العنوان هو الزهرة التي تزين حديقة العمل، والتي تجذب القارئ للدخول في عالم العمل، حتى لو كان لا يعرف مبدعه أو لم يقرأ له من قبل. نعم، إن اهتمامات القراء تتباين، ومن الصعب أن تجد العنوان الذي تقع في أسره كل الأذواق، لكن أحيانا يكون الكاتب يقصد أن يختص نوعا من القراء، وينجح في تحويل اهتمامهم إليه.
وهذا ما فعله معي عنوان ديوان (الشعر امرأة) للشاعرة علياء زين الدين. فأنا من المهتمين بالأنوثة ودورها في الحياة والذي أراه عميقا بعمق وجود الحياة نفسها. وليس أدل على عمقه من أن الإنسان البدائي أول ما عبد وألّه عبد الأنثى؛ فقد خرج للوجود ليجده جاء من بطن امرأة ترعاه وتسهر عليه.
تقول عالمة الآثار في جامعة كاليفورنيا" ماريا غيمبوتاس" إنه عُثر على 30 ألف تمثال صغير لأنثى من الرخام والطين والنحاس والذهب في ثلاثة آلاف موقع شرق أوروبا فقط، كما أن هناك العديد من التماثيل الأنثوية الصغيرة التي تُبرز الأثداء والسُّرات والفروج، وتكون عادةً في وضع القرفصاء المميز للولادة، عُثر عليها في (كاتال هويوك (تركيا حاليًا في الألف السابعة قبل الميلاد، وفي أماكن أخرى مثل وادي دون في روسيا، والعراق والأناضول.
كل هذه الأدلة الأثرية التي تحتفي بالجنسانية الأنثوية وتقدسها وتشير إلى عبادة واسعة الانتشار في تلك المناطق، ويمكن معرفة الأهمية الدينية لهذه التماثيل عن طريق المادة الأسطورية والأدبية الخاصة بتلك الفترة: وتدلل بعبادة عشتار ونصوص مقدسة تليت كصلوات لهاعند الكنعانيين منذ أكثر من سبعة آلاف سنة .
وهناك العديد من الأدلة التي تشير إلى انتشار عبادة الآلهة الأم وتبجيلها." كما أنه لم يكن غريبا عبادة آلهة إناث في أماكن ومجالات شتى وغالبا ارتبطت الأنوثة بآلهة كثيرة عند المصريين القدماء والكنعانيين، وحضارة سوريا وبلاد الشام مثل "ماعت" للعدالة، أو "حت حور" للحب والأمومة والجمال وصورت الإلهة نوت، إلهة السماء، والتي خلقت الذكور والإناث على شكل امرأة عارية.
وصورت آلهات كثيرة للخصب والعلم والرعاية والرقى، ويمكن مراجعة الألهة عند المصريين القدماء للوقوف على هذه التفاصيل؛ حتى أنه تم تصوير آلهة ذكور وبهم ميل لصفات أنثوية كما كان الإله حابي إله الخصب والنيل في مصر القديمة ولهذا دلالته الرمزيه عن قيمة الأنثى في المجتمعات الأولى. والشاعرة فعلا ترى في ديوانها ان التاريخ كان نهار الأنثى الذي سرق منها :"أَيُّهَا النَّهَارُ /كُلَّمَا سَرقَ الكَنَارِي اللُّؤْلُؤَ مِنْ مَحَارَتِي/ كَشَفْتَ الضِّياءَ عَنِ الْبَحْرِ /أَسْقَطْتَ الْمَرجَانَ فَوْقَ جُزُرِ الْفَيُروزِ" ولكنها ترى أنه غياب مؤقت كاستراحة المحارب "لِتَأخُذَ العَذَارَى قَيلُولَتَها
قُربَ الْمِهَارِ المُبْتَلَّةِ".
ترى"غيردا ليرنر" في كتابها "نشأة النظام الأبوي" أن التحول من النظام الأنثوي مر بمراحل كثيرة لا علاقة لها بالتكوين البيلوجي والنفسي بل هو ظروف سياسية واقتصادية.
