على ناصية مبنى كلية غردون التذكارية القديم، الذي صممه المهندس الإيطالي “ديمتريوس فبريوس”؛ كانوا قد علقوا الجرس المعدني الصقيل، الذي يُقرع لكلب الحداثة في عقول التلاميذ الصغار، ممن يتراوح عددهم بين 200 و300، يتراصون في الباحة الأمامية للكلية في طابور الصباح، مرتدين “الجلاليب” والعمائم البيضاء، يشبهون لوزات قطن تم انتقاؤها بعناية فائقة، من “الأسر السودانية الجيدة”، وهو تعبير كان يعني وقتها، أبناء زعماء القبائل، والمزارعين، والتجار، وأمراء المهدية، وهم فئة ذات معنى فضفاض، ضمت العديد من الذين رسموا لوحة للمهدي كـ”ثائر سوداني”.
صار هذا المنظر الخلاب، مشاهداً بعد سنوات قليلة، أعقبت كتابة اللورد الأداتي “كرومر” تقريره، بعد أن وصل إلى قناعة بضرورة بناء كلية لتكون أداة “لنا” في خدمة الإمبراطورية. جاء في التقرير: “لا يوجد في السودان شاب واحد ذو صلاحية لتلقي التعليم العالي”. الطريقة هذه في التفكير مثلت عقيدة المندوب السامي لبريطانيا، في العام 1898، وهو الوقت ذاته الذي وصلت فيه القاطرات الحديدية الإنجليزية الشبقة، إلى أقصى ذروة مؤقتة لها، عند محطة الخرطوم بحري، على أيام ذلك “العالم البرجوزاي الزائل”، وهو يقدم نسخة إمبريالية من نسخ الحداثة الكلاسيكية الرائجة في تلك الأيام.
في تلك الأزمنة، صنعت بريطانيا العظمى من تشارلز غردون، شهيداً مسيحياً عظيماً، قطع برابرة متوحشون رأسه على سلم القصر (بالإحالة إلى إسكيتشات ملونة شائعة في الشبكة العنكبوتية) وذهبوا به محمولاً، بشهادة “سلاطين باشا”، في إناء خزفي، إلى المهدي. كما أن مخيلة الرجل الأبيض الذي يعتقد أن عليه يقع كمخلص نبيل عبء نشر الحضارة والتمدن؛ اشتغلت على وضع التشطيبات النهائية لمفهوم “الدراويش”، الذي انكبت على صكه من مزيج صلب من الطمع، والخوف، والإثارة، مثلما يبين الجنوب أفريقي من أصول هولندية، ج.م.كوتزي، عن طريق الأدب؛ ميكنيزمات تلك الصناعة في ملاعب استعمارية أخرى، في روايته “في انتظار البرابرة”.
اشتغلت اليد الخفية للبرجوازية في إنجلترا، على رسم بورتريه استعماري كامل، على غرار اللوحات الزيتية الشائعة لغردون، وهو في طريقه ليلقى حتفه على يد الدراويش، بعد أن لم يحضر الجيش الفيكتوري المتأخر لنجدته. أقيمت أيام الحداد الوطنية، أشعلت الشموع الجنائزية في كنيسة ويستمنستر، وفي سانت باول، والكنائس الأخرى في الأرجاء القريبة، استخدمت صورته وهو في بزة عسكرية أنيقة، لصنع تماثيل نصفية وتماثيل كاملة، وضعت الصورة محاطة بهالة القديسين المضيئة على الأباريق، وكروت حفظ الصفحات أثناء القراءة، ونشرت وطبعت الآلاف من البامفليتات والكتب المدرسية حوله، كما أن الجمعيات مثل “وردة الربيع” الإمبريالية، أقامت حفلاً لتأبينه. كما تم استخدام أداة اللغة الإنكليزية الناجزة، في وخز ضمير الأمة عبر تقنيات التلاعب بالأحرف الأولى من توقيع غلادستون رئيس الوزراء الذي لم يجد المبرارت الوجيهة لأن يقاتل قوماً يطلبون حريتهم في السودان، من MO G (مان- أولد –غراند) إلى (موردر – أوف – غردون). الممارسة اللغوية تلك على الجانب الآخر، وبعد كتابة حوالي 40 كتاباً في تبجيل غوردون، ما طالت شخصية المهدي، التي لم تحظ سوى بنعت يقوم بالتحويل إلى معنى الديماغوغ العظيم.
المهندسون والعمال المهرة، وظفوا التقنيات المعقدة في صناعة رافعة لنظام هائل من التحولات، قامت شركة سكك الحديد البريطانية في تلك الأجواء، بصناعة ثلاثة رؤوس لقاطرات: أتبرا، وأم درمان، وكتشنر. ثبتت الفلنكات الخشبية بإحكام، تم بناء غرف صغيرة تضم أعاجيب ميكانيكية وبسقوف محدودبة من القرميد، في محطات صغيرة فرعية سميت بـ “النمر”، وتتناثرت في القرى على طول الخط الحديدي، كما بنيت المحطات الكبيرة التي أنعشت المدن، ودرب العشرات من نظار المحطات، وعمال الدريسة، والملاحظين، والمحولجية العظماء المنسيين، ثم امتدت قضبان الصلب، كشرايين تحمل في دمائها جرثومة العنف.
كانت الدروس الكولونيالية المستفادة، التي فهمها كرومر، كإداري مستعمرات متمرس، وفكر عبرها وهو يضع حجر الأساس للكلية في 1900؛ أن التعليم (الأكاديمي، والأدبي)، هو ما مهد لظهور الحركات الثورية، والعصيانات المدنيَّة في المستعمرات، وعلى ذلك، فإن أغراض التعليم في السودان يجب أن تكون عملية. إن طبقة جديدة من السودانيين الذين انسلوا من سلالات الدراويش، يجب أن تعد فقط لذلك النوع من الأدوار التي لا تتعدى شغل الوظائف الصغرى، أما الوظائف الكبرى فبلا شك للإنجليز. وتحت إشراف مدرسين بريطانيين ومصريين وشوام، انتقاهم بعناية فائقة مستر “غلاس دنلوب” وزير المعارف في مصر، تم إعداد الأفندية وصقلهم بطريقة مستوحاة من التقاليد السائدة في سلك التعليم في مصر آنذاك. انطوت تلك التقاليد على أساليب وحشية، وصلف كبير، من قبل الأساتذة الإنجليز، الذين لم يتورعوا عن عقوبة الضرب لأتفه الأسباب. ولسنوات طويلة بعد ذلك، حل الرنين المعدني البارد، مكان النداءات الوطنية الأليفة، التي استخدمت فيها الدفوف وأبواق سن الفيل.
ربطة عنق صفراء
خلقت الحداثة معاوية نور، من ذلك السديم المهدوي. ولد في عام 1909 حفيداً لأحد أمراء المهدية، كما هو مطابق لمعايير الكلية في انتقاء التروس الصغيرة والعملية، لماكينة الأفندية التي سيتم تركيبها في جهاز الدولة الحديثة، وعليها أن تتفانى فقط في خدمة مصالح الإمبراطورية في القطر، كالكتبة، والعرفاء “المعلمين”، وفي مسك الدفاتر، وأعمال مساحة الأرض، والطبابة، وكضباط في الأورطات العسكرية الحديثة، التي خلفت الجهادية.
