عسل يا جوافيه.....
بهذا النّداء المقتضب يسيل لعاب من استقروا خلف الأبواب ، يمرّ صاحبه يقطع بصوتهِ صمت المكان ، بوجههِ الأخرس المُشرب بحمرتهِ ، يسير الهوينة بجوارِ حمارهِ العالي ، الذي يتبدى شامخا في اعتدالٍ ، يوزع نظراته على المارةِ في كبرياءٍ غير معهودٍ لحمار مثله ، يلوح لمن يخاله ، كمن زادَ همه وفترت همته ،يمضغ حبات التّبن في تكاسلٍ غريب .
وبينَ الحينِ والآخر تندفع سيدة من سيداتِ الدّربِ ، تضرب برجلها عتبةِ الدار في تأففٍ ، يظهر اهتياجها ، أن كلامها قد ذهب مع صغارها أدراج الرياح ، ها هي ثائرة تُبرطِم بعد أن انفلقَ حجر صبرها أمام إلحاحِ أولادها ، الذين سحرتهم كلمات الرّجل ، فالآمال معلقة بحملهِ الليفي المُستقر فوق ظهر حمارهِ المغرور ، اعتقادهم فيه ؛ أنّه جنة رضوان تمشي على أربعٍ ، كلّما تصايح صاحبنا ، هبّت روائح الجوافة البلدي النفاذة ، التي لا يمكن أن تخطئها أنف ،وكلّما سَاَرَ صاحبنا سارت معه روائحه المنعشة المخلوطة بالأماني وصياحِ المحبين، لتتوزع على كُلّ شبرٍ في الدّربِ.
شيئا فشيئا تبدأ مرحلة جادة من التبسّط بعد انقباضٍ ، تُرفع الكُلفة فيها بينه وبين زبائنه ، لا تخل من شدٍ وجذب وأيمان مُغلّظة أنّه خاسرٌ في هذه البيعة ، ثم يصمت قليلا ، ويعود يصبّ لعناته فوقَ رؤوسِ أسلافه ، الذين أورثه هذه المهانة ، حتى أضحى عرضة لسخافاتِ الفلاحين ، تنتهي وصلته اليومية بتوسلاتِ تستحث كرمه المعهود ، تطلب منه إرضاء الصّغير الذي تعلّق بطرفِ جلبابها الرّخيص : إديه واحدة فوق الميزان .. مالك كدا مناكف.
تلوح بعدها قصور الفرح شاهقة في أعينِ الصّغير ، يفترّ ثغرة الفارغ من أسنانه ، يتناول بيدهِ المُتسخة حبة الجوافة الطرية ، ويدلف بها مباشرة إلى فمهِ ، يزداد طنين الذباب وتحليقه المُزعج في إرتياعٍ ، تنتهي لذة صاحبنا بالتفاتة قصيرة لعينِ البائع البيضاء ، تتسلل لحظتئذٍ المخاوف لقلبهِ، بعد أن غامت سحابة كدرٍ ، جعلته يلتصق ثانيةً في أمهِ ، يدسّ جسده العاري بين ساقيها ، فرقا من صاحبهِ الأعور.
يرخي بعدها البائع نظره في تكاسلٍ ، وتتحول عينيه من جديدٍ أمامه على امتدادِ الزّقاقِ الصّيق .
تنفلت نداءاته من جديدٍ ، في نعمةٍ نشاز لا تُطاق ، ونظرة متراخية لا حياة فيها ، ورائحة الجوافة لا تنقطع ، ولفتات حماره المغرور تتوزع على الأبوابِ القديمة ، يغمس رأسه في "مقطفِ " التبن، ليعود سريعا ينقله ناحيةِ البيوتِ ، في استهزاءٍ من أبناءِ الطّين .
يبدأ مشوار كُلّ يومٍ ، هذه تطلب واحدة فوق البيعةِ ، وتلك تطلب بالأجلِ ، وهذا يُماطل في الحسابِ ويُنكر ديّنه القديم ، تراه وقد تهدّج غضبا ، ونظره المتحفز يتوزّع مُتجليا أمامه ، يطفحُ بالحقدِ والضّجر، يشكو في حُرقةٍ الظروف ، ويهجو في لوعةٍ الأيام التي ساقته وسط هؤلاءِ الرِّعاع.