كل هذا جعلني انجذب وأدخل في عالم ديوان " الشعر أمرأة" ولما لا يكون الشعر امرأة إذا كانت الأم امرأة والحبيبة امرأة والحياة الطيبة نفسها امرأة؟ "تَشُقُّ دَرْبَ التَّبَّانَةِ بِعِطْرِ الَأزَلِ"
من الملاحظات المبدئية في الديوان أن الشاعرة بدأت بقصيدة معنونة "أيها الظلام" تغلب عليها شعرية التغني بالذات الحاضرة في الزمن الحالي وظللت صفحاتها بالأسود لتظل حروف الكتابة وحدها بيضاء وكأنه حضور مخفي تحت نقاب أو حضور نائم لايستيقظ منه سوى حلم يقف بين الماضى الذي يؤكده والمستقبل المرجو أن يؤكده
"أيُّهَا الظَّلامُ /مِنْ أيْنَ تَأتِي بالْعِنَادِ؟ /أَخْفَيتَ حَبَّاتِ الْكَرزِ /أَخْرسْتَ قِطَطِي الْبَرِيئَةَ /أَيْنَ عُصْفُورٌ وَاعَدَنِي خِلْسَةً؟ /أَيْنَ أُقْحُوَانَةٌ اسْتَحَلَتْ سَاعِدِي؟ /النَّسِيمُ الْحُلْوُ يَرتَجِفُ فَوْقَ خَدَّيَّ /فِيمَا أَسِيُر فَوْقَ رَابِيةٍ"
ويبدوا أن الإحساس بدور الأنثى المغيب هو إحساس ملح ويقيني يكون ركنا من أركان الرؤيا عند الشاعرة أكدته في مقاطع كثيرة تصل لحد الوضوح في قولها "يَوْمَ اقْتَسَمُوا مِيَراثَ الصَّمْتِ /وَضَعُونَا فِي أَقْبِيةِ الطَّاعَةِ /حَتَّى كَبِرنَا مُخْتَنِقَاتٍ
هَكَذَا نَبَتَ الزَّرْعُ فَوْقَ جُلُودِنَا /عَلِيلا لا يَعْرِفُ ضَوْءَ الشَّمْسِ /لِنَعْتَرِفْ يَا صَدِيقَتِي
أَنَّنَا بَنَاتُ المُخَادِعِينَ /الْحَالمِينَ بِرغِيفٍ وَذِرَاعٍ طَرِيٍّ"
. ثم جاءت قصيدة "أيها النهار، والتي جاءت بعدها قصائد مكتوبة بحروف منقوشة على الصفحات البيضاء تحتفي بتاريخ الأنوثة على مر الأزمنة في كل الحضارات مثل: "سافو"، "بيلتي" ، "هيباتيا"، "جاندارك" وهن سيدات يمثلن الشاعرية والأناقة والأخلاق والفلسفة والمعرفة وعمق الانتماء الذي يصل لدرجة القداسة التي وهبت الحياة الاستمرار والصمود. ورغم الحضور الاحتفالي التذكاري لتلك الشخصيات فإن هناك الحضور الشعري الذي يتوحد بأعماق تلك الشخصيات فالوجود ليس مجرد قشرة شكلية، إنه تجربة قاسية تمنح الفلسفة؛ خاصة أن الحياة مقترنة بالموت "المَوْتُ خَائِنٌ أَجْبَرنِي /على امْتِهَانِ الْيقِينِ فِي قَعْرِ الْعَدَمِ /وَحْدَهُ قَلْبِي عَادَ مِنْ هُنَاكَ
مُغَّيِرا دَمَهُ إِلَى ضَوْءٍ" إن الرجوع لتاريخ تلك الشاعرة "سافو" الموسيقية المربية يخبرنا أنها حولت طاقتها لمحاربة الموت "_والذي تراه "شرا مطلقا"_ بالدعوة للجمال والحب بل انها امتهنت التربية الروحية والجنسية لبنات جيلها.