بزغ نجم معاوية كشاب سوداني ذي صلاحية لتلقي التعليم العالي، وتحديداً بعد أن قضم فاكهة الآداب المحرمة تحريماً تاماً في الفردوس الاستعماري، بحيث وصل بنبوءات “كرومر” إلى أقصى مدى مضاد لها، منذ أن كان يعد كموظف في الدرجات الدنيا، إلى حين وجوده كمعضلة ثقافية حرجة للإدارة البريطانية في السودان، كما ورد في صحف مصر التي كانت قد تخطت وقتها وبزمان، أيام مطبعة غوتنبرغ، ونشرت صوراً بالزنكوغراف لوثائق ومراسلات مخابراتية مسربة، مع عنوان مثير، وبالخط العريض حول: فضح السياسات الثقافية في السودان، الإنجليز يحرمون السودانيين من التعليم الجامعي. وبالنسبة إلى التصنيف الاستعماري الساري حتى اليوم (السوداني العادي)، فإن نموذج معاوية الكامل التام، مثّل الأساس الوطني البديع لقطيعة ابستمولوجية مع ماض وطني طويل، ولذلك يجب أن يتم استبعادها لما فيها من عصيانات معرفية كامنة، فبينما في دولة المهدية المتأخرة التي كان الصراع فيها مع العلماء (يمكن أن تقرأ بطريقة ما مثقف)، قد حسم لصالح موقف أيديولوجي لم يدع لمعظم الرجال من وظيفة سوى للقتال في صفوفها، كان الأمراء يدمغون الجنود الفارين، بوشم جلد المفصل السفلي لإبهام اليد اليمنى بحرف “ج” كرمز للجهادية. تم دمغ معاوية من قبل الإنجليز بعلامة رمزية قوية، تلخصت في العبارة التالية: “ذكي جداً، لا يصلح”.
إن التقنيات الشائعة في ممارسة الكولونيالي البارع للّعب بالأدوات المفاهيمية، وفي تقسيم العالم بطريقة مانوية، استخدمت على طول الخط في بناء تمركزات ذات الأوروبي حول نفسه، وفي إدانة الآخر “الدرويش”، وفقاً لمنطق التفوقات “متحضر/همجي، سيد/عبد، أستاذ/تلميذ… الخ”، وكمفاجأة لم يتحسب لها، تخلَّق على أراضي المستعمرات، بفضل جمعيات القراءة، والكتب المسربة بوساطة عمال السكك الحديدية، من يقوم معها بتحويلات متنوعة في اتجاهات عكسية.
قاد ذلك إلى حرمان فعلي لمعاوية من تولي وظيفة بيداغوجية، كالتدريس، على إثر النقاشات التي دارت مع مسؤول بيروقراطي رفيع، اقتصرت مهمته على تقييم معاوية، في مكتبه بوزارة المعارف. وصف إدوارد عطية، في فصلين من كتابه “عربي يحكي قصته”، كيف أن المسؤول لم ترقه معرفة معاوية الغزيرة بالأدب الإنجليزي، التي فاقت معرفته، أثناء مقابلة عمل، تشعبت إلى حوار حول أعمال صموئيل جونسون “1709-1784”. قال البريطاني بشكل مخيب في خواتيم الحوار، محاولاً مداراة عريه الاستعماري، إن جونسون ولد قبل أوانه. بالطبع فإن أي استنتاج يمكن أن يرجّح أنه في دخيلة نفسه لم يقصد جونسون، بل قصد شخصاً آخر. ضمَّن الإداري البريطاني، في وثيقة تقريره إشارات سلبية إلى ربطة العنق الصفراء العالية، التي ظهر بها معاوية.
صورة جانبية لمعاوية، طبعت على الغلاف الخلفي لكتاب صادر عن قسم التأليف والنشر بجامعة الخرطوم، مع نبذة قصيرة حول محتوى الكتاب، يبدو فيها شاباً فتياً وهو يرتدي البدلة الإفرنجية، وربطة عنق أنيقة، لخصت المعايير الجديدة للوسامة الرسمية لفئة الأفندية، التي فرضت نفسها بديلاً لوسامة الشبان الدراويش، وهم في جبة الدمور المرقعة، التي احتفظ منها بعينات في متاحف العالم، كتذكارات من عالم ما قبل إمبريالي.
وبالنسبة إلى رؤى العين ما بعد الاستعمارية؛ يمكن أن تنطوي الصورة على بعد أيقوني هائل وغير مكتشف، ربما يجعلها ممكنة لاستخدامات وطنية متنوعة، كالمسكوكات، وشعارات الجوائز الأدبية ذات الأهمية الحقيقية، وأيقونات المعاهد التي يمكن أن تنشأ لأغراض متخصصة، والأوسمة والنياشين، وغيرها، على غرار وسام جمجمة إنسان سنجة الذي تمنحه الدولة في السودان كتكريم، ولكن للمحاربين في حروبها ضد طواحين الهواء.
من آثار معاوية محمد نور، وهو أيضاً عنوان فرعي لكتاب من 263 صفحة، بعنوان رئيس “دراسات في الأدب الحديث”، صدرت طبعته الأولى في العام سبعين، من سلسلة التراث السوداني، وهو كتاب تم بناؤه على جمع بعض من أعمال ومقالات معاوية، توزعت على موضوعات شتى – نجد صورة بورتريه بالأبيض والأسود، لمعاوية في صباه، وتحتها ثلاثة أبيات من شعر الرثاء، تم اقتباسها من ديوان “أعاصير مغرب” لعباس محمود العقاد، الذي زار الخرطوم في العام 1943، في رحلة بالقطار الذي أقله من القاهرة في اتجاه الجنوب، إلى الخرطوم التي وفرت له ملاذاً آمناً من الجائحة النازية، التي دفعت بالمفكرين في أرجاء العالم إلى الهرب من قبضة هتلر الشقي، الذي اتسم موقف العقاد بمعاداته، ووضع في ذلك مؤلفاً سماه “هتلر في الميزان”، وفي ظلال تلك الحرب الهمجية، كان العقل الأوروبي قد بدأ لتوه، تفحص أسس الأنوار التي انطلق منها على نحو نقدي اجتماعي أعمق للنسخة الأداتية من الحداثة.
كان أول ما قام به العقاد في زيارته الأدبية -التاريخية تلك، التي استمرت أربعين يوماً، وضع إكليل من الزهور على قبر معاوية، اعترافاً بأصالته ونبوغه. قال العقاد في تخليد معاوية، إنه لو لم يمت في الثلاثين من عمره “لكان نجماً مفرداً في سماء الفكر العربي”.
كطليعي أسود؛ يمكن تحويل مقدمة عربة قطار “معاوية أفندي نور”، من محطات الرثاء الحزينة التي ظلت تقدمه كقربان أبدي لغول ذي رؤوس إمبريالية، إلى محطات المقاربات الحية، وكحكاية لإنتاج المعنى، ما بعد الكولونيالي، حول “حرية الفكر وأبطالها في التاريخ”، وهو عنوان لكتاب سلامة موسى الذي كان مدافعاً على ما يبدو عن الطابع الوضعي لمشروع الحداثة. قدم معاوية نقداً لاذعاً للكتاب، وصفه فيه، بهراء محصن تم تركيبه من كتابي تحرير الإنسانية لـ “فان لون”، وتاريخ الحركة الفكرية لـ “ج ب بري”.
معاوية نور لم يكن وهماً، مثله مثل أطياف مصطفى سعيد، التي ما زالت تجول في الأرجاء، ففي كل الخطابات التي ظهرت في أفق استعماري، وكان أبطالها شبان سودانيون، ومعلمون إنجليز، وفتيات إسكوتلنديات؛ تم تركيبهم بطريقة معقدة من تجارب وقعت في الفضاء الاستعماري، لتمثيل العلاقة الشائكة لطلائع المتعلمين مع تجربة الحداثة (نسخة السيطرة والتحكم)؛ ثلاثة منهم كانوا قد تلقوا تعليماً عالياً في أوكسفورد، مثل محمود ود شيخ أحمد، الذي عاد إلى كلية غردون التذكارية ليصبح أستاذاً للفلسفة، ثم أمين ود شيخ أيوب شندي، وزوجته الأسكتلندية “باتريشيا” التي تعرف عليها أثناء دراسته، كسليلة لبيت ليبرالي وزميلة دراسة، وهما شخصيتان اشتغل على بلورتهما إدوارد عطية من مزيج هائل من الوقائع وقصص ناس حقيقيين، بما فيها قصته هو نفسه “إدوارد”، أما الثالث والأخير الذي ورث كل ذلك الركام الوجودي في شخصيته، فهو مصطفى سعيد. الغردونيون الرفيعون الثلاثة، مثلوا انعكاسات لظلال أفلاطونية شائهة، لبطل من لحم ودم في “رواية” وجودية، نسجت خيوطها من العبقرية وقسوة الأم الاستعمارية.
