يعتبر الكاتب الإيراني “صادق هدايت” من أهمّ الكتاب الإيرانيين في القرن الماضي، وكأيّ كاتب هامّ، فان كتاباته تحمل ما هو أبعد من القصص التي يسردها، وقصصه مثيرة للاهتمام حقّا، وعلى الرغم أنّه ينتمي إلى النصف الأوّل من القرن العشرين، إلا أنّ قصصه رمزية قبل أن يترسّخ فنّ القصّة الواقعية الإيرانية الحديثة على النمط الأوروبيّ. لم يكن موت هدايت سابقا على الثورة الإسلامية عام 1979 وحسب؛ بل كان سابقا على ثورة مصدّق عام/ 1951/ ومع ذلك فلاشيء أكثر جدوى من قراءة أدب صادق هدايت في هذه الأيام بسبب دلالات قصصه التي تهجس بالتغيرات والتباس الهوية..
أكثر ما يستوقف قارئ “هدايت”؛ سوداوية قصصه وتشاؤمها، ولاشيء يشبهها سوى القصة العراقية بحجم الرعب والتوقّعات المتشائمة منذ سبعينات القرن الماضي (قصص عبد الستار ناصر علي سبيل المثال لا الحصر)، والعراق جار إيران؛ ثمّ تطابق الواقع العراقي مع توقّعات الأدباء العراقيين في الخراب الذي ظلّ العراق ينزلق إليه منذ الثمانينات؛ لكنّ قصص هدايت تتفوّق عليها بشكل واضح من جهة تشاؤمها، وأنا أدعو القارئ إلى قراءة روايته الشهيرة (البومة العمياء).. ومن أكثر مشاهد الرعب في روايته هي الضحكة التي تصدر عن الشخصيات في مواقف مخيفة تصيب بطل الرواية بالقشعريرة.. وتتصاعد أحداث الرواية بحيث يواجه البطل مواقف تجعله يضحك هو نفسه ضحكة:” تصيبه هو بالخوف والقشعريرة”، بعد ذلك يضحك القارئ ويخاف من ضحكته بسبب حجم الرعب والسوداوية في الرواية.. وهذا التكرار هو سمة في الرواية وجانب من جوانب المأساة لا العبث:
“.. ومن خلف الجوّ الملوث بالضباب رأيت رجلا عجوزا محدب الظهر، وكان قد جلس تحت شجرة سرو، لم يكن وجهه الذي يلفه بشال ظاهرا وذهبت نحوه ببطء ولم أكن قلت شيئا حتى أطلق الرجل العجوز ضحكة مبحوحة جافة وكريهة اقشعر لها بدني وقال:
– إذا كنت تريد حمالا فأنا مستعد.. وأمتلك أيضا عربة لنقل التوابيت، وأحمل الموتى كل يوم وأودعهم التراب في جبانة عبد العظيم شاه وأصنع التوابيت أيضا، وعندي تابوت بحجم كل شخص لا يخطئه قيد شعرة.. أنا مستعد منذ الآن..”- ص101-
ويقول الراوي/ البطل إنّه سمع حكايات كثيرة لكن إحداها تبدو حقيقية، وهي الحكاية التي تروي قصّة مولده فقد كان لأبيه شقيق توأم، وكان يشبهان بعضهما شبها يصعب معه التمييز بينهما، وقد سافرا إلى الهند للتجارة، وبقي أبوه في “بنارس” بينما ذهب عمّه عبر المدن الهندية الأخرى، والهند هي الحضارة الآرية الأخرى في آسيا، وفي بنارس تعرّف الأب إلى فتاة هندية ترقص في المعابد وأحبّها ثم تزوّجها، وهي التي صارت أمّ البطل/ الراوي.. وعاد عمّه الذي يشبه أباه حتى في ميوله العاطفية وأحبّ الفتاة التي هي زوجة أخيه، وأخذ يخدعها مستفيدا من أنها لن تستطيع التمييز بين زوجها وشقيقه، وحين شعرت بالخدعة ابتعدت عن الاثنين وقرّرت وضع اشتراط قبل العودة إلى أحدهما، وهو دخولهما معا إلى غرفة مثل غيابة الجبّ مع أفعى كوبرا والذي ستلدغه الأفعى سوف يصرخ وحينها يتمّ فتح الباب وإخراج الآخر .. “وانبعث أنين مختلط بضحكة تثير القشعريرة.. ثم صرخة وحين فتح الباب خرج عمي.. أصبح وجهه مثل عجوز وشعره أبيض من رعب التجربة وأصبحت الهندية زوجته”- يقول الراوي -: ” ولكن ما يثير الحزن أنه ليس معلوما من الذي عاش بعد التجربة، هل كان عمي أم أبي ؟” – ص122-
عاد الذي نجا من الأفعى مع زوجته الهندية إلى إيران، ووضع الطفل الذي هو الراوي عند عمته. إما أنّ عمه هو أبوه لكنّ الاضطراب الذي أصابه جعله يفقد ذاكرته عن الطفل ولذلك ظنّوا أنّه عمّه، أو أنّه عمّه ولذلك وضع الطفل عند عمّته التي هي طبعا شقيقة الأب والعمّ: ” أليست هذه الأسطورة مرتبطة بحياتي؟ أو لم يترك صدى هذه الضحكة المثيرة للقشعريرة ورهبة هذه التجربة آثارهما فيَ ؟”- ص123- .. والمرأة الهندية التي هي أمّه دون شكّ، أعطت العمّة كذكرى لها عند الطفل قارورة فيها سمّ الأفعى التي قتلت أباه أو عمّه، واتّخذ الطفل عمّته أمّا وأحبّها ورضع منها وتزوّج ابنتها ..!