والشاعرة تؤكد على الحب كقيمة مقاومة للفناء "لَنْ يَعْرِفُوا الْحُبَّ يَا" بيليتيسُ"
أَطْعِمِيهُمْ مَوَائِدَكِ لِيرِقَّ جِلْدُهُمْ /قَبْلَ أَنْ يَجِزُّوا التِّلَالَ بِالمَنَاجِلِ /قَبْلَ أَنْ يَصُبُّوا الْحَدِيدَ سَكَاكِينَ /قَبْلَ أَنْ يُتْقِنُوا الشَّر فِي مَحَارِيبِ /الْعِبَادَةِ /قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى مَمَالِكَ مِنْ رَمَادٍ" إن في "اطعميهم موائدك ليرق جلدهم" إشارة إلى دور الأنوثه في تخفيف قسوة العالم على الأحياء، القسوة التي تصيبهم بالتبلد. وهنا تحضر الأنوثة كمعادل لقسوة الوجود. الوجود الذي"فِي انْتِظَارِ فَراشَةٍ تَحُطُّ فَوْقَ شَوْكَةٍ /يَابِسَةٍ /فِي انْتِظَارِ أَلَمٍ يُعَادِلُ الَأرْضَ /فِي انْتِظَارِ مَوْتٍ مَا".
ولا تتورع الأنثى ان تقدم نفسها قربانا فداء للحياة كما قدمت هيباتيا نفسها وكما تقدم الشاعرة نفسها فداء "اللَّيلَةَ خَلَعْتُ أَسَاوِرِي الْعَاجِيَّةَ /وأَلْقَيتُ خَاتَمِي الفِضِّيَّ أَمَامَ الصَّيَّادِيِن /لِتَشْغَلَهُمْ رَائِحَتِي /عَنْ غَزَالٍ خَبَأتُهُ فِي سُرَّتِي" .
والشاعرة ترى أن الأنثى إذا فنيت فنى الوجود نفسه فلا حياة بلا امرأة، رغم هذا هي تمنح الحياة وتنكر ذاتها "الْمَرأَةُ أَرَقُّ مِنْ أَنْ تَعْتَرِفَ /أَنَّهَا مَنْ خَلَقَتْ الماءَ عَلَى شَاكِلَتِهَا /وَأَنَّكَ أيُّهَا الْمَوْتُ /قُبْلَةٌ فَوْقَ شِفَاهِ العَدَم" هل يمكن تصور الحياة بلا ماء؟ إن الماء سر الوجود والأنثى سر الماء كما صورت الشاعرة الأنوثة تحدي الموت.
ولأن رؤيا الشاعرة تتأرجح بين الشعر والفلسفة فقد كان للحزن حضور ينتشر في ثنايا القصائد حتى يطغى الشعر على التفلسف فتفرد الشاعرة للحزن قصيدة: والحزن له أبواب كثيرة لكنها في قلب الشاعرة أبواب تفتح على العام فيأتي الحزن خاصا لكنه ليس على خاص: "لا أَسْتَيقِظُ /لا أَنَامُ /لَيسَ لأنِّي رَبِيبَتُكَ" إنه الأرق الوجودي الشديد الحساسية والذي جعل الصورة اللفظية تتحول لمشهد تراجيدي شديد القسوة في الجملة التالية للجملة السابقة " وَإنَّمَالأنَّ الْحَدِيدَ الَّذِي سَقَطَ مِنَ الْفَضَاءِ /مَازَالَ مُصِرًّا عَلَى شَحْذِ سِكِّينِهِ /فِي جُمْجُمَتِي". هناك أحزان كثيرة تغلف الديوان فالحزن على الفقد لا يقل عنه الحزن على الحب؛ فالحب رغم أنه دواء المنغصات هو مصيدة القلوب يقدمها قرابين للألم لكن بوجه عام فالخسارة مهما كانت قاسية لا تقارن بالمكاسب فالحب" أَصَابِعُنَا المَقْطُوعَةُ تَسُدُّ أَنْفَ الْقُبْحِ /قِربُنَا المَثْقُوبَةُ فَوْقَ الّرِمَالِ" هكذا ترى الشاعرة أنه لا مناص من أن نضحي بالأصابع مقابل التخلص من القبح وبالحياة الشخصية مقابل التخلص من التصحر العام. فالحب" الْحُبُّ تِلْكَ الْفَراشَةُ الَّتِي قَسَمَتْ
جَبْهَتِي نِصْفَينِ".