بشغل تثقيف ذاتي مضن، وملكة نقد وطنية حاذقة، استطاع معاوية أن ينجح في التحرر من أغلال برنامج التربية الأداتي، الذي قام بتصميمه دهاقنة التربية والتعليم الإنجليز، في الأقسام الخاصة بوضع المناهج في أرجاء الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، من خلاصات لهجين مضطرب من نظريات التربية، تأسست على أرضية سجالات ونقاشات محمومة، ثقافية وأكاديمية، حول طبيعة ما يجب أن يتم تعليمه وما لا يجب أن يعلم للشعوب الأفريقية، بوصفها شعوباً متأخرة، بلغت أقصى غاياته إنتاج نسخ مصغرة لأفندية يتحركون بوحي من عقلانية “أداتية/عملية”، تنهض على أرضية هشة لمزيج من “شبه فلسفات” محلية مع ليبرالية مخففة، مغطاة جيداً بالطرابيش الحمراء.
مضي معاوية أبعد من ذلك بكثير، بحيث انهمك في القيام بتطوير إستراتجيته النقدية الخاصة، التي بناها باستخدام ترسانة واسعة من القراءات والمطالعات في الآداب الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية، وأدب أمريكا اللاتينية، والأدب العربي، وفي الفلسفة، والسياسة والفنون، والنظريات النقدية، وكل ما يمكن أن يتمخض عن “نهضة صحيحة”. شغف نور بالكتاب طيلة أوقات الرخاء التي عاشها في كنفه عائلته الأمدرمانية ميسورة الحال، التي وفرت حاضنة رؤوم لتفتح عقله الغض، وفي أزمنة الشظف في القاهرة، التي اضطر فيها للاقتراض ليشتري الجبن الرخيص والخبز كسائر الأدباء النبلاء.
ظل مرأى غلاف لازوردي لكتاب معروض في واجهة زجاجية، لم يمتلك ثمنه، مصدراً لحسرة عظيمة اعترته، خلد ذكراها في مقال له بعنوان “أنا والكتاب”، تلك الحسرة ربما لا تفوقها سوى حسرة صديقه العقاد الذي اضطر لبيع 300 كتاب من مكتبته الخاصة، لتمويل رحلته بالقطار في اتجاه الجنوب، بعد معركة العلمين، هروباً من النازية إبان فترة صعود الفاشيست والنازية، واندلاع الحرب العالمية الثانية، في الأوقات تلك، وفي مكتب البريد، أسس إدوارد عطية نواة لإذاعة “هنا أم درمان”، ووجهها بالكامل للهجوم على النازي.
بناء مكتبة منزلية صغيرة، تحول لاحقاً إلى “موضة”، وجزء من التقاليد الشائعة في بيوت الأفندية الغردونيين، الذين سرعان ما طوروا بشكل عام نمط بناء مختلف للمكتبات في بيوت الطبقة الوسطى، بحيث لم تستطع النخبة المثقفة حتى اليوم، أن تقدم برنامجاً لتكوين المثقفين، مثل الذي يمكن اقتقاء أثره في مقالات معاوية، التي انكب على تدوينها منذ كان طالباً ينشر باسم مستعار “مطالع ” في جريدة الحضارة السودانية، ثم وهو في الثامنة عشرة من عمره في الجامعة الأمريكية ببيروت، ومن بعد ذلك أثناء نشاطه الكثيف لوقت قصير في الصحافة المصرية.
يقول العقاد، الذي قام بتأليف كتابه “عبقرية عمر” في زيارته إلى السودان، إنه لم يطلب من المثقفين السودانيين مرجعاً أو كتاباً في الصباح، إلا ووفروه له في المساء.
من طابية النقد الحصينة، تناول معاوية الفلسفة، في مقالة تمتلك أهميتها اليوم في تاريخ الفلسفة في سودان ما بعد الاستعمار، كحلقة وصل للفلسفة بتاريخ انقطاعها الطويل والتام، الذي عاشته في سودان وادي النيل، الذي مثل مهداً للفلسفة، سبق اليونان بكثير على حد زعم مارتن برنال، حول أثينا السوداء، التي سبقت أثينا “النموذج” الناهضة على أعمدتها المركزية الأوروبية.
إلى جانب قيامه بعرض عدة كتب، اهتمت بكيفية التفكير، في مقالات متفرقة هنا وهناك، فإن مقالات معاوية ذات المنهجية الديكارتية في العمق، جعلته ينشر على جزأين في جريدة السياسة الأسبوعية، في أكتوبر من العام 1930 تلخيصاً مدهشاً لمعارف أفندي فلسفية، المقالات نشرت تحت العنوان الرئيس “عالم القيم والنظريات”، وبعنوان فرعي
“في الفلسفات والفنون”.
وعى نور باكراً لعبة الفلسفة، التي ظلت تقوم بها على مر العصور، في كونها تلد نفسها من نفسها، من خلال القيام بتعميمات لقمم الفكر في كل عصر فلسفي، وأقام إلى جانب ذلك تميزات باكرة، بين كل من الفلسفة والدين والعلم والفنون.
ورغم أن معاوية، من موقعه كأديب، انتصر للفنون، وأسس لاعتبارها موقفاً منتجاً للمعرفة بالذات والآخر والعالم والوجود؛ إلا أنه ركز على موقفه الحاسم حول أهمية الفلسفة في بناء مشروعه الشخصي، ومنحها القدح المعلى.
إن وعي معاوية الحاد والباكر، بأزمة العقل الغربي، جعله يدخل في مساءلات باردة وواثقة مع ما أنتجته من خطابات ومقولات وآداب. ذكرت وثائق الزنكوغراف تلك، في شغلها على بناء معاوية كمصدر لخطر تنويري وتربوي محتمل، أنه في حال عودته فإن الموت العقلي ولا شيء سواه، هو الذي ينتظره في خرطوم نهاية الثلاثينيات، التي تنتمي إلى أزمنة أخرى، ومع ذلك فإن معاوية اختار العودة والنهاية العقلية، على طريقة “الجلوس على التبروقة حينما تخسر المعركة”، التي كانت سائدة في السودان كتقليد شجاعة، وفعلها خليفة المهدي عبد الله التعايشي في آخر حروب المهدية.
ركزت الوثائق على لقاء صحفي وكتابات كان قد أجراها معاوية مع الأديب الفرنسي “أندريه موريه” في غرفته بفندق شيبرد، عنوانها ساعة مع موريه، أظهرت تفوقاً كاسحاً لمعاوية على أقرانه في مصر، وتحقيقه لاتصال عقلي وثيق بروح الغرب، وعلى ما يبدو أن أعمال موريه الأدبية الواسعة، اكتسبت أهميتها من خلال اشتغالها على تحديد هوية الأنا الاستعمارية ضمت موضوعات مثل: صمت الكولونيل، من هو الإنجليزي؟ من هو الأمريكي؟
قارة الشمس والضياء
إلى جانب أبناء الأسر السودانية الجيدة، لم تذكر الوثائق إلا بالكاد بعض الطلاب الصوماليين من مستعمرات شرق أفريقيا، بتكليف من مكتب المستعمرات البريطانية، وبعد زيارته إلى شرق أفريقيا لإعداد تقرير حول مسألة التعليم فيها، تحول إلى مادة كتاب مهم عن طبيعة الفلسفات التي نهضت عليها نظريات التعليم الاستعمارية، التي تم تطبيقها على الشعوب الأفريقية المتأخرة وفقاً لمعايير المركزية الغربية؛ فإن عالم البيولوجيا الوريث لتقاليد جده الداروينية، جوليان هكسلي (حصل لاحقاً على لقب سير نظير خدماته الجليلة في خدمة المملكة المتحدة، كما ترأس أول إدارة لليونسكو التي أسهم في بلورة فكرتها)، لم يكتف بتسليم تقريره ذي الروح الليبرالية، بل مضى ليقوم بوضع كتابه الصادر في العام 1930 بعنوان “أفريكا فيو”- عرض لأفريقيا.