تسكت ثورته بعض الشيء مع ضحكات مُبتذلة لسيدةٍ سوداء دميمة ، يطلق بعدها ابتسامةٍ مخبولة ملتاعة ، يُمرّر يده فوق عنقِ حماره الكبير ، يربت برفقٍ وإعجاب يهرش له ما بينَ أذنيهِ في تلطفٍ أبوي مثير ، ثم تنطلق دندنته في نغمٍ غير مفهوم ، وقد اكتسبت ملامحه سمة الإثم.
يطلق صيحة ممطوطة : عسل يا جوااااافيه.
فجأةً ينحرف مزاجه ، ويتعكّر صفو مدامه ، ينتفض يزفر ، وقد امسكَ ميزانه النحاسي ، تتأرجح سلاسله اللامعة وسط ضجيجٍ لا يُحتمل .
فما إن يبتلع الأفق شمس نهاره ، حتى يتلاشى صوته تماما من الدّروبِ والازقةِ ، يسير مجهدا إلى جوارِ حماره ، يقاومُ في نفسهِ رغبةً طاغية ، بأن مجيئه إلى هنا من سخائف القدر ، يهمز الحمار قبل أن يُلقي نظرةً طويلة جهة البيوتِ ، ثم ينصرف دون كلامٍ ، مضطرب الفكر يزداد وجيفه، يبتعد عن القريةِ ، ومن حولهِ الخلاء يطنّ بالصمتِ ، لتطوي القرية يومها مع صفحةٍ من كتابِ يوميات بائع الجوافة .
وفي غدٍ تبدأ شمس النهار الفاترة زيارتها ، ويأخذ الظّلام يلملم جنوده مُستئذنا البيوت والحقول ، ليشعّ نهارا نديّا. وبينما الكون يسبح في أشباه السّكون ، وقد أفرغت البيوت ما لديها من كلام ، ينفلت الخُلُق كأسرابِ الدّجاج ، يتهادى على الملأ صوته مُتغنّيا بسلعتهِ، وكأنّ شيئا من آثارِ الأمسِ لم تكن ، ومع نداءاته : عسل يا جواااافيه ، يتقاطر الأهالي من حولهِ ، ويبدأ يومه من جديدٍ على مألوفِ عادتهِ.
بهذا النّداء المقتضب يسيل لعاب من استقروا خلف الأبواب ، يمرّ صاحبه يقطع بصوتهِ صمت المكان ، بوجههِ الأخرس المُشرب بحمرتهِ ، يسير الهوينة بجوارِ حمارهِ العالي ، الذي يتبدى شامخا في اعتدالٍ ، يوزع نظراته على المارةِ في كبرياءٍ غير معهودٍ لحمار مثله ، يلوح لمن يخاله ، كمن زادَ همه وفترت همته ،يمضغ حبات التّبن في تكاسلٍ غريب .
وبينَ الحينِ والآخر تندفع سيدة من سيداتِ الدّربِ ، تضرب برجلها عتبةِ الدار في تأففٍ ، يظهر اهتياجها ، أن كلامها قد ذهب مع صغارها أدراج الرياح ، ها هي ثائرة تُبرطِم بعد أن انفلقَ حجر صبرها أمام إلحاحِ أولادها ، الذين سحرتهم كلمات الرّجل ، فالآمال معلقة بحملهِ الليفي المُستقر فوق ظهر حمارهِ المغرور ، اعتقادهم فيه ؛ أنّه جنة رضوان تمشي على أربعٍ ، كلّما تصايح صاحبنا ، هبّت روائح الجوافة البلدي النفاذة ، التي لا يمكن أن تخطئها أنف ،وكلّما سَاَرَ صاحبنا سارت معه روائحه المنعشة المخلوطة بالأماني وصياحِ المحبين، لتتوزع على كُلّ شبرٍ في الدّربِ.
شيئا فشيئا تبدأ مرحلة جادة من التبسّط بعد انقباضٍ ، تُرفع الكُلفة فيها بينه وبين زبائنه ، لا تخل من شدٍ وجذب وأيمان مُغلّظة أنّه خاسرٌ في هذه البيعة ، ثم يصمت قليلا ، ويعود يصبّ لعناته فوقَ رؤوسِ أسلافه ، الذين أورثه هذه المهانة ، حتى أضحى عرضة لسخافاتِ الفلاحين ، تنتهي وصلته اليومية بتوسلاتِ تستحث كرمه المعهود ، تطلب منه إرضاء الصّغير الذي تعلّق بطرفِ جلبابها الرّخيص : إديه واحدة فوق الميزان .. مالك كدا مناكف.