https://www.facebook.com/aboabdo.sefo/posts/3463294987091459
وهذا ما فعله معي عنوان ديوان (الشعر امرأة) للشاعرة علياء زين الدين. فأنا من المهتمين بالأنوثة ودورها في الحياة والذي أراه عميقا بعمق وجود الحياة نفسها. وليس أدل على عمقه من أن الإنسان البدائي أول ما عبد وألّه عبد الأنثى؛ فقد خرج للوجود ليجده جاء من بطن امرأة ترعاه وتسهر عليه.
تقول عالمة الآثار في جامعة كاليفورنيا" ماريا غيمبوتاس" إنه عُثر على 30 ألف تمثال صغير لأنثى من الرخام والطين والنحاس والذهب في ثلاثة آلاف موقع شرق أوروبا فقط، كما أن هناك العديد من التماثيل الأنثوية الصغيرة التي تُبرز الأثداء والسُّرات والفروج، وتكون عادةً في وضع القرفصاء المميز للولادة، عُثر عليها في (كاتال هويوك (تركيا حاليًا في الألف السابعة قبل الميلاد، وفي أماكن أخرى مثل وادي دون في روسيا، والعراق والأناضول.
كل هذه الأدلة الأثرية التي تحتفي بالجنسانية الأنثوية وتقدسها وتشير إلى عبادة واسعة الانتشار في تلك المناطق، ويمكن معرفة الأهمية الدينية لهذه التماثيل عن طريق المادة الأسطورية والأدبية الخاصة بتلك الفترة: وتدلل بعبادة عشتار ونصوص مقدسة تليت كصلوات لهاعند الكنعانيين منذ أكثر من سبعة آلاف سنة .
وهناك العديد من الأدلة التي تشير إلى انتشار عبادة الآلهة الأم وتبجيلها." كما أنه لم يكن غريبا عبادة آلهة إناث في أماكن ومجالات شتى وغالبا ارتبطت الأنوثة بآلهة كثيرة عند المصريين القدماء والكنعانيين، وحضارة سوريا وبلاد الشام مثل "ماعت" للعدالة، أو "حت حور" للحب والأمومة والجمال وصورت الإلهة نوت، إلهة السماء، والتي خلقت الذكور والإناث على شكل امرأة عارية.
وصورت آلهات كثيرة للخصب والعلم والرعاية والرقى، ويمكن مراجعة الألهة عند المصريين القدماء للوقوف على هذه التفاصيل؛ حتى أنه تم تصوير آلهة ذكور وبهم ميل لصفات أنثوية كما كان الإله حابي إله الخصب والنيل في مصر القديمة ولهذا دلالته الرمزيه عن قيمة الأنثى في المجتمعات الأولى. والشاعرة فعلا ترى في ديوانها ان التاريخ كان نهار الأنثى الذي سرق منها :"أَيُّهَا النَّهَارُ /كُلَّمَا سَرقَ الكَنَارِي اللُّؤْلُؤَ مِنْ مَحَارَتِي/ كَشَفْتَ الضِّياءَ عَنِ الْبَحْرِ /أَسْقَطْتَ الْمَرجَانَ فَوْقَ جُزُرِ الْفَيُروزِ" ولكنها ترى أنه غياب مؤقت كاستراحة المحارب "لِتَأخُذَ العَذَارَى قَيلُولَتَها
قُربَ الْمِهَارِ المُبْتَلَّةِ".
ترى"غيردا ليرنر" في كتابها "نشأة النظام الأبوي" أن التحول من النظام الأنثوي مر بمراحل كثيرة لا علاقة لها بالتكوين البيلوجي والنفسي بل هو ظروف سياسية واقتصادية.