حول كتاب هكسلي، وفي مقالته المكتوبة في غضون ذلك العام تقريباً التي عنونها معاوية بمستقبل أفريقيا، عرض لتلك النظريات بروح نقدية واثقة ومرحة، حيث ذكر أن الإنجليز دوناً عن مخلوقات الله الاستعمارية الأخرى، عرفوا ببغضهم للمنطق والفكر في تطبيق سياساتهم، التي اعتمدوا فيها على منهج التجربة والخطأ، فأحياناً تجدهم لا يميلون إلى تعليم اللغة الإنجليزية للشعوب الأفريقية، كونها أداة لمعرفة كثير من الأسرار التي يرغبون في أن تستأثر بها أوروبا وحدها، وأحياناً تجدهم يبدون تخوفاً من تضخم اللغات المحلية، وما يلازم ذلك من نمو روح القومية في نفوس تلك الشعوب، وفي ما يخص الأديان تجدهم تارة مع نشر تعاليم الإسلام التي يعتقدون أنها تدعو إلى الخضوع والاستسلام، ولا يحبون نشر أفكار المسيحية لأنها تعلم الإخاء والمساواة، وتارة هم مع تعليم العمل اليدوي فقط لما فيه من تحقيق للربح، وهناك أصحاب نظرية الوحش النبيل، المستوحاة من تعبير جان جاك روسو الشعري، “لندعهم وشأنهم كوحوش نبيلة”، وهناك من هم مع تعليم الأفارقة علوم الحياة، كالأنثربولوجيا والبيولوجيا وغيرها، ومنهم من يقول اتركوا هذه الشعوب لتتقدم بنفسها عن طريق عاداتها وخرافاتها وطرق تعليمها التقليدية.
حكاية موازية
من الوظائف العجيبة التي تركت أثراً مكتوباً في تاريخ السودان، وظيفة قلم مخابرات، وهي قد تعني كاتباً من نوع ما. اثنان من أصول لبنانية عملا بهذه الوظيفة، ودونا من خلالها الكثير من الوقائع، الأول هو نعوم بك شقير الذي تلقى تعليمه بالكلية الإنجيلية السورية، أصبحت لاحقاً الجامعة الأمريكية ببيروت، والتحق بحملة إنقاذ غردون المتأخرة، ما أتاح له كتابة سفره الضخم “جغرافيا وتاريخ السودان”، وهو كتاب من الحجم الكبير جداً، الذي يمكن أن تتضمنه مكتبة أفندي وعقله في زهو. والثاني هو إدوارد سليم عطية، الذي عمل في بداية أمره كمعلم غردوني عطوف، ثم قلماً للمخابرات، ومؤسساً لإذاعة صغيرة في مكتب البريد، تعمل في بث الدعاية المضادة للنازية إبان الحرب العالمية الثانية (إذاعة هنا أم درمان)، بعد تقاعده من العمل في السودان الذي قضى فيه سنوات برفقة زوجته الأسكتلندية، جيني، وبوحي من الوقائع التي شارك فيها في السودان، اشتغل على كتابة مذكراته، وسماها “عربي يحكي قصته”، ضمنها فصلين كاملين عن تلميذه وخدن روحه، معاوية محمد نور، ترجمت المذكرات إلى العربية بوساطة مترجم سوداني، ثم من بين كتب أخرى عدة نشر روايته، التي وصفتها بوسترات دعاية الكتب في لندن بأنها أول رواية بالإنجليزية يكتبها عربي “الطليعي الأسود”black vinguard ونشرت طبعتها الأولى والأخيرة في لندن 1952 عن دار “بيتر دافيس”، وتوجد نسخة مستعملة منها بـ 75.47 دولار أمريكي، معروضة على موقع لبيع الكتب في الإنترنت، ويمكن معاينتها عبر صورة غلاف بورق أبيض صقيل تضم شاباً أسود مشيحاً بوجهه، وفتاة بيضاء مقبلة نحوه، بشعر أشقر وترتدي تنورة بيضاء تظهر ساقين مصقولتين، وخلفها ظلان لرجل أسود وامرأة سوداء في ثوب الزفاف.
ومع التخلف الشديد لحركة الترجمة في السودان، إلا من بعض إشراقات مثل هنري رياض والجنيد علي عمر، فإن الطليعي الأسود ظلت معتمة بالكامل بما فيها من الأبطال الذين تواروا بعيداً ليصعد على أكتافهم مصطفى سعيد، وجين مورس، وآخرون.
صورة الفوتوغرافيا الثالثة لمعاوية، لم تلتقط قط، فبعد أن استقر في الخرطوم، أجرى عملية جراحية للبواسير، ولكنها لم تكلل بنجاح تام، ثم تجرع معاوية في أحد المستشفيات دواء ما، أدى لفقدانه شعر رأسه، ثم بدأ يعاني من آلام حادة في أسنانه، قرر على إثرها خلعها جميعاً، وفي نهاية الأمر، وفي زيارة قام بها عطية إلى تلميذه، أخبره معاوية بأن ثمة خلل ما قد أصاب عقله، وأنه بدأ يتلقى نوعاً من العلاج على يد “فكي” تقليدي يدعى مرفعين الفقراء، يستخدم تقنيات الجلد بالسياط، وماء تم محو آيات من القرآن عليه. فقد معاوية وسامته وعقله معاً، ولم يبق له شيء.
بعد سنوات من تلك الذكرى الموجعة، والتحولات التي تؤدي إلى مسخ الكائنات، كتب إدوارد سليم عطية، في كتابه “عربي يحكي قصته” وفي نهاية الفصل الثاني الذي خصصه لتلميذه معاوية نور: “ولقد عاد معاوية أخيراً إلى ارتداء الملابس السودانية الشعبية. ومثل هذا التحول ما كان له في الأحوال العادية أن يثير انتباهي، ولكنه بدا لي الآن رمزاً لانقلاب كامل في عقل معاوية وتجربته المعرفية، فوراء تلك الملابس الشعبية بدت لي مخايل ثقافته الكونية الكلية وهي تتفكك وتتآكل. وتماماً على خطى الإمبراطور “جونتر” وهو في هلعه المتصل بليلته الطويلة تلك التي قضاها في شعاب الغاب، جاء معاوية مضطرباً متعثراً مبعثر العقل، وأخذ يطوح بكل ما علق بواعيته من أكسية الفكر الغربي، مفضلاً حالة العري البدائي المرتجف. ولم يتمكن “الفكي” من علاجه، بل تفاقم أمره إلى حالة جنون مطبق، ثم ما لبث أن مات”.
تمضي الحياة في سودان ما بعد الاستعمار نحو إكمال قرن كامل من دورة الزمان على تلك الوقائع التي كان بطلها معاوية، حيث ما يزال السودان يتطلع لقيام نهضة متعثرة تنكبت نخبته الطريق إليها، تقلصت أقاليم السكة الحديد وتعطلت معظم القاطرات الحديدية، القاطرة كتشنر تم الاحتفاظ بها في متحف تاريخ سكك الحديد بعطبرة، وبالكاد يزوره أحد ما، النمر الصغيرة لم تعد تتم فيها عمليات تحويل من أي نوع، كون القطارات القليلة الباقية تمضي في اتجاه واحد فقط، جيئة وذهاباً، مبنى الكلية التذكارية لم يتوسع كثيراً ولكنه ضم كلية للآداب تدرس الفلسفة بطريقة رديئة، ويطارد أساتذتها الطلاب في أركان النقاش.
كتب أديب مصري يدعى أنور وجدي، وهو ينقب عن أدباء مغمورين عثر بينهم على كنز معاوية: “إنني أتطلع إلى حفل ضخم يقام في الخرطوم من أجل إحياء ذكراه، وطبع آثاره، والتنويه به”، كما أن الصورة الأيقونية شبه اليتيمة، يمكن أن تستخدم كأيقونة لمدرسة معاوية نور لدراسات ما بعد الاستعمار.