الأمّ هندية؛ أصل ونسب لا شكّ فيهما إذن.. وهذا هو هاجس الرواية التي تبحث عن شيء ليس ضائعا لكنه مفقود وراء حجب، شيء بعيد ولكن لا غنى عنه،هويّة لا بدّ من استعادتها رغم التاريخ..
” المسجد وصوت الأذان والوضوء والمضمضة والركوع والقيام أمام قادر متعال وصاحب اختيار مطلق ينبغي أن نخاطبه بالعربية..” – يقول الراوي/ البطل/ المؤلف -:” لم يحدث أن كان لكلّ هذا أثر فيََ..”-ص140-
هكذا مات صادق هدايت منتحرا في باريس قبل أن يشهد ثورة مصدق على شاه إيران سنة 1951 ، لكنه لم يشهد نهاية ثورة مصدّق بعد عامين وعودة الشاه، ترى ما الذي كان سيراه ؟
* * *
لا بدّ من التنويه بهدف التقدير بأنّ الاقتباسات الواردة في المقالة مأخوذة من ترجمة قصص هدايت عن الفارسية مباشرة، وهذا جهد يعترف به للمترجم المصري (إبراهيم الدسوقي شتا): صادق هدايت- البومة العمياء وقصص أخرى – ترجمة ودراسة إبراهيم الدسوقي شتا-مكتبة مدبولي- القاهرة ط2-1990-
أكثر ما يستوقف قارئ “هدايت”؛ سوداوية قصصه وتشاؤمها، ولاشيء يشبهها سوى القصة العراقية بحجم الرعب والتوقّعات المتشائمة منذ سبعينات القرن الماضي (قصص عبد الستار ناصر علي سبيل المثال لا الحصر)، والعراق جار إيران؛ ثمّ تطابق الواقع العراقي مع توقّعات الأدباء العراقيين في الخراب الذي ظلّ العراق ينزلق إليه منذ الثمانينات؛ لكنّ قصص هدايت تتفوّق عليها بشكل واضح من جهة تشاؤمها، وأنا أدعو القارئ إلى قراءة روايته الشهيرة (البومة العمياء).. ومن أكثر مشاهد الرعب في روايته هي الضحكة التي تصدر عن الشخصيات في مواقف مخيفة تصيب بطل الرواية بالقشعريرة.. وتتصاعد أحداث الرواية بحيث يواجه البطل مواقف تجعله يضحك هو نفسه ضحكة:” تصيبه هو بالخوف والقشعريرة”، بعد ذلك يضحك القارئ ويخاف من ضحكته بسبب حجم الرعب والسوداوية في الرواية.. وهذا التكرار هو سمة في الرواية وجانب من جوانب المأساة لا العبث:
“.. ومن خلف الجوّ الملوث بالضباب رأيت رجلا عجوزا محدب الظهر، وكان قد جلس تحت شجرة سرو، لم يكن وجهه الذي يلفه بشال ظاهرا وذهبت نحوه ببطء ولم أكن قلت شيئا حتى أطلق الرجل العجوز ضحكة مبحوحة جافة وكريهة اقشعر لها بدني وقال:
– إذا كنت تريد حمالا فأنا مستعد.. وأمتلك أيضا عربة لنقل التوابيت، وأحمل الموتى كل يوم وأودعهم التراب في جبانة عبد العظيم شاه وأصنع التوابيت أيضا، وعندي تابوت بحجم كل شخص لا يخطئه قيد شعرة.. أنا مستعد منذ الآن..”- ص101-