كل هذا جعلني انجذب وأدخل في عالم ديوان " الشعر أمرأة" ولما لا يكون الشعر امرأة إذا كانت الأم امرأة والحبيبة امرأة والحياة الطيبة نفسها امرأة؟ "تَشُقُّ دَرْبَ التَّبَّانَةِ بِعِطْرِ الَأزَلِ"
من الملاحظات المبدئية في الديوان أن الشاعرة بدأت بقصيدة معنونة "أيها الظلام" تغلب عليها شعرية التغني بالذات الحاضرة في الزمن الحالي وظللت صفحاتها بالأسود لتظل حروف الكتابة وحدها بيضاء وكأنه حضور مخفي تحت نقاب أو حضور نائم لايستيقظ منه سوى حلم يقف بين الماضى الذي يؤكده والمستقبل المرجو أن يؤكده
"أيُّهَا الظَّلامُ /مِنْ أيْنَ تَأتِي بالْعِنَادِ؟ /أَخْفَيتَ حَبَّاتِ الْكَرزِ /أَخْرسْتَ قِطَطِي الْبَرِيئَةَ /أَيْنَ عُصْفُورٌ وَاعَدَنِي خِلْسَةً؟ /أَيْنَ أُقْحُوَانَةٌ اسْتَحَلَتْ سَاعِدِي؟ /النَّسِيمُ الْحُلْوُ يَرتَجِفُ فَوْقَ خَدَّيَّ /فِيمَا أَسِيُر فَوْقَ رَابِيةٍ"
ويبدوا أن الإحساس بدور الأنثى المغيب هو إحساس ملح ويقيني يكون ركنا من أركان الرؤيا عند الشاعرة أكدته في مقاطع كثيرة تصل لحد الوضوح في قولها "يَوْمَ اقْتَسَمُوا مِيَراثَ الصَّمْتِ /وَضَعُونَا فِي أَقْبِيةِ الطَّاعَةِ /حَتَّى كَبِرنَا مُخْتَنِقَاتٍ
هَكَذَا نَبَتَ الزَّرْعُ فَوْقَ جُلُودِنَا /عَلِيلا لا يَعْرِفُ ضَوْءَ الشَّمْسِ /لِنَعْتَرِفْ يَا صَدِيقَتِي
أَنَّنَا بَنَاتُ المُخَادِعِينَ /الْحَالمِينَ بِرغِيفٍ وَذِرَاعٍ طَرِيٍّ"
. ثم جاءت قصيدة "أيها النهار، والتي جاءت بعدها قصائد مكتوبة بحروف منقوشة على الصفحات البيضاء تحتفي بتاريخ الأنوثة على مر الأزمنة في كل الحضارات مثل: "سافو"، "بيلتي" ، "هيباتيا"، "جاندارك" وهن سيدات يمثلن الشاعرية والأناقة والأخلاق والفلسفة والمعرفة وعمق الانتماء الذي يصل لدرجة القداسة التي وهبت الحياة الاستمرار والصمود. ورغم الحضور الاحتفالي التذكاري لتلك الشخصيات فإن هناك الحضور الشعري الذي يتوحد بأعماق تلك الشخصيات فالوجود ليس مجرد قشرة شكلية، إنه تجربة قاسية تمنح الفلسفة؛ خاصة أن الحياة مقترنة بالموت "المَوْتُ خَائِنٌ أَجْبَرنِي /على امْتِهَانِ الْيقِينِ فِي قَعْرِ الْعَدَمِ /وَحْدَهُ قَلْبِي عَادَ مِنْ هُنَاكَ
مُغَّيِرا دَمَهُ إِلَى ضَوْءٍ" إن الرجوع لتاريخ تلك الشاعرة "سافو" الموسيقية المربية يخبرنا أنها حولت طاقتها لمحاربة الموت "_والذي تراه "شرا مطلقا"_ بالدعوة للجمال والحب بل انها امتهنت التربية الروحية والجنسية لبنات جيلها.