تلوح بعدها قصور الفرح شاهقة في أعينِ الصّغير ، يفترّ ثغرة الفارغ من أسنانه ، يتناول بيدهِ المُتسخة حبة الجوافة الطرية ، ويدلف بها مباشرة إلى فمهِ ، يزداد طنين الذباب وتحليقه المُزعج في إرتياعٍ ، تنتهي لذة صاحبنا بالتفاتة قصيرة لعينِ البائع البيضاء ، تتسلل لحظتئذٍ المخاوف لقلبهِ، بعد أن غامت سحابة كدرٍ ، جعلته يلتصق ثانيةً في أمهِ ، يدسّ جسده العاري بين ساقيها ، فرقا من صاحبهِ الأعور.
يرخي بعدها البائع نظره في تكاسلٍ ، وتتحول عينيه من جديدٍ أمامه على امتدادِ الزّقاقِ الصّيق .
تنفلت نداءاته من جديدٍ ، في نعمةٍ نشاز لا تُطاق ، ونظرة متراخية لا حياة فيها ، ورائحة الجوافة لا تنقطع ، ولفتات حماره المغرور تتوزع على الأبوابِ القديمة ، يغمس رأسه في "مقطفِ " التبن، ليعود سريعا ينقله ناحيةِ البيوتِ ، في استهزاءٍ من أبناءِ الطّين .
يبدأ مشوار كُلّ يومٍ ، هذه تطلب واحدة فوق البيعةِ ، وتلك تطلب بالأجلِ ، وهذا يُماطل في الحسابِ ويُنكر ديّنه القديم ، تراه وقد تهدّج غضبا ، ونظره المتحفز يتوزّع مُتجليا أمامه ، يطفحُ بالحقدِ والضّجر، يشكو في حُرقةٍ الظروف ، ويهجو في لوعةٍ الأيام التي ساقته وسط هؤلاءِ الرِّعاع.
تسكت ثورته بعض الشيء مع ضحكات مُبتذلة لسيدةٍ سوداء دميمة ، يطلق بعدها ابتسامةٍ مخبولة ملتاعة ، يُمرّر يده فوق عنقِ حماره الكبير ، يربت برفقٍ وإعجاب يهرش له ما بينَ أذنيهِ في تلطفٍ أبوي مثير ، ثم تنطلق دندنته في نغمٍ غير مفهوم ، وقد اكتسبت ملامحه سمة الإثم.
يطلق صيحة ممطوطة : عسل يا جوااااافيه.
فجأةً ينحرف مزاجه ، ويتعكّر صفو مدامه ، ينتفض يزفر ، وقد امسكَ ميزانه النحاسي ، تتأرجح سلاسله اللامعة وسط ضجيجٍ لا يُحتمل .
فما إن يبتلع الأفق شمس نهاره ، حتى يتلاشى صوته تماما من الدّروبِ والازقةِ ، يسير مجهدا إلى جوارِ حماره ، يقاومُ في نفسهِ رغبةً طاغية ، بأن مجيئه إلى هنا من سخائف القدر ، يهمز الحمار قبل أن يُلقي نظرةً طويلة جهة البيوتِ ، ثم ينصرف دون كلامٍ ، مضطرب الفكر يزداد وجيفه، يبتعد عن القريةِ ، ومن حولهِ الخلاء يطنّ بالصمتِ ، لتطوي القرية يومها مع صفحةٍ من كتابِ يوميات بائع الجوافة .
وفي غدٍ تبدأ شمس النهار الفاترة زيارتها ، ويأخذ الظّلام يلملم جنوده مُستئذنا البيوت والحقول ، ليشعّ نهارا نديّا. وبينما الكون يسبح في أشباه السّكون ، وقد أفرغت البيوت ما لديها من كلام ، ينفلت الخُلُق كأسرابِ الدّجاج ، يتهادى على الملأ صوته مُتغنّيا بسلعتهِ، وكأنّ شيئا من آثارِ الأمسِ لم تكن ، ومع نداءاته : عسل يا جواااافيه ، يتقاطر الأهالي من حولهِ ، ويبدأ يومه من جديدٍ على مألوفِ عادتهِ.