ويقول الراوي/ البطل إنّه سمع حكايات كثيرة لكن إحداها تبدو حقيقية، وهي الحكاية التي تروي قصّة مولده فقد كان لأبيه شقيق توأم، وكان يشبهان بعضهما شبها يصعب معه التمييز بينهما، وقد سافرا إلى الهند للتجارة، وبقي أبوه في “بنارس” بينما ذهب عمّه عبر المدن الهندية الأخرى، والهند هي الحضارة الآرية الأخرى في آسيا، وفي بنارس تعرّف الأب إلى فتاة هندية ترقص في المعابد وأحبّها ثم تزوّجها، وهي التي صارت أمّ البطل/ الراوي.. وعاد عمّه الذي يشبه أباه حتى في ميوله العاطفية وأحبّ الفتاة التي هي زوجة أخيه، وأخذ يخدعها مستفيدا من أنها لن تستطيع التمييز بين زوجها وشقيقه، وحين شعرت بالخدعة ابتعدت عن الاثنين وقرّرت وضع اشتراط قبل العودة إلى أحدهما، وهو دخولهما معا إلى غرفة مثل غيابة الجبّ مع أفعى كوبرا والذي ستلدغه الأفعى سوف يصرخ وحينها يتمّ فتح الباب وإخراج الآخر .. “وانبعث أنين مختلط بضحكة تثير القشعريرة.. ثم صرخة وحين فتح الباب خرج عمي.. أصبح وجهه مثل عجوز وشعره أبيض من رعب التجربة وأصبحت الهندية زوجته”- يقول الراوي -: ” ولكن ما يثير الحزن أنه ليس معلوما من الذي عاش بعد التجربة، هل كان عمي أم أبي ؟” – ص122-
عاد الذي نجا من الأفعى مع زوجته الهندية إلى إيران، ووضع الطفل الذي هو الراوي عند عمته. إما أنّ عمه هو أبوه لكنّ الاضطراب الذي أصابه جعله يفقد ذاكرته عن الطفل ولذلك ظنّوا أنّه عمّه، أو أنّه عمّه ولذلك وضع الطفل عند عمّته التي هي طبعا شقيقة الأب والعمّ: ” أليست هذه الأسطورة مرتبطة بحياتي؟ أو لم يترك صدى هذه الضحكة المثيرة للقشعريرة ورهبة هذه التجربة آثارهما فيَ ؟”- ص123- .. والمرأة الهندية التي هي أمّه دون شكّ، أعطت العمّة كذكرى لها عند الطفل قارورة فيها سمّ الأفعى التي قتلت أباه أو عمّه، واتّخذ الطفل عمّته أمّا وأحبّها ورضع منها وتزوّج ابنتها ..!
الأمّ هندية؛ أصل ونسب لا شكّ فيهما إذن.. وهذا هو هاجس الرواية التي تبحث عن شيء ليس ضائعا لكنه مفقود وراء حجب، شيء بعيد ولكن لا غنى عنه،هويّة لا بدّ من استعادتها رغم التاريخ..
” المسجد وصوت الأذان والوضوء والمضمضة والركوع والقيام أمام قادر متعال وصاحب اختيار مطلق ينبغي أن نخاطبه بالعربية..” – يقول الراوي/ البطل/ المؤلف -:” لم يحدث أن كان لكلّ هذا أثر فيََ..”-ص140-
هكذا مات صادق هدايت منتحرا في باريس قبل أن يشهد ثورة مصدق على شاه إيران سنة 1951 ، لكنه لم يشهد نهاية ثورة مصدّق بعد عامين وعودة الشاه، ترى ما الذي كان سيراه ؟
* * *
لا بدّ من التنويه بهدف التقدير بأنّ الاقتباسات الواردة في المقالة مأخوذة من ترجمة قصص هدايت عن الفارسية مباشرة، وهذا جهد يعترف به للمترجم المصري (إبراهيم الدسوقي شتا): صادق هدايت- البومة العمياء وقصص أخرى – ترجمة ودراسة إبراهيم الدسوقي شتا-مكتبة مدبولي- القاهرة ط2-1990-