كتب معاوية بعين مسافر على متن قطار، وهي عين شائعة في وسط أدباء ذلك الزمان، الذي كان كل من فيه يسافر شمالاً، وفي المقطع الأخير لقصة عنوانها “مأساة”: “وابتعد القطار وصورة ذلك المشهد لا تفارق نظري، ونغم ذلك الجرس الصارخ المملوء لوعة وأسى “شا… آ أي” ما زال يرن في أذني. وإذا بصراخ بعض أفندية القطار يقطع علي تفكيري، فهو ينادي الجرسون “واحد بيرة بس خلي الثلج يكون كثير”، ورأيت هناك نفراً من الموظفين الإنجليز وهم جالسون في غرفة الطعام يتكلمون بسرعة ويتبادلون النكات المضحكة ويدخنون بينما القطار في عدوه”.
صار هذا المنظر الخلاب، مشاهداً بعد سنوات قليلة، أعقبت كتابة اللورد الأداتي “كرومر” تقريره، بعد أن وصل إلى قناعة بضرورة بناء كلية لتكون أداة “لنا” في خدمة الإمبراطورية. جاء في التقرير: “لا يوجد في السودان شاب واحد ذو صلاحية لتلقي التعليم العالي”. الطريقة هذه في التفكير مثلت عقيدة المندوب السامي لبريطانيا، في العام 1898، وهو الوقت ذاته الذي وصلت فيه القاطرات الحديدية الإنجليزية الشبقة، إلى أقصى ذروة مؤقتة لها، عند محطة الخرطوم بحري، على أيام ذلك “العالم البرجوزاي الزائل”، وهو يقدم نسخة إمبريالية من نسخ الحداثة الكلاسيكية الرائجة في تلك الأيام.
في تلك الأزمنة، صنعت بريطانيا العظمى من تشارلز غردون، شهيداً مسيحياً عظيماً، قطع برابرة متوحشون رأسه على سلم القصر (بالإحالة إلى إسكيتشات ملونة شائعة في الشبكة العنكبوتية) وذهبوا به محمولاً، بشهادة “سلاطين باشا”، في إناء خزفي، إلى المهدي. كما أن مخيلة الرجل الأبيض الذي يعتقد أن عليه يقع كمخلص نبيل عبء نشر الحضارة والتمدن؛ اشتغلت على وضع التشطيبات النهائية لمفهوم “الدراويش”، الذي انكبت على صكه من مزيج صلب من الطمع، والخوف، والإثارة، مثلما يبين الجنوب أفريقي من أصول هولندية، ج.م.كوتزي، عن طريق الأدب؛ ميكنيزمات تلك الصناعة في ملاعب استعمارية أخرى، في روايته “في انتظار البرابرة”.
اشتغلت اليد الخفية للبرجوازية في إنجلترا، على رسم بورتريه استعماري كامل، على غرار اللوحات الزيتية الشائعة لغردون، وهو في طريقه ليلقى حتفه على يد الدراويش، بعد أن لم يحضر الجيش الفيكتوري المتأخر لنجدته. أقيمت أيام الحداد الوطنية، أشعلت الشموع الجنائزية في كنيسة ويستمنستر، وفي سانت باول، والكنائس الأخرى في الأرجاء القريبة، استخدمت صورته وهو في بزة عسكرية أنيقة، لصنع تماثيل نصفية وتماثيل كاملة، وضعت الصورة محاطة بهالة القديسين المضيئة على الأباريق، وكروت حفظ الصفحات أثناء القراءة، ونشرت وطبعت الآلاف من البامفليتات والكتب المدرسية حوله، كما أن الجمعيات مثل “وردة الربيع” الإمبريالية، أقامت حفلاً لتأبينه. كما تم استخدام أداة اللغة الإنكليزية الناجزة، في وخز ضمير الأمة عبر تقنيات التلاعب بالأحرف الأولى من توقيع غلادستون رئيس الوزراء الذي لم يجد المبرارت الوجيهة لأن يقاتل قوماً يطلبون حريتهم في السودان، من MO G (مان- أولد –غراند) إلى (موردر – أوف – غردون). الممارسة اللغوية تلك على الجانب الآخر، وبعد كتابة حوالي 40 كتاباً في تبجيل غوردون، ما طالت شخصية المهدي، التي لم تحظ سوى بنعت يقوم بالتحويل إلى معنى الديماغوغ العظيم.
المهندسون والعمال المهرة، وظفوا التقنيات المعقدة في صناعة رافعة لنظام هائل من التحولات، قامت شركة سكك الحديد البريطانية في تلك الأجواء، بصناعة ثلاثة رؤوس لقاطرات: أتبرا، وأم درمان، وكتشنر. ثبتت الفلنكات الخشبية بإحكام، تم بناء غرف صغيرة تضم أعاجيب ميكانيكية وبسقوف محدودبة من القرميد، في محطات صغيرة فرعية سميت بـ “النمر”، وتتناثرت في القرى على طول الخط الحديدي، كما بنيت المحطات الكبيرة التي أنعشت المدن، ودرب العشرات من نظار المحطات، وعمال الدريسة، والملاحظين، والمحولجية العظماء المنسيين، ثم امتدت قضبان الصلب، كشرايين تحمل في دمائها جرثومة العنف.
كانت الدروس الكولونيالية المستفادة، التي فهمها كرومر، كإداري مستعمرات متمرس، وفكر عبرها وهو يضع حجر الأساس للكلية في 1900؛ أن التعليم (الأكاديمي، والأدبي)، هو ما مهد لظهور الحركات الثورية، والعصيانات المدنيَّة في المستعمرات، وعلى ذلك، فإن أغراض التعليم في السودان يجب أن تكون عملية. إن طبقة جديدة من السودانيين الذين انسلوا من سلالات الدراويش، يجب أن تعد فقط لذلك النوع من الأدوار التي لا تتعدى شغل الوظائف الصغرى، أما الوظائف الكبرى فبلا شك للإنجليز. وتحت إشراف مدرسين بريطانيين ومصريين وشوام، انتقاهم بعناية فائقة مستر “غلاس دنلوب” وزير المعارف في مصر، تم إعداد الأفندية وصقلهم بطريقة مستوحاة من التقاليد السائدة في سلك التعليم في مصر آنذاك. انطوت تلك التقاليد على أساليب وحشية، وصلف كبير، من قبل الأساتذة الإنجليز، الذين لم يتورعوا عن عقوبة الضرب لأتفه الأسباب. ولسنوات طويلة بعد ذلك، حل الرنين المعدني البارد، مكان النداءات الوطنية الأليفة، التي استخدمت فيها الدفوف وأبواق سن الفيل.
ربطة عنق صفراء
خلقت الحداثة معاوية نور، من ذلك السديم المهدوي. ولد في عام 1909 حفيداً لأحد أمراء المهدية، كما هو مطابق لمعايير الكلية في انتقاء التروس الصغيرة والعملية، لماكينة الأفندية التي سيتم تركيبها في جهاز الدولة الحديثة، وعليها أن تتفانى فقط في خدمة مصالح الإمبراطورية في القطر، كالكتبة، والعرفاء “المعلمين”، وفي مسك الدفاتر، وأعمال مساحة الأرض، والطبابة، وكضباط في الأورطات العسكرية الحديثة، التي خلفت الجهادية.
بزغ نجم معاوية كشاب سوداني ذي صلاحية لتلقي التعليم العالي، وتحديداً بعد أن قضم فاكهة الآداب المحرمة تحريماً تاماً في الفردوس الاستعماري، بحيث وصل بنبوءات “كرومر” إلى أقصى مدى مضاد لها، منذ أن كان يعد كموظف في الدرجات الدنيا، إلى حين وجوده كمعضلة ثقافية حرجة للإدارة البريطانية في السودان، كما ورد في صحف مصر التي كانت قد تخطت وقتها وبزمان، أيام مطبعة غوتنبرغ، ونشرت صوراً بالزنكوغراف لوثائق ومراسلات مخابراتية مسربة، مع عنوان مثير، وبالخط العريض حول: فضح السياسات الثقافية في السودان، الإنجليز يحرمون السودانيين من التعليم الجامعي. وبالنسبة إلى التصنيف الاستعماري الساري حتى اليوم (السوداني العادي)، فإن نموذج معاوية الكامل التام، مثّل الأساس الوطني البديع لقطيعة ابستمولوجية مع ماض وطني طويل، ولذلك يجب أن يتم استبعادها لما فيها من عصيانات معرفية كامنة، فبينما في دولة المهدية المتأخرة التي كان الصراع فيها مع العلماء (يمكن أن تقرأ بطريقة ما مثقف)، قد حسم لصالح موقف أيديولوجي لم يدع لمعظم الرجال من وظيفة سوى للقتال في صفوفها، كان الأمراء يدمغون الجنود الفارين، بوشم جلد المفصل السفلي لإبهام اليد اليمنى بحرف “ج” كرمز للجهادية. تم دمغ معاوية من قبل الإنجليز بعلامة رمزية قوية، تلخصت في العبارة التالية: “ذكي جداً، لا يصلح”.
