباح الغد. أرفع رأسي لأتابع المسلسل العربي السخيف.. يلمس أحدهم كتفي. إنه ولد من جيراني. يخبرني أن رجلين يسألان عني. الرجلان لا تخطئهما العين، ببدلتيهما السفاري وشاربيهما الكثان وتلك الثقة الغبية التي تنبعث منهما. يبتعدان عن سيارة ( الفوكس- واجن) الحمراء مقتربين مني. لقد كنتُ نسيت كل شيء حقاً.
ينطق أحدهما اسمي الثلاثي. أهز رأسي مؤكداً. يقول الآخر إنهم في الفرقة الحزبية يودون التأكد من أن أخي التحق بالجبهة. ولأنني الكبير الآن فلا أرضى بالتأكيد أن يذهب أبي المسن.
عذر ملفق؛ لكنه أفضل من غيره.
(ولكنه التحق فعلاً) أقول (كان هارباً وسلّم نفسه)
( ليس أكثر من ربع ساعة) يقول الأول، ويرسم الثاني ابتسامة عريضة ويضيف ( حتى أنك ستعود لتكمل مشاهدة مسلسلك)
طالما على شفتيك تلك القبلة؛ وعلى صدرك دفء العناقات. طالما تحمل في رأسك تلك الوجوه الشاحبة وتطوف حولك هذه الثرثرة الفارغة اللذيذة؛ فأنت لن تغادر إلى أي مكان. ولأن ليس بإمكاني الطيران أو الذوبان أو الاختفاء؛ أنهض وأذهب مع هذين الرجلين.