والشاعرة تؤكد على الحب كقيمة مقاومة للفناء "لَنْ يَعْرِفُوا الْحُبَّ يَا" بيليتيسُ"
أَطْعِمِيهُمْ مَوَائِدَكِ لِيرِقَّ جِلْدُهُمْ /قَبْلَ أَنْ يَجِزُّوا التِّلَالَ بِالمَنَاجِلِ /قَبْلَ أَنْ يَصُبُّوا الْحَدِيدَ سَكَاكِينَ /قَبْلَ أَنْ يُتْقِنُوا الشَّر فِي مَحَارِيبِ /الْعِبَادَةِ /قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى مَمَالِكَ مِنْ رَمَادٍ" إن في "اطعميهم موائدك ليرق جلدهم" إشارة إلى دور الأنوثه في تخفيف قسوة العالم على الأحياء، القسوة التي تصيبهم بالتبلد. وهنا تحضر الأنوثة كمعادل لقسوة الوجود. الوجود الذي"فِي انْتِظَارِ فَراشَةٍ تَحُطُّ فَوْقَ شَوْكَةٍ /يَابِسَةٍ /فِي انْتِظَارِ أَلَمٍ يُعَادِلُ الَأرْضَ /فِي انْتِظَارِ مَوْتٍ مَا".
ولا تتورع الأنثى ان تقدم نفسها قربانا فداء للحياة كما قدمت هيباتيا نفسها وكما تقدم الشاعرة نفسها فداء "اللَّيلَةَ خَلَعْتُ أَسَاوِرِي الْعَاجِيَّةَ /وأَلْقَيتُ خَاتَمِي الفِضِّيَّ أَمَامَ الصَّيَّادِيِن /لِتَشْغَلَهُمْ رَائِحَتِي /عَنْ غَزَالٍ خَبَأتُهُ فِي سُرَّتِي" .
والشاعرة ترى أن الأنثى إذا فنيت فنى الوجود نفسه فلا حياة بلا امرأة، رغم هذا هي تمنح الحياة وتنكر ذاتها "الْمَرأَةُ أَرَقُّ مِنْ أَنْ تَعْتَرِفَ /أَنَّهَا مَنْ خَلَقَتْ الماءَ عَلَى شَاكِلَتِهَا /وَأَنَّكَ أيُّهَا الْمَوْتُ /قُبْلَةٌ فَوْقَ شِفَاهِ العَدَم" هل يمكن تصور الحياة بلا ماء؟ إن الماء سر الوجود والأنثى سر الماء كما صورت الشاعرة الأنوثة تحدي الموت.
ولأن رؤيا الشاعرة تتأرجح بين الشعر والفلسفة فقد كان للحزن حضور ينتشر في ثنايا القصائد حتى يطغى الشعر على التفلسف فتفرد الشاعرة للحزن قصيدة: والحزن له أبواب كثيرة لكنها في قلب الشاعرة أبواب تفتح على العام فيأتي الحزن خاصا لكنه ليس على خاص: "لا أَسْتَيقِظُ /لا أَنَامُ /لَيسَ لأنِّي رَبِيبَتُكَ" إنه الأرق الوجودي الشديد الحساسية والذي جعل الصورة اللفظية تتحول لمشهد تراجيدي شديد القسوة في الجملة التالية للجملة السابقة " وَإنَّمَالأنَّ الْحَدِيدَ الَّذِي سَقَطَ مِنَ الْفَضَاءِ /مَازَالَ مُصِرًّا عَلَى شَحْذِ سِكِّينِهِ /فِي جُمْجُمَتِي". هناك أحزان كثيرة تغلف الديوان فالحزن على الفقد لا يقل عنه الحزن على الحب؛ فالحب رغم أنه دواء المنغصات هو مصيدة القلوب يقدمها قرابين للألم لكن بوجه عام فالخسارة مهما كانت قاسية لا تقارن بالمكاسب فالحب" أَصَابِعُنَا المَقْطُوعَةُ تَسُدُّ أَنْفَ الْقُبْحِ /قِربُنَا المَثْقُوبَةُ فَوْقَ الّرِمَالِ" هكذا ترى الشاعرة أنه لا مناص من أن نضحي بالأصابع مقابل التخلص من القبح وبالحياة الشخصية مقابل التخلص من التصحر العام. فالحب" الْحُبُّ تِلْكَ الْفَراشَةُ الَّتِي قَسَمَتْ
جَبْهَتِي نِصْفَينِ".
https://www.facebook.com/aboabdo.sefo/posts/3463294987091459