إن التقنيات الشائعة في ممارسة الكولونيالي البارع للّعب بالأدوات المفاهيمية، وفي تقسيم العالم بطريقة مانوية، استخدمت على طول الخط في بناء تمركزات ذات الأوروبي حول نفسه، وفي إدانة الآخر “الدرويش”، وفقاً لمنطق التفوقات “متحضر/همجي، سيد/عبد، أستاذ/تلميذ… الخ”، وكمفاجأة لم يتحسب لها، تخلَّق على أراضي المستعمرات، بفضل جمعيات القراءة، والكتب المسربة بوساطة عمال السكك الحديدية، من يقوم معها بتحويلات متنوعة في اتجاهات عكسية.
قاد ذلك إلى حرمان فعلي لمعاوية من تولي وظيفة بيداغوجية، كالتدريس، على إثر النقاشات التي دارت مع مسؤول بيروقراطي رفيع، اقتصرت مهمته على تقييم معاوية، في مكتبه بوزارة المعارف. وصف إدوارد عطية، في فصلين من كتابه “عربي يحكي قصته”، كيف أن المسؤول لم ترقه معرفة معاوية الغزيرة بالأدب الإنجليزي، التي فاقت معرفته، أثناء مقابلة عمل، تشعبت إلى حوار حول أعمال صموئيل جونسون “1709-1784”. قال البريطاني بشكل مخيب في خواتيم الحوار، محاولاً مداراة عريه الاستعماري، إن جونسون ولد قبل أوانه. بالطبع فإن أي استنتاج يمكن أن يرجّح أنه في دخيلة نفسه لم يقصد جونسون، بل قصد شخصاً آخر. ضمَّن الإداري البريطاني، في وثيقة تقريره إشارات سلبية إلى ربطة العنق الصفراء العالية، التي ظهر بها معاوية.
صورة جانبية لمعاوية، طبعت على الغلاف الخلفي لكتاب صادر عن قسم التأليف والنشر بجامعة الخرطوم، مع نبذة قصيرة حول محتوى الكتاب، يبدو فيها شاباً فتياً وهو يرتدي البدلة الإفرنجية، وربطة عنق أنيقة، لخصت المعايير الجديدة للوسامة الرسمية لفئة الأفندية، التي فرضت نفسها بديلاً لوسامة الشبان الدراويش، وهم في جبة الدمور المرقعة، التي احتفظ منها بعينات في متاحف العالم، كتذكارات من عالم ما قبل إمبريالي.
وبالنسبة إلى رؤى العين ما بعد الاستعمارية؛ يمكن أن تنطوي الصورة على بعد أيقوني هائل وغير مكتشف، ربما يجعلها ممكنة لاستخدامات وطنية متنوعة، كالمسكوكات، وشعارات الجوائز الأدبية ذات الأهمية الحقيقية، وأيقونات المعاهد التي يمكن أن تنشأ لأغراض متخصصة، والأوسمة والنياشين، وغيرها، على غرار وسام جمجمة إنسان سنجة الذي تمنحه الدولة في السودان كتكريم، ولكن للمحاربين في حروبها ضد طواحين الهواء.
من آثار معاوية محمد نور، وهو أيضاً عنوان فرعي لكتاب من 263 صفحة، بعنوان رئيس “دراسات في الأدب الحديث”، صدرت طبعته الأولى في العام سبعين، من سلسلة التراث السوداني، وهو كتاب تم بناؤه على جمع بعض من أعمال ومقالات معاوية، توزعت على موضوعات شتى – نجد صورة بورتريه بالأبيض والأسود، لمعاوية في صباه، وتحتها ثلاثة أبيات من شعر الرثاء، تم اقتباسها من ديوان “أعاصير مغرب” لعباس محمود العقاد، الذي زار الخرطوم في العام 1943، في رحلة بالقطار الذي أقله من القاهرة في اتجاه الجنوب، إلى الخرطوم التي وفرت له ملاذاً آمناً من الجائحة النازية، التي دفعت بالمفكرين في أرجاء العالم إلى الهرب من قبضة هتلر الشقي، الذي اتسم موقف العقاد بمعاداته، ووضع في ذلك مؤلفاً سماه “هتلر في الميزان”، وفي ظلال تلك الحرب الهمجية، كان العقل الأوروبي قد بدأ لتوه، تفحص أسس الأنوار التي انطلق منها على نحو نقدي اجتماعي أعمق للنسخة الأداتية من الحداثة.
كان أول ما قام به العقاد في زيارته الأدبية -التاريخية تلك، التي استمرت أربعين يوماً، وضع إكليل من الزهور على قبر معاوية، اعترافاً بأصالته ونبوغه. قال العقاد في تخليد معاوية، إنه لو لم يمت في الثلاثين من عمره “لكان نجماً مفرداً في سماء الفكر العربي”.
كطليعي أسود؛ يمكن تحويل مقدمة عربة قطار “معاوية أفندي نور”، من محطات الرثاء الحزينة التي ظلت تقدمه كقربان أبدي لغول ذي رؤوس إمبريالية، إلى محطات المقاربات الحية، وكحكاية لإنتاج المعنى، ما بعد الكولونيالي، حول “حرية الفكر وأبطالها في التاريخ”، وهو عنوان لكتاب سلامة موسى الذي كان مدافعاً على ما يبدو عن الطابع الوضعي لمشروع الحداثة. قدم معاوية نقداً لاذعاً للكتاب، وصفه فيه، بهراء محصن تم تركيبه من كتابي تحرير الإنسانية لـ “فان لون”، وتاريخ الحركة الفكرية لـ “ج ب بري”.
معاوية نور لم يكن وهماً، مثله مثل أطياف مصطفى سعيد، التي ما زالت تجول في الأرجاء، ففي كل الخطابات التي ظهرت في أفق استعماري، وكان أبطالها شبان سودانيون، ومعلمون إنجليز، وفتيات إسكوتلنديات؛ تم تركيبهم بطريقة معقدة من تجارب وقعت في الفضاء الاستعماري، لتمثيل العلاقة الشائكة لطلائع المتعلمين مع تجربة الحداثة (نسخة السيطرة والتحكم)؛ ثلاثة منهم كانوا قد تلقوا تعليماً عالياً في أوكسفورد، مثل محمود ود شيخ أحمد، الذي عاد إلى كلية غردون التذكارية ليصبح أستاذاً للفلسفة، ثم أمين ود شيخ أيوب شندي، وزوجته الأسكتلندية “باتريشيا” التي تعرف عليها أثناء دراسته، كسليلة لبيت ليبرالي وزميلة دراسة، وهما شخصيتان اشتغل على بلورتهما إدوارد عطية من مزيج هائل من الوقائع وقصص ناس حقيقيين، بما فيها قصته هو نفسه “إدوارد”، أما الثالث والأخير الذي ورث كل ذلك الركام الوجودي في شخصيته، فهو مصطفى سعيد. الغردونيون الرفيعون الثلاثة، مثلوا انعكاسات لظلال أفلاطونية شائهة، لبطل من لحم ودم في “رواية” وجودية، نسجت خيوطها من العبقرية وقسوة الأم الاستعمارية.
بشغل تثقيف ذاتي مضن، وملكة نقد وطنية حاذقة، استطاع معاوية أن ينجح في التحرر من أغلال برنامج التربية الأداتي، الذي قام بتصميمه دهاقنة التربية والتعليم الإنجليز، في الأقسام الخاصة بوضع المناهج في أرجاء الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، من خلاصات لهجين مضطرب من نظريات التربية، تأسست على أرضية سجالات ونقاشات محمومة، ثقافية وأكاديمية، حول طبيعة ما يجب أن يتم تعليمه وما لا يجب أن يعلم للشعوب الأفريقية، بوصفها شعوباً متأخرة، بلغت أقصى غاياته إنتاج نسخ مصغرة لأفندية يتحركون بوحي من عقلانية “أداتية/عملية”، تنهض على أرضية هشة لمزيج من “شبه فلسفات” محلية مع ليبرالية مخففة، مغطاة جيداً بالطرابيش الحمراء.
مضي معاوية أبعد من ذلك بكثير، بحيث انهمك في القيام بتطوير إستراتجيته النقدية الخاصة، التي بناها باستخدام ترسانة واسعة من القراءات والمطالعات في الآداب الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية، وأدب أمريكا اللاتينية، والأدب العربي، وفي الفلسفة، والسياسة والفنون، والنظريات النقدية، وكل ما يمكن أن يتمخض عن “نهضة صحيحة”. شغف نور بالكتاب طيلة أوقات الرخاء التي عاشها في كنفه عائلته الأمدرمانية ميسورة الحال، التي وفرت حاضنة رؤوم لتفتح عقله الغض، وفي أزمنة الشظف في القاهرة، التي اضطر فيها للاقتراض ليشتري الجبن الرخيص والخبز كسائر الأدباء النبلاء.
ظل مرأى غلاف لازوردي لكتاب معروض في واجهة زجاجية، لم يمتلك ثمنه، مصدراً لحسرة عظيمة اعترته، خلد ذكراها في مقال له بعنوان “أنا والكتاب”، تلك الحسرة ربما لا تفوقها سوى حسرة صديقه العقاد الذي اضطر لبيع 300 كتاب من مكتبته الخاصة، لتمويل رحلته بالقطار في اتجاه الجنوب، بعد معركة العلمين، هروباً من النازية إبان فترة صعود الفاشيست والنازية، واندلاع الحرب العالمية الثانية، في الأوقات تلك، وفي مكتب البريد، أسس إدوارد عطية نواة لإذاعة “هنا أم درمان”، ووجهها بالكامل للهجوم على النازي.
بناء مكتبة منزلية صغيرة، تحول لاحقاً إلى “موضة”، وجزء من التقاليد الشائعة في بيوت الأفندية الغردونيين، الذين سرعان ما طوروا بشكل عام نمط بناء مختلف للمكتبات في بيوت الطبقة الوسطى، بحيث لم تستطع النخبة المثقفة حتى اليوم، أن تقدم برنامجاً لتكوين المثقفين، مثل الذي يمكن اقتقاء أثره في مقالات معاوية، التي انكب على تدوينها منذ كان طالباً ينشر باسم مستعار “مطالع ” في جريدة الحضارة السودانية، ثم وهو في الثامنة عشرة من عمره في الجامعة الأمريكية ببيروت، ومن بعد ذلك أثناء نشاطه الكثيف لوقت قصير في الصحافة المصرية.
يقول العقاد، الذي قام بتأليف كتابه “عبقرية عمر” في زيارته إلى السودان، إنه لم يطلب من المثقفين السودانيين مرجعاً أو كتاباً في الصباح، إلا ووفروه له في المساء.
من طابية النقد الحصينة، تناول معاوية الفلسفة، في مقالة تمتلك أهميتها اليوم في تاريخ الفلسفة في سودان ما بعد الاستعمار، كحلقة وصل للفلسفة بتاريخ انقطاعها الطويل والتام، الذي عاشته في سودان وادي النيل، الذي مثل مهداً للفلسفة، سبق اليونان بكثير على حد زعم مارتن برنال، حول أثينا السوداء، التي سبقت أثينا “النموذج” الناهضة على أعمدتها المركزية الأوروبية.
إلى جانب قيامه بعرض عدة كتب، اهتمت بكيفية التفكير، في مقالات متفرقة هنا وهناك، فإن مقالات معاوية ذات المنهجية الديكارتية في العمق، جعلته ينشر على جزأين في جريدة السياسة الأسبوعية، في أكتوبر من العام 1930 تلخيصاً مدهشاً لمعارف أفندي فلسفية، المقالات نشرت تحت العنوان الرئيس “عالم القيم والنظريات”، وبعنوان فرعي
“في الفلسفات والفنون”.
وعى نور باكراً لعبة الفلسفة، التي ظلت تقوم بها على مر العصور، في كونها تلد نفسها من نفسها، من خلال القيام بتعميمات لقمم الفكر في كل عصر فلسفي، وأقام إلى جانب ذلك تميزات باكرة، بين كل من الفلسفة والدين والعلم والفنون.
ورغم أن معاوية، من موقعه كأديب، انتصر للفنون، وأسس لاعتبارها موقفاً منتجاً للمعرفة بالذات والآخر والعالم والوجود؛ إلا أنه ركز على موقفه الحاسم حول أهمية الفلسفة في بناء مشروعه الشخصي، ومنحها القدح المعلى.
إن وعي معاوية الحاد والباكر، بأزمة العقل الغربي، جعله يدخل في مساءلات باردة وواثقة مع ما أنتجته من خطابات ومقولات وآداب. ذكرت وثائق الزنكوغراف تلك، في شغلها على بناء معاوية كمصدر لخطر تنويري وتربوي محتمل، أنه في حال عودته فإن الموت العقلي ولا شيء سواه، هو الذي ينتظره في خرطوم نهاية الثلاثينيات، التي تنتمي إلى أزمنة أخرى، ومع ذلك فإن معاوية اختار العودة والنهاية العقلية، على طريقة “الجلوس على التبروقة حينما تخسر المعركة”، التي كانت سائدة في السودان كتقليد شجاعة، وفعلها خليفة المهدي عبد الله التعايشي في آخر حروب المهدية.
ركزت الوثائق على لقاء صحفي وكتابات كان قد أجراها معاوية مع الأديب الفرنسي “أندريه موريه” في غرفته بفندق شيبرد، عنوانها ساعة مع موريه، أظهرت تفوقاً كاسحاً لمعاوية على أقرانه في مصر، وتحقيقه لاتصال عقلي وثيق بروح الغرب، وعلى ما يبدو أن أعمال موريه الأدبية الواسعة، اكتسبت أهميتها من خلال اشتغالها على تحديد هوية الأنا الاستعمارية ضمت موضوعات مثل: صمت الكولونيل، من هو الإنجليزي؟ من هو الأمريكي؟
قارة الشمس والضياء
إلى جانب أبناء الأسر السودانية الجيدة، لم تذكر الوثائق إلا بالكاد بعض الطلاب الصوماليين من مستعمرات شرق أفريقيا، بتكليف من مكتب المستعمرات البريطانية، وبعد زيارته إلى شرق أفريقيا لإعداد تقرير حول مسألة التعليم فيها، تحول إلى مادة كتاب مهم عن طبيعة الفلسفات التي نهضت عليها نظريات التعليم الاستعمارية، التي تم تطبيقها على الشعوب الأفريقية المتأخرة وفقاً لمعايير المركزية الغربية؛ فإن عالم البيولوجيا الوريث لتقاليد جده الداروينية، جوليان هكسلي (حصل لاحقاً على لقب سير نظير خدماته الجليلة في خدمة المملكة المتحدة، كما ترأس أول إدارة لليونسكو التي أسهم في بلورة فكرتها)، لم يكتف بتسليم تقريره ذي الروح الليبرالية، بل مضى ليقوم بوضع كتابه الصادر في العام 1930 بعنوان “أفريكا فيو”- عرض لأفريقيا.
حول كتاب هكسلي، وفي مقالته المكتوبة في غضون ذلك العام تقريباً التي عنونها معاوية بمستقبل أفريقيا، عرض لتلك النظريات بروح نقدية واثقة ومرحة، حيث ذكر أن الإنجليز دوناً عن مخلوقات الله الاستعمارية الأخرى، عرفوا ببغضهم للمنطق والفكر في تطبيق سياساتهم، التي اعتمدوا فيها على منهج التجربة والخطأ، فأحياناً تجدهم لا يميلون إلى تعليم اللغة الإنجليزية للشعوب الأفريقية، كونها أداة لمعرفة كثير من الأسرار التي يرغبون في أن تستأثر بها أوروبا وحدها، وأحياناً تجدهم يبدون تخوفاً من تضخم اللغات المحلية، وما يلازم ذلك من نمو روح القومية في نفوس تلك الشعوب، وفي ما يخص الأديان تجدهم تارة مع نشر تعاليم الإسلام التي يعتقدون أنها تدعو إلى الخضوع والاستسلام، ولا يحبون نشر أفكار المسيحية لأنها تعلم الإخاء والمساواة، وتارة هم مع تعليم العمل اليدوي فقط لما فيه من تحقيق للربح، وهناك أصحاب نظرية الوحش النبيل، المستوحاة من تعبير جان جاك روسو الشعري، “لندعهم وشأنهم كوحوش نبيلة”، وهناك من هم مع تعليم الأفارقة علوم الحياة، كالأنثربولوجيا والبيولوجيا وغيرها، ومنهم من يقول اتركوا هذه الشعوب لتتقدم بنفسها عن طريق عاداتها وخرافاتها وطرق تعليمها التقليدية.
حكاية موازية
من الوظائف العجيبة التي تركت أثراً مكتوباً في تاريخ السودان، وظيفة قلم مخابرات، وهي قد تعني كاتباً من نوع ما. اثنان من أصول لبنانية عملا بهذه الوظيفة، ودونا من خلالها الكثير من الوقائع، الأول هو نعوم بك شقير الذي تلقى تعليمه بالكلية الإنجيلية السورية، أصبحت لاحقاً الجامعة الأمريكية ببيروت، والتحق بحملة إنقاذ غردون المتأخرة، ما أتاح له كتابة سفره الضخم “جغرافيا وتاريخ السودان”، وهو كتاب من الحجم الكبير جداً، الذي يمكن أن تتضمنه مكتبة أفندي وعقله في زهو. والثاني هو إدوارد سليم عطية، الذي عمل في بداية أمره كمعلم غردوني عطوف، ثم قلماً للمخابرات، ومؤسساً لإذاعة صغيرة في مكتب البريد، تعمل في بث الدعاية المضادة للنازية إبان الحرب العالمية الثانية (إذاعة هنا أم درمان)، بعد تقاعده من العمل في السودان الذي قضى فيه سنوات برفقة زوجته الأسكتلندية، جيني، وبوحي من الوقائع التي شارك فيها في السودان، اشتغل على كتابة مذكراته، وسماها “عربي يحكي قصته”، ضمنها فصلين كاملين عن تلميذه وخدن روحه، معاوية محمد نور، ترجمت المذكرات إلى العربية بوساطة مترجم سوداني، ثم من بين كتب أخرى عدة نشر روايته، التي وصفتها بوسترات دعاية الكتب في لندن بأنها أول رواية بالإنجليزية يكتبها عربي “الطليعي الأسود”black vinguard ونشرت طبعتها الأولى والأخيرة في لندن 1952 عن دار “بيتر دافيس”، وتوجد نسخة مستعملة منها بـ 75.47 دولار أمريكي، معروضة على موقع لبيع الكتب في الإنترنت، ويمكن معاينتها عبر صورة غلاف بورق أبيض صقيل تضم شاباً أسود مشيحاً بوجهه، وفتاة بيضاء مقبلة نحوه، بشعر أشقر وترتدي تنورة بيضاء تظهر ساقين مصقولتين، وخلفها ظلان لرجل أسود وامرأة سوداء في ثوب الزفاف.
ومع التخلف الشديد لحركة الترجمة في السودان، إلا من بعض إشراقات مثل هنري رياض والجنيد علي عمر، فإن الطليعي الأسود ظلت معتمة بالكامل بما فيها من الأبطال الذين تواروا بعيداً ليصعد على أكتافهم مصطفى سعيد، وجين مورس، وآخرون.
صورة الفوتوغرافيا الثالثة لمعاوية، لم تلتقط قط، فبعد أن استقر في الخرطوم، أجرى عملية جراحية للبواسير، ولكنها لم تكلل بنجاح تام، ثم تجرع معاوية في أحد المستشفيات دواء ما، أدى لفقدانه شعر رأسه، ثم بدأ يعاني من آلام حادة في أسنانه، قرر على إثرها خلعها جميعاً، وفي نهاية الأمر، وفي زيارة قام بها عطية إلى تلميذه، أخبره معاوية بأن ثمة خلل ما قد أصاب عقله، وأنه بدأ يتلقى نوعاً من العلاج على يد “فكي” تقليدي يدعى مرفعين الفقراء، يستخدم تقنيات الجلد بالسياط، وماء تم محو آيات من القرآن عليه. فقد معاوية وسامته وعقله معاً، ولم يبق له شيء.
بعد سنوات من تلك الذكرى الموجعة، والتحولات التي تؤدي إلى مسخ الكائنات، كتب إدوارد سليم عطية، في كتابه “عربي يحكي قصته” وفي نهاية الفصل الثاني الذي خصصه لتلميذه معاوية نور: “ولقد عاد معاوية أخيراً إلى ارتداء الملابس السودانية الشعبية. ومثل هذا التحول ما كان له في الأحوال العادية أن يثير انتباهي، ولكنه بدا لي الآن رمزاً لانقلاب كامل في عقل معاوية وتجربته المعرفية، فوراء تلك الملابس الشعبية بدت لي مخايل ثقافته الكونية الكلية وهي تتفكك وتتآكل. وتماماً على خطى الإمبراطور “جونتر” وهو في هلعه المتصل بليلته الطويلة تلك التي قضاها في شعاب الغاب، جاء معاوية مضطرباً متعثراً مبعثر العقل، وأخذ يطوح بكل ما علق بواعيته من أكسية الفكر الغربي، مفضلاً حالة العري البدائي المرتجف. ولم يتمكن “الفكي” من علاجه، بل تفاقم أمره إلى حالة جنون مطبق، ثم ما لبث أن مات”.
تمضي الحياة في سودان ما بعد الاستعمار نحو إكمال قرن كامل من دورة الزمان على تلك الوقائع التي كان بطلها معاوية، حيث ما يزال السودان يتطلع لقيام نهضة متعثرة تنكبت نخبته الطريق إليها، تقلصت أقاليم السكة الحديد وتعطلت معظم القاطرات الحديدية، القاطرة كتشنر تم الاحتفاظ بها في متحف تاريخ سكك الحديد بعطبرة، وبالكاد يزوره أحد ما، النمر الصغيرة لم تعد تتم فيها عمليات تحويل من أي نوع، كون القطارات القليلة الباقية تمضي في اتجاه واحد فقط، جيئة وذهاباً، مبنى الكلية التذكارية لم يتوسع كثيراً ولكنه ضم كلية للآداب تدرس الفلسفة بطريقة رديئة، ويطارد أساتذتها الطلاب في أركان النقاش.
كتب أديب مصري يدعى أنور وجدي، وهو ينقب عن أدباء مغمورين عثر بينهم على كنز معاوية: “إنني أتطلع إلى حفل ضخم يقام في الخرطوم من أجل إحياء ذكراه، وطبع آثاره، والتنويه به”، كما أن الصورة الأيقونية شبه اليتيمة، يمكن أن تستخدم كأيقونة لمدرسة معاوية نور لدراسات ما بعد الاستعمار.
كتب معاوية بعين مسافر على متن قطار، وهي عين شائعة في وسط أدباء ذلك الزمان، الذي كان كل من فيه يسافر شمالاً، وفي المقطع الأخير لقصة عنوانها “مأساة”: “وابتعد القطار وصورة ذلك المشهد لا تفارق نظري، ونغم ذلك الجرس الصارخ المملوء لوعة وأسى “شا… آ أي” ما زال يرن في أذني. وإذا بصراخ بعض أفندية القطار يقطع علي تفكيري، فهو ينادي الجرسون “واحد بيرة بس خلي الثلج يكون كثير”، ورأيت هناك نفراً من الموظفين الإنجليز وهم جالسون في غرفة الطعام يتكلمون بسرعة ويتبادلون النكات المضحكة ويدخنون بينما القطار في عدوه”.